حوار غير منشور مع أدونيس ( 3 من 3 )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حوار غير منشور مع أدونيس ( 3 من 3 )

    حوار غير منشور مع أدونيس ( 3 من 3 )
    حاورته الشاعرة الروائية Suzanne Ibrahim عام 2010
    ____________________________

    ما هو الموت؟
    في الحياة تجرى عمليات نقل دم لإنسان يحتاجه في حالة إسعافية، لو تخيلنا أن هناك عمليات نقل روح، أدونيس أتعطي أحداً من روحك؟
    ** من هو هذا الشخص؟ (يضحك). إن كان امرأة أحبها، فسأعطيها بالتأكيد، فرضياً هذا غير ممكن، لكن حين تعطي امرأة حياتها لرجل فإنها تعطيه ضمناً روحها، الحياة مسيرة والحب ذروة من ذرواتها التي لا يمكن تخطيها كما الموت، فالموت ذروة من ذروات الحياة وهو ليس نقطة نسافر ثم نصلها، الموت فينا دائم، ونحن الآن نحيا فيما نموت، الموت جزء لا يتجزأ منا، وكذلك الحب، لكن في ذروة الحب ثمة نوافذ، أما في الموت فلا نوافذ.
    هل تفكر بالموت الفيزيولوجي الذي نعرفه جميعاً؟
    ** لا يهمني الموت إطلاقاً. ما يشغلني ليس الموت، فهو ظاهرة مبتذلة كالشعر الجماهيري، الكائنات ستموت لأن الموت جزء من الحياة، ولولاه لما كانت. مشكلتي هي الحياة وكيف أحيا بحرية، هذا الكائن الذي أعطي الحياة مرة واحدة وأخيرة مشكلته هي كيف يعيش، ولذلك فإن الطغاة – بجميع أشكالهم-والذين يحتقرون الإنسان ويعتقلوه ويعذبوه، هم كائنات غير إنسانية، ليس هناك أقدس من الإنسان والحياة الإنسانية.

    الشعر العربي والترجمة
    قرأت قولاً للفرنسي "سيوران" مفاده: الطغاة وإن كنت أمقتهم هم من يصنعون نسيج التاريخ!
    ** هذه نظرية، أنا أعرف سيوران شخصياً وأحبه كثيراً. عندما أنجزنا كتاب مختارات من شعر أبي العلاء المعري وطبع بالفرنسية، أعطيته نسخة منه. بعد أن قرأه قال لي: أدونيس لماذا لم تخبرني بوجود شاعر عظيم عندكم كالمعري؟ فقلت: ولماذا؟ قال: ما كنت لأكتب، لأن كل ما أكتبه قاله المعري! هذا ما يقوله أحد كبار المفكرين في القرن العشرين عن المعري، بينما إذا سألنا جامعاتنا، أو مدارسنا، أو مؤسساتنا العربية، فلن يروا فيه شاعراً! هذا دليل آخر على العقل الصغير وكيف يصغر النص العظيم. هكذا رأى سيوران المعري وبالترجمة وليس باللغة الأصلية!
    الغرب لا يعرفنا جيداً ولابد أن نسعى لتعريفه بنا، بالنسبة للترجمة وعلى غرار ما أنجزتم من شعر المعري! مسؤولية من تلك؟!
    ** ما قمنا به كان تبرعاً. هذه مهمة صعبة جداً يجب أن تقوم بها الدول! ينبغي أن تكون الثقافة ركناً أساسياً من أركان أي دولة، ويكون لديها مشروع تقدمي وحضاري، لكن الواقع الثقافي العربي ليس كذلك. مؤسساتنا الثقافية العربية مؤسسات وظيفية ملحقة بالمؤسسة السياسية، لو كان لدى الدولة هم ثقافي عظيم، لكانت فكرت بأن تلك القضايا تحتاج إلى مخططات وميزانيات وجهود جبارة. ما أنجزناه هو نوع من التعب لأجل شاعر عظيم ومضطهد وغير معروف ودفاعاً عنه، كما أنجزنا مختارات من الشعر العربي، وطبعنا الكتاب في أهم دار نشر فرنسية (غاليمار) لنقول للغربيين إننا آتون من تراث عظيم، أعظم من تراثكم. الشعر العربي أعظم شعر في العالم، ولابد من الاهتمام به ورصد الميزانيات له – نحن لا نملك ما هو أفضل من الشعر، وليس لدينا إلا الشعر وحتى إشعار آخر. لكن لا أحد يهتم أبداً!

    فكيف ترى احتفالية عاصمة الثقافة العربية التي تنتقل من عاصمة عربية إلى أخرى. ألم تفعل شيئاً؟
    ** احكي لنا أنت ماذا فعلتم في احتفالية دمشق!
    ألم تنجز هذه الاحتفاليات أي شيء على الصعيد الثقافي؟
    ** لا أعرف، فأنا لم أتابعها.
    ثمة نهضة ثقافية تبدو هامة في دول الخليج العربي ما رأيك؟
    ** هذا كله جهد مشكور جداً، لكن الثقافة مسألة نوعية، بمعنى يجب أن نختار الأشياء المفيدة لتطوير حياتنا، والمفيدة على صعيد طرح أسئلة على ثقافتنا، لكن إن كنا سنأتي بالثقافة كما نأتي بالسيارة أو بأثاث المنزل والطيارة، فهذا لا يعني شيئاً، للثقافة علاقة بالكيان الحي للإنسان، ولذلك أقول إنهم يقومون بجهود مشكورة جداً، وقد بحثت معهم عدة أمور، لكن طرق التنفيذ بحاجة لتساؤلات كثيرة، المهم في الثقافة هو النوعية وليس الكمية، ماذا نفعل وكيف نفعل؟ وأظن أن هذا السؤال لا يًطرح غالباً، فيكتفى بالمظهر والنشاط المادي الظاهر.

