حكاية عن التعذيب والمغفرة!
(القسم الثاني)
أرييل دورفمان: لا بّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم!
علي كامل
«إن من يسلب حرية الآخرين هو شخص ليس بمقدوره التحرّر من أسر الكراهية» نيلسون مانديلا
لم تستطع سنوات المنفى الثقيلة والخانقة أن تثبط آماله الكبيرة، ولا المكان أن يطمس هُويته، فقد قرّر لحظة وصوله أميركا لاجئاً، أن يجعل من كتاباته سلاحاً، ومن غرفة مكتبه الصغير ورشة عمل يومي وساحة حرب ضد من شرّدوه، من خنقوا صوت الحرية في بلاده، وضد وحشية الاستبداد وبربريتة في كل مكان.
كان أرييل دورفمان يعلّق على أحد جدارن غرفة مكتبه المظلم صورة مواطنه بابلو نيرودا علّها تُضيء له وحشة منفاه، وبالقرب منها كتب بخط يده عبارة استعارها من أحد معارفه القدامى وسلفه في المنافي الروائي الأرجنتيني "هارولد كونتي". تقول العبارة :"هنا ساحة الحرب، ساحة معركتي، ولن أغادرهاً أبداً".
شغل دورفمان، قبيل الانقلاب العسكري في تشيلي، موقع بروفيسور محاضر لمادة الأدب والنقد في جامعة تشيلي، وقد رُشّح في عام ١٩٧١ مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس التشيلي سلفادور أليندي في قصر لامونيدا. في لقاء أجراه معه داني بوستل في مجلة (The Progressive) الأميركية عام ١٩٩٨، قال:
«.. كان عليّ أن أكون في القصر الرئاسي في ذلك اليوم الفاجع، وكانت ثمة قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تواجدهم في الأحداث أو الأوقات الطارئة والعصيبة، وكان اسمي واحداً من تلك الأسماء، لكن أحداً لم يتصل بي ذلك اليوم وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح. ولم أفهم السبب حينها مطلقاً!. لكن، بعد ثلاث سنوات، قابلت في منفاي، وبطريق الصدفة، الشخص الذي كان مسؤولاً عن تنظيم تلك القائمة آنذاك واسمه فرناندو فلوريس، وفي ذلك اللقاء فقط عرفت سر بقائي حيّاً، فقد أخبرني فرناندو أنه قد حذف اسمي من قائمة المناوبة تلك في ذلك الصباح، وحين سألته عن السبب، صمت قليلاً وغار عميقاً، كما لو أنه اراد أن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانية، ثم تطلّع نحوي أخيراً قائلاً: "حسناً .. كان لا بّد أن يبقى أحد ما حّياً ليروي ما حدث».
كتب دورفمان الشعر والرواية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والسيناريوهات السينمائية والدراسات النقدية في الأدب والفن، وقد ترجمتنتاجاته تلك إلى ما يقرب الخمسين لغة. وعُرف عنه أيضاً ناشطاً بارزاً في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان.
يشغل دورفمان اليوم موقع بروفيسور في جامعة ديوك في مدينة نيويورك لتدريس أدب أميركا اللاتينية فضلاً عن نشاطه كمحرّر دائم في صحف واسعة الانتشار أمثال نيويورك تايمز، لوس أنجلوس تايم، ناشينال، ڤيليج ڤويز، وسواها.
صحيح أنه نجى بإعجوبة من قبضة جلاديه، على حد قوله، إلا إن ممارسة التعذيب في بلاده قد ألقت بظلالها المؤرقة على حياته وكتاباته منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة الديموقراطية في بلده تشيلي في ١١ سبتمبر ١٩٧٣. وهو يعتبر واحداً من أشد المهتمّين بثيمة التعذيب، ضحاياه وجُناته، ولعل ثلاثيته الشهيرة الموسومة «ثلاثية المقاومة» والمتضمنة «الموت والعذراء» و «الأرامل » و«الرقيب»، من بين أعماله العديدة، التي تعتبر بمثابة تجسيد صارخ وجلي لهذه الثيمة. (١)
في مقدمته لكتاب (التعذيب: مقالات مختارة) لمحرّره سانفورد ليفنسون، والمعنونة: هل التعذيب أمرٌ لا مفرَّ منه في قرننا هذا وما بعده؟ كتب دورفمان:
«التعذيب، بطبيعة الحال، هو جريمة تُرتكب ليس ضد الجسد فحسب، إنما ضد المخيلة أيضاً، أو، هو بالأحرى يفترض مسبقاً، إلغاء قدرتنا على تخيّل معاناة الآخرين ونزع الصفة الإنسانية عنهم للدرجة التي تجعل آلامهم لا تعنينا.
التعذيب يقتضي من الجلاد أن ينأى بالضحية عن أي شكل من أشكال الشفقة والتعاطف، ويتطّلب أيضاً نفس البُعد وفقدان الحس من أولئك الذين يعرفون ويغلقون عيونهم، وأولئك الذين لا يُريدون أن يعرفوا ويغلقون عيونهم، وأولئك الذين يغلقون عيونهم وآذانهم وقلوبهم. وبالتالي فإن التعذيب لا يُفسد فقط أولئك المتورّطين بشكل مباشر في هذه العلاقة البشعة بين شخصين ـ أحدهما جلاد والآخر ضحية، الأول يمتلك كامل السلطة، والثاني لا يمتلك سوى ألمه، أحدهما بوسعه أن يفعل ما يريد، والآخر لا يمكنه فعل أي شيء سوى الانتظار والتضرّع والمقاومة ـ إنما يُفسد أيضاً النسيج الاجتماعي برمته، لأنه يقتضي تكميم الأفواه عمّا يجري بين هذين الشخصين.
إنه يُرغم الناس على الاعتقاد بأن شيئاً لم يحدث، بل يستلزم منا أن نكذب على أنفسنا بشأن ما تمّ القيام به، وأن لا يكون أبعد من مجرد حديثنا عنه فيما نحن نمضغ قطعة شوكولاته، أو نبتسم إلى الحبيب، أو نقرأ كتاب، أو نستمع إلى حفل موسيقي، أو نمارس الرياضة في الصباح.
التعذيب يُلزمنا أن نكون فاقدي البصر والسمع والنطق، وإلا لن يُسمح لنا في البقاء على قيد الحياة. وبهذا الوعي المتواصل بالرعب ليس بمقدورنا حقاً مواصلة الحياة».
