حوار غير منشور مع ادونيس ( 2 من 3 )
حاورته الشاعرة الروائية Suzanne Ibrahim عام 2010
___________________________
أدونيس والرقيب
قلتَ: أوه. لو كنت أكتب كل ما أعرف، ما الذي يمنع أدونيس من ذلك؟
** في عمق كل منا رقيب، وهو أحياناً رقيب غير سياسي، وقد يكون الرقيب السياسي ألطف منه وأرق قياساً به، هذا الرقيب الداخلي له علاقة بأعمق ما لدى الإنسان من حميمية وأشياء شخصية وعلاقات بالآخر، لو افترضنا أن الفرد منا اخترق وتجرأ على الكلام، فسوف يسيء للآخر.
الرقيب هنا تحول إذاً إلى معنى احترام الآخر واحترام حريته!
** هناك دوماً حدود، والشيء العميق العميق غير سياسي، السياسة مراقبة سطحية بالقياس إليه، هنا يصعب البوح لأنه لا يمس الشخص وحده، بل يمس محيطه بأدق خصوصياته وبهذا المعنى يستحيل أن نكتب كل ما نعرف، حتى في المجتمعات الغربية التي حققت خطوات كبيرة في مجال التحرر لا يمكن قول كل شيء، وثمة كتب تراقب وتمنع وتصادر!
فيما عدا هذا، ألديك أي رقيب آخر؟
** لا. إطلاقاً، أقول كل ما لا يسيء للآخر في حميميته، ولكن أقول كل ما قد يعتبر إساءة للآخر بأفكاره، كل ما يتعلق بالأفكار العامة، والثقافة العامة، والآراء السياسية، والعلاقة مع الآخر، كل ما أؤمن به أقوله.
في مشكلة القراءة
لماذا يساء فهم أدونيس غالباً؟ هل الأمر مقصود، أم أنها مشكلة القراءة كما تقول؟
** إنها مشكلة القراءة والوعي، يعمدون إلى إخراج الكلام من سياقه، ومتى أخرج الكلام من سياقه، يصبح شيئاً آخر. أنا أُقَوّلُ أشياء كثيرة لم أقلها أبداً!
هل يشبه ذلك (مانشيتات) حوارك في الحياة التي احتاجت تالياً للتوضيح؟
** مثل تلك نعم، ربما لنوايا معينة، ربما يحب الناس أن يقوّلوني أشياء كامنة في نفوسهم ولا يجرؤون على قولها فينسبونها إلي!
ولكن أينما حلّ أدونيس تبعه هجوم والأسباب مختلفة بطبيعة الحال: ما حدث في المكتبة الوطنية في الجزائر، في أربيل، ومؤخراً في حمص (الشعر الجماهيري وسطحيته) أهي مشكلة القراءة ثانية؟!
** أتصور ذلك، إنها مشكلة قراءة، لكن لا تنسي أمراً. صحيح أن هناك من يهاجم أدونيس، ولكن هناك من يحبه ويدافع عنه أيضاً، أم أننا لا نرى إلا الجانب السلبي! يسعدني ألا يكون هناك إجماع حولي، لو أن الجميع أحبني لشككت في نفسي! ولقلت إن هناك خطأ ما، إذ يستحيل الإجماع على شيء، إلا إذا كان مصطنعاً، كل إجماع اصطناع بشكل أو بآخر، تلفيق لأسباب أو لأخرى. لا يهمني الإجماع على الإطلاق ويسعدني أن يختصم الناس فيّ.
فهل يعجبك أن يقال أدونيس مالئ الدنيا وشاغل الناس؟
** لا يعجبني أبداً! أتمنى أن أشغل عقول الناس لا مساحة الإشاعات والصحافة والحياة الجارية، لو كان الأمر يهمني لسلكت سلوكاً آخر.
في الفكر التنويري
الفكر التنويري أو الفكر الحر هل سيبقى طارئاً على الثقافة العربية؟
** كل ما كتب خلال السنوات المئة الأخيرة، وسمّوه تطويراً ونهضة وغير ذلك، لم يفعل شيئاً تنويرياً، لسبب أساس هو أنه لا يمكننا إنجاز فكر جديد، نحن ننطلق من مسبّقات لا يُطرح عليها أي سؤال! فكيف أخلق فكراً جديداً؟ الفكر العربي ينطلق دوماً من مسبّقات يؤمن بها، وهي دينية أو قومية، أو حضارية، أو إنسانية، الفكر الحقيقي يبدأ من نقد هذه المسلمات، وما لم نفعل ذلك، فلن ننجز تنويراً ولا فكراً حراً، ويجب أن نفيد من خبراتنا التاريخية، مع ذلك لا نفعل، لأننا لا نقرأ منذ مئة سنة وحتى الآن، منذ محمد عبده وحتى الآن! بقي محمد عبده أكثر تقدماً من جميع شيوخ المسلمين اليوم. هذه أشياء واضحة ولا أعرف لم لا يراها العرب!
ألا يعتبر فكر أدونيس طارئاً على ثقافتنا العربية؟
** هذا دليل آخر على عدم وجود فكر عربي أو عقل عربي. ثمة مسبّقات يحاكم من خلالها فكر أدونيس وغيره، وأنا ضد كل المسبّقات.
ستبقى إذاً أنت وغيرك مجرد بقع ضوئية في مكان وزمان ما ليس إلا!؟
** ثقافتنا هي الدين وكل ما بني حوله، وما عدا ذلك كله طارئ وليس أدونيس فقط، جميع الآخرين طارئين! لننظر إلى التاريخ ولنرى أعظم من أضاء الفكر العربي. لا وجود لهم ولا يُقرؤون، شاعر عظيم كأبي النواس لا يقرأ إلا كشاعر خمريات، بينما هو واحد من كبار شعراء العالم لا العرب فقط! حتى المتنبي لا يقرأ إلا من خلال علاقته بكافور أو بسيف الدولة، لا يرونه في ذاته، في عذاباته، في ابتكاراته العظيمة التي قام بها. العقل العربي مريض. وما زلنا مجرد قبائل! كان الأوج في العصر العباسي، ومنذ ذلك الحين ونحن نتقهقر! كل ما هو غربي من الإبرة وحتى الصاروخ غربي ويأخذه العرب مسرورين. ناقشت أحدهم مرة: إن كان كل شيء موجوداً في القرآن، فلماذا وأنتم المؤمنون لم تبدعوه؟ أين أنتم؟ فأجابني: ليس مطلوباً منا أن نبدع، كل ما يفعله الآخرون سخره الله لنا!