    في العلاقة مع سورية
    خلال حديثنا كررت قول (أنتم في البلاد العربية) ألستَ منّا؟!
    ** أعني أنتم في سورية. وأنا منكم!
    هل ترى نفسك مقصراً تجاه سورية، أم أن المجال لم يتح لك؟
    ** أنا أنتمي للثقافة العربية، وأينما ذهبت، فعملي من أجل الثقافة العربية، ومن أجل الشعر العربي بشكل خاص. كتبت عن الشعر العربي بالفرنسية، ما لم يكتبه أحد بالعصر الراهن أبداً، فأنا أقوم بعملي ولا أريد جزاء ولا شكوراً. على كل حال لم يأت أي منهما!
    في علاقتك مع سورية، هل أنت مهاجر أم مغادر؟
    ** أنا مغادر. أنا أحب سورية جداً، ثمة سوء تفاهم بيننا، بالنسبة لي لا أجد نفسي مضطراً لإزالته، أو توضيحه، ولا بأس أن يكون هناك سوء تفاهم بين الإنسان وبلده، هذا مغني وجميل!
    أنت حر في السفر والتنقل في أرجاء سورية بكل حرية!
    ** أنا حر وأمارس حريتي حتى الآن، لكن بقيت 20 سنة منذ 1956 وحتى 1976 لم تطأ قدماي سورية.
    أظنك لا تحب دمشق!
    ** ولكن لأسباب أخرى، فدمشق كمدينة، مركبة بشكل بدوي، إنها مدينة بدوية!
    سوف تثير البدو ضدك غداً!
    ** لا. هذا ليس ضد البدو، ولا ضد المدينة، لكن النقيضين لا يلتقيان! البداوة بحد ذاتها جميلة، والمدينة إن كانت مدينة جميلة أيضاً، لكن بهذا المزيج تصبح مهجنة، لا هي هذه، ولا تلك!
    فأي المدن التي زرتها أجمل وتولدت بينك وبينها علاقة حميمة غير باريس؟
    ** مدن إيطالية ومدن إسبانية.
    إنها مدن في حوض البحر الأبيض المتوسط، أي تشبه سورية!
    ** (يضحك ويقول): بلى أنا أحب سورية كثيراً. (يصمت قليلاً ثم يقول): لدي أشياء كثيرة لأحكيها عن سورية، لن أحكيها الآن. فيما بعد. سأقولها لنفسي أنا!
    هل هي أشياء في حبّ سورية؟
    ** في حبها ونقدها! لا يمكنك أن تحبي شيئاً دون أن تنتقديه! هذا ما عليكم تعلمه أنتم الجيل الجديد! وحتى تحبي بلداً يجب أن تعرفي أن تنتقديه، وإلا ما معنى هذا الحب؟! النقد جزء من الحب، وإن لم تنتقدي من تحبينه، فذاك يعني أنه لا يهمك ولا يعني لك شيئاً! ما يعنيك حقيقة يجب أن يكون ما يجعلك تكتشفيه، فتصححي ما هو غير صحيح. مهنة الكاتب والمفكر أن يحكي، مهنته الكلام وجوهر هذا الكلام لا هو مديح، ولا هو هجاء! بل هو النقد بمعنى النظر في العالم حولك، وتأمله والتعرف عليه، وكشف ما فيه من جمال وما فيه من قبح يعرقل سيرورة هذا الجمال! هذا ما يجب القيام به، وهذا ما يجب التشجيع عليه، وعلى السلطة أولاً وقبل غيرها أن تشجع على ذلك، سلطة بلا نقد خطأ، فكأنها غير موجودة إلا في مكاتبها!
    ما الأماكن التي تحب زيارتها في سورية؟
    ** أحب الأماكن القديمة. كل ما هو قديم: أسواق. بيوت. صناعات يدوية قديمة، وبالمناسبة اليد العربية مظلومة جداً، هذه اليد التي أنتجت أشياء عظيمة، ملاحم من النسيج والبسط والطاولات القديمة ... آيات من الفن. تحدثت إلى بعض هؤلاء وقالوا: لم يعد بإمكاننا القيام بمثل هذه الأشياء، فهذا يتطلب شهوراً أو سنوات أحياناً، والدولة لا تساعدنا, نحن نريد العيش.
    ما رأيك بتحويل البيوت العربية العتيقة إلى مقاه ومطاعم؟!
    ** إنها التجارة ... الشطارة الدمشقية!
    في دمشق أيضاً ثمة ملاجئ من الحرب العالمية الثانية يعاد تأهيلها لتغدو مراكز أنشطة ثقافية!
    ** جميل. المهم أن تكون دمشق عاصمة ثقافية كبرى ليس عند العرب، بل في العالم، هل هذا نقد أم حب! أخجل عندما أرى أن هناك عاصمة في العالم أهم من العاصمة دمشق، أحزن. عاصمة مسكونة مثل دمشق عمرها 25000 سنة، يجب أن تكون ذروة من ذروات الثقافة في الشرق العربي، بينما هي في الواقع عاصمة عادية، ولا عذر لدمشق في ذلك، لأن فيها الكثير من الأغنياء! لو أن كل واحد منهم اعتنى بالثقافة، لامتلأت بالمنحوتات والمسارح ودور السينما ودور الأوبرا والموسيقا! يجب أن تكون مدينة ثقافية لكنها ليست كذلك، وقد تكون حلب مدينة ثقافية أكثر من دمشق. ممكن. من خبرتي المحدودة أحس أنني عندما أذهب إلى حلب، أشم رائحة الثقافة، أكثر مما أفعل في دمشق، وإن كان متحفها بحاجة لإعادة النظر فيه، فهو مهترئ، بينما يضم قطعاً أثرية جميلة جداً!


