صباح الخير يا غسان.
كلمة لجورج حبش حول غسان كنفاني لم تنشر وتظهر لأول مرة. كان حبش قد كتبها في ذكرى ميلاد غسان الخمسين عام 1986 والذكرى 14 على استشهاده. ولسبب ما كما تذكر القدس العربي نقلاً عن نجلة الرفيق جورج حبش لمى لم يقم حبش بقراءتها أو نشرها.
يكتب جورج حبش
عندما طُلب إلي أن أتحدث في هذا الحفل عن الشهيد غسان كنفاني، شعرت أنني أمام مهمة صعبة، شعرت أنه لن يكون سهلاً أن أوفي غسان حقه، لأن غسان وحياة، غسان على قصرها، كانا أكبر وأشمل من أن تحيط بهما كلمة ألقيها في حفل مخصص لإحياء الذكرى السنوية الخمسين لميلاده، والذكرى الرابعة عشر لرحيله المبكر الذي ما زلت أشعر بفجيعته وكأنه حصل بالأمس. وشعرت أيضاً بالأسى العميق عندما حاولت أن أتصور مقدار العطاء المبدع الذي كان سيقدّمه غسان لو قدّر لحياته أن تمتد لسنين أخرى.
فمن هو غسان الذي نحتفل بذكراه كل عام؟
إنه غسان الأديب والكاتب، الفنان والقصصي والناقد والصحفي والقائد السياسي، الذي أدى كل هذه المهمات بشكل مبدع وبموهبة فذّة ونظرة ثاقبة وخلاّقة.
غسان موهوب أصلاً وأساساً، وُلد هكذا، جبلته النكبة فولد غسان الجديد، غسان الموهوب الملتزم، غسان الموهوب المُقاتل. غسان موهبة امتزجت بمأساة شعب وتُوجت بالالتزام بقضية هذا الشعب.
غسان موهبة فريدة متعددة الاتجاهات وطاقة هائلة لا تستنفدها اهتماماته الكثيرة، التي، وإن كانت تتناقض في متطلباتها، إلا أنها تتكامل في توجهها نحو مصب واحد هو فلسطين، التي ظلت هاجس غسان والتزامه، والتي لأجلها أبدع كأديب وقاتلَ كمناضل سياسي إلى أن وضع الإرهاب الصهيوني حداً لحياته الحافلة بالعطاء، وبكل ما هو جميل ورائع.
أيتها الرفيقات، أيها الرفاق،
يطول بي الحديث لو تناولت كافة المجالات الإبداعية التي وجّه نحوها غسان موهبته وطاقته، و يطول بي الحديث كذلك لو حاولت أن أتناول غسان كإنسان وكمناضل عايشته وأحببته كما أحبّه كل الذين عرفوه، لأنه ببساطة شديدة جدير بالحب.
من هنا يستحيل الحديث عن غسان المبدع بمعزل عن غسان المناضل. فبقدر ما كان غسان موهوباً كأديب، فإنه كان موهوباً كمناضل وقائد سياسي. لقد نجح غسان في الوقت ذاته أن يكون كاتباً عظيماً للقصة والمسرحية، ورساماً وناقداً وإعلامياً هاماً وقائداً سياسياً بارزاً ثاقب النظر وعميق البصيرة.
لقد كان غسان باختصار شديد إنساناً ذا موهبة استثنائية، وطاقة هائلة، مما مكّنه من تأدية جميع هذه الأدوار بشكل مبدع وخلاق، رغم التشرد والمرض، ورغم هموم تحصيل لقمة العيش. ولأن غسان كان إنساناً شفافاً ذا حساسية عالية والتزام اجتماعي عميق، كان من الطبيعي أن يوجه مواهبه وطاقاته الاسثنائية نحو قضايا الناس، وأن يضعها في خدمتهم. من هنا جاء التزام غسان بالوطن، بفلسطين وبالثورة الفلسطينية منذ مطلع شبابه. ومن هنا جاء التحقق الذاتي لغسان كفنان وكمبدع في إطار النضال والثورة. وككل مبدع يمتلك طاقات استثنائية، كان غسان يعيش صراعاً دائما قطباه الفن والالتزام والمعادلة الصعبة بينهما، ولكن غسان في حمى التصاقه بالنضال والنشاط اليومي كان يدرك أن الإطار الوحيد لتحققه الذاتي كمبدع هو الالتزام بقضايا الثورة.
إنه لأمر ذو دلالة أن يكون غسان قد وُلد عام 1936، عام اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى، واغتيل عام 1972، عندما كانت الثورة الفلسطينية تمر بأوضاع صعبة وخطيرة في أعقاب أيلول الأسود عام 1970، حيث كانت الثورة أحوج ما تكون لأمثال غسان ممن يستطيعون بقوة الفكر المبدع والبصيرة الثاقبة لاستخراج الأمل من اليأس، وإشاعة روح التفاؤل في أجواء التشاؤم والبلبلة.
