الموسيقى فلسفة تتجاوز التاريخ
العالم الجديد، هو ما تبقى من عالمين، اصطدم أحدهما بالآخر، وحصل ذلك في اللحظة التي داست فيها أقدام الفاتحين الإسبان أرض الهنود الحمر، كما ظن الإسبان في ذلك الحين، فزال أولئك، وتشكل اسم جديد، هو أمريكا التي مثلت العالم الجديد القائم على أنقاض عالم قديم.
وقد تمت استعادة هذا العالم فيما بعد، في كتب التاريخ والفلسفة، وفي دراسات الجامعات، وفي السينما والفن. أما المؤلف الموسيقي التشيكي أنتونيو دفوراك "1841-1904"، فقد اجترح في سيمفونيته الشهيرة "موسيقى من العالم الجديد" مأثرة إنسانية كبيرة، حين احتفظ بأصوات عالمٍ صار بطريقة أو بأخرى، تحت الأنقاض.
بدأت قصة هذه السيمفونية التي سوف تنتهي على سطح القمر لاحقاً! عندما رحل دفوراك عن التشيك التي لم يعثر فيها على هويته الموسيقية كما أراد؛ إذ لم يحقق في بداياته ما كان يطمح إليه أمام معاصريه من الموسيقيين الألمان الذين انتشرت أعمالهم في أوروبا مثل؛ فاغنر وبرامز وغيرهما. إلى أن صارت الفرصة مواتية، عندما رحل دفوراك إلى أمريكا عام 1892 ليعمل أستاذاً في معهد الموسيقى في نيويورك، حيث تنازل هناك، ولو بشكل بسيط، عن روح الموسيقى الكلاسيكية القومية التي ورثها عن أوروبا؛ وذلك لصالح ما استمع إليه من موسيقى "للزنوج"، والتي دفعته للبحث أيضاً عن الإرث الموسيقي للسكان الأصليين.
بعد مرور زمن على وجود دفوراك في أمريكا، وتكوم مجموعة من الرسائل على طاولة مكتبه من أصدقائه، والتي كانوا يسألونه في معظمها عن مشاهداته ومغامراته في العالم الجديد، ظل دفوراك يلتزم الصمت ويبحث، إلى أن تمخض صمته العميق عن إجابة في النهاية؛ إذ انطلقت بحلول عام 1894 ألحان العالم الجديد في سيمفونية حملت ذات الاسم، فشكلت رداً على كل الأسئلة التي وجهت إليه عن رحلته في أمريكا، وتجسيداً لكلمته التي قالها لطلابه في محاضرته في معهد نيويورك للموسيقى: "أبحث عن طريقة أرمم فيها وأحفظ الموسيقى الأصلية للزنوج والسكان الأصليين، وأعيد إنتاجها حتى تظل، إنني في الواقع لم أستخدم أي قالب موسيقي مسبق".
تشير رؤية دفوراك هذه، في تخليد أصوات وموسيقى لبشر لم يعودوا موجودين على العموم، إلى رغبة إنسانية في جعل الموسيقى تحتوي ما لم يمكن أن تحتويه الرغبات الاستعمارية والاقتصادية التي توجت باصطدام عالم أوروبا الجديد بعالم قديم فرض عليه أن يتفتت، ولا يعود له مكان أوسع ولا أكثر واقعية، من عوالم الفن والموسيقى؛ حيث يمكن هنا، استحضار رؤية المفكر والفيلسوف "تزفيتان تودوروف" الذي رأى في إدارة المستعمرين الذين فتحوا أمريكا وحشية غير مسبوقة، حين اختاروا لأنفسهم حقوقاً وحاجات تبنى على تقويض الآخر، وكانوا وحشيين؛ لأنهم لم يقبلوا بمثلها لأي إنسان لا ينتمي إليهم. بينما أتت محاولة منفردة من مؤلف موسيقي مثل دفوراك، ليقول إن الفن والموسيقى تشبهان فلسفة عميقة تتجاوز كتابة التاريخ وما يحويه من بقاء أو فناء؛ ففي الفن والفلسفة وكل ما يجعل الإنسان الفرد مركزاً لهذا العالم حياة مستمرة.
ويبقى أن نقول إن أول رائد فضاء حطّ على أرض القمر "نيل آرمسترونغ"، حمل معه هذه المقطوعة في رحلته على متن المركبة أبوللو إلى القمر، في الوقت الذي كانت تحلم فيه البشرية ربما بحياة جديدة على كواكب أخرى، وباستعمار فضائي من نوع ما، ربما يكون آرمسترونغ قد انتبه إلى أن تراث الإنسان وروحه جديران بالبقاء، والاستمرار، سواء فني عالم وبدأ آخر أم لا.
