حوار غير منشور مع ادونيس ( 1 من 3 )
حاورته الشاعرة الروائية Suzanne Ibrahim عام 2010
الحوار على ثلاثة اجزاء ، وهذا هو الجزء الأول .
___________________________________
أجري معك هذا الحوار لصحيفة الثورة السورية الرسمية، ما الممنوعات التي تتوقع أن تمارسها (الثورة) على حديثنا هذا؟ أين سقفها؟
** هذا سؤال جوابه لديك! فأنت من يعرف سقف الصحيفة!
وماذا لو أنجزنا اختراقاً للسقف المعتاد؟
** سيكون أمراً جميلاً، وشهادة على تقدير الآراء المختلفة وسعة النظر وتأصّل الحرية! لكن أنا لا أعرف ما السقف الذي قد يحد كلامنا، أو يتيح كلاماً دون آخر. أنت تعرفين.
لك ذكريات مع، وفي صحيفة الثورة، كم الفترة التي عملت فيها معها؟
** كنت أعمل معهم من الخارج
أكان إشرافاً على ملحق الثورة الثقافي آنذاك؟
** لم يكن إشرافاً، بل نوع من المساعدة أو المؤازرة للأستاذين علي سليمان ومحمد عمران.
سمعتك تتحدث عن الملحق وتألقه آنذاك، وأنه لم يصل ذاك المستوى بعد ذلك؟
** أتصور! هل هناك أفضل منه الآن!؟
لماذا برأيك؟
** تنجح الأعمال أو لا تنجح وفقاً لمسألتين، تتعلق الأولى بالشخص الذي يشرف على العمل، وتتعلق الثانية بالرؤية التي توجّه هذا الشخص، وقد صادف توفر هذين الأمرين في العمل مع الأستاذ علي سليمان ولا أعرف أين هو اليوم!
كم كنت غائباً عن الصحافة السورية؟ أشيع أن أدونيس لا يجري حوارات مع الصحافة المحلية السورية؟
** مرت فترات مُنِعتْ خلالها الصحافةُ السورية وبقرار رسمي حتى من ذكر اسمي، فكان من الطبيعي أن اقول لا لمن يطلب حديثاً، إنه رد التحية بمثلها!
هل يخطر لك الاطلاع على الصحافة السورية؟
** مع الأسف، حتى لو خطر لي ذلك، فالأمر شبه مستحيل، لأنها غير متوفرة!
يمكنك ذلك عبر شبكة الانترنيت!
** لا أتعامل معها
ألا تتواجد الصحف السورية في بيروت أو في باريس؟! ثمة جالية سورية كبيرة في فرنسا ألا يطّلعون على صحافة بلدهم؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
** حسب علمي هي غير متوفرة، ويجب عليك أن تثيري هذه المسألة باعتبارك تعملين في جريدة الثورة، وأسأل: لم لا تتوفر الصحف السورية في لبنان على الأقل!
في البداية
لنبدأ حوارنا الآن من مشروعك الأخير الذي أتيت بيروت خصيصاً لتنفيذه، وأعني تسجيل أشعارك، أهو مشروع حديث العهد، أم فكرة قديمة تأخر تنفيذها؟
** خطرت الفكرة لابنتي " نينار" وهي فنانة بالمعنى الحديث للكلمة، أي تهتم بالفيديو والأفلام الوثائقية، وقد خطر لها إنجاز هذا التسجيل بإخراجها وإشرافها هي.
ثمة من يغمز إلى أن هذا مشروع اقتصادي رابح!
** لم نتصل بأي شركة وهذا عمل فني بحت، يتم تنفيذه في استديو فني، طبعاً من المستحيل تسجيل كل الشعر، ففي بعضه قصائد مسرحية يصعب تسجيلها، سجلنا مختارات هامة وواسعة من شعري، وأنا من جهتي أنهيت ما عليّ، سجلنا أكثر من (70) ساعة، وبدأت الآن عمليات المونتاج والتصنيع كفيديو.
ما مصير هذا المشروع، أهو للأرشيف فحسب؟
** لا أعرف، يجب أن نسأل " نينار"
في البحث عن هوية
بدأتَ الخروج من هويتك الموروثة، فاخترت اسماً للتخلص منها، هل تخلصت من تبعاتها حقاً؟
** مشكلة الهوية عندنا مشكلة ملتبسة من جهة، وواضحة وبسيطة ومباشرة من جهة أخرى. الإنسان ابن بيئته وأمه وأبيه، وعائلته وشعبه، فكأن الهوية أمر جاهز مسبقاً، فيولد الإنسان لابساً هويته بشكل مكتمل، هذا هو المفهوم الشائع إجمالاً في البلدان العربية والإسلامية. لعل اتخاذي اسم " أدونيس" فتح لي أفقاً للتساؤل حول هذه الهوية المسبقة التي لا يختارها الإنسان بنفسه، إنما يرثها أو تفرض عليه بحكم الطبيعة، لكن في الحقيقة لم أدرك هذا البعد في تغيير الاسم، أو في اتخاذ اسم فني جديد إلا بعد وقت من ذلك! كان نوعاً من المصادفة البحتة، فرأيت أن اسم " أدونيس" نقلني من أفق ثقافي إلى أفق ثقافي أوسع، ومن ضمنه الأفق القديم، هذا جعلني أفكر بمسألة الهوية، إذ تغير معناها بالنسبة لي، ولم تعد مسألة مسبقة، بل صارت مفتوحة، والإنسان يبتكر هويته فيما يبتكر فكره وعمله، هذا ما يميز الكائن العاقل عن الكائنات غير العاقلة، فالكائن العاقل يبتكر نفسه، فيما يبتكر فنه والعالم حوله، لذلك فهويته دائماً مفتوحة، وكأنها تجيء باستمرار من المستقبل وكأنها لا تكتمل أبداً. وهذا يناقض ويعاكس تماماً الهويات الجاهزة المسبقة التي يكون فيها الإنسان مجرد اسم لا أكثر!لكل امرئ من اسمه نصيب، إلى أي حد ينطبق ذلك على أدونيس؟
** حين ابتكرت هذا الاسم، أتاح لي بدوره أن أبتكر نفسي أيضاً، مع أن اسم " علي" – وقد أدركت ذلك أخيراً – ما هو إلا الاسم المعرّب لكلمة " إيل " التي صارت " إيلي" بالمسيحية أو بالكنعانية (أو إيليا) ثم تحولت عربياً إلى " علي"، و" إيل، إيليا، إيلي، وعلي " هذه الأسماء بمعناها لا بصورتها هي " أدونيس" فثمة خيط متكامل وواحد بينها، لكني لم أدرك هذا إلا مؤخراً، فحين اتخذت لنفسي اسم " أدونيس" لم أكن أفكر بهذا الموضوع، بل جاء بالمصادفة.