في علاقة العربي بالتاريخ ثمة من دعا بعد دخول ما أسموه (الأغيار) إلى تنقية اللغة العربية عبر مشروع (البداوة النقية)
** أعظم كتاب في اللغة العربية واسمه (الكتاب) أنجزه " سيبويه" وهو غير عربي، كل علماء اللغة كانوا من أصول غير عربية، هذه العقلية ما زالت قائمة عند بعضهم، وهي عقلية فاشية بهذا المعنى، لم تجذبني الدعوات القومية العربية الإيديولوجية على الإطلاق لأن في بنيتها العميقة ثمة عنصرية.
في السياق نفسه ثمة من قال: إن العربي فوق التاريخ، وثمة من قال: العربي دون التاريخ وعلى رأسهم آرنست رينان!
** لا. لا هذا ولا ذاك. أتكلم هنا عن العرب بوصفهم لغة وثقافة، لا بوصفهم عنصراً أو قومية، لأن هذا ما عاد موجوداً، فالمجتمع مزيج بشري من جميع العناصر والإثنيات، ولذا يجب أن نأخذ المجتمع بوصفه كلاً وإذا أسميناه عربياً فبالمعنى اللغوي والثقافي، والعرب بهذا المعنى أنتجوا أشياء عظيمة جداً، ومعظم الفلاسفة لدينا حاولوا أن يبنوا بالإفادة من الآخر، فكان الآخر عنصراً تكوينياً في ثقافتهم وحياتهم، وقد قلت هذا مرات عدة، مهمة العرب اليوم هي الخلاص من أي عنصرية تطرح باسم القومية العربية.بين النص والتأويل
القراءة بين النفق والأفق، يتحول النص من وجود ذاتي إلى وجود تأويلي، أين يكون النص الحقيقي، بالذات الطازجة أم بالتأويل والمآل؟
** القراءة دوماً تأويل، ويستحيل أن تكون غير ذلك، النص تابع للقارئ، وهكذا يتبع مستوى النص لمستوى القراءة، أحياناً تقرئين نصاً يفتح لك أفقاً ويطرح عليك أسئلة، وأحياناً يقرأه آخر فلا يرى فيه شيئاً، أو قد يرى عكس ما رأيت! وهذا باعتقادي دليل على غنى النص، النص البسيط هو الذي لا يختلف فيه أحد، ومن أجل ذلك دعا المذهب الظاهري في الإسلام إلى إلغاء ومنع التأويل، حيث سادت مدرسة ابن حزم، أي هناك تفسير واحد للقرآن في مستوى الحرف الظاهر، وهذا يمنع من التفكير، إذ لابد من الإيمان بالحرف، لا وجود لقراءة مختلفة كما قرأه المتصوفون أو بعض فرق الباطنة!
لا وجود لنص حقيقي إذاً؟! وهل هو عند الكاتب فقط؟
** علاقة النص بقارئه غير علاقة النص بكاتبه، الكاتب يعتقد أنه قال في هذا النص ما كان لديه أن يقوله، قال خطأ أو صواباً؟ بمستوى عالٍ أو بمستوى متدنٍ؟ هذا يحكم عليه القارئ، أما علاقة النص بالقارئ فمختلفة كلياً، لذا النص قراءة، فإما أن تكون عالية، أو أن تكون غير ذلك، ومشكلة الثقافة العربية الأولى اليوم، ليست مشكلة كتابة بل مشكلة قراءة.
قلت في حمص: أنجز أسلافنا ما لم ننجزه حتى اليوم، فهل نعيش نحن وقتاً مستقطعاً، هل يذهب كل هذا الوقت سدى؟ ألا يلوح في الأفق أي شيء؟
** قولي لي أنت إن كان في الأفق شيء ما؟ وما هو؟
ألا تتفاءل بالغد؟
** لا. كل شخص يتفاءل استناداً إلى حاضر، ما هي هذه الأشياء في حاضرنا: في الاقتصاد، في التربية، في العلوم، في المكتشفات، في الكتابات... والتي تبشر بمستقبل زاهر للعرب! ما هي؟ قولوا لي! ومع ذلك يجب أن نتفاءل دون أن نكون محكومين بالأمل – كما يقول صديقنا سعد الله – لا يجوز أن يحكم الإنسان بأي شيء حتى بالأمل! يجب أن يكون خارج جميع الأحكام، إلا الأحكام التي يمليها العقل والتأمل والحرية.
تصنيفات
يرمز للذكر بالشمس، ويرمز للمرأة بالقمر، هو العقل وهي العاطفة، ما رأيك بمثل هذه التصنيفات؟
** هذه لغة فقط، وهي لغة ذكورية، إن كان هناك شمس فهي موجودة بالتساوي في الأنثى والذكر، كل شيء موجود في الكون هو لهذا المثنى الذي لا انفصال له إلا لكي يزداد تكاملاً، بالنسبة لي لا فرق بين الذكر والأنثى إطلاقاً، إلا كما هو الفرق بين رجل وآخر، أو بين امرأة وأخرى! إنها فروقات خاصة وطبيعية، أما بالمعنى الكياني الإنساني العميق الإبداعي فلا فرق، وقد تكون المرأة أعظم من الرجل.
تصنيف آخر يقول إن الشرق روحاني والغرب مادي. يقاطعني ويقول:
** الشرق روحاني! هذا تصنيف سطحي أيضاً، لا شرق ولا غرب، فالشرق والغرب واحد على المستوى الإنساني، الشرق والغرب تصنيف استعماري وحديث، وتصنيف اقتصادي ليظهروا الشرق بمظهر الأدنى والغرب هو المتفوق! ما هو الشرق والغرب عند رامبو، أو دانتي، أو غوته، إنهما واحد بالنسبة لهم. إن كان الغرب مادياً كما يقولون فهناك مادية في الشرق، وكما أن في الشرق روحانية ففي الغرب روحانية! ألا يبحث الغربي عن خلاص فردي! لكن الغربي صار حراً بحيث يبحث عن خلاصه خارج جميع مسبقاته. الغرب يتحرك فردياً فيما يتعلق بخلاصه، بثقافته، بحريته، ويتحرك جماعياً فيما يتعلق ببناء الدولة، من هنا تأتي الديمقراطية، وهذه هي الثورة الحقيقية التي أنجزها الغرب، فصل الدين عن الدولة-أي فصل الكنيسة – وأنجز دولة باختيار الأفراد ولذلك يتحرك الأفراد جماعياً فقط في إطار بناء الدولة والديمقراطية، وما عدا ذلك، فكل فرد حر يكتب، يبحث، يفكر بكل ما يشاء حتى في اختيار دينه.