إنه لأمر كبير الدلالة أيضاً أن يكون غسان كنفاني من أوائل المبدعين الفلسطينيين الذين لجأت الصهيونية إلى إسكاتهم بالقتل مع أن أسلحتهم كانت القلم والكلمة، وذلك لأن قلم غسان كان بندقية، ولأن كلمته كانت رصاصة، قتلته الصهيونية وسعت للتخلص من تراثه الإبداعي العميق.
لقد أنجب شعبنا الفلسطيني كتاباً ومبدعين انتهت حياتهم باكراً، لأنهم لم يرضوا عيشة البرج العاجي، بل اختاروا العيش في قلب الصراع، ولهذا فإن عبد الرحيم محمود، كمال ناصر، وماجد أبو شرار، وغيرهم لم يعيشوا طويلاً. ولهذا لم يعش غسان كنفاني طويلاً، ستة وثلاثين عاماً فقط، لكنه عاشها كما يجب، عاشها لآخر لحظة، حياة طويلة عريضة حافلة بالنشاط والإبداع والعطاء ككاتب وفنان وصحفي وكقائد سياسي بارز.
لنستمع إلى ما يقوله غسان في إحدى رسائله لابنة أخته لميس: “الناس ينقسمون إلى مُعترك ومتفرج؛ أما المتفرج فلسوف يعيش عمره كله، ويمتصه حتى آخره، أما المُعترك فسرعان ما سوف يسقط، ولقد اخترت أنا، أيتها الصغيرة، ألا أكون متفرجاً، وهذا يعني أنني اخترت أن أعيش اللحظات الحاسمة من تاريخنا مهما كانت قصيرة”.
قتلوا غسان مع أن سلاحه كان القلم، بل قتلوه لأن سلاحه كان القلم، ولأنهم يعرفون أي قلم كان ذاك. فالعدو الصهيوني لا يستهدف منا من يطلق الرصاص فقط ويخوض الكفاح المسلح بصورة مباشرة، بل يستهدف كل شيء، وجودنا، حياتنا، حضارتنا، تراثنا، من أجل تحقيق أحلامه وأهدافه الاستعمارية الدنيئة.
لقد شملت اهتمامات غسان المتعددة الأدب الصهيوني، وربما كان غسان أفضل من طبّق الشعار الصعب: “اعرف عدوك”، حيث كان أول فلسطيني، بل أول عربي تناول بالدراسة العلمية الجادة موضوع الأدب الصهيوني.
كان غسان مريضاً، لكنه كان قوياً، يحقن نفسه بالأنسولين، ويمشي تماماً مثل أبطاله الماشين دوماً..
كان يعرف أن حياته ستكون قصيرة، لكنه أرادها ممتلئة، حافلة وذات مغزى، وهكذا كانت.
كان غسان دوماً في سباق مع الزمن، ومع طاقاته وكفاءاته المتعددة، فكتب القصة والروايات والمسرحيات ورسم اللوحات، كتب للصحافة وجسّد بصورة خلاقة قرار الحزب بتأسيس مجلة “الهدف” بشعارها “كل الحقيقة للجماهير”، كتب المقالات والافتتاحيات والأبحاث والدراسات. وكان له الفضل في اكتشاف وتقديم أدباء الأرض المحتلة، وتقديمهم للقارئ العربي، وتقديم أول بحث علمي عن أدبهم، وحول ذلك يقول الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم: “بوجود غسان كنا نشعر أن هناك من يهتم بنا”.
لقد عمل غسان كل ذلك، وعمل ألف شيء و شيء، وظلّ عقله الجبار يعمل، وظلّت يده تكتب، وتكتب، إلى أن استقرت دامية مقطوعة فوق أسطح حي الحازمية في بيروت، لتكتب وداعها الأخير أحرفاً من دم.
أيتها الأخوات والإخوة..
في الختام نقف لنجدد العهد على متابعة الطريق، الذي كان لغسان كنفاني شرف المساهمة في شقّه بالكلمة والرصاصة. نقف لنعبّر عن وفائنا للتراث الثقافي والنضالي والإبداعي الكبير، الذي خلفّه لنا ولشعبنا شهيدنا غسان. نقف لنجدد وفاءنا و التزامنا بالقيم العظيمة السامية التي لأجلها، وفي سبيلها عاش وناضل واستشهد. نقف لنتذكر غسان الذي ما نسيناه، ولن ننساه أبداً.
المجد للشهداء، النصر للثورة.