" علي أحمد سعيد إسبر " أما زال حياً؟
** ما زال حياًّ لأني أحمله في بطاقتي الشخصية– الهوية!
هل ينحصر وجوده إذاً في الهوية! ألا يحيا في إطار العائلة والأصدقاء؟
** الغالب على مناداتي حتى بين أفراد العائلة هو " أدونيس" لكن بعض الأشخاص والأصدقاء البعيدين عن العائلة وبعض الأصدقاء العرب يحبون مناداتي باسمي " علي" وهذا يسعدني.
ما قصتك مع (قصابين) كيف تركتها، وكيف تجدها اليوم؟
** (قصابين) قرية فقيرة جداً بالأساس، ولا تزال كذلك مقارنة بالقرى المجاورة لها، وكانت مهملة جداً. عندما سألت بعض الفلاحين البسطاء عن السبب أجابوا: ليس لدينا ضباطاً كباراً كما في القرى الأخرى، لذلك بقيت قريتنا فقيرة، ونسبياً هي ما تزال بين أكثر القرى فقراً اليوم.
فلِمَ العودة إليها؟
** هي العودة إلى الأمومة ورحم الأرض التي (مس جلدي ترابها) كما قال الشاعر العربي القديم، فالخطوات الأولى هي دائماً مكان حنين ومكان عودة، ولو على المستوى العاطفي أو الذكرى، فكأنما كلما عدت إلى (قصابين) أرى نفسي ذلك الطفل الذي كان يلعب في حقولها، ويمارس العمل، فيشارك في شتل الدخان، والحصاد وقطاف الزيتون واللعب مع أبناء القرية. إنها الرحم الأولى ومن المستحيل الانقطاع عنها!
أبقيت إذاً على الحبل السري بينكما؟
** بلى، وكلما عدت إلى (قصابين) أستعيد أشياء حميمة وغالية جداً، وأشعر أنني ازددت نشوة وارتباطاً بهذه الأرض، هذا على الصعيد الحياتي الحميمي، لكن حينما ننظر إلى القرية من وجهة نظر ثقافية تختلف الأمور كلياً! القرية ثقافياً غير موجودة في الثقافة السائدة في سورية، وهي كذلك في أي بلد عربي، لا مكان للقرية بوصفها قرية! فقدرها دوماً أن تنزح باستمرار إلى المدينة، بدل أن نجعل الناس يحبون بيوتهم الأولى وأرضهم الأولى، ويرتبطون بها، ونوفر لهم كل ما يحتاجونه من المدينة وهو قليل (المدرسة، المشفى، وبعض تنظيمات الحياة اليومية من ماء وكهرباء وهاتف...) فيزداد الفلاح تمسكاً بأرضه وبيته!
لكن القرية السورية أنجزت نقلة نوعية مهمة للغاية على هذا الصعيد، وتوفر لها كل ما ذكرت!
** إنها نقلة شكلية، تطوير الطرق وغيرها موجود وهذا صحيح، لكن الحياة الاجتماعية في القرية لم تتطور، هناك تطور بالتقنية – إذا شئت – لا يرافقه تطور عقلي وثقافي وروحي، ولذا فالقرية تضيع، وتفقد هويتها، والمدينة (تتريف) ولم تعد مدينة أيضاً، ليس هناك مدينة بالمعنى العميق للكلمة، ولا قرية، لأن هناك تفاوتاً بالتطورات والحياة، والأعمال، هناك انشقاقات أكثر مما هناك تكامل ووحدة، هذا التطور – على العكس – يزيد القرى وفق شعوري ومعلوماتي تفككاً، فالحياة الاجتماعية تتراجع نحو التكتلات العشائرية والطائفية! في جيلنا نحن لم نشعر بها، اليوم ثمة دائرة مغلقة يتحرك فيها الناس، ما الأسباب؟ لا أدري! في أيامنا كان ثمة طريق وأفق ومشروع وأحلام.
لعلها ضريبة المدينية والاستهلاك!
** هذه أشياء تتوجب دراستها سوسيولوجياً وسياسياً وثقافياً، لقد ازداد الحس الفردي والفساد والكراهيات، والمجتمع يتفكك بدل أن يزداد تلاحماً.في علاقة الريف بالمدينة
يقال إن شعراء الريف أثّروا وأثروا الحياة الثقافية والأدبية في المدينة (محمد الماغوط، أدونيس، ممدوح عدوان...)