***
في مقالته (لا بّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم)! يتحدّث دورفمان عن تفاصيل رحلته التي قطعها هو وولده رودريغو، وهو مخرج سينمائي، قادمين من الولايات المتحدة الأمريكية للقاء أسير حرب سابق وأحد ضحايا التعذيب اسمه إريك لوماكس في منزله القائم في أقصى شمال إنجلترا، للتعرّف عليه عن قرب، والكشف عن معلومات جديدة لم تُذكر في مذكراته التي نشرها عام ١٩٩٥ بعنوان «رجل السكك الحديدية».
كان الهدف من تلك الرحلة هو جمع معلومات لكتابة سيناريو لفيلم سينمائي عن هذه الثيمة، وقد تم بالفعل إنجاز سيناريو مسلسل وثائقي بعنوان (Prisoners in Time سجناء في الوقت المناسب) لحساب هيئة الاذاعة البريطانية BBC. (٢)
إن ما جعل حكاية لوماكس آسرة ومؤثرة بالنسبة لدورفمان هو النتيجة التي توصل إليها لوماكس بعد تعّقبه الطويل الأمد لذلك المحقّق الذي كان له اليد الطولى في تعذيبه البشع واستجواباته الرهيبة، وهي أنه وجدَ، بدلاً من ذلك المحقق الياباني الشرير، عجوزاً بوذياً أمضى بقية حياته في محاولة للتكفير عن دوره في مثل تلك الممارسة اللا إنسانية، فقد استطاع هذا العجوز البوذي، عَبر توبته ومغفرة ضحيته، أن يجتاز الهوة اللا نهائية التي تفصل بينهما ليعثر في النهاية على إنسانيتهما المشتركة.
نص المقال:
يالها من طريقة للاحتفال بـ «شهر التوعية بموضوع التعذيب»! (٣)
وفقاً لاستطلاع أجرته منظمة العفو الدولية حول التعذيب إنَّ نسبة ٤٥٪ من الأميركيين يعتقدون إن التعذيب «ضروري ومقبول في بعض الأحيان» وذلك من أجل «الحصول على معلومات يمكن أن تحمي الناس والمجتمع». وإن نسبة ٢٩٪ من البريطانيين وافقوا بشدّة، نوعاً ما، على أن التعذيب «مُبّرر» حين سُئلوا ذات السؤال.
أما بالنسبة لشخص مثلي، أصبح مسكوناً بوجود التعذيب بشكل يومي منذ إنقلاب ١١ سبتمبر ١٩٧٣ الذي أطاح بالرئيس التشيلي سلفادور أليندي، فإن نِسَباً مئوية مثل هذه، لن تكون أكثر حزناً وإحباطاً بل ربما لم تكن بالأمر المفاجىء أو الغريب.
إنني اليوم، على أي حال، أعيش في الولايات المتحدة، حيث دِك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، الذي عِوضاً عن اتهامه كمجرم حرب، يدّعي زوراً وبطريقة تهكمية خبيثة، مرة تلو الأخرى، لأي أحد يسأله، بوصفه الخبير المعني بهذا الموضوع، بأن «تطوير تقنيات الاستجواب وطرق التعذيب» كانت ولا تزال ضرورية للغاية، للحفاظ على سلامة الأميركيين».
أما بالنسبة لأولئك الأميركيين والبريطانيين، والكثيرين سواهم في جميع أنحاء العالم، ممّن يجدون أن هذه الأهوال مبرّرة، فأتساءل عما إذا كانوا قد التقوا يوماً ما بضحية من ضحايا التعذيب؟ أو هل أنهم يظنون أن هذا الوجع المؤبّد يُصيب فقط أولئك الناس البعيدين والخطيرين المكبلّين بالنزاعات الوحشية والحروب التي لا يُسبر غورها؟ إذا كان الرد بالإيجاب، فينبغي عليهم أن يُعيدوا التفكير مرة أخرى.
حين اطلّعت على هذا النوع من الإحصائيات عاد لي المشهد القديم ثانية، وتذكرت أنني التقيت قبل عشرين عاماً برجل، ليس في بلدي الأم (أمريكا اللاتينية) أو في تلك الأقطار النائية، حيث التعذيب متفّشٍ وممنهج، إنما في مدينة إنگليزية اسمها بيرويك أوبون تويد. إنه مواطن اسكوتلندي يدعى إريك لوماكس. (٤)
إنها حكاية وما أعجبها من حكاية!. لقد كان كُلُّ واحد منا في تلك الغرفة المعتمة يبكي ذلك اليوم، باستثناء الرجل الذي جعلنا نذرف تلك الدموع، وهو أسير حرب سابق في الشرق الأقصى، والذي كنا أنا وولدي رودريغو قد قطعنا آلاف الأميال بهدف لقائه.
كنا نأمل أن نُنصف قصته في فيلم يحكي سيرته الذاتية سميناه «Prisoners in Time»، حيث أرادت هيئة الاذاعة البريطانية BBC عمل فيلم تلفزيوني عنه وفقاً لنفس مادة السيرة الذاتية التي كتبها إيرك لوماكس، التي استخدمت مُؤخراً في الفيلم الروائي «رجل السكة الحديدية» الذي أخرجه جوناثان تيبلسكي ولعب أدواره الرئيسية كولن فيرث بدور ( إريك لوماكس)، نيكول كيدمان بدور (زوجته پاتي) والممثل الياباني تانرو إيشيدا بدور (تاكاشي ناﮔاسي).
لا بَّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم!
«لا بَّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم» هي العبارة الأخيرة التي ختم بها إريك لوماكس كتاب مذكراته «رجل السكك الحديدية» وهي ذات العبارة التي همس بها لجلاده تاكاشي ناﮔاسي حين صفح عنه.
كان إريك لوماكس، وهو ضابط بريطاني، قد تعرّض للتعذيب في تايلاند على يد اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، حين كان يعمل في سكة حديد (بانكوك ـ بورما) التي يعرفها معظم الناس من خلال الفيلم الشهير «جسر على نهر كواي» (٥).
ولوماكس، مثل الكثير من ضحايا الأعمال الوحشية، قد ابتلى بتلك التجربة المريرة، فقد دمرّت حياته ذكريات تعذيبه ورغبته في الثأر. ولم يكن ذلك الأمر هو ما يميزّه عن الكثير من المضطهَدين الآخرين في جميع أنحاء العالم فحسب، إنما محاولته بعد أكثر من أربعين عاماً تعقّب الرجل الذي كان مسؤولاً عن معاناته، وهو المترجم الفوري المجهول الذي كان يشرف على تعذيبه بأسلوب يحاكي الغرق أو الإيهام به (waterboarding)، حيث يتم فيه وضع الأسير على طاولة وتُربط قدميه ويديه بحلقات حديدية مثبتّة بتلك الطاولة ثم إمالة رأسه إلى الخلف وتغطية وجهه بقطعة قماش وسكب المياه عليها بشكل متقطع لتنفذ إلى فمه وأنفه لخنق أنفاسه وإحساسة بحالة مشابهة للغرق. أما الحقيقة المذهلة فهي أن هذا المُعّذِب، واسمه تاكاشي ناﮔاسي، قد تم التعرّف عليه أخيراً وقد تحّول إلى كاهن بوذي.