الوطن – الدولة -العلمانية
هل ترى أن خلاصنا يكمن في فصل الدين عن الدولة إذاً؟
** هذه خطوة فقط، بقدر ما يكون لدى الإنسان طاقة لاستكمال هذه الخطوة، بقدر ما يكون خلاصه، فكل شيء بناء وممارسة، لا يمكن أن تكوني ديمقراطية إلا إذا اعترفت بحقي المختلف عنك، الديمقراطية ممارسة، وتربية وحرية وعقل، حتى الدول التي حققت الديمقراطية منذ 200 سنة، لا تزال الديمقراطية فيها مجال اختبار ولم تكتمل بعد!
سورية دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة، وتشريعاتها ليست دينية فيما عدا قانون الأحوال الشخصية!
** إلا في الأحوال الشخصية! ما دام هذا القانون غير مدني، إذاً هي غير علمانية رغم كل شيء، فأهم ما في حياة الإنسان هي أحواله الشخصية وهكذا تبقى الديمقراطية هنا شكلية.
اطلعت على ما قلته بشأن الديمقراطية في لبنان، بعضنا يعتبره نموذجاً للديمقراطية العربية!
** لا يمكن لأي ديمقراطية عربية أن توجد ما دامت هذه الأسس الدينية قائمة، في لبنان يوجد شراكة طائفية، ولأنه كذلك يبدو أن له شكلاً ديمقراطياً، ولذا يسمونها ديمقراطية توافقية.
تقول إن البيت-الوطن يتمثل في الحرية، لا في المكان حيث يقيم الإنسان، وحيث يفكر ويكتب ويعبر بحرية، هذا هو بيته ووطنه، مع هذه الحرية هل أسألك ما حدود بيتك-وطنك؟
** بهذا المعنى لا مكان لي، أنا حر حيث يتاح لي أن أكون حراً، أو أن وطني هو المكان الذي يتيح لي أن أكون حراً بكامل المعنى، بهذا المعنى لا يمكن أن تري مكاناً! وإذاً إنه اللامكان، نحن نسكن اللامكان!
"أعيش في هذا المجتمع كما لو كنت أعيش في الدرجة صفر اجتماعياً وسياسياً! كل شيء يحتاج إلى إعادة تحديد وإعادة نظر وإعادة عمل!" هذا ما قلته أنت، أحقاً كل شيء في درجة الصفر!؟
** صحيح. يعني ما هو قائم أنا شخصياً لا أقبله إطلاقاً!
كل ما هو قائم؟
** كل ما هو قائم، بدءاً من العائلة وانتهاء بالجامعة كأعلى سلطة معرفية، وإذن يجب إعادة النظر فيه وتحديده من جديد.
هل لديك بدائل؟
** عندي بدائل. أكتب الشعر، وصداقات شخصية، وأستظل بين وقت وآخر – أو في معظم الأحيان – بالحب!
عصر الصورة
نعيش اليوم ثقافة العين والأذن، وقد ألغيت ثقافة القراءة في عصر الصورة، كيف تحلل الأمر؟
** نعم. الثقافة القديمة قامت على البصر وعلى الرؤية والسماع، كانت ثقافة شفوية ولم تأخذ الكتابة وقتها مكاناً لها، اليوم وبفضل التقنية، والصورة التي تعتبر جزءً بسيطاً من الانقلاب الحضاري القائم الآن، هناك عودة إلى الثقافة القديمة ثقافة العين والأذن، ووضعت البصيرة بين هلالين أو ذُوّبت في البصر والسمع، ولذا هناك أزمة قراءة وأزمة كتاب وتحول حتى في المجتمع الغربي، فقد بدأ التحول يفعل فعله، وهكذا ترين أن ثلاثة أرباع النشاط البشري في الغرب اليوم هو الرياضة بجميع أنواعها، وتنشب حروب بسببها! كانت الثقافة الأوربية ثقافة قائمة على الثقافة اليونانية، الآن انتهت الثقافة اليونانية، وصار مركزها فقط في التاريخ، وبعض الجامعات والمراكز، وحلت محلها في الحياة اليومية أشياء أخرى. نحن وصلنا هذه المرحلة، لكن وصلناها بالقفز، دون أن نجرب كما جرب الغرب، ودون أن نعاني كما عانى، نحن نقفز من مرحلة إلى مرحلة محمولين على أجنحة غربية!
ألا يمكننا استغلال موضوع الصورة اليوم وتوجيهه لمصلحتنا؟
** الأنظمة السياسية تستغله! حين ترين دولة أو دولتين تتحكمان بالإعلام العربي من المحيط إلى الخليج ماذا يعني ذلك؟ هذا معناه أن السياسة تستفيد من الصورة ومن وسائل التقنية الإعلامية إلى أبعد حد، وإلا لماذا توجد الرقابة على الإعلام والصحف! الدولة تراقب وعياً منها بأثر الصورة وأثر التقنية الإعلامية.أي سلطة مهما كانت ستعمد إلى تسويق مبادئها ومفاهيمها وأفكارها؟!
** لا. في الغرب هذا غير موجود! في فرنسا مثلاً هناك (لوبين) اليميني الذي يقف الكل ضده ويحوز 8% فقط من مجموع الشعب الفرنسي، لكن حين تبدأ الانتخابات يصبح (لوبين) الذي يكرهه الجميع جزء من المؤسسة وله الحق في استخدام تلفزيونات الدولة كما يستخدمها أي شخص آخر، يصبح مواطناً وله حقوق كاملة، بينما هنا عند العرب. ما من داعٍ للكلام وفهمك كافٍ!
ألا يمكننا توليف ثقافة الصورة لمصلحة الكتاب؟
** إن حررتها من سلطة الدولة تستطيعين ذلك، هل يمكنك تحرير التقنية الإعلامية ووسائلها من تلك السلطة؟ حرريها ثم اسأليني مثل هذا السؤال!
ولكن في حالة كهذه ألا نصل إلى الفوضى؟
** الفوضى أقل سوءاً من القيد، مهما كان القيد مصحوباً بشعارات تحررية أو مؤقتة. الفوضى أكثر إنسانية وأقل ضرراً من القيد.
نتابع القنوات اللبنانية فنرى لكل زعيم حزب، أو طائفة قناته الخاصة، حين نرى كل تلك الفوضى نفضل قيودنا!
** هذه ليست فوضى، هذه مستويات، المشكلة ليست في الآلة بل في كيفية استخدامها، وكما تستخدم الدولة هذه الأجهزة لمصلحتها ولمصلحة سياستها، تأتي فئات أخرى لتستخدم الآلة ذاتها لمصلحتها هي. هذه ليست فوضى، بل انعكاس لمستوى الحياة السياسية، ومستوى حياة البشر ومستوى القيم والأخلاق. إنها كاشف عن الحقائق التي نعيشها.