** الحقيقة هي أن ابن المدينة مشغول أو مأخوذ بعالم بعيد نسبياً عن عالم الثقافة، هو مأخوذ بالتجارة في المقام الأول ثم بالسياسة، ابن الريف لا يملك شيئاً، ولديه طموحات كثيرة، ولا يجد ما يحققها له، أو ما يحقق ذاتيته إلا الكتابة، فيكتب، وبوصفه كاتباً يملأ ساحة المدينة لأن المدينة فارغة إجمالاً – مأخوذة بأشياء أخرى – هذا شيء، ولكن إن كان شعراء الريف أثروا في المدينة أو أغنوها فهذا أمر آخر! لا أرى أن الشعر العربي أغنى المدينة العربية، بماذا أغناها! المدينة لا تزال مغلقة أمام الإبداعات وبخاصة أمام الإبداعات الكبيرة، لأن المدينة لدينا تقليدية بعاداتها وتقاليدها وثقافتها الموروثة. لا أظن أن أولئك استطاعوا شيئاً بل على العكس أعتقد أن المدينة امتصتهم ووطّنتهم، حتى لا أقول روّضتهم وأخضعتهم لثقافتها وتقاليدها! من يأتي من الريف يجب أن تنهض كتابته على أنواع عميقة من المغامرات والتجارب الكبرى حتى يهز بنية المدينة التقليدية، وهذا لا نراه في الكتابات السورية ولا في الكتابات العربية أيضاً!
في دمشق اليوم جيل جديد يقيم نشاطات ثقافية أهلية، وثمة مبادرات فردية تحاول الابتعاد عن الثقافة الرسمية، ولعلها أنجزت اختراقاً ما، لا أدري إن كنت مطلعاً عليها، فهناك العديد من الأمسيات تعقد في أماكن غير اعتيادية لمثل هذه النشاطات، وهناك صالات عرض خاصة... ألا تراها بدايات مبشرة؟
** الحراك الأساسي اليوم في سورية والذي قد يلفت النظر-والأمر نفسه في البلاد العربية عامة – هو الحراك التشكيلي وإلى حد ما الفن السينمائي، رغم أن الأخير يحتاج إلى ميزانيات ضخمة – بين الرواية والشعر والفن التشكيلي أرى أن المنجزات الحقيقية في الإطار الذي أتحدث عنه هي في الفن التشكيلي أكثر مما هي في الفنون الأدبية! لعل الفنون الكتابية القائمة على الكلمة تتعرض لرقابة أو لمنع – مع وجود معايير تقليدية -بينما في الفن التشكيلي قد تكون الحدود أقل، أو لا حدود تقريباً، فليس لهذا الفن تراث، ولا أصول في تاريخنا، لذا يجد الفنان نفسه حراً في أرض بكر، أما في الشعر أو المسرح فلهذين المجالين تاريخ طويل وسلطة وتقاليد وقيم اجتماعية، ولذا نرى الكاتب بشعوره أو بلا شعوره يراعي مثل هذه الأمور وهكذا تكون تجربته أو مغامرته أقل بكثير مما لدى الفنان التشكيلي. في الكتابة العربية نحن بحاجة إلى المغامرات الكبرى الكيانية التي ترّج التراث بكامله، والحياة الاجتماعية بكاملها وتفتح أفقاً جديداً للكتابة.
يأخذنا هذا للحديث عن الصورة وأهميتها في التواصل، خاصة وأنها مرفوضة في تراثنا العربي (إذ ينظر إليها باعتبارها صنماً أو تمثالاً) مع أن الإنسان مفطور على الفهم من خلال الصورة؟
** هذا جزء من الحدود المفروضة على المبدع أو الكاتب، لكن الصورة في الفن التشكيلي انتهت تقريباً، هناك لوحة قد تكون تجريدية أو بلا صورة، وحين ذاك تزول الحدود، ولكن هناك صوراً معنوية غير مرئية، وهي ما يرتبط بالحلال والحرام، ليس في الدين فقط، وإنما في السياسة أيضاً، فهذه الصور اللامرئية تهيمن على وعينا ولاوعينا، وهي ما يتوجب علينا التحرر منها، كيف ذلك؟ هذا يحتاج إلى مغامرات. ولابد من دفع الثمن، فالحرية لا تأتي وأنت تجلسين في بيتك! لا بد من خلقها أيضاً!
على صعيد العالم العربي أليس هناك مغامرة كتابية بالمعنى الذي تقوله؟
** كل الكتابة خاضعة بشكل أو بآخر لما هو مسبّق: إذا قلت إن المرأة الآن تكتب، وأن هناك نهضة كتابية نسوية – وكلمة نهضة بين هلالين – في الرواية والشعر! ونحن نشكو إجمالاً من مجتمع الأبوة والذكورة، وإذاً أبسط الأشياء التي ننتظرها من هذه الكتابة ألا تكون انقلاباً على الكتابة الذكورية، لتحل سلطة أنثوية محل سلطة ذكورية! هذا لا يعني شيئاً! لابد للمرأة أن تزلزل الأسس التي نهض عليها النظام الأبوي. ليس لدي تعليمات بالطبع، فالكاتب هو من يوجدها، قد تتحدث رواية ما عن حرية الجسد، حسن. ففي النهاية الجسد وحريته مشروطة بمجتمع وثقافة؟
لكن بعضهن أنأدونيس والشعر الجماهيري
ثمة غضبة على أدونيس حالياً بعد وصفه الشعر الجماهيري بالسطحية، ألم يكن نيرودا شاعراً جماهيرياً؟ ورسول حمزاتوف و..و.. وما معنى السطحية الذي تقصده تماماً؟
** كل مشتَركٍ سطحي! عندما نتحدث بقضايا عقلية ويشارك في فهمها ومعرفتها الجميع، فهذا لا يمكن إلا أن يكون سطحياً! كل ما هو سياسي (بالمعنى السياسي العملي) سطحي بالضرورة، كل ما هو استنهاضي وتحريضي وحماسي لا يمكن أن يكون إلا سطحياً! لأن ما نسميه بالجماهير هي مجموعة من الأفراد، ولكل فرد فيها انتماؤه وثقافته ومخيلته الخاصة، وعندما يؤخذ الكل فرداً فرداً، فإن كل فرد يختلف عن الآخر بهويته العميقة، لكن عندما يوضعون في قضية ما – ضد الاستعمار مثلاً – فالكل ضده، هذه الضدية على هذا المستوى سطحية كلياً، فهو ضد الاستعمار على هذا المستوى، لكنه في حياته العميقة لا يعيد النظر في قيمه وعلاقته بالمرأة ومع الآخر، ولا يعيد النظر بثقافته وعقله وتربيته! فرد كهذا يكون مع الاستعمار. فهو ضده شكلياً ولكن موضوعياً هو معه! إذاً لابد من التمييز، والكتابة إن لم تفتح آفاقاً جديدة للتساؤل، وأبواباً جديدة لزلزلة هذه القيم كلها والحياة الاجتماعية فهي كتابة سطحية، إن كنت أنا كشاعر قد قلت لك الأشياء التي تريدينها فماذا فعلت؟!