    العزلة والكاتب
    (عزلتي حديقتي) عنوان الكتاب الذي صدر باللغة الصينية لمختارات من شعرك، وقد نلت جائزة هامة هناك، كيف كانت زيارتك للصين، وهل تعتقد أن عزلة الكاتب منتجة؟
    ** طبع كتاب مختارات من شعري باللغة الصينية، واختار له المترجم عنوان (عزلتي حديقتي) وخلال وقت قصير أصبحت مشهوراً في أرجاء الصين، وأعطيت بعدئذ الجائزة، ونال الكتاب اهتماماً كبيراً، وما من شاعر صيني الآن إلا ويعرفني، وقرأ لي، وقد أعيد طبع الكتاب بناء على أهميته وتأثيره (هكذا قالوا. يعلق أدونيس) بالنسبة للعزلة، ما هو الشيء المنتج غيرها! خارج العزلة يصبح الشخص منتَجاً، بينما في داخلها يكون منتِجاً!
    لكنك تعزل نفسك عن الآخرين بمعنى أو بآخر!
    ** قلت لك إن رأسمالي الوحيد هو الوقت، ورأسمال الكاتب أساساً هو وقته، وكيف يستخدمه، فطرق استخدامه مسألة ليست سهلة، بالنسبة لي ما يجعلني مرتاحاً حتى الآن في الغرب، هو أنني حرّ حرية كاملة في طرق استخدام وقتي، إذ لا يتوفر ذلك في البلاد العربية لأن العلاقات والناس تجعل الإنسان أقل مقدرة على حسن استخدامه.خصوصيات
    حدثني عن يوم نموذجي يعيشه أدونيس؟
    ** خلقت ضد النمذجة، لا نمذجة عندي على الإطلاق، وهذا سر حيويتي – إن كانت لدي – لا يمكنني الجلوس وراء الطاولة لأكتب قصيدة مثلاً. لا أقدر. لا يمكنني كغيري من الكتاب أن أجلس في التاسعة صباحاً، وأشرب القهوة وأكتب. مستحيل! في هذا أنا أطيع جسدي وحواسي، أحياناً يعارضني عقلي فأمشي معه، وأحياناً أختلف معه وهكذا. هناك دوماً حوار داخل جسمي، الجسد هام جداً بالنسبة لي. لو نمت مثلاً أقل من حاجتي للنوم بعشر دقائق، يضطرب يومي كله، ولا أتمكن من العمل.
    كم ساعة تنام؟ هل تنهض باكراً؟ أي الفصول تحب؟ هل عرفت الكآبة؟
    ** أنام على الأقل 6 – 7 ساعات، وغالباً أنهض باكراً، الفصول عندي داخلية لا خارجية، الخارج عندي منظور إليه باستمرار من داخلي، إذا كان داخلي متفتحاً، أرى كل شيء متفتح. لا لست كئيباً. ولكني أحزن أحياناً، ولست فرحاً كثيراً. يحزنني الظلم والكذب، واحتقار الإنسان. فحزني اجتماعي، وليس شخصياً.
    والأصدقاء!
    ** الأصدقاء ثروة كبرى في الحياة، والصداقة بمستوى الحب، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: حتى الحب بين شخصين إذا لم تحتضنه صداقة بينهما، يكون أقل توهجاً وعمقاً، لذا يجب أن يكون العاشقان أولاً صديقين. بالنسبة لأصدقائي، كلما ذهبت إلى القرية أرى أولئك الأولاد الذين كنت ألعب معهم (بالشركيك) وهي لعبة انتهت الآن للأسف، ولعلها الصورة الأولى للعبة الكرة، اللقاء بأصدقاء ذلك الزمن، من أسعد لحظاتي، عندما أراهم وأجالسهم نتذكر الماضي، وكيف كنا نشكل فرقاً، ونهاجم بعضنا بعضاً وكان بيننا بنات. إنها قصص القرية. معظم أصدقائي كانوا إما مزارعين، أو دخلوا سلك الجيش ثم تقاعدوا، وبقي معظمهم كما كان. مع هؤلاء أنسى كل شيء وأعود إلى الضيعة.
    تتحدث معهم باللهجة القروية!؟
    ** لهجتي لم تتغير أبداً. إنها اللهجة السورية الجميلة!
    وطعام القرية؟!
    ** غرّبت وشرّقت ولم أجد أطيب منه طعاماً في العالم! هناك (السليْقَة) هل تعرفينها! مزيج من جميع الحبوب، ثم البرغل مع الحمص خاصة إذا طبخ معه (رأس الخروف)، والمجدرة، والهريسة (القمحية)، والهندباء والقرص عنّة، والسلق ولسان الثور...
    في حمص جمعتنا فسحة وقت، ورأيتك تتعاطى النرجيلة، وقلتَ هذه من بقية المتع، وحين سألتك ما هي هذه البقية؟ قلت: اللعب!
    ** اللعب هو المجال الذي يأخذ فيه الجسد حريته كاملة، فهو يحرره بشكل عظيم، والرقص مهم جداً أيضاً! أذهب للرقص أحياناً، لأنه يحرر الطاقة، فيشعر المرء أنه متفتح ليس عقلياً فقط، بل جسدياً. مشكلة الجسد لدينا يجب أن يعاد النظر فيها من جديد، فالعقل الديني قتله وجعله موضع الخطيئة والدنس والنبذ، بينما الجسد – وحواسه -هو وسيلتنا للتواصل مع العالم. الرقص لعب فني جميل هائل!
    هل تهتم بالصور؟
    ** نعم كأرشيف. لأن الصورة تلتقط لحظة معينة فقط، من الجميل أن ينظر الشخص بين وقت وآخر في معجم يصنعه للحظات حياته التي يمر بها، لكن في النهاية الصورة تختزل، فبقدر ما تكشف عن لحظة معينة، بقدر ما تحجب أشياء أخرى.
    هل تعود إلى ألبوماتك؟ وهل تحمل معك كاميرا؟
    ** أحياناً أعود إلى أرشيفي. أما الكاميرا فأنا عادة لا أحملها، ومؤخراً أفعل ذلك، لأنني أنجز بعض الكولاجات، فقد أرى بعض الأشياء في الطبيعة، في الحياة، في الشارع، وهي تخدمني فأصورها، أحمل الكاميرا لكن ليس كمحترف، وحين أزور منطقة ما للمرة الأولى لا أعرفها، قد أحملها معي.
    ثمة بعد أنثوي في الرجل (يسمونه البعد الملعون) يحاول دوماً نفيه أو إخفاءه، أعلم أنك تهتم بهذا الجانب فيك، كم يحميك من ذكوريتك؟
    ** كل ذكر حقيقي يجب أن يكون فيه جانب حقيقي من الأنوثة، وكل أنثى حقيقية يجب أن يكون فيها جانب حقيقي من الذكورة. هذا جوابي.
    فأين يتجلى فيك البعد الأنثوي؟
    ** لا أعلم يجب أن أسألك أنت!
    أنت تحب السفر، هل تسافر من أجل مواعيد عمل أم للمتعة؟
    ** أحب السفر جداً، أنا مسافر دائم وهذا يربطني باللامكان الذي تحدثنا عنه. للأسف ليس لدي القدرة للسفر من أجل المتعة، لكنني مدعو من جميع أنحاء العالم، فأنتقل وأختار، ولو أردت تلبية الدعوات لما وضعت حقيبتي!
    لديك إذاً ترف الاختيار!
    ** عندي ترف الاختيار بالكامل، وأرفض كثيراً من الدعوات، ولكن ليت لي القدرة على متعة السفر الحر.
    هل تسمع الموسيقا؟
    ** أسمع الموسيقا الكلاسيكية، وأحياناً الغناء العربي – أم كلثوم وفيروز – بالإضافة إلى الغناء الأجنبي – جاك بريل –
    أي لون تفضل؟
    ** لوني الذي ليس لوناً، وفيه كل الألوان، الأسود، أرتدي الأسود دائماً، وأحياناً أرتدي قمصاناً غير سوداء للتلقيح، والشال غالباً أحمر.