عاصف الخالدي
العالم الجديد، هو ما تبقى من عالمين، اصطدم أحدهما بالآخر، وحصل ذلك في اللحظة التي داست فيها أقدام الفاتحين الإسبان أرض الهنود الحمر، كما ظن الإسبان في ذلك الحين، فزال أولئك، وتشكل اسم جديد، هو أمريكا التي مثلت العالم الجديد القائم على أنقاض عالم قديم.
وقد تمت استعادة هذا العالم فيما بعد، في كتب التاريخ والفلسفة، وفي دراسات الجامعات، وفي السينما والفن. أما المؤلف الموسيقي التشيكي أنتونيو دفوراك "1841-1904"، فقد اجترح في سيمفونيته الشهيرة "موسيقى من العالم الجديد" مأثرة إنسانية كبيرة، حين احتفظ بأصوات عالمٍ صار بطريقة أو بأخرى، تحت الأنقاض.
بدأت قصة هذه السيمفونية التي سوف تنتهي على سطح القمر لاحقاً! عندما رحل دفوراك عن التشيك التي لم يعثر فيها على هويته الموسيقية كما أراد؛ إذ لم يحقق في بداياته ما كان يطمح إليه أمام معاصريه من الموسيقيين الألمان الذين انتشرت أعمالهم في أوروبا مثل؛ فاغنر وبرامز وغيرهما. إلى أن صارت الفرصة مواتية، عندما رحل دفوراك إلى أمريكا عام 1892 ليعمل أستاذاً في معهد الموسيقى في نيويورك، حيث تنازل هناك، ولو بشكل بسيط، عن روح الموسيقى الكلاسيكية القومية التي ورثها عن أوروبا؛ وذلك لصالح ما استمع إليه من موسيقى "للزنوج"، والتي دفعته للبحث أيضاً عن الإرث الموسيقي للسكان الأصليين.
بعد مرور زمن على وجود دفوراك في أمريكا، وتكوم مجموعة من الرسائل على طاولة مكتبه من أصدقائه، والتي كانوا يسألونه في معظمها عن مشاهداته ومغامراته في العالم الجديد، ظل دفوراك يلتزم الصمت ويبحث، إلى أن تمخض صمته العميق عن إجابة في النهاية؛ إذ انطلقت بحلول عام 1894 ألحان العالم الجديد في سيمفونية حملت ذات الاسم، فشكلت رداً على كل الأسئلة التي وجهت إليه عن رحلته في أمريكا، وتجسيداً لكلمته التي قالها لطلابه في محاضرته في معهد نيويورك للموسيقى: "أبحث عن طريقة أرمم فيها وأحفظ الموسيقى الأصلية للزنوج والسكان الأصليين، وأعيد إنتاجها حتى تظل، إنني في الواقع لم أستخدم أي قالب موسيقي مسبق".
تشير رؤية دفوراك هذه، في تخليد أصوات وموسيقى لبشر لم يعودوا موجودين على العموم، إلى رغبة إنسانية في جعل الموسيقى تحتوي ما لم يمكن أن تحتويه الرغبات الاستعمارية والاقتصادية التي توجت باصطدام عالم أوروبا الجديد بعالم قديم فرض عليه أن يتفتت، ولا يعود له مكان أوسع ولا أكثر واقعية، من عوالم الفن والموسيقى؛ حيث يمكن هنا، استحضار رؤية المفكر والفيلسوف "تزفيتان تودوروف" الذي رأى في إدارة المستعمرين الذين فتحوا أمريكا وحشية غير مسبوقة، حين اختاروا لأنفسهم حقوقاً وحاجات تبنى على تقويض الآخر، وكانوا وحشيين؛ لأنهم لم يقبلوا بمثلها لأي إنسان لا ينتمي إليهم. بينما أتت محاولة منفردة من مؤلف موسيقي مثل دفوراك، ليقول إن الفن والموسيقى تشبهان فلسفة عميقة تتجاوز كتابة التاريخ وما يحويه من بقاء أو فناء؛ ففي الفن والفلسفة وكل ما يجعل الإنسان الفرد مركزاً لهذا العالم حياة مستمرة.
ويبقى أن نقول إن أول رائد فضاء حطّ على أرض القمر "نيل آرمسترونغ"، حمل معه هذه المقطوعة في رحلته على متن المركبة أبوللو إلى القمر، في الوقت الذي كانت تحلم فيه البشرية ربما بحياة جديدة على كواكب أخرى، وباستعمار فضائي من نوع ما، ربما يكون آرمسترونغ قد انتبه إلى أن تراث الإنسان وروحه جديران بالبقاء، والاستمرار، سواء فني عالم وبدأ آخر أم لا.
عاصف الخالدي