أدونيس وسلطة المال
أقرأ رواية جديدة لباولو كويلو عنوانها (الرابح يبقى وحيداً) من هو الرابح وهل يبقى وحيداً برأيك؟
** هل هناك ربح أولاً؟ أنا لا أعرف ما معنى الربح! هل هو الربح المالي التجاري، أم!! لا وجود إلا للربح بالمعنى العادي البشع وهو الربح المالي. في الثقافة لا وجود للربح. الثقافة خسارة دائمة، خسارة بمعنى أنه بقدر ما يوغل الكاتب في طريق الكشف، يشعر أنه خاسر ومقصر، وعليه أن يتوغل أكثر، وبهذا المعنى الكتابة دائماً خسارة، دائماً تشعرك بأنك لم تنجز ما تريد.
ما علاقتك بالمال والثروة والملكية؟
** فقط لتسيير الحياة. أحب ألا أضيع وقتي كله في البحث عن كيفية دفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والأكل. وقتي هو رأسمالي الوحيد ويجب أن أعرف كيف أنفقه فيما يفصح عن هويتي وحياتي، المال فقط لأنفقه في سبيل أن تكون لي حياة مستقلة، أتمكن فيها من كتابة ما أشاء.
هل خضعت يوماً لسلطة المال؟
** لا أقول خضعت لسلطة مال، أقول إن الحاجة اضطرتني أحياناً أن أقوم بأعمال كتابية لا أحبها كثيراً.
الصحافة مثلاً؟
** الصحافة مثلاً. لكن ولا مرة خضعت لرقابة على الإطلاق. أبداً. حتى لو وضعت أمام خيار مثل الكتابة برقابة ووظيفة، أم تجوع؟ فسأفضل الجوع.
أعتقد أن كتبك تباع بشكل جيد بل كبير، ألا توفر لك الكفاية؟
** بلى أنا أعيش من عائدات كتبي بكل سهولة وبارتياح، لكن كان من الممكن أن أعيش راحة أكبر لو كانت كتبي متوفرة في البلدان العربية، فأنا مراقب في معظم هذه البلدان، وقبل فترة وجيزة كنت مراقباً حتى في بلدي سورية، فكيف بالبلدان الأخرى!
كعرب نؤمن أن علينا العمل لتوفير حياة أفضل لأولادنا، ما رأيك بالإرث، هل تفكر بهذه الطريقة؟
** لا. عشت مع أولادي كما يعيش صديق مع صديقه، أتيح المجال لهم وأساعدهم بقدر الإمكان، لكنهم ليسوا ورثتي أبداً. هم أصدقاء ولكل واحد منهم حياته المستقلة عني تماماً، ولا أريد توجيههم أبداً، إنما أعرض عليهم المشورة أو الرأي في مشكلة تصادفهم إن أحبوا ذلك، ولهم حرية الأخذ به أو لا!
والعلاقة مع أولاده
ألا توجِّه أولادك حتى لو رأيتهم ذاهبين إلى الخطأ؟!
** سأروي لك قصة: جاءتني ابنتي "أرواد" يوماً، وكانت طالبة في قسم اللغة الفرنسية، وقالت: أريد الانضمام إلى الحزب الشيوعي! قلت لها حسناً القرار سهل، ولكن أقترح عليك أن تعاشري هؤلاء عن قرب وتتعرفي إلى سلوكهم وأفكارهم، وما علاقة ذلك بممارساتهم العملية، وبعد ذلك قرري! بعد بضعة أشهر جاءتني غاضبة لتقول: ما عدت أريد الانضمام إليهم، وقلت: لا علاقة لي. خذي القرار بنفسك! لأولادي الحرية الكاملة بالتصرف وأنا مجرد صديق ناصح، ولا أتدخل مطلقاً. على الولد أيضاً أن يخطئ ويتعلم من أخطائه، وأن يواجه الحياة بمفرده، ويتعذب ويجوع حتى يبني حياته، بعض الآباء أفسدوا أبناءهم بالموافقة الدائمة، على الطفل أن يتعلم أن هناك لا أيضاً. سألوا لبنانياً مرة: ماذا تعمل؟ فقال: أخي في المهجر! في بلادنا العربية يبدو أن لنا جميعاً أخوة في المهجر. طبعاً لدينا تكافل وتضامن لكنه يقتل الشخصية والاستقلالية، ولا يخل الأمر من جانب جيد.
أدونيس والدين والإيمان
في غياب المدرسة والجامعة والأحزاب و.... كحامل أخلاقي، ألا يمكن أن يشكل الدين حاملاً أخلاقياَ؟
**هذا السؤال قائم في مجتمع مضطرب أصلاً، متخلف, ولذا فالشارع متخلف وممارسة الدين فيه أيضاً متخلفة، الدين نفسه بحاجة إلى إعادة نظر في سلوكه وقيمه، بتلك المقولة أنت تلغي الحياة المدنية، على كل حال هي فرضية تجريدية وغير صحيحة، ولكن على فرض أنها موجودة، فعلى الدين نفسه أن يتكيف، الدين في سورية أكثر تخلفاً منه في تركيا، أو في ماليزيا، الدين في ماليزيا دعم الثورة الاقتصادية والتغيير، وفي تركيا يجري حواراً مع العلمانية ويتعايش معها، المجتمع المتخلف تغدو ممارسة الدين فيه متخلفة، وأرجو ألا يُفهم أنني ضد الدين كحالة شخصية، لا إطلاقاً فهذه حاجة طبيعية كالحاجة إلى الحب والشعر والجمال ويجب أن نحترمها. الدين في الأساس حرية، فإن لم يعطك الدين حرية فماذا سيعطيك!
ألا تؤمن بإله، ثم ألا يصبح فكرك نفسه في مرحلة ما إلهاً؟
** أنا أؤمن أننا نعيش في كون مليء بالأسرار، وفي كل يوم يثبت العلم نفسه أن ليس هناك سر بل أسرار، فإذا كان هناك سر فوراءه سر آخر، وهذا وراءه آخر وهكذا... إلى ما لا نهاية. ليست القضية قضية إيمان، أنا أرى أن في هذا الكون أسراراً، ومهمتي لا أن أعبدها، سواء سمّيتها آلهة أو غير ذلك، مهمتي هي اكتشافها. ليست علاقتي بالعالم علاقة عبادة بل علاقة اكتشاف.
الكتابة والجنس أين يتشابهان؟
** الكتابة نوع من ممارسة جنسية عليا مع اللغة، الكلمة كائن حي، وفي معظم الأحيان تكون أنثى، وأحياناً تكون طبيعة، هنا لا يمارس الجنس بالمعنى المعروف، بل بمعنى الالتحام العضوي بين الأشياء الذي يولد حالة – وإن كانت عابرة – لا يعرف فيها الإنسان نفسه أهو حي أم ميت! في لحظة النشوة تلك هناك موت-حياة – حياة – موت في نفس اللحظة، والكتابة شيء من هذا النوع.