    مساحة إضافية للحرية
    لماذا الرسم؟ أهو مساحة حرية إضافية؟
    ** ثمة حرية كبرى جداً بالنسبة لي في الرسم والتشكيل، لأن هناك مجالاً للعب ولحرية اليدين والأصابع! أحياناً ستقفين متعجبة أمام لوحة وقد غيرت (لطشة) لون شخصية هذه اللوحة تماماً في مكان معين! في الرسم مجال كبير للعب الحر، وإذاً هناك مجال كبير للابتكار وذلك بعكس اللغة، فاللغة عندنا تعبت كثيراً، صارت الكلمة مهترئة لكثرة ما استخدمت، والواقع لا يتغير! فكأن الشخص يستخدم آلات أو عناصر أو أشياء ميتة. لذلك إذا أراد الشاعر كتابة قصيدة عظيمة يتعب جداً، فهي ليست مجرد جمل، واليوم ليس هناك أصعب من الكتابة على الإطلاق! الفن كله صعب بالطبع، لكن حين تدخل اليد واللون كعناصر خارجية، ويدخل الكولاج، وأشياء مهملة تتركب لتشكل في النهاية مادة كأنها جديدة، هنا أكون أقدر على اللعب وابتكار أشياء أكثر مما في الكلام. إذا أراد الشاعر كتابة قصيدة عظيمة فعليه أن يصعد جبلاً عالياً. عمر الشعر العربي الآن أكثر من ألفي سنة، وكتابة القصيدة في ضوء هذا التراث خلف الشاعر، وباللغة نفسها التي كتب بها أول شاعر، تشكل عبئاً كبيراً فكيف له أن يتحرر منه! يظن بعض الشعراء أنه يتحرر إن كتب قصيدة النثر، وهذا خطأ كبير، فالعقلية ما زالت نفسها، ولذا لا نجد شعراً فيه مغامرات تشكيلية وتعبيرية ورؤيوية على مستوى كبير. شعرنا عاقل متصالح ولطيف!
    فالكاتب والفنان خالق!
    ** إذا لم يفعل ذلك فما عساه يفعل! هل يصور الأشياء؟ هل يعيد إنتاجها؟ الفن ليس إعادة إنتاج للواقع، إنه إعادة تركيب له، وإعطاؤه صورة جديدة بعلاقات جديدة بينه وبين الإنسان!
    تمارس الرسم غريزياً وليس أكاديمياً؟!
    ** لا أنا لا أسميه رسماً، بل رقيمة. فكلمة رَقَمَ أو رَقَنَ باللغة العربية تفيد التشكيل والتلوين بآن واحد، فاستخدمتها.
    القناعات سجون وفق نيتشه، هل تشكل قناعاتك سجناً لك؟
    ** ليس لدي قناعات، لذلك قلت لا وجود لحقائق! القناعات مرتبطة بالحقيقة، وإن لم تكن لدي حقائق فليس لدي قناعات. أنا رجل بحث وتساؤل واكتشاف، البحث يقودني إلى بحث آخر، والسؤال يقودني إلى سؤال آخر!

    أنت قلت
    كتبت في مجلة دبي الثقافية: ذاتٌ لا عصر لها. الآخر عصرها. هذه العبارة الضيقة هل تفرد لنا مساحتها!
    ** أي ذاتٍ لا تبدع العالم الذي تعيش فيه – كالذات العربية – لا تتغير ولا تتطور، إنما تأخذ هذا كله من الآخر المبدع، بهذا المعنى الذات العربية لا عصر لها وإنما الآخر الذي يغزوها بمنتجاته وإبداعه يتحول إلى عصر لها!
    وكتبت أيضاً: بلى يلد التاريخ على سرير أبجديتنا، لكن لماذا لا يكبر عندنا إلا بعد أن يموت!
    ** نعم. بلد كسورية ابتكر الوسيلة الأولى لعلاقة الإنسان بالحياة كتابياً (الأبجدية) كيف يمكن لبلد كهذا ألا يبقى في طليعة الشعوب، وهي التي اخترعت الصورة الأولى في العالم للعلاقة بين الإنسان والكون عبر الكلمة والكتابة، هذا الذي اخترع هذا الشيء الهائل وأخذه العالم عنه، كيف يحدث ألا يكون في مستوى اختراعه! كيف!
    في حمص قلت: هل ثمة حلم يتحقق! هل ثمة حقيقة نقبض عليها! إذاً هل الشوق إلى الحلم والحقيقة هما المقصود!؟
    ** قد يكون الطريق إلى الحقيقة، هو الشيء الأكثر أهمية، هذا الشغف المتواصل والسير المتواصل نحو اكتشاف ما نسميه الحقيقة، يجب أن يستمرا.
    عبر رحلتك في الحياة، هل توصلت إلى حقائق؟
    ** لا، لا حقائق! الحقيقة كلمة تحتاج إلى تحديد أولاً، ماذا نقصد بها؟ هناك حقيقة علمية، وأخرى نفسية، أو شعرية، أو ... هناك أنواع عدة منها. الحقيقة إن كانت علمية فمن الممكن أن أقول لك إن الأوكسجين والهيدروجين يشكلان الماء وإليك البرهان. هذه حقيقة يمكن القبض عليها والوصول إليها، ولكن إن حدثتك عن حقيقة شعرية أو فنية أو حقيقة سياسية.... الحقائق لا يمكن تحديدها والوصول إليها لحسن الحظ! لا أحد يقول بحقائق على جميع المستويات إلا اتجاهين: الإيديولوجي المغلق (الدين السياسي)، والاتجاه الديني، فالحقيقة بالنسبة إليهما مطلقة، نهائية وثابتة، وفي هذا الإطار هما يشكلان العدو الأول للبحث والحرية والإنسان.