لعلك أرضيتني أو أبقيتني على ما أنا عليه!
** نعم أرضيتك. ثمة صبية تقرأ قصيدة غزلية لنزار مثلاً، إنها تشعر بالتحرر وتسعد وتتوهم أنها عاشت حريتها عبر القصيدة لفترة ما، لكن مع انتهاء مفعول القراءة، ينتهي كل شيء لأن القصيدة لم تخلخلها من الداخل، لم تغيرها، هذه بالطبع مسائل صعبة جداً، فهي مرتبطة بتغير مجتمع ومشروعات. ما أقوله ليس سهلاً في الحقيقة. بهذا المعنى أقول إن على الشاعر أن يتوغل في مشكلاته العميقة الذاتية، أما الشاعر الجماهيري فلا يفصح إلا عن القضايا السطحية المشتركة أياً كان الشاعر، وأياً كانت القضية! لو قرأت الآن الشعر الذي كتب بالثورة الجزائرية مثلاً، ماذا يعطيك؟ هل يمكنك إعادة قراءته اليوم؟ اقرئي ما كتب عن فلسطين -وقضيتها مازالت ماثلة – ماذا يقدم هذا الشعر؟
إنه تأريخ آخر لتلك المراحل النضالية!
** الشعر ليس تاريخاً، التاريخ يُقرأ في ضوء الشعر وليس الشعر يؤرخ.
ولكن ألا تواكب الأحداث تلك؟
** المواكبة عليها أن تخترق الحدث، وتحوله إلى رمز، فلسطين التي ومنذ 50 عاماً تدمر فيها حياة الفلسطينيين والحياة العربية بكاملها، وبدل أن تنقلب الكتابة بكل معطياتها وأشكالها إلى مستوى ما فعلته القضية الفلسطينية، بقيت الكتابة وكأنها مرآة تعكس فلسطين! لم يحدث في العقل والوعي والكتابة وأشكالها ما حدث على الأرض – هل في التاريخ كله مأساة مستمرة كمأساة فلسطين؟! في كل يوم يقتلع بشر من بيوتهم، يقتلون وتهدم بيوتهم ويتوسع العدو كل يوم وعلى مدى 50 عاماً! مع ذلك تحولت القضية إلى موضوع إنشاء! هذا ما أقصده. لا وجود لثورة في العقل والوعي والتعبير تواكب أو تخترق فيما تواكب ما يحدث على الأرض!
من زاوية أخرى يقول المستشرق وليم جونز إن الشعر الخالد يمنحك أن تكون قادراً على الوصول إلى جمالياته بالفطرة والاتصال المباشر. هل هذا مع أو ضد الشعر الجماهيري؟
** تصوري جمهوراً وخذي شخصاً أو اثنين منه، وأعطه قصيدة، هل يعرف أن يقرأها حتى لو كان طالباً جامعياً؟! إنسان لا يعرف قراءة قصيدة كيف يمكن أن نعتمد عليه بوصفه معياراً للشعر! اعملي جلسة شعرية في أي قاعة من قاعات أي جامعة سورية. ثمة من يحضرون وليس في مكتبتهم ديوان شعر واحد. لم يقرأ ديواناً واحداً! كيف يكون مثل هذا معياراً للشعر! الشعر عملية خاصة فردية قائمة على ثقافة معينة وجمالية معينة، وعلى تراكم معرفي وقراءات شعرية متنوعة ومتواصلة. ماركس كتب للشغيلة والفقراء، فهل قرأ هؤلاء ماركس؟! مسألة الجمهور مسألة إيديولوجية سياسية بحتة لتوجيه البشر باتجاه السلطة ولتوجيه الثقافة لدفع هذا الجمهور باتجاه السلطة، لذلك كل شعر جماهيري شعر سياسي سلطوي، وشعر مصالحات لا قيمة فنية له أبداً!
هكذا نرى أنفسنا أمام سؤال النخب والرواد والجمهور والعلاقة بينهم.
** النخبة اختراع سخيف، مثل اختراع الجمهور، كلاهما اختراع سياسي، لدى السياسيين من الحنكة والمراس أكثر بكثير مما لدى الكتاب والأدباء، يريدون تحويل كل شيء إلى ملحق بالسياسة، وبدل أن تكون السياسة جزء من الثقافة، يناضلون لتصير الثقافة جزء من السياسة وخادمة لها. في الواقع جميع السياسيين العرب لا يقرؤون، وأنا لا أتصور وجود سياسي لا مكتبة في بيته، إن كان السياسي لا يجيد القراءة، إن لم يكن مثقفاً كيف سيسوس البلاد والبشر؟! بعض الحكام العرب لا يجيد حتى إلقاء خطاب دون أخطاء، فكيف يمكنهم التفكير بطريقة صحيحة!؟جزن اختراقاً!
** إنه اختراق لفظي فحسب! أما البنية العميقة فما زالت قائمة، لماذا لا نجرؤ على زلزلة الأسس التي ذكرتها آنفاً؟! إن كانت الكاتبات ضد الذكورة مثلاً، فليزلزلنها! ليحررن الذكر أو ليساعدنه على ذلك!