لقد أمضى ناﮔاسي عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية يشجب ويتهم مواطنيه بجرائمهم التي ارتكبوها ضد الجنود البريطانيين. وللتكفير عن دوره في تلك الأعمال الوحشية، ساهم في رعاية الأيتام الآسيويين الذين قضى آبائهم وهم يقوموا ببناء تلك السكة الحديدية.
لكن الصورة المرعبة للحرب التي لم يستطع ناﮔاسي الفرار منها هي صورة ذلك الضابط البريطاني الفتي الشجاع الذي كان يشرف هو على تعذيبه والذي ظنَّ أنه قد مات إلا إنه لم يمت، فقد عاد ذات يوم إلى الظهور مرة أخرى، والتقى العدّوان السابقان (لوماكس و ناﮔاسي) وهما عجوزان بصحبة زوجتيهما في كانتشانابوري بالقرب من نهر كواي، المكان الذي افترقا فيه في الماضي وواجها بعضهما البعض ثانية وجهاً لوجه.
كان ناﮔاسي يلتمس ضحيته طالباً الغفران، أما الضحية، فلم يكن أمامه خيار سوى أن يصفح عن جلاده من أجل أن ينعم بالعيش ويموت بسلام.
لقد اختارتني هيئة الاذاعة البريطانية BBC لأن أروي هذه الحكاية فيلمياً، لأنني سبق لي وأن تناولت ثيمة كهذه في مسرحيتي «الموت والعذراء» من منظور بلادي المحاصرة تشيلي، إلا إن المسرحية كانت تخلو من أي سعي للصفح أو الغفران، لذا فالكتابة عن معضلة إريك لوماكس بدت لي بمثابة وسيلة لتعزيز ومواصلة تلك الثيمة مع سلسلة من الأسئلة الجديدة:
ـ هل يمكن حقاً رأب الصدع بين الضحية والجاني فيما الجراح بعد لم تندمل؟
ـ هل سيتغير أي شيء إذا ادّعى الجاني بالتوبة؟
ـ كيف بوسعنا معرفة ما إذا كانت تلك الاّدعاءات مشروعة، أم أنَّ هذا الندم هو محاولة لابقاءك بمأمن، أم هو مجرد تسوية من أجل المظهر الخارجي؟
ـ ثمة أيضاً تحديات وصعوبات جمالية نظراً للمخزون الثقيل الذي ينوء تحته كلا الخصمين وعدم قدرة كلاهما بالإفصاح عما يعتمل في نفسه، أو ماكان يشعر به طوال كل تلك السنوات. ثم كيف يمكن تخيّل الحوار الذي سيدور بينهما على الشاشة، حوار هذان العدّوين السابقين الصامتين، الحوار الذي لم يُقَل، والذي من شأنه أن يبقى وفياً لمصيبتهما؟
ـ وأخيراً، كيف يمكن عرض حكايتهما على الناس ممّن ليس بمقدرتهم تخّيل ما يفعله التعذيب بالمرء، وعلى أولئك الذين عانوا من التعذيب وآثاره، وأولئك الذين كانوا سبباً في إحداث تلك المعاناة؟
إن زيارتنا لأريك وزوجته ﭙاتي والاس في منزلهما القائم في أقصى شمال إنجلترا، ما هي إلاّ وسيلة لمحاولة إقناع ذلك الرجل المقموع وجدانياً في الحصول منه على بعض المعلومات الغائبة تماماً عن مذكراته، عن الكيفية التي تعامل بها مع الصحراء المقفرة لحزنه، وعن دلالة أن تبقى على قيد الحياة وأنت ميت أكثر من كونك حياً.
لقد رافقنا في رحلتنا هذه المخرج ستيفن ووكر، والطبيبة النفسية الشهيرة هيلين بامبرغ، التي ساعدت إريك في البوح عن شياطينه، وبالتالي انقاذ حياته وزواجه المضطرب.
في ذلك اليوم، في مدينة بيرويك أوبون تويد، كشف لنا إريك، بعد ساعات من الصمت والكلام المزعزع، عن قصة مؤلمة لا تُصّدق. فعندما عاد إلى انجلترا على متن السفينة كأسير حرب، اكتشف مباشرة، وقبل نزوله من السفينة، أن الجيش البريطاني قد استقطع من مرّتبه تكلفة الحذاء الذي فقده أثناء أسره!.
الطبيبة النفسية بامبرغ، التي استطاعت، بعد العديد من الجلسات المؤلمة والكئيبة، أن تستنطق إريك، سأَلَتهُ إن كان قد أخبر أحداً بذلك في ذلك الوقت. «لا أحد» أجاب إريك. وبعد وقفة قصيرة لكنها أشبه بدهر، أضاف قائلاً:«لم يكن أحد هناك في المرفأ». توقف مرة أخرى، وبعد لحظة طويلة من الصمت، أضاف:«ثمة فقط رسالة من والدي يقول فيها أنه تزوّج مرة أخرى لأن والدتي قد توفيت قبل ثلاث سنوات»... وقفة طويلة أخرى ثم... «ماتت والدتي معتقدة أنني مُت. لقد كنت أكتب لها طوال ذلك الوقت وهي ميتة»!.
حين بدأنا جميعاً في البكاء
لم يكن بكاؤنا حينها سببه التعاطف مع حزنه فحسب، إنما لأنه كان يسرد قصة ضياعه وخسارته برتابة خلت من كل عاطفة ظاهرة، كما لو أن ذلك الاحباط ينتمي إلى شخص آخر غيره. شعور بالضياع أو انفصام عقلي كهذا هو أمر نموذجي لضحايا التعذيب. إن بقاء قدراتهم العقلية عبر محنتهم تلك وما يترتب عليها من آثار لا حصر ولا نهاية لها، يتوقف على النأي بأنفسهم عن الجسد ومصيره صوب رقعة معزولة. هناك في تلك الرقعة حيث يقيمون.
كنا نبكي، من أجل الانسانية، كما أعتقد. كنا نبكي في غرفة جلوسه، لأننا واجهنا واقعاً وإدراكاً يفضّل أغلب الناس محاولة تجنبهما: حين يُلحَق ضرر جسيم بأحد ما فمن الصعب إصلاح ذلك الضرر، إلا إن إريك لوماكس كان قادراً على قهر الكراهية المستعرة في قلبه والوصول إلى الينابيع العميقة للشفقة والرحمة، فقد صفح عن أحد الذين حطموه. لكن مع ذلك، لا يزال ثمة شيء لا يمكن إصلاحه، وهو الهلع الذي لا يمكن تخفيفه أو تهدئته في نهاية المطاف.