    الطبيعة – الأم -الدين
    يقول "كنوت هامسون" صاحب رواية "الجوع" إن الكتّاب الذين اختبروا طفولة صعبة وفقيرة يفخرون بجذورهم القروية. إنهم يبتكرون " الرومانسية الزراعية" هل علاقتك بالأرض بهذا المستوى؟!
    ** ما يقوله هامسون جميل ومقبول، لكن علاقتي أنا بالطبيعة مختلفة، مع الأسف علاقتي بها صارت ثقافية وليس طبيعية، علاقتي بها أميَل إلى أن تكون ثقافة، منها طبيعة. ثمة صراع كما تعلمين بين ما هو ثقافي وما هو طبيعي، ودائماً هناك وجهة نظر بأن الحياة والفكر يجب أن يكونا أقرب للطبيعة – أحترم هذا الرأي – لكن معناه أن الطبيعة ستكون هي الغالبة على الإنسان، وهي المهيمنة وعليه أن يدخل فيها، كما لو أنه يدخل في رحم أخرى غير رحم الولادة، وثمة بشر – وأنا منهم – يقولون لا. فوجود الإنسان أساساً وجود متمايز عن الطبيعة، الإنسان كائن آخر إلى جانب الطبيعة، التي تشكل كائناً آخر، وقد أُعطِيَ الإنسان ما يميزه عن الحيوان، وهو ليس النطق، فالحيوان لا يستطيع أن يغير الطبيعة، بل يتقبلها كما هي ويدخل فيها كما هي، ولذلك لا تاريخ للحيوان أو للكائنات غير العاقلة، بينما يستطيع الإنسان أن ينفصل عن الطبيعة وأن يغيرها، ولذلك له تاريخ، أي أن الإنسان خلاّق يستخدم الطبيعة ويضيف إليها أشياء خلاقة، ومن هنا جاءت التقنية، فهي ضد الطبيعة تماماً. التقنية عقلية أخرى إلى جانب الطبيعة الحية الحياتية الأولى، والآن ثمة شكوى من أننا أفرطنا في التقنية إلى درجة أننا محونا الطبيعة بدل أن نبقى في حوار معها، وهذه واحدة من أزمات الحضارة الغربية. في البلدان العربية لا أعلم إن كنا وصلنا إلى هذه المرحلة، فهذا يتطلب الوصول إلى تلك الدرجة من التقنية العالية، والتي لم نصلها بعد.
    ثمة من يدعو الآن إلى دين جديد يقدس الأرض، أو "أمنا الأرض" كرد فعل على الإساءة لها!
    ** هذا رأي أحترمه وأقدره، لكن ليس إلى درجة أن يصبح الأمر نوعاً من الدين، لأن الإنسان هو المدار، ويجب أن يكون نقطة الارتكاز في الكون، والهم الأساسي وليس الأرض، كي تقولي أمي الأرض يجب ان تكوني ولداً عظيماً، أما أن تقولي أمي الأرض كأي كائن آخر! المهم كيف نجعل الإنسان هذا المخلوق الهائل إنساناً مستقلاً حراً وعظيماً وسيد مصيره وسيد إرادته ونفسه، هذا هو عملي، وهمّي، وليس الطبيعة كطبيعة!
    ما سر هذه العلاقة الحميمة بين الدين والإنسان، ألأنه يقدم له طريقاً للخلاص؟!
    ** ثمة أديان كثيرة ومختلفة بالطبع, أما فيما يتعلق بالأديان السماوية، فليس لديها علاقة بالطبيعة، يوجد فيها عالم آخر غير طبيعي، هذا العالم – وهو ضد الطبيعة ومن ضمنها الجسد – عالم روحي، وهذا يغري الإنسان لأنه يقدم له حلولاً لا يراها في الحياة الواقعية، ولا يراها في الكتابة أو في الثقافة، والإنسان يطمئن ويرتاح للحلول والأجوبة، فالدين جواب لأشياء لا يمكن أن يجيب عنها لا العلم ولا الشعر ولا أي شيء آخر، وبهذا المعنى يطمئن الإنسان إلى الدين، ولذا نراه منتشراً أكثر ما يمكن في الطبقات البسيطة الفقيرة الشعبية التي ليس لها قدرة عقلية للانتصار على الطبيعة وإعادة خلق العالم.
    هل فكرت يوماً بمفردة (الدين) وتحولاتها؟ جذرها (دّيْن). فهل هو نوع من الدَيْن؟!
    ** الدين هو نوع من الدّيْن للخالق، الدّيْن على المخلوق إزاء الخالق، لكن هذا الدّيْن نفيه بالاستسلام للخالق!
    هل تستسلم أنت؟!
    ** لا. أنا لا أستسلم، ليس عندي إيمان ديني، لكنني أحترم المتدينين.موت المؤلف
    قالوا عن نظرية موت المؤلف، لكن ثمة من يقول بانبعاث ظلاله كالقارئ والناقد والمترجم والمعلّق!
    ** موت المؤلف أطروحة، تقول إن الإنسان أو الكاتب ليس هو من يفكر، وإنما اللغة التي يتكلمها هي التي تفكر، وهو مجرد حامل وناقل، وما تنقله اللغة تنقله عن كتاب آخرين. وصلت الأمور مع بورخيس للقول: ليس هناك مؤلفون ولا كتاب! هناك كتاب واحد يعيد كل واحد من الكتاب كتابته على طريقته إلى ما لانهاية، وهو ما يسمونه التناص، فالعالم عالم تناص، وإذاً هناك نص واحد يتناصّ مع جميع النصوص التي تخرج منه، وبهذا المعنى قالوا بموت المؤلف، وقد اختبرته بنفسي، وسأروي لك القصة: دعيت مرة إلى جامعة السوربون لإلقاء دروس لمدة سنة، وكانت موضة (موت المؤلف) سائدة، فخطر لي أن أقدم عدة نصوص عن " محمد بن عبد الوهاب". لماذا؟! لأن محمد بن عبد الوهاب ظاهرة أدت إلى قيام دولة (الوهابية) وكان لها تأثير مباشر وفعال في جميع الدول العربية والإسلامية، وهي بذلك تمسنا جميعاً، ولابد من دراستها لنعرف ماهية هذه الظاهرة! لم يكن لدي أي كتاب عن الوهابية، فاتصلت بأحد الأصدقاء حيث أرسل لي جميع الكتب الوهابية من السعودية (60 – 70 كتاباً) من كتب بن عبد الوهاب بين رسالة وشرح وتعليق وغير ذلك. قرأت هذه الكتب، وتبين لي أن أطروحة موت المؤلف قائمة فعلياً لديه، فلم يكن لدى عبد الوهاب في ال 70 كتاباً جملة واحدة له هو! إذ يبدأ كتبه بمثل: قال رسول الله (ص) أن.... أو: جاء في كتابه العزيز أن: ......، ثم يسرد ما قيل ويعيد تأليفه، ويعيد كتابة الموضوع بجمع ما قيل وتصنيفه وتبويبه! إذاً ليس هناك مؤلف! فالتاريخ أو الدين هو المؤلف، أو أن اللغة هي المؤلف! فقلت لدينا مثال حي على موت المؤلف في كل الفكر الإسلامي، فهو في كليته إعادة كتابة لما كتب سابقاً. ينطبق هذا قليلاً أو كثيراً على الكتابات الإبداعية، لأن الكتابة لا تخلق من عدم، فكل كاتب مختَرق بكتّاب آخرين سبقوه، أو يعاصرونه، لكن لا أحد يبدع شيئاً من العدم أبداً! لا أحد يستطيع أن يبدع الحب، أو الموت، أو البطولة، أو الحزن، أو أي شيء آخر، فكل هذا موجود وكتبت فيه آلاف الكتب، لكن الكاتب الحقيقي هو من يخترق هذه النصوص كلها، ويعطي لكل موضوع أو قضية مساراً أو سياقاً آخر مستنداً إلى تجربته هو، وهذا سر المؤلف! ليس المهم أن يكتب الكاتب عن الحب، المهم كيف يكتب عنه! حين يكتب أحدنا عن الحب، عليه أن يصف تحولاته هو، لا أن يحدثنا عن الحب في الكتب، بل عن تحولات حياته هو في تجربة الحب، وعندها يضيف لمعلوماتنا شيئاً! في جميع الحالات إذاً ليس هناك مؤلف. المؤلف مات، لكن هناك موتاً وموتاً آخر، لا موت بالمطلق، كيف يموت المؤلف وكيف يعيش وكيف يخلق لموته سياقاً مختلفاً عن موت الآخرين.
    فماذا عن الناقد؟
    ** أتمنى من الناقد أن يكون مبدعاً أو خلاقاً آخر، فيكتب نصاً كبيراً على نص كبير، لكن الواقع للأسف ليس كذلك. النقد الموجود هو نوع من الشرح للموضوعات التي كتب عنها الشاعر أو الروائي، لكنه لا يدخل في تفاصيل العملية الجمالية التي نقلت ما يتحدث عنه، لا يدخل في بناء الصورة، والعلاقات بين الكلمة والكلمة، باختصار لا يدخل إلى جمالية النص، وهي ما يجعل النص نصاً!