ا لمصدر،،صفحة الايقونات السورية
حاورته الشاعرة الروائية Suzanne Ibrahim عام 2010
الحوار على ثلاثة اجزاء ، وهذا هو الجزء الأول .
___________________________________
أجري معك هذا الحوار لصحيفة الثورة السورية الرسمية، ما الممنوعات التي تتوقع أن تمارسها (الثورة) على حديثنا هذا؟ أين سقفها؟
** هذا سؤال جوابه لديك! فأنت من يعرف سقف الصحيفة!
وماذا لو أنجزنا اختراقاً للسقف المعتاد؟
** سيكون أمراً جميلاً، وشهادة على تقدير الآراء المختلفة وسعة النظر وتأصّل الحرية! لكن أنا لا أعرف ما السقف الذي قد يحد كلامنا، أو يتيح كلاماً دون آخر. أنت تعرفين.
لك ذكريات مع، وفي صحيفة الثورة، كم الفترة التي عملت فيها معها؟
** كنت أعمل معهم من الخارج
أكان إشرافاً على ملحق الثورة الثقافي آنذاك؟
** لم يكن إشرافاً، بل نوع من المساعدة أو المؤازرة للأستاذين علي سليمان ومحمد عمران.
سمعتك تتحدث عن الملحق وتألقه آنذاك، وأنه لم يصل ذاك المستوى بعد ذلك؟
** أتصور! هل هناك أفضل منه الآن!؟
لماذا برأيك؟
** تنجح الأعمال أو لا تنجح وفقاً لمسألتين، تتعلق الأولى بالشخص الذي يشرف على العمل، وتتعلق الثانية بالرؤية التي توجّه هذا الشخص، وقد صادف توفر هذين الأمرين في العمل مع الأستاذ علي سليمان ولا أعرف أين هو اليوم!
كم كنت غائباً عن الصحافة السورية؟ أشيع أن أدونيس لا يجري حوارات مع الصحافة المحلية السورية؟
** مرت فترات مُنِعتْ خلالها الصحافةُ السورية وبقرار رسمي حتى من ذكر اسمي، فكان من الطبيعي أن اقول لا لمن يطلب حديثاً، إنه رد التحية بمثلها!
هل يخطر لك الاطلاع على الصحافة السورية؟
** مع الأسف، حتى لو خطر لي ذلك، فالأمر شبه مستحيل، لأنها غير متوفرة!
يمكنك ذلك عبر شبكة الانترنيت!
** لا أتعامل معها
ألا تتواجد الصحف السورية في بيروت أو في باريس؟! ثمة جالية سورية كبيرة في فرنسا ألا يطّلعون على صحافة بلدهم؟ ومن المسؤول عن ذلك؟
** حسب علمي هي غير متوفرة، ويجب عليك أن تثيري هذه المسألة باعتبارك تعملين في جريدة الثورة، وأسأل: لم لا تتوفر الصحف السورية في لبنان على الأقل!
في البداية
لنبدأ حوارنا الآن من مشروعك الأخير الذي أتيت بيروت خصيصاً لتنفيذه، وأعني تسجيل أشعارك، أهو مشروع حديث العهد، أم فكرة قديمة تأخر تنفيذها؟
** خطرت الفكرة لابنتي " نينار" وهي فنانة بالمعنى الحديث للكلمة، أي تهتم بالفيديو والأفلام الوثائقية، وقد خطر لها إنجاز هذا التسجيل بإخراجها وإشرافها هي.
ثمة من يغمز إلى أن هذا مشروع اقتصادي رابح!
** لم نتصل بأي شركة وهذا عمل فني بحت، يتم تنفيذه في استديو فني، طبعاً من المستحيل تسجيل كل الشعر، ففي بعضه قصائد مسرحية يصعب تسجيلها، سجلنا مختارات هامة وواسعة من شعري، وأنا من جهتي أنهيت ما عليّ، سجلنا أكثر من (70) ساعة، وبدأت الآن عمليات المونتاج والتصنيع كفيديو.
ما مصير هذا المشروع، أهو للأرشيف فحسب؟
** لا أعرف، يجب أن نسأل " نينار"
في البحث عن هوية
بدأتَ الخروج من هويتك الموروثة، فاخترت اسماً للتخلص منها، هل تخلصت من تبعاتها حقاً؟
** مشكلة الهوية عندنا مشكلة ملتبسة من جهة، وواضحة وبسيطة ومباشرة من جهة أخرى. الإنسان ابن بيئته وأمه وأبيه، وعائلته وشعبه، فكأن الهوية أمر جاهز مسبقاً، فيولد الإنسان لابساً هويته بشكل مكتمل، هذا هو المفهوم الشائع إجمالاً في البلدان العربية والإسلامية. لعل اتخاذي اسم " أدونيس" فتح لي أفقاً للتساؤل حول هذه الهوية المسبقة التي لا يختارها الإنسان بنفسه، إنما يرثها أو تفرض عليه بحكم الطبيعة، لكن في الحقيقة لم أدرك هذا البعد في تغيير الاسم، أو في اتخاذ اسم فني جديد إلا بعد وقت من ذلك! كان نوعاً من المصادفة البحتة، فرأيت أن اسم " أدونيس" نقلني من أفق ثقافي إلى أفق ثقافي أوسع، ومن ضمنه الأفق القديم، هذا جعلني أفكر بمسألة الهوية، إذ تغير معناها بالنسبة لي، ولم تعد مسألة مسبقة، بل صارت مفتوحة، والإنسان يبتكر هويته فيما يبتكر فكره وعمله، هذا ما يميز الكائن العاقل عن الكائنات غير العاقلة، فالكائن العاقل يبتكر نفسه، فيما يبتكر فنه والعالم حوله، لذلك فهويته دائماً مفتوحة، وكأنها تجيء باستمرار من المستقبل وكأنها لا تكتمل أبداً. وهذا يناقض ويعاكس تماماً الهويات الجاهزة المسبقة التي يكون فيها الإنسان مجرد اسم لا أكثر!لكل امرئ من اسمه نصيب، إلى أي حد ينطبق ذلك على أدونيس؟
** حين ابتكرت هذا الاسم، أتاح لي بدوره أن أبتكر نفسي أيضاً، مع أن اسم " علي" – وقد أدركت ذلك أخيراً – ما هو إلا الاسم المعرّب لكلمة " إيل " التي صارت " إيلي" بالمسيحية أو بالكنعانية (أو إيليا) ثم تحولت عربياً إلى " علي"، و" إيل، إيليا، إيلي، وعلي " هذه الأسماء بمعناها لا بصورتها هي " أدونيس" فثمة خيط متكامل وواحد بينها، لكني لم أدرك هذا إلا مؤخراً، فحين اتخذت لنفسي اسم " أدونيس" لم أكن أفكر بهذا الموضوع، بل جاء بالمصادفة.
