الموسيقى والشعر نهران من صرخة واحدة
الصرخة أول شكل من أشكال الشعر و اللغة و الموسيقا و الصرخة توسم من خارج اللغة لالتقاط الوعي الإيقاعي فهي ليست جهدا لغويا في البداية بل محاولة لترسم حالة أو ظاهرة وتقليدها لحنيا و دلاليا في موائمة بلا معنى ثم تحويلها عبر اللغة و الشعر إلى خبرة
و من هنا كانت نشأة الشعر و الموسيقا لغة لا مألوفة تلاحق الإيقاع و الوزن و من هذه البدايات الشفوية و امتلاكنا للذاكرة السمعية التي تخزن و تضيف و تمحو العلامات انبثق عمود الشعر كتراث شفوي يعتمد على تعاقب أزمنة قوية و أزمنة ضعيفة و الإيقاع الذي يملأ الفاصل بين زمنين قويين انتزع لنفسه وجودا مستقلا و مؤسسا لكل من الموسيقا و الشعر .
الذات البشرية الممتزجة بالكون جسدت المسافة بين ظواهر محيطها الحيوي المدركة حسيا و عتبات شعورها المتنامي بالمسافة بين هذه الذات و محيطها بالمحاكاة محولة كل ما يلامس إدراكاتها الأولية إلى إيقاعات تترجم بالهمهمة و التمتمة و الصراخ ممتمثلة الحركة و الإيقاع و الصورة عبر هذه الصرخة –الكلمة-الفعل-الإيقاع تم رصد المعنى الذي يتغير تبعا للمسافة بين الشيء –الفعل- وحركيته عبر هذا الجرس اللفظي –الدالة الصوتية بإعادة إنتاجه تحول إلى الشيء و معناه عبر تعقب مسارات رنينه بالإنابة الصوتية التي تحولت إلى كلمة تختزن مسارات المعنى و تعبر عنه حسيا و ادراكيا و في مرحلة لاحقة لغويا
لا يمكن لنا القول أن ترسيمة ما تطابق ما ذهبنا إليه أنه في البدء كان الإنسان فالموسيقا فاللغة فالشعر و بالتالي الصرخة أول شكل موسيقي و لغوي و شعري
ما من لغة إلا و جذرها الأولي محاكاة و حتى في مراحل التعبير الأولي الأبجدي منها اختزلت علاقاتها إلى هيروغليف سمعي –بصري مجموعه مجموعة علاقاته الصوتية و صورها و هي تتحول إلى جملة مستلهمة توافقا إيحائيا يحس دون أن يفسر ثم يجرد إلى رمز مغادرا هيروغليفيته التي لم يبق منها إلا ظلالا توحي بالبدايات التي يصعب التعبير عنها إلا عبر الامتزاج التوافقي بين لفظ و موسيقاه و تمثلاتهما العيانية إلى مدركات شتى تلاحق إيقاعا ما وتعطيه معنى وفقا لتراسل الحواس و مدركاتها لتحول الإيقاع –المعنى
هذه البداهة تمثل حالة أولية مؤسسة لكلا من اللغة و الموسيقا و الشعر و للعلاقة اللاحقة التفاعلية بين تحولات المعنى من الجذر الى النسغ إلى العلاقة بين فنين يتقاربان بالإيقاع والصوت ووسائل التعبير و يمتزجان ليصبحا فنا واحدا إذا أخذنا بالتخوم المتقاربة و أحيانا يبدوان لنا فنين مستقلين لا علاقة بينهما إلا علاقة النوع
اللغة تمثلت الإيقاع من المسافة بين الكلمة و ما تعبر عنه فهو ظاهرة خارجة عن اللغة و إن كانت تكتنزه و الشعر بتحوله عن التطابق بين الدال و المدلول و شحنهما بدلالات جديدة جمالية خاصة
اصطدم لعلاقته باللغة بما اصطدمت به اللغة و هي تجتاز المسافة بين الذات و العالم فأقامت تماثلا دلاليا ساكنا و منظومة جعلت أول مشكلات الشاعر التعامل مع معطياتها الساكنة –الإستاتيكية إلى لا شعورها حيث تنام علاقاتها بالأولي الذي يحتاج إلى خلخلة المعنى الساكن و منح الكلمات فضاءا مغايرا لتلامس معان جديدة و من ثم تخلق عالما يجعل الكلمة ضمن هذا الفضاء هي هي و لكن في علاقات جديدة لمعنى تمارس اصطفافاتها فيه عبر تغيير الإيقاع و بالتالي تغيير المعنى إنها إعادة خلق جديدة بشروط مختلفة
الكلمة مشحونة بفعل الخلق ككائن يمارس دوره حسب علاقات لازمة و متعدية و بالتالي إمكانات استخدام ممكناتها اللانهائية أحد أسرارها المقدسة التي لا تذعن إلا لانتهاك الشاعر الذي يوازي إعادة بعثها وخلقها أو نحتها في فضاء جديد تكون فيه هي هي و ليست هي بنفس اللحظة إلى أن تعاود تمظهراتها الجديدة أو تعود مصطفة في موات يحتاج إلى إعادة بحث و قيامة جديدة