الفيلم الذي كتبنا نصه سعى أن يكون أميناً لتلك اللحظة المقفرة من الكشف والايحاء، وفي ذات الوقت، أن لا يخذل السلام الداخلي الذي أحرزه لوماكس. حقيقة الأمر إن إريك لوماكس لم يعد يسمع صوت ناﮔاسي في كوابيسه وهو يطالبه: «اعترف، اعترف يا لوماكس، اعترف وسيتوقف الألم».
لقد انتصر إريك لوماكس أخيراً على الخوف والغضب، ولكن هذا الانتصار الروحي لم يتحقق في عزلته، إنما بدعم من زوجته الرائعة پاتي وأيضاً عبر سير مرحلة العلاج التي أمضاها مع السيدة هيلين بامبرغ. ليس عبر تأقلمه تماماً مع ما حدث له ومواجهته لصدمته بكل رعبها فحسب، إنما أيضاً حين استطاع العثور على ناﮔاسي الذي كانت هُويّته ومكان إقامته هما في الواقع في متناول اليد لعقود من الزمن دون معرفته.
كان لمأساة إريك ومحاولته للمصالحة والتسوية دلالة خاصة بالنسبة لي، فقد أقامت صلة بين حياته وحياة الكثير من أصدقائي في تشيلي وغيره من البلدان ممّن تعرّضوا للتحقيقات المهينة وغير الإنسانية. إنها طريقة لفهم وإدراك الانسانية المشتركة لجميع ضحايا التعذيب في العالم. والأهم من كل ذلك، إن المنهج الذي اتبعته السيدة هيلين بامبرغ في إعادة إحياء ذكريات إريك واستعادة عافيته النفسية والعقلية، قد وجد له لأول مرة استجابة علاجية للكثير من ضحايا التعذيب من مواطني أمريكا اللاتينية المنفيين في انجلترا خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، السنوات التي هيمنت فيها الدكتاتوريات الشرسة على القارة.
إيريك لوماكس، وكما قالت بامبرغ، يتمتع بامتياز محزن كونه الأول من بين المحاربين القدماء للحرب العالمية الثانية، المصاب بمرض «اضطراب ما بعد الصدمة post traumatic stress disorder» ممن استطاع الاستفادة من هذا العلاج النفسي الجديد.
لم نكن نعلم، بالطبع، أن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ كانت بانتظارنا، وإن التعذيب بأسلوب محاكاة الغرق أو الإيهام بالغرق (waterboarding) الذي لحق بإريك لوماكس في الاربعينات من قِبل اليابانيين، وبجثث الكثير من مواطني أمريكا اللاتينية من قبل مواطنيهم في وقت لاحق، سيصبح ظاهرة عالمية، وستخوض الولايات المتحدة وحلفاؤها «الحرب ضد الارهاب». كما أننا لم نكن نتوقع أو نتخيل بإن الملايين في المستقبل سيقفوا مكتوفي الأيدي غير مبالين أزاء هذا الشكل من العقوبات المصنّفة كجريمة ضد الانسانية وضد المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعّتها معظم دول العالم.
يبدو أن حكاية إريك لوماكس لها صلة وثيقة بما يحدث، وهي اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، الحكاية التي يأمل المرء التذكير بها مجدداً خلال «شهر التوعية في موضوع التعذيب» لبذل أقصى الجهود لوقف معاناة ضحايا التعذيب. أو، هل يمكننا الموافقة على أن الأسئلة التي طرحها إريك على نفسه بشأن المغفرة والانتقام، التوبة والذاكرة، لم تعد تُقلق الإنسانية المعاصرة؟ (٥)
كيف ستكون استجابة صديقنا إريك لوماكس، الذي غادرنا عام ٢٠١٢، للأنباء التي تُفيد بأن الكثير من الأميركيين، والكثير من مواطنيه، الذين خدمهم في الحرب، يُعلنون اليوم أن ممارسة التعذيب يمكن القبول بها؟ ربما سيهمس لهم بذات العبارة التي همس بها لناﮔاسي عندما صفح عنه، قائلاً: «لا بّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم»!.
***
هامش:
(١)
لقد قمتُ بترجمة ”ثلاثية المقاومة“ وتم نشر مسرحيتين منها: (الموت والعذراء) دار المدى. بغداد عام ٢٠٠٥، و مسرحية (الأرامل) ٢٠١٥ دار الثقافة والإعلام. الشارقة.
أما المسرحية الثالثة فهي بعنوان (الرقيب) فهي مترجمة وتبحث عن ناشر!
(٢)
الفيلم الوثائقي (Prisoners in Time )
سيناريو: أرييل دورفمان وولده رودريغو دورفمان
الأدوار الحقيقية لعبها:
جون هارت بدور إريك لوماكس،
راندال دوك كيم بدور ناﮔاسي تاكاشي،
روينا كوبر بدور الزوجة باتي لوماكس.
إخراج ستيفن ووكر
(٣) (شهر التوعية بموضوع التعذيب) "Torture Awareness Month"
في شهر حزيران (يونيو) من عام ١٩٨٧ اتخذت دول العالم خطوة كبرى وذلك بإقرارها إتفاقية عالمية ضد ممارسة التعذيب المهينة واللا إنسانية. وقد صادق على هذه الاتفاقية عام ٢٠١٥ مائة وثمانية وخمسون بلداً، وتكريماً لهذه الاتفاقية أعلنت الأمم المتحدة يوم ٢٦ حزيران (يونيو) من كل عام هو بمثابة «اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب». ففي شهر حزيران (يونيو) من كل عام تتظافر جهود منظمات حقوق الانسان والمنظمات الدينية للاحتفال بهذه المناسبة تحت عنوان (التوعية بموضوع التعذيب).
(٤)
بيرويك أوبون تويد: مدينة في مقاطعة نورثمبرلاند تقع في أقصى شمال انجلترا.
(٥)
فيلم «جسر على نهر كواي» ١٩٥٧، بطولة وليم هولدن، جاك هاوكنز، أليك كينيز، وسيسو هاياكاوا، وهو من إخراج ديفيد لين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
إليكم الرابط:
https://youtu.be/pyG1NAaiIxk
https://youtu.be/do3FwIymiqI
على كامل
(القسم الثاني)
أرييل دورفمان: لا بّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم!