" علي أحمد سعيد إسبر " أما زال حياً؟
** ما زال حياًّ لأني أحمله في بطاقتي الشخصية– الهوية!
هل ينحصر وجوده إذاً في الهوية! ألا يحيا في إطار العائلة والأصدقاء؟
** الغالب على مناداتي حتى بين أفراد العائلة هو " أدونيس" لكن بعض الأشخاص والأصدقاء البعيدين عن العائلة وبعض الأصدقاء العرب يحبون مناداتي باسمي " علي" وهذا يسعدني.
ما قصتك مع (قصابين) كيف تركتها، وكيف تجدها اليوم؟
** (قصابين) قرية فقيرة جداً بالأساس، ولا تزال كذلك مقارنة بالقرى المجاورة لها، وكانت مهملة جداً. عندما سألت بعض الفلاحين البسطاء عن السبب أجابوا: ليس لدينا ضباطاً كباراً كما في القرى الأخرى، لذلك بقيت قريتنا فقيرة، ونسبياً هي ما تزال بين أكثر القرى فقراً اليوم.
فلِمَ العودة إليها؟
** هي العودة إلى الأمومة ورحم الأرض التي (مس جلدي ترابها) كما قال الشاعر العربي القديم، فالخطوات الأولى هي دائماً مكان حنين ومكان عودة، ولو على المستوى العاطفي أو الذكرى، فكأنما كلما عدت إلى (قصابين) أرى نفسي ذلك الطفل الذي كان يلعب في حقولها، ويمارس العمل، فيشارك في شتل الدخان، والحصاد وقطاف الزيتون واللعب مع أبناء القرية. إنها الرحم الأولى ومن المستحيل الانقطاع عنها!
أبقيت إذاً على الحبل السري بينكما؟
** بلى، وكلما عدت إلى (قصابين) أستعيد أشياء حميمة وغالية جداً، وأشعر أنني ازددت نشوة وارتباطاً بهذه الأرض، هذا على الصعيد الحياتي الحميمي، لكن حينما ننظر إلى القرية من وجهة نظر ثقافية تختلف الأمور كلياً! القرية ثقافياً غير موجودة في الثقافة السائدة في سورية، وهي كذلك في أي بلد عربي، لا مكان للقرية بوصفها قرية! فقدرها دوماً أن تنزح باستمرار إلى المدينة، بدل أن نجعل الناس يحبون بيوتهم الأولى وأرضهم الأولى، ويرتبطون بها، ونوفر لهم كل ما يحتاجونه من المدينة وهو قليل (المدرسة، المشفى، وبعض تنظيمات الحياة اليومية من ماء وكهرباء وهاتف...) فيزداد الفلاح تمسكاً بأرضه وبيته!
لكن القرية السورية أنجزت نقلة نوعية مهمة للغاية على هذا الصعيد، وتوفر لها كل ما ذكرت!
** إنها نقلة شكلية، تطوير الطرق وغيرها موجود وهذا صحيح، لكن الحياة الاجتماعية في القرية لم تتطور، هناك تطور بالتقنية – إذا شئت – لا يرافقه تطور عقلي وثقافي وروحي، ولذا فالقرية تضيع، وتفقد هويتها، والمدينة (تتريف) ولم تعد مدينة أيضاً، ليس هناك مدينة بالمعنى العميق للكلمة، ولا قرية، لأن هناك تفاوتاً بالتطورات والحياة، والأعمال، هناك انشقاقات أكثر مما هناك تكامل ووحدة، هذا التطور – على العكس – يزيد القرى وفق شعوري ومعلوماتي تفككاً، فالحياة الاجتماعية تتراجع نحو التكتلات العشائرية والطائفية! في جيلنا نحن لم نشعر بها، اليوم ثمة دائرة مغلقة يتحرك فيها الناس، ما الأسباب؟ لا أدري! في أيامنا كان ثمة طريق وأفق ومشروع وأحلام.
لعلها ضريبة المدينية والاستهلاك!
** هذه أشياء تتوجب دراستها سوسيولوجياً وسياسياً وثقافياً، لقد ازداد الحس الفردي والفساد والكراهيات، والمجتمع يتفكك بدل أن يزداد تلاحماً.في علاقة الريف بالمدينة
يقال إن شعراء الريف أثّروا وأثروا الحياة الثقافية والأدبية في المدينة (محمد الماغوط، أدونيس، ممدوح عدوان...)