من هنا تأتي عبقرية اللغة وعبقرية الكائن الشعري و هما يتبادلان اشتغالاتهما على أنفسهما و على العالم
كل تعبير عن النفس و عن العالم يحتاج لغة
لا شيء خارج العالم ولا شيء خارج اللغة
اللغة دون الكائن لا شيء و الكائن دون اللغة لا معنى له
و من هنا يأتي الاشتباك بين الكائن و اللغة وجها آخر للاشتباك بين الكائن و الكون و بين اللغة و الكون وهذان الكائنان لا يمكن أن يكون هذا التعالق النوعي بينهما بمستوى الحياة و إعادة الخلق إلا بين شاعر يعيد تسمية الأشياء و لغة مكتنزة و مشاكسة متحولة تقبل الدعوة إلى الدخول في طقس جديد مع شاعر لا يترجم إلى لغة
إذا اعتبرنا أن منشأ اللغة و جذرها صوتيا إيقاعيا فالصوت يستدعي النغم و اللون ثم يترجم إلى أفكار في علاقات تبادلية الكون في مفهومه اللغوي المستمد من وعي الذات البشرية له تجربة لفظية صوتية قبل أن يصبح مدركا و بما أننا محكومون بملاحقة هذه الظاهرة و إيقاعاتها فنحن نراه كمدرك أولي متناظر فهو في شكله الأولي ظاهرة لفظية متناغمة و إيقاعية و لغوية قابل للتشكل إلى ما لانهاية سحري شعري مموسق و منفتح على معان لا حدود لها
اللغة إحدى وسائل تعريفه بل كلها و بالتالي هي مماثلة له
الكائن الشعري خلق معادلا له اللغة و بها استشف إمكانية أن يتولى تعريف ذاته المنصهرة به وصولا إلى توالي حركة الاتصال و الانفعال المعرفة و عبر إيقاع الشيء –اللغة-العالم –و الذات و رصد الإيقاع و تحولاته و نقلها إلى اللغة –العالم بالإيقاع أدرك الإنسان ذاته و العالم كممارسة لغوية رمزية و باللغة ظل يتبادل عبر إيقاعاتها علاقاته التحولية الانفعال بامتلاك اللغة و خلق عالم بديل طقوسي ثقافي ممهدا للابتعاد عن التطابق بينه و بين العالم إلا عبر فضاء له ترجمة لغوية الطقس –الشعيرة
ففصل الفتش عن الطبيعة و أخذ صورها الأرواحية في التحول من الطبيعة إلى الثقافة إلى المجتمع مقيما عبر اللغة تواصله و اغترابه معا ككائن مدرك و اجتماعي
باللغة تحول الكائن البشري لامتلاك كينونة امتلكت أداة إتصالية قابلة للنقل و التعبير و التأثير في الوسط و الأشياء و الذات امتلك الكائن العاقل لغة و منها سن القوانين ووزع الآلهة تاركا لهم عبر ذاكرته و لغته و مخيلته أن يقيموا نظاما نسقه لغوي إنه انتقال من الفوضى إلى النظام باللغة الموسيقا الشعر
فصل أشياء الطبيعة عن الطبيعة و هز الأشياء تاركا لعفاريتها أن تنفصل عنها و تأخذه من مخيلته مسافة فتتحول إلى صور و أنماط و أدوات أول أداة امتلكها الكائن اللغة مغمسة بالسحر و الشعر و الموسيقا تهيمن على مفردات الوجود و لتجعله واقفا منتصبا يحدق في الأكوان و يتمثلها باللغة ورموزا و مكونات للفرد و الجماعة التي غالبا ما حولت مكابداتها الجماعية إلى مخيال إيقاعي تنتصر به الحياة على خلقها الأساسي –الموت- و الخوف من المجهول الفوضى إلى النظام في تدفق للأصوات و الحشرجات و الفرح عبر أروع آلة بشرية موسيقية الحنجرة و عبر اليد التي تعلمت أن تفكر و تعيد خلق العوالم من حولها و تمنحها لغة و ذاكرة معا
الموسيقا-الشعر
بانتقال الكائن البشري من فضاء الجماعة الطبيعي إلى الفضاء الاجتماعي نقل معه شعائره عبر أسرار إيقاع ناظم كانت الكلمات بالنسبة له مجرد جرس يتبع مسار التحول من الفوضى إلى تجاوزها من خلال طقس أولي ذو معنى ثم حدث التجاوز بانتقال الكلمة من صدى للحدث إلى فعل ينوب عنه من فضاء الطقس إلى باحة المعبد دخلت الكلمة –اللحن – اللغة وفي بعد مقدس و أسراري من الفرد إلى العشيرة ومن العشيرة إلى الملك .