المصدر،صفحة الايقونات السورية
حاورته الشاعرة الروائية Suzanne Ibrahim عام 2010
___________________________
أدونيس والرقيب
قلتَ: أوه. لو كنت أكتب كل ما أعرف، ما الذي يمنع أدونيس من ذلك؟
** في عمق كل منا رقيب، وهو أحياناً رقيب غير سياسي، وقد يكون الرقيب السياسي ألطف منه وأرق قياساً به، هذا الرقيب الداخلي له علاقة بأعمق ما لدى الإنسان من حميمية وأشياء شخصية وعلاقات بالآخر، لو افترضنا أن الفرد منا اخترق وتجرأ على الكلام، فسوف يسيء للآخر.
الرقيب هنا تحول إذاً إلى معنى احترام الآخر واحترام حريته!
** هناك دوماً حدود، والشيء العميق العميق غير سياسي، السياسة مراقبة سطحية بالقياس إليه، هنا يصعب البوح لأنه لا يمس الشخص وحده، بل يمس محيطه بأدق خصوصياته وبهذا المعنى يستحيل أن نكتب كل ما نعرف، حتى في المجتمعات الغربية التي حققت خطوات كبيرة في مجال التحرر لا يمكن قول كل شيء، وثمة كتب تراقب وتمنع وتصادر!
فيما عدا هذا، ألديك أي رقيب آخر؟
** لا. إطلاقاً، أقول كل ما لا يسيء للآخر في حميميته، ولكن أقول كل ما قد يعتبر إساءة للآخر بأفكاره، كل ما يتعلق بالأفكار العامة، والثقافة العامة، والآراء السياسية، والعلاقة مع الآخر، كل ما أؤمن به أقوله.
في مشكلة القراءة
لماذا يساء فهم أدونيس غالباً؟ هل الأمر مقصود، أم أنها مشكلة القراءة كما تقول؟
** إنها مشكلة القراءة والوعي، يعمدون إلى إخراج الكلام من سياقه، ومتى أخرج الكلام من سياقه، يصبح شيئاً آخر. أنا أُقَوّلُ أشياء كثيرة لم أقلها أبداً!
هل يشبه ذلك (مانشيتات) حوارك في الحياة التي احتاجت تالياً للتوضيح؟
** مثل تلك نعم، ربما لنوايا معينة، ربما يحب الناس أن يقوّلوني أشياء كامنة في نفوسهم ولا يجرؤون على قولها فينسبونها إلي!
ولكن أينما حلّ أدونيس تبعه هجوم والأسباب مختلفة بطبيعة الحال: ما حدث في المكتبة الوطنية في الجزائر، في أربيل، ومؤخراً في حمص (الشعر الجماهيري وسطحيته) أهي مشكلة القراءة ثانية؟!
** أتصور ذلك، إنها مشكلة قراءة، لكن لا تنسي أمراً. صحيح أن هناك من يهاجم أدونيس، ولكن هناك من يحبه ويدافع عنه أيضاً، أم أننا لا نرى إلا الجانب السلبي! يسعدني ألا يكون هناك إجماع حولي، لو أن الجميع أحبني لشككت في نفسي! ولقلت إن هناك خطأ ما، إذ يستحيل الإجماع على شيء، إلا إذا كان مصطنعاً، كل إجماع اصطناع بشكل أو بآخر، تلفيق لأسباب أو لأخرى. لا يهمني الإجماع على الإطلاق ويسعدني أن يختصم الناس فيّ.
فهل يعجبك أن يقال أدونيس مالئ الدنيا وشاغل الناس؟
** لا يعجبني أبداً! أتمنى أن أشغل عقول الناس لا مساحة الإشاعات والصحافة والحياة الجارية، لو كان الأمر يهمني لسلكت سلوكاً آخر.
في الفكر التنويري
الفكر التنويري أو الفكر الحر هل سيبقى طارئاً على الثقافة العربية؟
** كل ما كتب خلال السنوات المئة الأخيرة، وسمّوه تطويراً ونهضة وغير ذلك، لم يفعل شيئاً تنويرياً، لسبب أساس هو أنه لا يمكننا إنجاز فكر جديد، نحن ننطلق من مسبّقات لا يُطرح عليها أي سؤال! فكيف أخلق فكراً جديداً؟ الفكر العربي ينطلق دوماً من مسبّقات يؤمن بها، وهي دينية أو قومية، أو حضارية، أو إنسانية، الفكر الحقيقي يبدأ من نقد هذه المسلمات، وما لم نفعل ذلك، فلن ننجز تنويراً ولا فكراً حراً، ويجب أن نفيد من خبراتنا التاريخية، مع ذلك لا نفعل، لأننا لا نقرأ منذ مئة سنة وحتى الآن، منذ محمد عبده وحتى الآن! بقي محمد عبده أكثر تقدماً من جميع شيوخ المسلمين اليوم. هذه أشياء واضحة ولا أعرف لم لا يراها العرب!
ألا يعتبر فكر أدونيس طارئاً على ثقافتنا العربية؟
** هذا دليل آخر على عدم وجود فكر عربي أو عقل عربي. ثمة مسبّقات يحاكم من خلالها فكر أدونيس وغيره، وأنا ضد كل المسبّقات.
ستبقى إذاً أنت وغيرك مجرد بقع ضوئية في مكان وزمان ما ليس إلا!؟
** ثقافتنا هي الدين وكل ما بني حوله، وما عدا ذلك كله طارئ وليس أدونيس فقط، جميع الآخرين طارئين! لننظر إلى التاريخ ولنرى أعظم من أضاء الفكر العربي. لا وجود لهم ولا يُقرؤون، شاعر عظيم كأبي النواس لا يقرأ إلا كشاعر خمريات، بينما هو واحد من كبار شعراء العالم لا العرب فقط! حتى المتنبي لا يقرأ إلا من خلال علاقته بكافور أو بسيف الدولة، لا يرونه في ذاته، في عذاباته، في ابتكاراته العظيمة التي قام بها. العقل العربي مريض. وما زلنا مجرد قبائل! كان الأوج في العصر العباسي، ومنذ ذلك الحين ونحن نتقهقر! كل ما هو غربي من الإبرة وحتى الصاروخ غربي ويأخذه العرب مسرورين. ناقشت أحدهم مرة: إن كان كل شيء موجوداً في القرآن، فلماذا وأنتم المؤمنون لم تبدعوه؟ أين أنتم؟ فأجابني: ليس مطلوباً منا أن نبدع، كل ما يفعله الآخرون سخره الله لنا!