    أدونيس والحب

    يتكرر الحب في كلامك، فهل يختصر الحب الوجود؟
    ** ما معنى الوجود بلا حب! قولي لي ما معناه!
    ثمة قول لابن عربي عن دائرة الحق التي تبدأ بالحب وتنتهي بالفراق. هل الحب بداية؟
    ** الحب بداية، لكن ولأنه هش وجميل لا يدوم، لكنه يتجدد. كل ما هو عظيم وجميل، سريع الزوال إنما يتجدد ويتجلى بأشكال أخرى.
    هل صرحت ذات لقاء تلفزيوني أنك تحب فتاة في العشرين من عمرها؟
    ** لم أصرح بذلك، لكن أنا لا أمانع ذلك، فالحب لا عمر له، لعلي رويت رواية في ذلك الحديث عن صبية أو طالبة في العشرين جاءتني – وكنت في محاضرة أو أمسية، وكان عمري حينها خمسين عاماً، فقلت لها: بيننا مسافة كبيرة وصعبة، فأجابت: أنت شاعر وتتحدث عن العمر في الحب! أجبت: معك حق وسأطيعك (هكذا بهذا المعنى قلت) فانظري كيف تحور الكلام!
    ما قولك بنموذج حب قيس وليلى الذي عبر التاريخ. ماذا لو تزوجا؟
    ** هذه أسطورة ومع ذلك تبقى جميلة، أن ينذر شخص عمره كله، وشعره كله لامرأة، أو لكائن يحبه. هذا جميل بحد ذاته بغض النظر عن النتائج.
    ثمة ثنائيات حب في الغرب مثل سيمون دوبوفوار وسارتر، أو أراغون وإلزا, أثرت في الحياة الأدبية هل انتهت مثل هذه الثنائيات وكان لها عصرها فحسب؟
    ** لا أعرف. هذه الثنائيات نظرية أكثر منها عملية، تعرفين أن دو بوفوار كانت تحب بالطريقة التي تريدها، ولها عشاقها، كما كان لسارتر عشيقاته، فكان ما بينهما رفقة ثقافية، أو رفقة (صداقية) والأمر ذاته عن أراغون وإلزا، كل ما كتبه أراغون عن إلزا هو كتابة نظرية بحتة لا علاقة لها بالواقع.
    كل ذلك الحب نظري!!
    ** كله نظري، كل ذلك كان ليكمل تجربته هو كإنسان، أما في الواقع فكان ثمة شيء آخر! (أراغون كان مثلياً) وفي آخر حياته وهب كل كتبه وثروته لرجل أحبه واسمه (جان ريستا)!
    أي كذبة كبيرة تلك! أتعلم كم من الأجيال تأثروا بعيون إلزا، ومجنون إلزا؟!
    ** هذه ليست كذبة! هذا هو الفن القائم بذاته، ولا علاقة له بالواقع حتى يعطي صورة أخرى للعالم الذي نعيشه، صورة كانت في كل الأحوال ليست بشعة، إنه يوسع حدود المخيلة، والتجارب واللغة الجمالية أيضاً وهذا مهم جداً بحد ذاته.
    هل كتبت قصائد في المرأة؟
    **المرأة بالنسبة لي ليست موضع إنشاء! المرأة كالهواء، والضوء. هي حياة كاملة، لذلك تذوب (ليس بمعنى الذوبان) إنها حاضرة في كتابتي كلها باستمرار، لكنها ليست موضوعاً أنظر إليه وأصفه، وأكتبه.بين اللغة العربية والفرنسية

    تتقن الفرنسية إلى جانب اللغة العربية بالطبع، هل تفكر بطريقة فرنسية؟
    ** لا. إلا في النثر.
    حتى وأنت هناك في باريس؟
    ** حتى هناك! وذلك لسبب أساسي هو أن اللغة العربية تملّكتني وهي تغار فعلاً! ولا أستطيع تعلم وإتقان لغة أخرى، فكل اللغات التي نقرأ بها وخاصة الفرنسية هي لغة الأب الثقافي، أما اللغة العربية فهي لغة الأم، وللإنسان أم واحدة فقط! حين تريد الوصول إلى نفسك، أو تحاول السفر نحو نفسك، وتخرج منها، فلابد أن تستخدم لغة رحم الأمومة، وهي بالنسبة لي اللغة العربية!
    ألم تحلم بالفرنسية أيضاً؟
    ** لا أبداً. هناك شعراء حاولوا الكتابة بلغتين شعراً، لكن تجربتهم فشلت، كتبت النثر بالفرنسية فقط!
    فلماذا صدر كتابك (غابة الحب) بالفرنسية؟
    ** هذا الكتاب كتبته بالعربية أولاً، ثم ترجم إلى الفرنسية. لا أكتب الشعر إلا بالعربية. وهذا الكتاب نشر بالفرنسية قبل نشره بالعربية فقط؟
    ما قولك في ترجمة الشعر؟
    ** ثمة مثل شائع يقول الترجمة خيانة! والكتابة كلها ترجمة بمعنى ما، فالكاتب يترجم مشاعره والعالم والطبيعة. لكن نقل لغة بعلاقاتها وتراكيبها وصورها وإيقاعاتها إلى لغة ثانية غير ممكن ومستحيل! الترجمة تفكيك لبيت اللغة الأصلي، لأن بناء اللغة المنقول إليها مختلف كلياً، بناء الجملة، وعلاقة الكلمة بالكلمة، وعلاقة الكلمة بالعالم. لكل لغة قوانينها وعبقريتها، وإذاً يستحيل نقل لغة إلى لغة بهذا المعنى! بالنسبة للعربية أول ما تخسره في الترجمة هو الموسيقا، فمن المستحيل نقلها إلى لغة أخرى، ولا يمكن نقل علاقة الكلمة بالكلمة لأن مثل هذه العلاقة تشكل جزء من جمالية اللغة العربية، وعلاقة الكلمة العربية بالعالم مختلفة كلياً عن علاقة الفرنسية أو غيرها بالعالم والاشياء!
    أنت ترى أن جامعاتنا مقصرة في علم فقه اللغة
    ** بلى. اللغة العربية في جامعاتنا تتراجع كما تتراجع في الحياة.
    ما السبب؟ وهل تشعر بمسؤولية تجاه ذلك؟
    ** لا أعرف ما السبب. السبب هو حياتنا، واللغة لا ذنب لها، إنه ذنب العقل الذي يستخدمها. العقل العربي السائد عقل غير خلّاق، ولذا لابد أن تكون اللغة التي يستخدمها لغة غير خلاقة! هذا ليس ذنب اللغة، فاللغة العربية لغة هائلة جداً بل هو ذنب أبنائها؟