كلمة لجورج حبش حول غسان كنفاني لم تنشر وتظهر لأول مرة. كان حبش قد كتبها في ذكرى ميلاد غسان الخمسين عام 1986 والذكرى 14 على استشهاده. ولسبب ما كما تذكر القدس العربي نقلاً عن نجلة الرفيق جورج حبش لمى لم يقم حبش بقراءتها أو نشرها.
يكتب جورج حبش
عندما طُلب إلي أن أتحدث في هذا الحفل عن الشهيد غسان كنفاني، شعرت أنني أمام مهمة صعبة، شعرت أنه لن يكون سهلاً أن أوفي غسان حقه، لأن غسان وحياة، غسان على قصرها، كانا أكبر وأشمل من أن تحيط بهما كلمة ألقيها في حفل مخصص لإحياء الذكرى السنوية الخمسين لميلاده، والذكرى الرابعة عشر لرحيله المبكر الذي ما زلت أشعر بفجيعته وكأنه حصل بالأمس. وشعرت أيضاً بالأسى العميق عندما حاولت أن أتصور مقدار العطاء المبدع الذي كان سيقدّمه غسان لو قدّر لحياته أن تمتد لسنين أخرى.
فمن هو غسان الذي نحتفل بذكراه كل عام؟
إنه غسان الأديب والكاتب، الفنان والقصصي والناقد والصحفي والقائد السياسي، الذي أدى كل هذه المهمات بشكل مبدع وبموهبة فذّة ونظرة ثاقبة وخلاّقة.
غسان موهوب أصلاً وأساساً، وُلد هكذا، جبلته النكبة فولد غسان الجديد، غسان الموهوب الملتزم، غسان الموهوب المُقاتل. غسان موهبة امتزجت بمأساة شعب وتُوجت بالالتزام بقضية هذا الشعب.
غسان موهبة فريدة متعددة الاتجاهات وطاقة هائلة لا تستنفدها اهتماماته الكثيرة، التي، وإن كانت تتناقض في متطلباتها، إلا أنها تتكامل في توجهها نحو مصب واحد هو فلسطين، التي ظلت هاجس غسان والتزامه، والتي لأجلها أبدع كأديب وقاتلَ كمناضل سياسي إلى أن وضع الإرهاب الصهيوني حداً لحياته الحافلة بالعطاء، وبكل ما هو جميل ورائع.
أيتها الرفيقات، أيها الرفاق،
يطول بي الحديث لو تناولت كافة المجالات الإبداعية التي وجّه نحوها غسان موهبته وطاقته، و يطول بي الحديث كذلك لو حاولت أن أتناول غسان كإنسان وكمناضل عايشته وأحببته كما أحبّه كل الذين عرفوه، لأنه ببساطة شديدة جدير بالحب.
من هنا يستحيل الحديث عن غسان المبدع بمعزل عن غسان المناضل. فبقدر ما كان غسان موهوباً كأديب، فإنه كان موهوباً كمناضل وقائد سياسي. لقد نجح غسان في الوقت ذاته أن يكون كاتباً عظيماً للقصة والمسرحية، ورساماً وناقداً وإعلامياً هاماً وقائداً سياسياً بارزاً ثاقب النظر وعميق البصيرة.
لقد كان غسان باختصار شديد إنساناً ذا موهبة استثنائية، وطاقة هائلة، مما مكّنه من تأدية جميع هذه الأدوار بشكل مبدع وخلاق، رغم التشرد والمرض، ورغم هموم تحصيل لقمة العيش. ولأن غسان كان إنساناً شفافاً ذا حساسية عالية والتزام اجتماعي عميق، كان من الطبيعي أن يوجه مواهبه وطاقاته الاسثنائية نحو قضايا الناس، وأن يضعها في خدمتهم. من هنا جاء التزام غسان بالوطن، بفلسطين وبالثورة الفلسطينية منذ مطلع شبابه. ومن هنا جاء التحقق الذاتي لغسان كفنان وكمبدع في إطار النضال والثورة. وككل مبدع يمتلك طاقات استثنائية، كان غسان يعيش صراعاً دائما قطباه الفن والالتزام والمعادلة الصعبة بينهما، ولكن غسان في حمى التصاقه بالنضال والنشاط اليومي كان يدرك أن الإطار الوحيد لتحققه الذاتي كمبدع هو الالتزام بقضايا الثورة.
إنه لأمر ذو دلالة أن يكون غسان قد وُلد عام 1936، عام اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى، واغتيل عام 1972، عندما كانت الثورة الفلسطينية تمر بأوضاع صعبة وخطيرة في أعقاب أيلول الأسود عام 1970، حيث كانت الثورة أحوج ما تكون لأمثال غسان ممن يستطيعون بقوة الفكر المبدع والبصيرة الثاقبة لاستخراج الأمل من اليأس، وإشاعة روح التفاؤل في أجواء التشاؤم والبلبلة.