في علاقة العربي بالتاريخ ثمة من دعا بعد دخول ما أسموه (الأغيار) إلى تنقية اللغة العربية عبر مشروع (البداوة النقية)
** أعظم كتاب في اللغة العربية واسمه (الكتاب) أنجزه " سيبويه" وهو غير عربي، كل علماء اللغة كانوا من أصول غير عربية، هذه العقلية ما زالت قائمة عند بعضهم، وهي عقلية فاشية بهذا المعنى، لم تجذبني الدعوات القومية العربية الإيديولوجية على الإطلاق لأن في بنيتها العميقة ثمة عنصرية.
في السياق نفسه ثمة من قال: إن العربي فوق التاريخ، وثمة من قال: العربي دون التاريخ وعلى رأسهم آرنست رينان!
** لا. لا هذا ولا ذاك. أتكلم هنا عن العرب بوصفهم لغة وثقافة، لا بوصفهم عنصراً أو قومية، لأن هذا ما عاد موجوداً، فالمجتمع مزيج بشري من جميع العناصر والإثنيات، ولذا يجب أن نأخذ المجتمع بوصفه كلاً وإذا أسميناه عربياً فبالمعنى اللغوي والثقافي، والعرب بهذا المعنى أنتجوا أشياء عظيمة جداً، ومعظم الفلاسفة لدينا حاولوا أن يبنوا بالإفادة من الآخر، فكان الآخر عنصراً تكوينياً في ثقافتهم وحياتهم، وقد قلت هذا مرات عدة، مهمة العرب اليوم هي الخلاص من أي عنصرية تطرح باسم القومية العربية.بين النص والتأويل
القراءة بين النفق والأفق، يتحول النص من وجود ذاتي إلى وجود تأويلي، أين يكون النص الحقيقي، بالذات الطازجة أم بالتأويل والمآل؟
** القراءة دوماً تأويل، ويستحيل أن تكون غير ذلك، النص تابع للقارئ، وهكذا يتبع مستوى النص لمستوى القراءة، أحياناً تقرئين نصاً يفتح لك أفقاً ويطرح عليك أسئلة، وأحياناً يقرأه آخر فلا يرى فيه شيئاً، أو قد يرى عكس ما رأيت! وهذا باعتقادي دليل على غنى النص، النص البسيط هو الذي لا يختلف فيه أحد، ومن أجل ذلك دعا المذهب الظاهري في الإسلام إلى إلغاء ومنع التأويل، حيث سادت مدرسة ابن حزم، أي هناك تفسير واحد للقرآن في مستوى الحرف الظاهر، وهذا يمنع من التفكير، إذ لابد من الإيمان بالحرف، لا وجود لقراءة مختلفة كما قرأه المتصوفون أو بعض فرق الباطنة!
لا وجود لنص حقيقي إذاً؟! وهل هو عند الكاتب فقط؟
** علاقة النص بقارئه غير علاقة النص بكاتبه، الكاتب يعتقد أنه قال في هذا النص ما كان لديه أن يقوله، قال خطأ أو صواباً؟ بمستوى عالٍ أو بمستوى متدنٍ؟ هذا يحكم عليه القارئ، أما علاقة النص بالقارئ فمختلفة كلياً، لذا النص قراءة، فإما أن تكون عالية، أو أن تكون غير ذلك، ومشكلة الثقافة العربية الأولى اليوم، ليست مشكلة كتابة بل مشكلة قراءة.
قلت في حمص: أنجز أسلافنا ما لم ننجزه حتى اليوم، فهل نعيش نحن وقتاً مستقطعاً، هل يذهب كل هذا الوقت سدى؟ ألا يلوح في الأفق أي شيء؟
** قولي لي أنت إن كان في الأفق شيء ما؟ وما هو؟
ألا تتفاءل بالغد؟
** لا. كل شخص يتفاءل استناداً إلى حاضر، ما هي هذه الأشياء في حاضرنا: في الاقتصاد، في التربية، في العلوم، في المكتشفات، في الكتابات... والتي تبشر بمستقبل زاهر للعرب! ما هي؟ قولوا لي! ومع ذلك يجب أن نتفاءل دون أن نكون محكومين بالأمل – كما يقول صديقنا سعد الله – لا يجوز أن يحكم الإنسان بأي شيء حتى بالأمل! يجب أن يكون خارج جميع الأحكام، إلا الأحكام التي يمليها العقل والتأمل والحرية.
تصنيفات
يرمز للذكر بالشمس، ويرمز للمرأة بالقمر، هو العقل وهي العاطفة، ما رأيك بمثل هذه التصنيفات؟
** هذه لغة فقط، وهي لغة ذكورية، إن كان هناك شمس فهي موجودة بالتساوي في الأنثى والذكر، كل شيء موجود في الكون هو لهذا المثنى الذي لا انفصال له إلا لكي يزداد تكاملاً، بالنسبة لي لا فرق بين الذكر والأنثى إطلاقاً، إلا كما هو الفرق بين رجل وآخر، أو بين امرأة وأخرى! إنها فروقات خاصة وطبيعية، أما بالمعنى الكياني الإنساني العميق الإبداعي فلا فرق، وقد تكون المرأة أعظم من الرجل.
تصنيف آخر يقول إن الشرق روحاني والغرب مادي. يقاطعني ويقول:
** الشرق روحاني! هذا تصنيف سطحي أيضاً، لا شرق ولا غرب، فالشرق والغرب واحد على المستوى الإنساني، الشرق والغرب تصنيف استعماري وحديث، وتصنيف اقتصادي ليظهروا الشرق بمظهر الأدنى والغرب هو المتفوق! ما هو الشرق والغرب عند رامبو، أو دانتي، أو غوته، إنهما واحد بالنسبة لهم. إن كان الغرب مادياً كما يقولون فهناك مادية في الشرق، وكما أن في الشرق روحانية ففي الغرب روحانية! ألا يبحث الغربي عن خلاص فردي! لكن الغربي صار حراً بحيث يبحث عن خلاصه خارج جميع مسبقاته. الغرب يتحرك فردياً فيما يتعلق بخلاصه، بثقافته، بحريته، ويتحرك جماعياً فيما يتعلق ببناء الدولة، من هنا تأتي الديمقراطية، وهذه هي الثورة الحقيقية التي أنجزها الغرب، فصل الدين عن الدولة-أي فصل الكنيسة – وأنجز دولة باختيار الأفراد ولذلك يتحرك الأفراد جماعياً فقط في إطار بناء الدولة والديمقراطية، وما عدا ذلك، فكل فرد حر يكتب، يبحث، يفكر بكل ما يشاء حتى في اختيار دينه.
الوطن – الدولة -العلمانية
هل ترى أن خلاصنا يكمن في فصل الدين عن الدولة إذاً؟
** هذه خطوة فقط، بقدر ما يكون لدى الإنسان طاقة لاستكمال هذه الخطوة، بقدر ما يكون خلاصه، فكل شيء بناء وممارسة، لا يمكن أن تكوني ديمقراطية إلا إذا اعترفت بحقي المختلف عنك، الديمقراطية ممارسة، وتربية وحرية وعقل، حتى الدول التي حققت الديمقراطية منذ 200 سنة، لا تزال الديمقراطية فيها مجال اختبار ولم تكتمل بعد!