هنالك تحول لغوي إيقاعي شعري مؤسس للتحولات الحضارية و هنالك انتقال من المقدس إلى الرمز و من الديني إلى المديني تحولت اللغة إلى أداة و قوانين و إكراهات بعد أن أنهت تجوالها الغابي اللا مدجن المنفتح الطبيعي تحولت إلى أداة اجتماعية تمارس الضبط و التنظيم مبتعدة عن دلالاتها الأولى الغامضة السرية البدائية من أداة تواصل إلى أداة سيطرة و بالتالي هربت من قمع و تدجين الشخصية التي تعيش بها محاولة الوصول إلى تكيف قهري فاستعانت مرة أخرى بجذرها اللا متعين لتصوغ خطابات مواربة بها الحنين إلى الأصل مقارنة بالحاضر و بها الهروب إلى الأمام مستعينة بالشعر و الإيقاع اللذان أكملا مرحلة في رحم اللغة المولد لينفصلا عنها جزئيا محتفظان بالحبل السري لعلاقتهما الجذرية مع أساسات اللغة في مفارقة و علاقات جديدة للأشياء و الجماعة .
انفصل الإيقاع عن الممارسة ليأخذ قيما خاصة به و انفصلت الكلمة عن تراتيبها و فيزيقيتها لتأخذ شكلا فنيا مستمدا من الكلمات الممسوسة بالمزاج و التي تعرف عن نفسها استنادا إلى تقاليد لغوية و خبرة حياتية .
الشعر في مرحلته اللاحقة انفصل عن الطبيعة إلى منجزه الإنساني اللغة و بالتالي صارت علاقته معها عبر وسيط و الموسيقا أصبحت علاقات متداخلة بين العالم و الفكرة ووقع للصخب و الصمت و فيزياء لدوي العالم الطبيعي و البشري يمكن ترجمته أدائيا و يمكن اللعب على ممكناته فلم تعد انعالات الشعر و الموسيقا حياتية بل فنية هذا التمفصل بين فنين امتزج في الشعر في صيغة تبادلية ليصبح كلا منهما جزء عفوي منالآخر و منفصلا عنه في الوقت نفسه
الشعر و الموسيقا:
تشبه العلاقة بين الشعر و الموسيقا حالة التوائم و التوأمة كفكرة لها تحولاتها مرة يكون التوائم نسختان متطابقتان لكل منهما هويته و مرة يكونان مختلفان لا رابط سوى القرابة و مرة يكونان جنسان مختلفان ذكر و أنثى و مرة يأتيان متلاصقان يمكن الفصل بينهما و أحيانا يشتركان بنفس المكونات فإذا ما فصلناهما يموتان معا .
من حيث المبدأ في العلاقات التبادلية بين الفنون هنالك مجاز في الرابطة المؤسسة بينهما تتباعد و تتقارب و أحيانا لا تلتقي و لكن العلاقة بين فني الموسيقا و الشعر هي الأقرب و نلمس الحضور العياني لكلا منهما في الآخر بحيث نحتاج إلى الفصل القسري بينهما لتبين ملامح كلا منهما بعيدا عن الآخر و صعوبة هذه الحالة تشبه التقريب بين فنين متباعدين في وجهها الآخر و إقامة روابط بينهما .