علي كامل
«إن من يسلب حرية الآخرين هو شخص ليس بمقدوره التحرّر من أسر الكراهية» نيلسون مانديلا
لم تستطع سنوات المنفى الثقيلة والخانقة أن تثبط آماله الكبيرة، ولا المكان أن يطمس هُويته، فقد قرّر لحظة وصوله أميركا لاجئاً، أن يجعل من كتاباته سلاحاً، ومن غرفة مكتبه الصغير ورشة عمل يومي وساحة حرب ضد من شرّدوه، من خنقوا صوت الحرية في بلاده، وضد وحشية الاستبداد وبربريتة في كل مكان.
كان أرييل دورفمان يعلّق على أحد جدارن غرفة مكتبه المظلم صورة مواطنه بابلو نيرودا علّها تُضيء له وحشة منفاه، وبالقرب منها كتب بخط يده عبارة استعارها من أحد معارفه القدامى وسلفه في المنافي الروائي الأرجنتيني "هارولد كونتي". تقول العبارة :"هنا ساحة الحرب، ساحة معركتي، ولن أغادرهاً أبداً".
شغل دورفمان، قبيل الانقلاب العسكري في تشيلي، موقع بروفيسور محاضر لمادة الأدب والنقد في جامعة تشيلي، وقد رُشّح في عام ١٩٧١ مستشاراً ثقافياً ضمن هيئة المستشارين الخصوصيين للرئيس التشيلي سلفادور أليندي في قصر لامونيدا. في لقاء أجراه معه داني بوستل في مجلة (The Progressive) الأميركية عام ١٩٩٨، قال:
«.. كان عليّ أن أكون في القصر الرئاسي في ذلك اليوم الفاجع، وكانت ثمة قائمة بأسماء الأشخاص الذين ينبغي تواجدهم في الأحداث أو الأوقات الطارئة والعصيبة، وكان اسمي واحداً من تلك الأسماء، لكن أحداً لم يتصل بي ذلك اليوم وتركوني أستمتع بنومي ذلك الصباح. ولم أفهم السبب حينها مطلقاً!. لكن، بعد ثلاث سنوات، قابلت في منفاي، وبطريق الصدفة، الشخص الذي كان مسؤولاً عن تنظيم تلك القائمة آنذاك واسمه فرناندو فلوريس، وفي ذلك اللقاء فقط عرفت سر بقائي حيّاً، فقد أخبرني فرناندو أنه قد حذف اسمي من قائمة المناوبة تلك في ذلك الصباح، وحين سألته عن السبب، صمت قليلاً وغار عميقاً، كما لو أنه اراد أن يسترجع تلك اللحظات المرعبة ثانية، ثم تطلّع نحوي أخيراً قائلاً: "حسناً .. كان لا بّد أن يبقى أحد ما حّياً ليروي ما حدث».
كتب دورفمان الشعر والرواية والقصة القصيرة والنصوص المسرحية والسيناريوهات السينمائية والدراسات النقدية في الأدب والفن، وقد ترجمتنتاجاته تلك إلى ما يقرب الخمسين لغة. وعُرف عنه أيضاً ناشطاً بارزاً في منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان.
يشغل دورفمان اليوم موقع بروفيسور في جامعة ديوك في مدينة نيويورك لتدريس أدب أميركا اللاتينية فضلاً عن نشاطه كمحرّر دائم في صحف واسعة الانتشار أمثال نيويورك تايمز، لوس أنجلوس تايم، ناشينال، ڤيليج ڤويز، وسواها.
صحيح أنه نجى بإعجوبة من قبضة جلاديه، على حد قوله، إلا إن ممارسة التعذيب في بلاده قد ألقت بظلالها المؤرقة على حياته وكتاباته منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة الديموقراطية في بلده تشيلي في ١١ سبتمبر ١٩٧٣. وهو يعتبر واحداً من أشد المهتمّين بثيمة التعذيب، ضحاياه وجُناته، ولعل ثلاثيته الشهيرة الموسومة «ثلاثية المقاومة» والمتضمنة «الموت والعذراء» و «الأرامل » و«الرقيب»، من بين أعماله العديدة، التي تعتبر بمثابة تجسيد صارخ وجلي لهذه الثيمة. (١)
في مقدمته لكتاب (التعذيب: مقالات مختارة) لمحرّره سانفورد ليفنسون، والمعنونة: هل التعذيب أمرٌ لا مفرَّ منه في قرننا هذا وما بعده؟ كتب دورفمان:
«التعذيب، بطبيعة الحال، هو جريمة تُرتكب ليس ضد الجسد فحسب، إنما ضد المخيلة أيضاً، أو، هو بالأحرى يفترض مسبقاً، إلغاء قدرتنا على تخيّل معاناة الآخرين ونزع الصفة الإنسانية عنهم للدرجة التي تجعل آلامهم لا تعنينا.
التعذيب يقتضي من الجلاد أن ينأى بالضحية عن أي شكل من أشكال الشفقة والتعاطف، ويتطّلب أيضاً نفس البُعد وفقدان الحس من أولئك الذين يعرفون ويغلقون عيونهم، وأولئك الذين لا يُريدون أن يعرفوا ويغلقون عيونهم، وأولئك الذين يغلقون عيونهم وآذانهم وقلوبهم. وبالتالي فإن التعذيب لا يُفسد فقط أولئك المتورّطين بشكل مباشر في هذه العلاقة البشعة بين شخصين ـ أحدهما جلاد والآخر ضحية، الأول يمتلك كامل السلطة، والثاني لا يمتلك سوى ألمه، أحدهما بوسعه أن يفعل ما يريد، والآخر لا يمكنه فعل أي شيء سوى الانتظار والتضرّع والمقاومة ـ إنما يُفسد أيضاً النسيج الاجتماعي برمته، لأنه يقتضي تكميم الأفواه عمّا يجري بين هذين الشخصين.
إنه يُرغم الناس على الاعتقاد بأن شيئاً لم يحدث، بل يستلزم منا أن نكذب على أنفسنا بشأن ما تمّ القيام به، وأن لا يكون أبعد من مجرد حديثنا عنه فيما نحن نمضغ قطعة شوكولاته، أو نبتسم إلى الحبيب، أو نقرأ كتاب، أو نستمع إلى حفل موسيقي، أو نمارس الرياضة في الصباح.
التعذيب يُلزمنا أن نكون فاقدي البصر والسمع والنطق، وإلا لن يُسمح لنا في البقاء على قيد الحياة. وبهذا الوعي المتواصل بالرعب ليس بمقدورنا حقاً مواصلة الحياة».