** الحقيقة هي أن ابن المدينة مشغول أو مأخوذ بعالم بعيد نسبياً عن عالم الثقافة، هو مأخوذ بالتجارة في المقام الأول ثم بالسياسة، ابن الريف لا يملك شيئاً، ولديه طموحات كثيرة، ولا يجد ما يحققها له، أو ما يحقق ذاتيته إلا الكتابة، فيكتب، وبوصفه كاتباً يملأ ساحة المدينة لأن المدينة فارغة إجمالاً – مأخوذة بأشياء أخرى – هذا شيء، ولكن إن كان شعراء الريف أثروا في المدينة أو أغنوها فهذا أمر آخر! لا أرى أن الشعر العربي أغنى المدينة العربية، بماذا أغناها! المدينة لا تزال مغلقة أمام الإبداعات وبخاصة أمام الإبداعات الكبيرة، لأن المدينة لدينا تقليدية بعاداتها وتقاليدها وثقافتها الموروثة. لا أظن أن أولئك استطاعوا شيئاً بل على العكس أعتقد أن المدينة امتصتهم ووطّنتهم، حتى لا أقول روّضتهم وأخضعتهم لثقافتها وتقاليدها! من يأتي من الريف يجب أن تنهض كتابته على أنواع عميقة من المغامرات والتجارب الكبرى حتى يهز بنية المدينة التقليدية، وهذا لا نراه في الكتابات السورية ولا في الكتابات العربية أيضاً!
في دمشق اليوم جيل جديد يقيم نشاطات ثقافية أهلية، وثمة مبادرات فردية تحاول الابتعاد عن الثقافة الرسمية، ولعلها أنجزت اختراقاً ما، لا أدري إن كنت مطلعاً عليها، فهناك العديد من الأمسيات تعقد في أماكن غير اعتيادية لمثل هذه النشاطات، وهناك صالات عرض خاصة... ألا تراها بدايات مبشرة؟
** الحراك الأساسي اليوم في سورية والذي قد يلفت النظر-والأمر نفسه في البلاد العربية عامة – هو الحراك التشكيلي وإلى حد ما الفن السينمائي، رغم أن الأخير يحتاج إلى ميزانيات ضخمة – بين الرواية والشعر والفن التشكيلي أرى أن المنجزات الحقيقية في الإطار الذي أتحدث عنه هي في الفن التشكيلي أكثر مما هي في الفنون الأدبية! لعل الفنون الكتابية القائمة على الكلمة تتعرض لرقابة أو لمنع – مع وجود معايير تقليدية -بينما في الفن التشكيلي قد تكون الحدود أقل، أو لا حدود تقريباً، فليس لهذا الفن تراث، ولا أصول في تاريخنا، لذا يجد الفنان نفسه حراً في أرض بكر، أما في الشعر أو المسرح فلهذين المجالين تاريخ طويل وسلطة وتقاليد وقيم اجتماعية، ولذا نرى الكاتب بشعوره أو بلا شعوره يراعي مثل هذه الأمور وهكذا تكون تجربته أو مغامرته أقل بكثير مما لدى الفنان التشكيلي. في الكتابة العربية نحن بحاجة إلى المغامرات الكبرى الكيانية التي ترّج التراث بكامله، والحياة الاجتماعية بكاملها وتفتح أفقاً جديداً للكتابة.
يأخذنا هذا للحديث عن الصورة وأهميتها في التواصل، خاصة وأنها مرفوضة في تراثنا العربي (إذ ينظر إليها باعتبارها صنماً أو تمثالاً) مع أن الإنسان مفطور على الفهم من خلال الصورة؟
** هذا جزء من الحدود المفروضة على المبدع أو الكاتب، لكن الصورة في الفن التشكيلي انتهت تقريباً، هناك لوحة قد تكون تجريدية أو بلا صورة، وحين ذاك تزول الحدود، ولكن هناك صوراً معنوية غير مرئية، وهي ما يرتبط بالحلال والحرام، ليس في الدين فقط، وإنما في السياسة أيضاً، فهذه الصور اللامرئية تهيمن على وعينا ولاوعينا، وهي ما يتوجب علينا التحرر منها، كيف ذلك؟ هذا يحتاج إلى مغامرات. ولابد من دفع الثمن، فالحرية لا تأتي وأنت تجلسين في بيتك! لا بد من خلقها أيضاً!
على صعيد العالم العربي أليس هناك مغامرة كتابية بالمعنى الذي تقوله؟
** كل الكتابة خاضعة بشكل أو بآخر لما هو مسبّق: إذا قلت إن المرأة الآن تكتب، وأن هناك نهضة كتابية نسوية – وكلمة نهضة بين هلالين – في الرواية والشعر! ونحن نشكو إجمالاً من مجتمع الأبوة والذكورة، وإذاً أبسط الأشياء التي ننتظرها من هذه الكتابة ألا تكون انقلاباً على الكتابة الذكورية، لتحل سلطة أنثوية محل سلطة ذكورية! هذا لا يعني شيئاً! لابد للمرأة أن تزلزل الأسس التي نهض عليها النظام الأبوي. ليس لدي تعليمات بالطبع، فالكاتب هو من يوجدها، قد تتحدث رواية ما عن حرية الجسد، حسن. ففي النهاية الجسد وحريته مشروطة بمجتمع وثقافة؟
لكن بعضهن أنأدونيس والشعر الجماهيري
ثمة غضبة على أدونيس حالياً بعد وصفه الشعر الجماهيري بالسطحية، ألم يكن نيرودا شاعراً جماهيرياً؟ ورسول حمزاتوف و..و.. وما معنى السطحية الذي تقصده تماماً؟
** كل مشتَركٍ سطحي! عندما نتحدث بقضايا عقلية ويشارك في فهمها ومعرفتها الجميع، فهذا لا يمكن إلا أن يكون سطحياً! كل ما هو سياسي (بالمعنى السياسي العملي) سطحي بالضرورة، كل ما هو استنهاضي وتحريضي وحماسي لا يمكن أن يكون إلا سطحياً! لأن ما نسميه بالجماهير هي مجموعة من الأفراد، ولكل فرد فيها انتماؤه وثقافته ومخيلته الخاصة، وعندما يؤخذ الكل فرداً فرداً، فإن كل فرد يختلف عن الآخر بهويته العميقة، لكن عندما يوضعون في قضية ما – ضد الاستعمار مثلاً – فالكل ضده، هذه الضدية على هذا المستوى سطحية كلياً، فهو ضد الاستعمار على هذا المستوى، لكنه في حياته العميقة لا يعيد النظر في قيمه وعلاقته بالمرأة ومع الآخر، ولا يعيد النظر بثقافته وعقله وتربيته! فرد كهذا يكون مع الاستعمار. فهو ضده شكلياً ولكن موضوعياً هو معه! إذاً لابد من التمييز، والكتابة إن لم تفتح آفاقاً جديدة للتساؤل، وأبواباً جديدة لزلزلة هذه القيم كلها والحياة الاجتماعية فهي كتابة سطحية، إن كنت أنا كشاعر قد قلت لك الأشياء التي تريدينها فماذا فعلت؟!