المؤرخ شبنغلر وزع الفنون كهاجس حضاري متصاعد و رأى أن لها قيمة تصاعدية حسب المرحلة التاريخية و حسب الفن النوعي المهيمن على حضارة ما و علاقته بها
للمصريين المعمار و لليونان النحت و للصين التصوير وللعرب الشعر و للغرب الموسيقا
وفق سلمه التفاضلي للنوع و الفنون أن آخر مرحلة تاريخية كان الشعر بها متعالقا مع الموسيقا تبنت الشعر العربي الذي سلم مفاتيح الحضارة و الموسيقا للغرب بعد أن نازعته السيادة لتنفصل عنه في هاجس حضاري مغاير .
ظلت الموسيقا في الشعر العربي مكونا رئيسيا يتبادل التأثر و التأثير مع الشعر فأخذت منه و عنه وسائلها لتعبر عن نفسها كذلك فعل الشعر .
الشعر ديوان العرب لم يمارس سيادة فنية فن من الفنون في ذائقة شعب ما كما السيادة المتوجة للشعر العربي على متلقيه و صانعيه صار يعرف بهم و يعرفون به .
اللغة العربية شاعرية بطبعها تصلح لشتى القوالب فهي منسجمة متحولة حتى ظان نثرها شعرا بها وفرة حتى أن هنالك ألف فعل للمعنى الواحد و مختزلة لدرجة أن كلمة تغني عن جملة شعرها موسيقا و موسيقاها شعر.
عندما تنقل قصيدة بيانها عن مفردات عالمها النصي تنقل معه إيقاع الحالة حتى لو كان المقصود توريتها و دخول حرف على تراكيبها يعادل دخول آلة موسيقية مرة عودا مرة نايا و مرة حسب معطيات هذه الآلة التي كثيرا ما تكون القصيدة مساوية لنغماتها و مفاتيحها جئير حزين للوتريات و إيقاع مهيمن للطبل وتريات ناعمة كصرخة
هنالك امتزاج قل نظيره بين الحرف و معناه تموج كلمة ماااء مساحة و علو السماااااء لكأن الحنجرة آلة موسيقية
في القصيدة العربية هناك اهتمام بالجرس قبل المعنى للسرد في اللغة موسيقاه عبر وحدات تتشابه و تختلف لتؤلف قطعة موسيقا
دوي الريح –خرير الماء صهيل الفرس رنين المعاني و صداها الداخلي يجعلها متقاربة لكل حرف رنينه صداه فضاؤه معناه النفسي و تحولاته الحرف فيها يعطي معناه ل(دقّ-هزّ-دبّ) فإن زيد معناه ضوعف هزهز (شد-دش) زمن ضعيف+زمن قوي الثانية معاكسة ولكل حرف فيزيولوجيته ولالته و ايقاعه الألف تسامي الهمزة للظهور الباء للحفر الحاء للحنين الثاء للرقة الهاء للتلاشي و الاهتزاز الكاف للاحتكاك السين للطلب إلخ ...
تقليد الأصوات في الطبيعة (ذر-شر) أصوات الفم (بت_قطع) المشاعر (أخ-أن-آه)ولك ما شئت و عن خصائص البحور توزعت إلى مميزات لكل بحر موسيقاه و طرقه فالكامل مثلا أجود في الخبر من لإنشاء و أقرب إلى الشدة له تحولات يصبح مطربا و تحولات يصبح راقصا يشتد إن شددته و يرق أن رققته و يصلح للمراثي و للقوافي القاف للشدة الدال للفخر الميم و اللام في الوصف الباء و الراء في الغزل.
الحرف و نغمته مضموم و مكسور و مفتوح و ما قبله متحرك و ما قبله ساكن أو ممدود بحرف علة
كل هذه تحولات ورنة الحرف في بحر غير في بحر آخر و على صعيد أنغام البحور الشعرية يمكن لنا أن نلاحظ مائة و أربعين نغما و أكثر من خمسة آلاف إيقاع .
وصف إخوان الصفا العلاقة بين الشعر و الموسيقا :الغناء مركب من الألحان و الألحان من النغمات و النغمات من النقرات و لإيقاعات أصلها ساكن و متحرك (الأشعر مركبة من المصاريع و المصاريع من التفاعيل و التفاعيل من الأسباب و الأوتاد و الفواصل و أصلها حروف و حركات و سواكن .)