سورية دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة، وتشريعاتها ليست دينية فيما عدا قانون الأحوال الشخصية!
** إلا في الأحوال الشخصية! ما دام هذا القانون غير مدني، إذاً هي غير علمانية رغم كل شيء، فأهم ما في حياة الإنسان هي أحواله الشخصية وهكذا تبقى الديمقراطية هنا شكلية.
اطلعت على ما قلته بشأن الديمقراطية في لبنان، بعضنا يعتبره نموذجاً للديمقراطية العربية!
** لا يمكن لأي ديمقراطية عربية أن توجد ما دامت هذه الأسس الدينية قائمة، في لبنان يوجد شراكة طائفية، ولأنه كذلك يبدو أن له شكلاً ديمقراطياً، ولذا يسمونها ديمقراطية توافقية.
تقول إن البيت-الوطن يتمثل في الحرية، لا في المكان حيث يقيم الإنسان، وحيث يفكر ويكتب ويعبر بحرية، هذا هو بيته ووطنه، مع هذه الحرية هل أسألك ما حدود بيتك-وطنك؟
** بهذا المعنى لا مكان لي، أنا حر حيث يتاح لي أن أكون حراً، أو أن وطني هو المكان الذي يتيح لي أن أكون حراً بكامل المعنى، بهذا المعنى لا يمكن أن تري مكاناً! وإذاً إنه اللامكان، نحن نسكن اللامكان!
"أعيش في هذا المجتمع كما لو كنت أعيش في الدرجة صفر اجتماعياً وسياسياً! كل شيء يحتاج إلى إعادة تحديد وإعادة نظر وإعادة عمل!" هذا ما قلته أنت، أحقاً كل شيء في درجة الصفر!؟
** صحيح. يعني ما هو قائم أنا شخصياً لا أقبله إطلاقاً!
كل ما هو قائم؟
** كل ما هو قائم، بدءاً من العائلة وانتهاء بالجامعة كأعلى سلطة معرفية، وإذن يجب إعادة النظر فيه وتحديده من جديد.
هل لديك بدائل؟
** عندي بدائل. أكتب الشعر، وصداقات شخصية، وأستظل بين وقت وآخر – أو في معظم الأحيان – بالحب!
عصر الصورة
نعيش اليوم ثقافة العين والأذن، وقد ألغيت ثقافة القراءة في عصر الصورة، كيف تحلل الأمر؟
** نعم. الثقافة القديمة قامت على البصر وعلى الرؤية والسماع، كانت ثقافة شفوية ولم تأخذ الكتابة وقتها مكاناً لها، اليوم وبفضل التقنية، والصورة التي تعتبر جزءً بسيطاً من الانقلاب الحضاري القائم الآن، هناك عودة إلى الثقافة القديمة ثقافة العين والأذن، ووضعت البصيرة بين هلالين أو ذُوّبت في البصر والسمع، ولذا هناك أزمة قراءة وأزمة كتاب وتحول حتى في المجتمع الغربي، فقد بدأ التحول يفعل فعله، وهكذا ترين أن ثلاثة أرباع النشاط البشري في الغرب اليوم هو الرياضة بجميع أنواعها، وتنشب حروب بسببها! كانت الثقافة الأوربية ثقافة قائمة على الثقافة اليونانية، الآن انتهت الثقافة اليونانية، وصار مركزها فقط في التاريخ، وبعض الجامعات والمراكز، وحلت محلها في الحياة اليومية أشياء أخرى. نحن وصلنا هذه المرحلة، لكن وصلناها بالقفز، دون أن نجرب كما جرب الغرب، ودون أن نعاني كما عانى، نحن نقفز من مرحلة إلى مرحلة محمولين على أجنحة غربية!
ألا يمكننا استغلال موضوع الصورة اليوم وتوجيهه لمصلحتنا؟
** الأنظمة السياسية تستغله! حين ترين دولة أو دولتين تتحكمان بالإعلام العربي من المحيط إلى الخليج ماذا يعني ذلك؟ هذا معناه أن السياسة تستفيد من الصورة ومن وسائل التقنية الإعلامية إلى أبعد حد، وإلا لماذا توجد الرقابة على الإعلام والصحف! الدولة تراقب وعياً منها بأثر الصورة وأثر التقنية الإعلامية.أي سلطة مهما كانت ستعمد إلى تسويق مبادئها ومفاهيمها وأفكارها؟!
** لا. في الغرب هذا غير موجود! في فرنسا مثلاً هناك (لوبين) اليميني الذي يقف الكل ضده ويحوز 8% فقط من مجموع الشعب الفرنسي، لكن حين تبدأ الانتخابات يصبح (لوبين) الذي يكرهه الجميع جزء من المؤسسة وله الحق في استخدام تلفزيونات الدولة كما يستخدمها أي شخص آخر، يصبح مواطناً وله حقوق كاملة، بينما هنا عند العرب. ما من داعٍ للكلام وفهمك كافٍ!
ألا يمكننا توليف ثقافة الصورة لمصلحة الكتاب؟
** إن حررتها من سلطة الدولة تستطيعين ذلك، هل يمكنك تحرير التقنية الإعلامية ووسائلها من تلك السلطة؟ حرريها ثم اسأليني مثل هذا السؤال!
ولكن في حالة كهذه ألا نصل إلى الفوضى؟
** الفوضى أقل سوءاً من القيد، مهما كان القيد مصحوباً بشعارات تحررية أو مؤقتة. الفوضى أكثر إنسانية وأقل ضرراً من القيد.
نتابع القنوات اللبنانية فنرى لكل زعيم حزب، أو طائفة قناته الخاصة، حين نرى كل تلك الفوضى نفضل قيودنا!
** هذه ليست فوضى، هذه مستويات، المشكلة ليست في الآلة بل في كيفية استخدامها، وكما تستخدم الدولة هذه الأجهزة لمصلحتها ولمصلحة سياستها، تأتي فئات أخرى لتستخدم الآلة ذاتها لمصلحتها هي. هذه ليست فوضى، بل انعكاس لمستوى الحياة السياسية، ومستوى حياة البشر ومستوى القيم والأخلاق. إنها كاشف عن الحقائق التي نعيشها.