إنه لأمر كبير الدلالة أيضاً أن يكون غسان كنفاني من أوائل المبدعين الفلسطينيين الذين لجأت الصهيونية إلى إسكاتهم بالقتل مع أن أسلحتهم كانت القلم والكلمة، وذلك لأن قلم غسان كان بندقية، ولأن كلمته كانت رصاصة، قتلته الصهيونية وسعت للتخلص من تراثه الإبداعي العميق.
لقد أنجب شعبنا الفلسطيني كتاباً ومبدعين انتهت حياتهم باكراً، لأنهم لم يرضوا عيشة البرج العاجي، بل اختاروا العيش في قلب الصراع، ولهذا فإن عبد الرحيم محمود، كمال ناصر، وماجد أبو شرار، وغيرهم لم يعيشوا طويلاً. ولهذا لم يعش غسان كنفاني طويلاً، ستة وثلاثين عاماً فقط، لكنه عاشها كما يجب، عاشها لآخر لحظة، حياة طويلة عريضة حافلة بالنشاط والإبداع والعطاء ككاتب وفنان وصحفي وكقائد سياسي بارز.
لنستمع إلى ما يقوله غسان في إحدى رسائله لابنة أخته لميس: “الناس ينقسمون إلى مُعترك ومتفرج؛ أما المتفرج فلسوف يعيش عمره كله، ويمتصه حتى آخره، أما المُعترك فسرعان ما سوف يسقط، ولقد اخترت أنا، أيتها الصغيرة، ألا أكون متفرجاً، وهذا يعني أنني اخترت أن أعيش اللحظات الحاسمة من تاريخنا مهما كانت قصيرة”.
قتلوا غسان مع أن سلاحه كان القلم، بل قتلوه لأن سلاحه كان القلم، ولأنهم يعرفون أي قلم كان ذاك. فالعدو الصهيوني لا يستهدف منا من يطلق الرصاص فقط ويخوض الكفاح المسلح بصورة مباشرة، بل يستهدف كل شيء، وجودنا، حياتنا، حضارتنا، تراثنا، من أجل تحقيق أحلامه وأهدافه الاستعمارية الدنيئة.
لقد شملت اهتمامات غسان المتعددة الأدب الصهيوني، وربما كان غسان أفضل من طبّق الشعار الصعب: “اعرف عدوك”، حيث كان أول فلسطيني، بل أول عربي تناول بالدراسة العلمية الجادة موضوع الأدب الصهيوني.
كان غسان مريضاً، لكنه كان قوياً، يحقن نفسه بالأنسولين، ويمشي تماماً مثل أبطاله الماشين دوماً..
كان يعرف أن حياته ستكون قصيرة، لكنه أرادها ممتلئة، حافلة وذات مغزى، وهكذا كانت.
كان غسان دوماً في سباق مع الزمن، ومع طاقاته وكفاءاته المتعددة، فكتب القصة والروايات والمسرحيات ورسم اللوحات، كتب للصحافة وجسّد بصورة خلاقة قرار الحزب بتأسيس مجلة “الهدف” بشعارها “كل الحقيقة للجماهير”، كتب المقالات والافتتاحيات والأبحاث والدراسات. وكان له الفضل في اكتشاف وتقديم أدباء الأرض المحتلة، وتقديمهم للقارئ العربي، وتقديم أول بحث علمي عن أدبهم، وحول ذلك يقول الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم: “بوجود غسان كنا نشعر أن هناك من يهتم بنا”.
لقد عمل غسان كل ذلك، وعمل ألف شيء و شيء، وظلّ عقله الجبار يعمل، وظلّت يده تكتب، وتكتب، إلى أن استقرت دامية مقطوعة فوق أسطح حي الحازمية في بيروت، لتكتب وداعها الأخير أحرفاً من دم.
أيتها الأخوات والإخوة..
في الختام نقف لنجدد العهد على متابعة الطريق، الذي كان لغسان كنفاني شرف المساهمة في شقّه بالكلمة والرصاصة. نقف لنعبّر عن وفائنا للتراث الثقافي والنضالي والإبداعي الكبير، الذي خلفّه لنا ولشعبنا شهيدنا غسان. نقف لنجدد وفاءنا و التزامنا بالقيم العظيمة السامية التي لأجلها، وفي سبيلها عاش وناضل واستشهد. نقف لنتذكر غسان الذي ما نسيناه، ولن ننساه أبداً.
المجد للشهداء، النصر للثورة.