لو أخذنا أية تجربة شعرية و بأية لغة كانت سنرى حضور الموسيقا ولو كان هنالك تعمد مقصود لغيابها من وجهة النظر و من التراكيب و من المزاج العام و سوف نرافق شاعرا على انغام الكورا والتام تام في قلب القارة الإفريقية مع شاعر موسيقي و موسيقى شاعر و بصحبة الموسيقى مع ليوبولد سنغور :
ولد سنة 1906-2003 في قرية سنغالية تسمى جوال ابنا لتاجر أنهى دراسته في السنغال و انتقل إلى جامعة السوربون ليصبح أستاذا للغة الفرنسية و أول أفريقي ينتسب للسوربون حصل على شهادة الدكتوراه و اتجه إلى العمل السياسي لينتخب نائبا في البرلمان الفرنسي ثم وزيرا في الحكومة الفرنسية كان من أهم المنظرين للزنوجة مع ايميه سيزار (أغاني الظلال –أغاني من أجل نايت –أهم مجموعاته قرابين سوداء-إثيوبيات-ليليات)
وبعد الاستقلال تولى رئاسة جمهورية السنغال بين عامي 1960-1980 و اعتزل متفرغا للأدب انتخب عام 1983 عضوا في الأكاديمية الفرنسية
تحضر الموسيقى و جمال المرأة الأفريقية في كل قصائده.
هنالك ثلاث مصادر لشعرية سنغور :التراث الشفوي الأفريقي الموسيقي و الشعري و اللذان لا يمكن الفصل بينهما الشعر وجد ليغنى و قد قام بالبناء عليه كمكون حضاري و تمثله و كانت علاقته به عودة إلى الينابيع .
الثقافة الفرنسية و مكوناتها و موسيقاها و شعرها علاقته بها علاقة ندية حيث يعيد استخدامها ليقول مكونات ضدها
الثقافة السوداء الأمريكية كأفريقيا وراء المحيط.
سنغور و التراث الشفوي الموسيقي الشعري الأفريقي :
الشعر في الأدب الشفوي الأفريقي ينشر على وقع التام تامات و الموسيقا سير الأسلاف و الملوك و الأمثال و يستخدم إضافة إلى الشعر الحركات و الرقصات و الأقنعة و الألبسة و غالبا ما يكون الموسيقي الشاعر تحت رعاية الزعامات فهو بمثابة ذاكرة تجلب أرواح الأسلاف من الأشجار و الحجارة إلى الكلمة لتأخذ بعدا روحيا و طقوسبا
وقعي يا أجراسا صغيرة
وقعي يا أيتها الألسن
وقعي يامجاديف
رقعة معلم الجذافين و سيدهم
آه ما أجدره و زورقه بمنشدي فادايوتا المنتصرة
و أنا أطالب بيدين تكلمان التام تام
وأربعين من العذارى المنشدات
وقعي سهما قان وقعي مخلبا في الظهيرة
وقعي ياخشخاشة الصدف خرير مياه عظيمة ...
ما أكثر ما جسد سنغور في شعره أغنيات و طقوس فالشعر عنده في هذا النوع من الأغاني تلاحق اللحن و توزيعاته وتقترب من معان تبدو من الخارج عفوية وبسيطة لكنها محملة برسائل مشفرة عن طبيعة الأشياء في حضور كأنه ليس للمغني و ليس للأغنية ولا للموسيقا بل للذاكرة الموشومة لأسرار مقدسة وقد أعطتها الموسيقا الجو العام و الكلمات الرموز .
الشعر و الموسيقا في أية حضارة جذرهما طقوسي فهما ممتزجان بالمقدس و الأسراري و الأرواحي وميزة هذه القصائد التي نسجت محاكاة لقصائد الطقس عند سنغور أنها كانت تمثل هدية ما ظلت مهيمنة تاريخيا حتى مجيء الرجل الأبيض إلى أفريقيا و من هذا التراث الذي ضاع منه الكثير بقيت لنا منه ترسبات جوهرية .