لعلك أرضيتني أو أبقيتني على ما أنا عليه!
** نعم أرضيتك. ثمة صبية تقرأ قصيدة غزلية لنزار مثلاً، إنها تشعر بالتحرر وتسعد وتتوهم أنها عاشت حريتها عبر القصيدة لفترة ما، لكن مع انتهاء مفعول القراءة، ينتهي كل شيء لأن القصيدة لم تخلخلها من الداخل، لم تغيرها، هذه بالطبع مسائل صعبة جداً، فهي مرتبطة بتغير مجتمع ومشروعات. ما أقوله ليس سهلاً في الحقيقة. بهذا المعنى أقول إن على الشاعر أن يتوغل في مشكلاته العميقة الذاتية، أما الشاعر الجماهيري فلا يفصح إلا عن القضايا السطحية المشتركة أياً كان الشاعر، وأياً كانت القضية! لو قرأت الآن الشعر الذي كتب بالثورة الجزائرية مثلاً، ماذا يعطيك؟ هل يمكنك إعادة قراءته اليوم؟ اقرئي ما كتب عن فلسطين -وقضيتها مازالت ماثلة – ماذا يقدم هذا الشعر؟
إنه تأريخ آخر لتلك المراحل النضالية!
** الشعر ليس تاريخاً، التاريخ يُقرأ في ضوء الشعر وليس الشعر يؤرخ.
ولكن ألا تواكب الأحداث تلك؟
** المواكبة عليها أن تخترق الحدث، وتحوله إلى رمز، فلسطين التي ومنذ 50 عاماً تدمر فيها حياة الفلسطينيين والحياة العربية بكاملها، وبدل أن تنقلب الكتابة بكل معطياتها وأشكالها إلى مستوى ما فعلته القضية الفلسطينية، بقيت الكتابة وكأنها مرآة تعكس فلسطين! لم يحدث في العقل والوعي والكتابة وأشكالها ما حدث على الأرض – هل في التاريخ كله مأساة مستمرة كمأساة فلسطين؟! في كل يوم يقتلع بشر من بيوتهم، يقتلون وتهدم بيوتهم ويتوسع العدو كل يوم وعلى مدى 50 عاماً! مع ذلك تحولت القضية إلى موضوع إنشاء! هذا ما أقصده. لا وجود لثورة في العقل والوعي والتعبير تواكب أو تخترق فيما تواكب ما يحدث على الأرض!
من زاوية أخرى يقول المستشرق وليم جونز إن الشعر الخالد يمنحك أن تكون قادراً على الوصول إلى جمالياته بالفطرة والاتصال المباشر. هل هذا مع أو ضد الشعر الجماهيري؟
** تصوري جمهوراً وخذي شخصاً أو اثنين منه، وأعطه قصيدة، هل يعرف أن يقرأها حتى لو كان طالباً جامعياً؟! إنسان لا يعرف قراءة قصيدة كيف يمكن أن نعتمد عليه بوصفه معياراً للشعر! اعملي جلسة شعرية في أي قاعة من قاعات أي جامعة سورية. ثمة من يحضرون وليس في مكتبتهم ديوان شعر واحد. لم يقرأ ديواناً واحداً! كيف يكون مثل هذا معياراً للشعر! الشعر عملية خاصة فردية قائمة على ثقافة معينة وجمالية معينة، وعلى تراكم معرفي وقراءات شعرية متنوعة ومتواصلة. ماركس كتب للشغيلة والفقراء، فهل قرأ هؤلاء ماركس؟! مسألة الجمهور مسألة إيديولوجية سياسية بحتة لتوجيه البشر باتجاه السلطة ولتوجيه الثقافة لدفع هذا الجمهور باتجاه السلطة، لذلك كل شعر جماهيري شعر سياسي سلطوي، وشعر مصالحات لا قيمة فنية له أبداً!
هكذا نرى أنفسنا أمام سؤال النخب والرواد والجمهور والعلاقة بينهم.
** النخبة اختراع سخيف، مثل اختراع الجمهور، كلاهما اختراع سياسي، لدى السياسيين من الحنكة والمراس أكثر بكثير مما لدى الكتاب والأدباء، يريدون تحويل كل شيء إلى ملحق بالسياسة، وبدل أن تكون السياسة جزء من الثقافة، يناضلون لتصير الثقافة جزء من السياسة وخادمة لها. في الواقع جميع السياسيين العرب لا يقرؤون، وأنا لا أتصور وجود سياسي لا مكتبة في بيته، إن كان السياسي لا يجيد القراءة، إن لم يكن مثقفاً كيف سيسوس البلاد والبشر؟! بعض الحكام العرب لا يجيد حتى إلقاء خطاب دون أخطاء، فكيف يمكنهم التفكير بطريقة صحيحة!؟جزن اختراقاً!
** إنه اختراق لفظي فحسب! أما البنية العميقة فما زالت قائمة، لماذا لا نجرؤ على زلزلة الأسس التي ذكرتها آنفاً؟! إن كانت الكاتبات ضد الذكورة مثلاً، فليزلزلنها! ليحررن الذكر أو ليساعدنه على ذلك!
ا لمصدر،،صفحة الايقونات السورية