    الثابت والمتحول

    ثمة من يقول: الثوابت في هذه الأمة أقوى من المتغيرات في العالم، ما قولك؟
    ** ما هي الثوابت؟ هل هناك في تاريخ إنساني حي ثابت! الثابت وحده هو الإنسان وليست الأفكار، إن كانت الأفكار ثابتة فهي أفكار جامدة، فلا ثابت غير الحجر! أما الآراء والنظريات وحتى الإيمانات، فهذه كلها متغيرة باستمرار، وتغيرها هو سر حيويتها! هناك ثوابت في الرياضيات (2+ 2 = 4) هذا ثابت علمي، أما المعرفة فلا ثبات فيها، المعرفة اليوم غيرها في الماضي، وغداً ستكون غيرها اليوم.
    فما هو الثابت وما هو المتحول عند أدونيس؟
    ** الثابت والمتحول عندي مجرد مصطلحين، لدراسة الثقافة العربية خارج الأطر الإيديولوجية التي كانت سائدة (الماركسية، الليبرالية، البنيوية...) حتى أدرس التراث العربي بأدواته ومن داخله، حتى أفهمه بشكل موضوعي أكبر، لأن الإيديولوجية هي كمن يضع على عينيه (غماشّة) ويمشي في خط مستقيم ويرى العالم كله من خلالها. أنا أحببت أن أكون كما شجرة ترى العالم من جميع الجهات ومفتوحة على جميع الأنحاء، ومع ذلك لم يكن الثابت إلا مصطلحاً وكذلك المتحول، وما أسميته الثابت، هو ما كان بعض المسلمين يسميه ثابتاً، أنا لم أخترعه إذاً! والمتحول هو ما كان يجري في الحياة العربية معارضاً للثابت أو متحاوراً معه، لكي يعدّله أو يغيره هنا وهناك، لكن تاريخياً حتى الثابت لم يكن ثابتاً في كل الأحيان، وحتى المتحول لم يكن متحولاً دائماً حسب التطورات التاريخية.
    بعضهم يقول: إن التجربة الكتابية الإبداعية عند أدونيس اكتملت وأغلق الدائرة!؟
    ** لكل إنسان الحق بأن يقول ما يشاء، لكن ضمن هذه الدائرة، أدونيس ينوّع ويعيد ويكرر. الكتابة عندنا سجينة تقليدين: إذا كتبت شيئاً يجب ألا تغيّره، وإذا قلت شيئاً يجب ألا تتراجع عنه! في ذهننا الثقافة النبوية، وعلى كل إنسان أن يكون صورة عن النبوة، النبوة التي تقول شيئاً وهو ثابت ولا تراجع عنه، ويتناسون أن هناك ناسخاً ومنسوخاً، والكلام النبوي نسخ بعضه أيضاً، ولدينا علم كامل اسمه (الناسخ والمنسوخ) وإذاً فالتغيير ممكن، أما الشيء الثاني فهو التنويعات والفروقات، بمعنى إذا صنعت كرسياً، فإن الآخر لا يرى إلا الكرسي ككل، ولا يرى شكلها الجديد المختلف عن شكلها السابق، ويقول: ما زال يصنع كراسٍ! ثمة فنانون كبار في العالم رسموا وجهاً واحداً. (ديا كومتي) لديه تمثال واحد ينوعه إلى ما لانهاية. إن حس الفروقات لدينا غائب والشيء العميق في الكتابة يتجلى في هذه الفروقات، لو نظرنا إلى البحر الطويل الذي كتب به امرؤ القيس، والذي كتب به أبو نواس، والذي كتب به المتنبي سنرى أن الموسيقا – في البحر الطويل الواحد – والجو الذي خلقه كل شاعر منهم، مختلف كلياً عن بعضه. الناس لا يرون هذه الفروقات!العولمة والقومية

    يبشر بعضهم بانتهاء عصر القومية، لكن الانتماء لأمة ما زال يحظى بشرعية كبيرة في عصرنا، كيف تنظر إلى التناقض بين العولمة التي توحد كل شيء، وبين النكوص إلى القوميات والهويات الوطنية؟
    ** القومية مفهوم جديد وحديث في التاريخ العربي، والقومية نظرية إيديولوجية، وإذا كان هناك تحول عنها، فهذا لا يعني عدم الانتماء إلى الشعب، وإلى لغة معينة. لنأخذ القومية العربية، القومية السورية، القومية الفرعونية.... هذه نظريات إيديولوجية لا يعتد بها إلا بقدر تطابقها مع الواقع المتحرك، وذلك بوصفها نظريات يجب أن تتطور أيضاً. القومية العربية في مرحلة من مراحل الراهن وكما طرحت، كانت قومية عنصرية لأنها إيديولوجياً كانت كذلك، فالعرب شيء، والقومية العربية شيء آخر، هما منفصلان عن بعضهما، وهكذا إذا تغيرت النظريات القومية، فالشعب باقٍ وحياته وتراثه وتاريخه باقِ، وهذا هو المهم وليس النظريات.
    وماذا عن العولمة والهويات الوطنية!
    ** من بدأ العولمة أساساً هم العرب، الأندلس كانت عولمة، وبغداد كانت عاصمة عولمة. العولمة هي جعل العالم كله ميداناً واحداً، وهكذا يجب ألا نخاف منها، ولا يخافها إلا الشعب الذي ليس لديه ما يقوله! هل يخاف المتنبي أو المعري أو أبو نواس من العولمة؟! العظام لا يخافونها بل يسعون إليها، أما من لا يملك نتاجاً، والمتقوقع على ذاته، والثابت الذي يكره التغيير هو من يخاف العولمة لأنه يتزعزع، وتجرفه التيارات، لا يخشى العولمة إلا الشعوب الضعيفة، وأصحاب النظريات القومية العنصرية ليبقوا على سلطتهم!
    لكن فرنسا ابتدعت الاستثناء الثقافي رداً على العولمة!
    ** لا، هناك صراع أمريكي فرنسي وصراع فرنسي أوربي، ليس ضد العولمة، بل هناك تيار كبير ضد التأثير الأمريكي في فرنسا، ففرنسا تتأمرك، وثمة من يقول (لا) لذلك، وأنا معهم، وهذا لا علاقة له بالقومية والعنصرية، له علاقة بفرنسا الثقافية. نحن لا نرد على العولمة بسورية الثقافة، أو بمصر الثقافة، بل نرد بسورية القومية العربية! ثمة تناقضات كبيرة في ذلك، كيف نقول بقومية عربية ونصف الشعب من إثنيات غير عربية! في هذا المجال وفي سورية كان أفضل شيء هو القومية السورية. لقد ابتكر أنطون سعادة مفهوم السلالة التاريخية، وقال إن من نسميهم العرب والسريان والآشورين والأكراد و.... ويعيشون على هذه الأرض الواحدة، هم شعب واحد ولذلك نسميهم سوريين، وهكذا حلّ مشكلة الإثنيات والصراع بينها، أما الأطروحات القومية العربية فلا تزال تلغي كل هذه العناصر فيها.
    لكن أنطون سعادة قال بالسوريين لا بالعرب!
    ** لا، قال إن السورية أمة عربية ولكن لا يقرؤونها! لكن بالمعنى القومي لا أفهم ذلك أبداً! العرب قوميات، وليسوا قومية واحدة، ففي المغرب مثلاً نصف المغربيين من الأمازيغ، وفي مصر ملايين من الأقباط وغيرهم في سورية، في العراق. النزعات القومية القائمة على العنصرية، هي أحد العناصر التي دمرت حياتنا الاجتماعية. قلت مرة للأستاذ أنطون مقدسي وكان أستاذي، كيف يمكنكم أن تقولوا الشعب العربي في سورية؟! سورية بالنسبة لكم ما هي إلا إناء، وهذا يعني بشكل أكبر أنكم تلغون الشعوب الأخرى؟! ثم هناك بعض العرب ممن يعيدون النظر في موروثاتهم، ويكتسبون آفاقاً أخرى للتفكير! لو قلتم نعني بالعروبة اللغة والثقافة لكان ذلك ممكناً، لكنكم قلتم ذلك بالمعنى القومي العنصري! فقال لي: أرأيت كم كنا مجانين ولا نفهم!
    أنا مع القومية العربية بمعنى اللغة والثقافة العربية، وآنذاك لا نسميها قومية، أما فيما يتعلق بإقامة وحدة مركزية، ودولة مركزية واحدة، فأنا ضد هذه الوحدة، وبهذا المعنى أنا ضد القومية التي تقوم على مفهوم كهذا، هذا شيء والعروبة واللغة والثقافة شيء آخر.