***
في مقالته (لا بّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم)! يتحدّث دورفمان عن تفاصيل رحلته التي قطعها هو وولده رودريغو، وهو مخرج سينمائي، قادمين من الولايات المتحدة الأمريكية للقاء أسير حرب سابق وأحد ضحايا التعذيب اسمه إريك لوماكس في منزله القائم في أقصى شمال إنجلترا، للتعرّف عليه عن قرب، والكشف عن معلومات جديدة لم تُذكر في مذكراته التي نشرها عام ١٩٩٥ بعنوان «رجل السكك الحديدية».
كان الهدف من تلك الرحلة هو جمع معلومات لكتابة سيناريو لفيلم سينمائي عن هذه الثيمة، وقد تم بالفعل إنجاز سيناريو مسلسل وثائقي بعنوان (Prisoners in Time سجناء في الوقت المناسب) لحساب هيئة الاذاعة البريطانية BBC. (٢)
إن ما جعل حكاية لوماكس آسرة ومؤثرة بالنسبة لدورفمان هو النتيجة التي توصل إليها لوماكس بعد تعّقبه الطويل الأمد لذلك المحقّق الذي كان له اليد الطولى في تعذيبه البشع واستجواباته الرهيبة، وهي أنه وجدَ، بدلاً من ذلك المحقق الياباني الشرير، عجوزاً بوذياً أمضى بقية حياته في محاولة للتكفير عن دوره في مثل تلك الممارسة اللا إنسانية، فقد استطاع هذا العجوز البوذي، عَبر توبته ومغفرة ضحيته، أن يجتاز الهوة اللا نهائية التي تفصل بينهما ليعثر في النهاية على إنسانيتهما المشتركة.
نص المقال:
يالها من طريقة للاحتفال بـ «شهر التوعية بموضوع التعذيب»! (٣)
وفقاً لاستطلاع أجرته منظمة العفو الدولية حول التعذيب إنَّ نسبة ٤٥٪ من الأميركيين يعتقدون إن التعذيب «ضروري ومقبول في بعض الأحيان» وذلك من أجل «الحصول على معلومات يمكن أن تحمي الناس والمجتمع». وإن نسبة ٢٩٪ من البريطانيين وافقوا بشدّة، نوعاً ما، على أن التعذيب «مُبّرر» حين سُئلوا ذات السؤال.
أما بالنسبة لشخص مثلي، أصبح مسكوناً بوجود التعذيب بشكل يومي منذ إنقلاب ١١ سبتمبر ١٩٧٣ الذي أطاح بالرئيس التشيلي سلفادور أليندي، فإن نِسَباً مئوية مثل هذه، لن تكون أكثر حزناً وإحباطاً بل ربما لم تكن بالأمر المفاجىء أو الغريب.
إنني اليوم، على أي حال، أعيش في الولايات المتحدة، حيث دِك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، الذي عِوضاً عن اتهامه كمجرم حرب، يدّعي زوراً وبطريقة تهكمية خبيثة، مرة تلو الأخرى، لأي أحد يسأله، بوصفه الخبير المعني بهذا الموضوع، بأن «تطوير تقنيات الاستجواب وطرق التعذيب» كانت ولا تزال ضرورية للغاية، للحفاظ على سلامة الأميركيين».
أما بالنسبة لأولئك الأميركيين والبريطانيين، والكثيرين سواهم في جميع أنحاء العالم، ممّن يجدون أن هذه الأهوال مبرّرة، فأتساءل عما إذا كانوا قد التقوا يوماً ما بضحية من ضحايا التعذيب؟ أو هل أنهم يظنون أن هذا الوجع المؤبّد يُصيب فقط أولئك الناس البعيدين والخطيرين المكبلّين بالنزاعات الوحشية والحروب التي لا يُسبر غورها؟ إذا كان الرد بالإيجاب، فينبغي عليهم أن يُعيدوا التفكير مرة أخرى.
حين اطلّعت على هذا النوع من الإحصائيات عاد لي المشهد القديم ثانية، وتذكرت أنني التقيت قبل عشرين عاماً برجل، ليس في بلدي الأم (أمريكا اللاتينية) أو في تلك الأقطار النائية، حيث التعذيب متفّشٍ وممنهج، إنما في مدينة إنگليزية اسمها بيرويك أوبون تويد. إنه مواطن اسكوتلندي يدعى إريك لوماكس. (٤)
إنها حكاية وما أعجبها من حكاية!. لقد كان كُلُّ واحد منا في تلك الغرفة المعتمة يبكي ذلك اليوم، باستثناء الرجل الذي جعلنا نذرف تلك الدموع، وهو أسير حرب سابق في الشرق الأقصى، والذي كنا أنا وولدي رودريغو قد قطعنا آلاف الأميال بهدف لقائه.
كنا نأمل أن نُنصف قصته في فيلم يحكي سيرته الذاتية سميناه «Prisoners in Time»، حيث أرادت هيئة الاذاعة البريطانية BBC عمل فيلم تلفزيوني عنه وفقاً لنفس مادة السيرة الذاتية التي كتبها إيرك لوماكس، التي استخدمت مُؤخراً في الفيلم الروائي «رجل السكة الحديدية» الذي أخرجه جوناثان تيبلسكي ولعب أدواره الرئيسية كولن فيرث بدور ( إريك لوماكس)، نيكول كيدمان بدور (زوجته پاتي) والممثل الياباني تانرو إيشيدا بدور (تاكاشي ناﮔاسي).
لا بَّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم!
«لا بَّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم» هي العبارة الأخيرة التي ختم بها إريك لوماكس كتاب مذكراته «رجل السكك الحديدية» وهي ذات العبارة التي همس بها لجلاده تاكاشي ناﮔاسي حين صفح عنه.
كان إريك لوماكس، وهو ضابط بريطاني، قد تعرّض للتعذيب في تايلاند على يد اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، حين كان يعمل في سكة حديد (بانكوك ـ بورما) التي يعرفها معظم الناس من خلال الفيلم الشهير «جسر على نهر كواي» (٥).
ولوماكس، مثل الكثير من ضحايا الأعمال الوحشية، قد ابتلى بتلك التجربة المريرة، فقد دمرّت حياته ذكريات تعذيبه ورغبته في الثأر. ولم يكن ذلك الأمر هو ما يميزّه عن الكثير من المضطهَدين الآخرين في جميع أنحاء العالم فحسب، إنما محاولته بعد أكثر من أربعين عاماً تعقّب الرجل الذي كان مسؤولاً عن معاناته، وهو المترجم الفوري المجهول الذي كان يشرف على تعذيبه بأسلوب يحاكي الغرق أو الإيهام به (waterboarding)، حيث يتم فيه وضع الأسير على طاولة وتُربط قدميه ويديه بحلقات حديدية مثبتّة بتلك الطاولة ثم إمالة رأسه إلى الخلف وتغطية وجهه بقطعة قماش وسكب المياه عليها بشكل متقطع لتنفذ إلى فمه وأنفه لخنق أنفاسه وإحساسة بحالة مشابهة للغرق. أما الحقيقة المذهلة فهي أن هذا المُعّذِب، واسمه تاكاشي ناﮔاسي، قد تم التعرّف عليه أخيراً وقد تحّول إلى كاهن بوذي.