أدونيس وسلطة المال
أقرأ رواية جديدة لباولو كويلو عنوانها (الرابح يبقى وحيداً) من هو الرابح وهل يبقى وحيداً برأيك؟
** هل هناك ربح أولاً؟ أنا لا أعرف ما معنى الربح! هل هو الربح المالي التجاري، أم!! لا وجود إلا للربح بالمعنى العادي البشع وهو الربح المالي. في الثقافة لا وجود للربح. الثقافة خسارة دائمة، خسارة بمعنى أنه بقدر ما يوغل الكاتب في طريق الكشف، يشعر أنه خاسر ومقصر، وعليه أن يتوغل أكثر، وبهذا المعنى الكتابة دائماً خسارة، دائماً تشعرك بأنك لم تنجز ما تريد.
ما علاقتك بالمال والثروة والملكية؟
** فقط لتسيير الحياة. أحب ألا أضيع وقتي كله في البحث عن كيفية دفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والأكل. وقتي هو رأسمالي الوحيد ويجب أن أعرف كيف أنفقه فيما يفصح عن هويتي وحياتي، المال فقط لأنفقه في سبيل أن تكون لي حياة مستقلة، أتمكن فيها من كتابة ما أشاء.
هل خضعت يوماً لسلطة المال؟
** لا أقول خضعت لسلطة مال، أقول إن الحاجة اضطرتني أحياناً أن أقوم بأعمال كتابية لا أحبها كثيراً.
الصحافة مثلاً؟
** الصحافة مثلاً. لكن ولا مرة خضعت لرقابة على الإطلاق. أبداً. حتى لو وضعت أمام خيار مثل الكتابة برقابة ووظيفة، أم تجوع؟ فسأفضل الجوع.
أعتقد أن كتبك تباع بشكل جيد بل كبير، ألا توفر لك الكفاية؟
** بلى أنا أعيش من عائدات كتبي بكل سهولة وبارتياح، لكن كان من الممكن أن أعيش راحة أكبر لو كانت كتبي متوفرة في البلدان العربية، فأنا مراقب في معظم هذه البلدان، وقبل فترة وجيزة كنت مراقباً حتى في بلدي سورية، فكيف بالبلدان الأخرى!
كعرب نؤمن أن علينا العمل لتوفير حياة أفضل لأولادنا، ما رأيك بالإرث، هل تفكر بهذه الطريقة؟
** لا. عشت مع أولادي كما يعيش صديق مع صديقه، أتيح المجال لهم وأساعدهم بقدر الإمكان، لكنهم ليسوا ورثتي أبداً. هم أصدقاء ولكل واحد منهم حياته المستقلة عني تماماً، ولا أريد توجيههم أبداً، إنما أعرض عليهم المشورة أو الرأي في مشكلة تصادفهم إن أحبوا ذلك، ولهم حرية الأخذ به أو لا!
والعلاقة مع أولاده
ألا توجِّه أولادك حتى لو رأيتهم ذاهبين إلى الخطأ؟!
** سأروي لك قصة: جاءتني ابنتي "أرواد" يوماً، وكانت طالبة في قسم اللغة الفرنسية، وقالت: أريد الانضمام إلى الحزب الشيوعي! قلت لها حسناً القرار سهل، ولكن أقترح عليك أن تعاشري هؤلاء عن قرب وتتعرفي إلى سلوكهم وأفكارهم، وما علاقة ذلك بممارساتهم العملية، وبعد ذلك قرري! بعد بضعة أشهر جاءتني غاضبة لتقول: ما عدت أريد الانضمام إليهم، وقلت: لا علاقة لي. خذي القرار بنفسك! لأولادي الحرية الكاملة بالتصرف وأنا مجرد صديق ناصح، ولا أتدخل مطلقاً. على الولد أيضاً أن يخطئ ويتعلم من أخطائه، وأن يواجه الحياة بمفرده، ويتعذب ويجوع حتى يبني حياته، بعض الآباء أفسدوا أبناءهم بالموافقة الدائمة، على الطفل أن يتعلم أن هناك لا أيضاً. سألوا لبنانياً مرة: ماذا تعمل؟ فقال: أخي في المهجر! في بلادنا العربية يبدو أن لنا جميعاً أخوة في المهجر. طبعاً لدينا تكافل وتضامن لكنه يقتل الشخصية والاستقلالية، ولا يخل الأمر من جانب جيد.
أدونيس والدين والإيمان
في غياب المدرسة والجامعة والأحزاب و.... كحامل أخلاقي، ألا يمكن أن يشكل الدين حاملاً أخلاقياَ؟
**هذا السؤال قائم في مجتمع مضطرب أصلاً، متخلف, ولذا فالشارع متخلف وممارسة الدين فيه أيضاً متخلفة، الدين نفسه بحاجة إلى إعادة نظر في سلوكه وقيمه، بتلك المقولة أنت تلغي الحياة المدنية، على كل حال هي فرضية تجريدية وغير صحيحة، ولكن على فرض أنها موجودة، فعلى الدين نفسه أن يتكيف، الدين في سورية أكثر تخلفاً منه في تركيا، أو في ماليزيا، الدين في ماليزيا دعم الثورة الاقتصادية والتغيير، وفي تركيا يجري حواراً مع العلمانية ويتعايش معها، المجتمع المتخلف تغدو ممارسة الدين فيه متخلفة، وأرجو ألا يُفهم أنني ضد الدين كحالة شخصية، لا إطلاقاً فهذه حاجة طبيعية كالحاجة إلى الحب والشعر والجمال ويجب أن نحترمها. الدين في الأساس حرية، فإن لم يعطك الدين حرية فماذا سيعطيك!
ألا تؤمن بإله، ثم ألا يصبح فكرك نفسه في مرحلة ما إلهاً؟
** أنا أؤمن أننا نعيش في كون مليء بالأسرار، وفي كل يوم يثبت العلم نفسه أن ليس هناك سر بل أسرار، فإذا كان هناك سر فوراءه سر آخر، وهذا وراءه آخر وهكذا... إلى ما لا نهاية. ليست القضية قضية إيمان، أنا أرى أن في هذا الكون أسراراً، ومهمتي لا أن أعبدها، سواء سمّيتها آلهة أو غير ذلك، مهمتي هي اكتشافها. ليست علاقتي بالعالم علاقة عبادة بل علاقة اكتشاف.
الكتابة والجنس أين يتشابهان؟
** الكتابة نوع من ممارسة جنسية عليا مع اللغة، الكلمة كائن حي، وفي معظم الأحيان تكون أنثى، وأحياناً تكون طبيعة، هنا لا يمارس الجنس بالمعنى المعروف، بل بمعنى الالتحام العضوي بين الأشياء الذي يولد حالة – وإن كانت عابرة – لا يعرف فيها الإنسان نفسه أهو حي أم ميت! في لحظة النشوة تلك هناك موت-حياة – حياة – موت في نفس اللحظة، والكتابة شيء من هذا النوع.
المصدر،صفحة الايقونات السورية