    أدب المرأة
    هل تقرأ لأديبات أجنبيات؟
    ** أحب بين الروائيات الأجنبيات فيرجينيا وولف، لأن كتابتها قائمة أولاً على تجربة شخصية عظيمة وعالمها شعري.
    هل ثمة تمييز بين ما يكتبه الرجل وما تكتبه المرأة؟
    ** لا. المرأة كالرجل، الكتابة واحدة، وكما يتواجد الفرق بين كاتب وكاتب، هكذا يكون الفرق بين الكاتب والكاتبة، لا وجود لكتابة نسوية!
    هل ثمة فرق بين ما تكتبه المرأة العربية والمرأة الأجنبية؟
    ** المقارنة تكون بين كاتب وآخر، وليس بين أدب عربي وأدب فرنسي!
    أقصد نحن نتاج مجتمع له قيم محددة، والمرأة عندنا هي نتاج كل هذا الوضع، أما المرأة الغربية فهي نتاج مجتمع آخر وقيم أخرى؟!
    ** إذا كان لدى المرأة أدب من الممكن أن يكون نتاج وضع اجتماعي، فهذا الأدب غير جيد، ولا يقارن بغيره، وهو بحد ذاته لا يساوي شيئاً! هذا لا يكون أدباً بل ظاهرة اجتماعية! الأدب هو الذي يخترق المجتمع، ويبني عالماً آخر! سمّ لي كاتبة من هذا النوع اخترقت المجتمع وبنت عالماً آخر!
    ماذا عن نوال السعداوي، غادة السمان، سعاد الصباح، ليلى العثمان....
    **هنا أنا لا أريد الانتقاد، فالنقد لا قيمة ولا معنى له، ثمة أديبتان عربيتان ذكرتهما في مقالة لي هما رجاء عالم وسلوى بكر (وهي من أهم الروائيات ولا أحد يذكرها!) هاتان تنجزان بحثاً في عالم الرواية، وليس مجرد سرد حكائي لقصة، وبهذا المعنى هما تخترقان المجتمع وعاداته وتقاليده، وتحاولان إنجاز شيء مختلف. القصة السردية أو السرد القصصي الحكائي، أنا شخصياً لا يستهويني. إنها مسألة ذوق! لا يمكنني أن أقرأ قصة بالمعنى القصصي لأنها تدخلني فوراً في زمن رخو لا أطيقه، فأنا أبحث عن زمن متوتر انفجاري. لا أستطيع المشي على خيط!قبل النهاية
    وأنت الباحث دوماً عن الأسئلة، قل لي أيهما قبل: العقل أم السؤال؟
    ** العقل طبعاً، دون العقل لا وجود لسؤال، والأسئلة وعظمتها تابعة لعظمة العقل!
    ألا يمكن أن يكون السؤال قبل العقل؟ أقصد في المطلق؟
    ** هناك قبول به أولاً. السؤال يأتي نتيجة تأمل في العالم، هذا هو السؤال، والتأمل يلزمه وحي. أي عقل! وإذاً الأسئلة يطرحها العقل!
    هناك من يبشر بموت القصيدة وبولادة كتابة هي أقرب إلى الكتابة الأدبية الصحفية؟!
    ** هناك دوماً أشكال جديدة وباستمرار، كل التاريخ العربي محاولات لتغييرات متواصلة، أول من كتب عن أشياء الحياة اليومية ومفرداتها هم العرب، وهم أول من استخدم اللغة الدارجة وكتب بها. هناك ما هو مكتوب باللغة الدارجة بديع جداً، لكن العرب لا يتحدثون عنه، ثمة شعراء من حماه وحلب ودمشق كتبوا باللغة الدارجة (الموالية والموشح والزجل) وهذه كلها رأيتها في مخطوطات منذ زمن، لكن لا أحد ينتبه إليها باعتبارها ضد اللغة العربية، واللغة العربية تموت يومياً في الجامعات والمدارس.
    لن تموت القصيدة إذاً!
    ** لا أظن. لا أظن.
    لماذا تكتب؟!
    **لأزداد فهماً لنفسي وللعالم. لا أكتب للعالم. لا أكتب للآخر. إذا تقاطع معي الآخر فهذا جيد، وإن لم يفعل لا أحزن. لا أنتظر من الكتابة شيئاً خارجياً. أكتب – أكرر-لكي أزداد فهماً لنفسي ولوجودي في العالم، وللعالم!

    أخيراً

    سألت أدونيس عن ذكرياته مع بردى، فقال: وقفت على جسر قبل أن يغطوا بردى -نسيت اسمه -قلت له: لعله جسر فكتوريا قرب المرجة! قال: نعم. وقفت على ذلك الجسر، ومزقت رسالة حب، ورميتها في ماء بردى!
    والآن أدونيس، ممن كانت رسالة الحب تلك؟ أي رسالة حب تعني؟ لماذا مزقتها؟ لماذا رميتها في بردى؟ حشد من ال (لماذا؟) بقي مستنفراً في عقلي وروحي ونفسي، رغم أربع ساعات متواصلة من الحديث معك! قل لي أدونيس: أي رسالة تريد توجيهها الآن من سرد تلك الذكرى مع بردى، ولمن توجهها! آمل أن يكون لحديثنا دوماً بقية!

    أجريتُ الحوار مع أدونيس في بيته في بيروت ربيع عام 2010
يعمل...
X