لقد أمضى ناﮔاسي عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية يشجب ويتهم مواطنيه بجرائمهم التي ارتكبوها ضد الجنود البريطانيين. وللتكفير عن دوره في تلك الأعمال الوحشية، ساهم في رعاية الأيتام الآسيويين الذين قضى آبائهم وهم يقوموا ببناء تلك السكة الحديدية.
لكن الصورة المرعبة للحرب التي لم يستطع ناﮔاسي الفرار منها هي صورة ذلك الضابط البريطاني الفتي الشجاع الذي كان يشرف هو على تعذيبه والذي ظنَّ أنه قد مات إلا إنه لم يمت، فقد عاد ذات يوم إلى الظهور مرة أخرى، والتقى العدّوان السابقان (لوماكس و ناﮔاسي) وهما عجوزان بصحبة زوجتيهما في كانتشانابوري بالقرب من نهر كواي، المكان الذي افترقا فيه في الماضي وواجها بعضهما البعض ثانية وجهاً لوجه.
كان ناﮔاسي يلتمس ضحيته طالباً الغفران، أما الضحية، فلم يكن أمامه خيار سوى أن يصفح عن جلاده من أجل أن ينعم بالعيش ويموت بسلام.
لقد اختارتني هيئة الاذاعة البريطانية BBC لأن أروي هذه الحكاية فيلمياً، لأنني سبق لي وأن تناولت ثيمة كهذه في مسرحيتي «الموت والعذراء» من منظور بلادي المحاصرة تشيلي، إلا إن المسرحية كانت تخلو من أي سعي للصفح أو الغفران، لذا فالكتابة عن معضلة إريك لوماكس بدت لي بمثابة وسيلة لتعزيز ومواصلة تلك الثيمة مع سلسلة من الأسئلة الجديدة:
ـ هل يمكن حقاً رأب الصدع بين الضحية والجاني فيما الجراح بعد لم تندمل؟
ـ هل سيتغير أي شيء إذا ادّعى الجاني بالتوبة؟
ـ كيف بوسعنا معرفة ما إذا كانت تلك الاّدعاءات مشروعة، أم أنَّ هذا الندم هو محاولة لابقاءك بمأمن، أم هو مجرد تسوية من أجل المظهر الخارجي؟
ـ ثمة أيضاً تحديات وصعوبات جمالية نظراً للمخزون الثقيل الذي ينوء تحته كلا الخصمين وعدم قدرة كلاهما بالإفصاح عما يعتمل في نفسه، أو ماكان يشعر به طوال كل تلك السنوات. ثم كيف يمكن تخيّل الحوار الذي سيدور بينهما على الشاشة، حوار هذان العدّوين السابقين الصامتين، الحوار الذي لم يُقَل، والذي من شأنه أن يبقى وفياً لمصيبتهما؟
ـ وأخيراً، كيف يمكن عرض حكايتهما على الناس ممّن ليس بمقدرتهم تخّيل ما يفعله التعذيب بالمرء، وعلى أولئك الذين عانوا من التعذيب وآثاره، وأولئك الذين كانوا سبباً في إحداث تلك المعاناة؟
إن زيارتنا لأريك وزوجته ﭙاتي والاس في منزلهما القائم في أقصى شمال إنجلترا، ما هي إلاّ وسيلة لمحاولة إقناع ذلك الرجل المقموع وجدانياً في الحصول منه على بعض المعلومات الغائبة تماماً عن مذكراته، عن الكيفية التي تعامل بها مع الصحراء المقفرة لحزنه، وعن دلالة أن تبقى على قيد الحياة وأنت ميت أكثر من كونك حياً.
لقد رافقنا في رحلتنا هذه المخرج ستيفن ووكر، والطبيبة النفسية الشهيرة هيلين بامبرغ، التي ساعدت إريك في البوح عن شياطينه، وبالتالي انقاذ حياته وزواجه المضطرب.
في ذلك اليوم، في مدينة بيرويك أوبون تويد، كشف لنا إريك، بعد ساعات من الصمت والكلام المزعزع، عن قصة مؤلمة لا تُصّدق. فعندما عاد إلى انجلترا على متن السفينة كأسير حرب، اكتشف مباشرة، وقبل نزوله من السفينة، أن الجيش البريطاني قد استقطع من مرّتبه تكلفة الحذاء الذي فقده أثناء أسره!.
الطبيبة النفسية بامبرغ، التي استطاعت، بعد العديد من الجلسات المؤلمة والكئيبة، أن تستنطق إريك، سأَلَتهُ إن كان قد أخبر أحداً بذلك في ذلك الوقت. «لا أحد» أجاب إريك. وبعد وقفة قصيرة لكنها أشبه بدهر، أضاف قائلاً:«لم يكن أحد هناك في المرفأ». توقف مرة أخرى، وبعد لحظة طويلة من الصمت، أضاف:«ثمة فقط رسالة من والدي يقول فيها أنه تزوّج مرة أخرى لأن والدتي قد توفيت قبل ثلاث سنوات»... وقفة طويلة أخرى ثم... «ماتت والدتي معتقدة أنني مُت. لقد كنت أكتب لها طوال ذلك الوقت وهي ميتة»!.
حين بدأنا جميعاً في البكاء
لم يكن بكاؤنا حينها سببه التعاطف مع حزنه فحسب، إنما لأنه كان يسرد قصة ضياعه وخسارته برتابة خلت من كل عاطفة ظاهرة، كما لو أن ذلك الاحباط ينتمي إلى شخص آخر غيره. شعور بالضياع أو انفصام عقلي كهذا هو أمر نموذجي لضحايا التعذيب. إن بقاء قدراتهم العقلية عبر محنتهم تلك وما يترتب عليها من آثار لا حصر ولا نهاية لها، يتوقف على النأي بأنفسهم عن الجسد ومصيره صوب رقعة معزولة. هناك في تلك الرقعة حيث يقيمون.
كنا نبكي، من أجل الانسانية، كما أعتقد. كنا نبكي في غرفة جلوسه، لأننا واجهنا واقعاً وإدراكاً يفضّل أغلب الناس محاولة تجنبهما: حين يُلحَق ضرر جسيم بأحد ما فمن الصعب إصلاح ذلك الضرر، إلا إن إريك لوماكس كان قادراً على قهر الكراهية المستعرة في قلبه والوصول إلى الينابيع العميقة للشفقة والرحمة، فقد صفح عن أحد الذين حطموه. لكن مع ذلك، لا يزال ثمة شيء لا يمكن إصلاحه، وهو الهلع الذي لا يمكن تخفيفه أو تهدئته في نهاية المطاف.
الفيلم الذي كتبنا نصه سعى أن يكون أميناً لتلك اللحظة المقفرة من الكشف والايحاء، وفي ذات الوقت، أن لا يخذل السلام الداخلي الذي أحرزه لوماكس. حقيقة الأمر إن إريك لوماكس لم يعد يسمع صوت ناﮔاسي في كوابيسه وهو يطالبه: «اعترف، اعترف يا لوماكس، اعترف وسيتوقف الألم».
لقد انتصر إريك لوماكس أخيراً على الخوف والغضب، ولكن هذا الانتصار الروحي لم يتحقق في عزلته، إنما بدعم من زوجته الرائعة پاتي وأيضاً عبر سير مرحلة العلاج التي أمضاها مع السيدة هيلين بامبرغ. ليس عبر تأقلمه تماماً مع ما حدث له ومواجهته لصدمته بكل رعبها فحسب، إنما أيضاً حين استطاع العثور على ناﮔاسي الذي كانت هُويّته ومكان إقامته هما في الواقع في متناول اليد لعقود من الزمن دون معرفته.
كان لمأساة إريك ومحاولته للمصالحة والتسوية دلالة خاصة بالنسبة لي، فقد أقامت صلة بين حياته وحياة الكثير من أصدقائي في تشيلي وغيره من البلدان ممّن تعرّضوا للتحقيقات المهينة وغير الإنسانية. إنها طريقة لفهم وإدراك الانسانية المشتركة لجميع ضحايا التعذيب في العالم. والأهم من كل ذلك، إن المنهج الذي اتبعته السيدة هيلين بامبرغ في إعادة إحياء ذكريات إريك واستعادة عافيته النفسية والعقلية، قد وجد له لأول مرة استجابة علاجية للكثير من ضحايا التعذيب من مواطني أمريكا اللاتينية المنفيين في انجلترا خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، السنوات التي هيمنت فيها الدكتاتوريات الشرسة على القارة.
إيريك لوماكس، وكما قالت بامبرغ، يتمتع بامتياز محزن كونه الأول من بين المحاربين القدماء للحرب العالمية الثانية، المصاب بمرض «اضطراب ما بعد الصدمة post traumatic stress disorder» ممن استطاع الاستفادة من هذا العلاج النفسي الجديد.
لم نكن نعلم، بالطبع، أن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ كانت بانتظارنا، وإن التعذيب بأسلوب محاكاة الغرق أو الإيهام بالغرق (waterboarding) الذي لحق بإريك لوماكس في الاربعينات من قِبل اليابانيين، وبجثث الكثير من مواطني أمريكا اللاتينية من قبل مواطنيهم في وقت لاحق، سيصبح ظاهرة عالمية، وستخوض الولايات المتحدة وحلفاؤها «الحرب ضد الارهاب». كما أننا لم نكن نتوقع أو نتخيل بإن الملايين في المستقبل سيقفوا مكتوفي الأيدي غير مبالين أزاء هذا الشكل من العقوبات المصنّفة كجريمة ضد الانسانية وضد المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعّتها معظم دول العالم.
يبدو أن حكاية إريك لوماكس لها صلة وثيقة بما يحدث، وهي اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، الحكاية التي يأمل المرء التذكير بها مجدداً خلال «شهر التوعية في موضوع التعذيب» لبذل أقصى الجهود لوقف معاناة ضحايا التعذيب. أو، هل يمكننا الموافقة على أن الأسئلة التي طرحها إريك على نفسه بشأن المغفرة والانتقام، التوبة والذاكرة، لم تعد تُقلق الإنسانية المعاصرة؟ (٥)
كيف ستكون استجابة صديقنا إريك لوماكس، الذي غادرنا عام ٢٠١٢، للأنباء التي تُفيد بأن الكثير من الأميركيين، والكثير من مواطنيه، الذين خدمهم في الحرب، يُعلنون اليوم أن ممارسة التعذيب يمكن القبول بها؟ ربما سيهمس لهم بذات العبارة التي همس بها لناﮔاسي عندما صفح عنه، قائلاً: «لا بّد للكراهية أن تتوقف ذات يوم»!.
***
هامش:
(١)
لقد قمتُ بترجمة ”ثلاثية المقاومة“ وتم نشر مسرحيتين منها: (الموت والعذراء) دار المدى. بغداد عام ٢٠٠٥، و مسرحية (الأرامل) ٢٠١٥ دار الثقافة والإعلام. الشارقة.
أما المسرحية الثالثة فهي بعنوان (الرقيب) فهي مترجمة وتبحث عن ناشر!
(٢)
الفيلم الوثائقي (Prisoners in Time )
سيناريو: أرييل دورفمان وولده رودريغو دورفمان
الأدوار الحقيقية لعبها:
جون هارت بدور إريك لوماكس،
راندال دوك كيم بدور ناﮔاسي تاكاشي،
روينا كوبر بدور الزوجة باتي لوماكس.
إخراج ستيفن ووكر
(٣) (شهر التوعية بموضوع التعذيب) "Torture Awareness Month"
في شهر حزيران (يونيو) من عام ١٩٨٧ اتخذت دول العالم خطوة كبرى وذلك بإقرارها إتفاقية عالمية ضد ممارسة التعذيب المهينة واللا إنسانية. وقد صادق على هذه الاتفاقية عام ٢٠١٥ مائة وثمانية وخمسون بلداً، وتكريماً لهذه الاتفاقية أعلنت الأمم المتحدة يوم ٢٦ حزيران (يونيو) من كل عام هو بمثابة «اليوم العالمي لدعم ضحايا التعذيب». ففي شهر حزيران (يونيو) من كل عام تتظافر جهود منظمات حقوق الانسان والمنظمات الدينية للاحتفال بهذه المناسبة تحت عنوان (التوعية بموضوع التعذيب).
(٤)
بيرويك أوبون تويد: مدينة في مقاطعة نورثمبرلاند تقع في أقصى شمال انجلترا.
(٥)
فيلم «جسر على نهر كواي» ١٩٥٧، بطولة وليم هولدن، جاك هاوكنز، أليك كينيز، وسيسو هاياكاوا، وهو من إخراج ديفيد لين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
إليكم الرابط:
https://youtu.be/pyG1NAaiIxk
https://youtu.be/do3FwIymiqI
على كامل