في الممالك الأفريقية القديمة مارس الشاعر دور الذاكرة و الكاهن و الموسيقي و صارت موسيقا و أشعار التقاليد على يديه تأخذ بعدا ثم حذف ما لا يناسب تراتبية البلاط و بالتالي ثم نقل من الجانب العملي و الديني إلى الجانب الاجتماعي و هذا الانتقال من مجال الفعل المباشر الغابي إلى المجتمع الملكي تطورت أدوات ووسائل الايصال من الكلمة و اللحن و الأدوات فصارت أقرب إلى الموسيقا الباروكية المستخلصة من عدة مصادر لتأخذ بعدا جديدا له صلة بالماضي و يحاول أن يقيم علاقة مع الحاضر بل و يتكيف معه على صعيد الاشتغال على الكلمة و اللحن و الطقس و بعثهما بما يتلاءم مع ما يتطلبه الراهن صحيح أن طابع العلاقة بينهما يبدو معزولا عن وسطه و متكلفا في لحظته التي غدت ثقافية لكن هذه هي فرصته الوحيدة من الاندثار .
وقد تلمس سنغور من خلال معرفته لأدوات تلق جديدة في حضارة مغايرة أن يبحث عن لحظة شعرية و موسيقية في مرحلة من مراحل شعره متماهيا مع باروك أفريقي على طريقته فأغاني الطقوس والصيد و الحرب و الحب و السلام و الأساطير تم بعثهما على يديه مخلعة من بعدها الذي أنتجها إلى بعد ثقافي بعيد التعامل معها كائن يعرف عن نفسه مقارنة مع الآخر كما في هذه الأغنية التي حدد لها موسيقا مرافقة قيثارتين :
نسجت لك أغنية
بألحان ندية
كأنها زجل الحمام
على الخلام
ذي الأوتار الأربع
صديقي الناعس و أنا أنسخ لك الأغنية
لكنك لم تسمعي ...
في هذه الأغاني يتم التواصل مع منجز غنائي موسيقي جديد يشبه أغاني المنشدين و أغاني التروبادور و الموشحات سواء باللحن أم بالكلمات أو في الدلالات الفنية و الموسيقية و الجمالية و يبدو الأثر الفني حتى على صعيد المكان الذي تهيمن موسيقاه المغربية التي تجمع بين الشرق و أفريقيا و الأندلس :
ترى هل كانت ليلة مغربية
ها أنا أترك موغاردو
للفتيات الذهبية
هل كانت ليلة مغربية
أجل و كانت (جوالية) من قبل أن آتي إلى الحياة
جوالية:بلدة الشاعر
إنها أغنية من أجل مزمارين و تام تام بعيد
اللحن الإيقاع التمثل طريقة الوصف هنا توجد هيمنة لحنية شعرية لغنائية المغرب للموشحات و صلتها مع أفريقيا التي تأتي ممثلة في التام تام البعيد .
الثقافة الفرنسية شعرا و موسيقا و نمط حياة يمكن لنا القول أن ليوبولد سنغور الذي لم يكتب إلا بالفرنسية كان موزعا بين ذاكرته و بين عقله فهو قد تمثل الثقافة الفرنسية من موقع المتلقي أولا و عن طريقها تعرف إلى العالم ثم إلى مكوناته الذاتية الشخصية و الحضارية و قد لمحنا أثر تلك الثقافة في شعره و موسيقاه عدا عن اللغة التي هي بالأساس نمط تقكير أو منفى آخر على رأي محمد ذيب إن اصطدامه الواعي بالآخر ثقافيا حرض أول ما حرض فيه الجذور التي تسري في دم أي أفريقي فحرص على أن يمدها بنسغ جديد معرفي و يصفها كموضوعة حضارية لتكون وطنا في الدم و اإيقاع و القصيدة .
أفريقيا-السنغال عند سنغور هي ليست أفريقيا المقيم إنها أفريقيا الإيقاع –إنها العربدة الداخلية –و التفرس في الظلال حتى في أغانيه استخدم آليات توزيع جديدة مستمدة من التراث الشعري الأوروبي من الأداء إلى الشكل إلى الأثر الكلامي إنها أفريقيا تشبه سنغور الذي استخدم الكلمة كما يستخدم مؤلف موسيقي المفاتيح الموسيقية ووزعها في فضاء يحمل إيقاعاتها الصاخبة ولكن الموظفة لتؤدي وظيفتها داخل عمل فني .
الأمر اللافت والمثير للجدل و الاستغراب أن سنغور استخدم كل الأنواع لشعرية و الموسيقية منذ عصر النهضة إلى الفنون الشعرية و الموسيقية الحديثة إضافة إلى موروثه الأفريقي و في لغة أخرى لتأتي النتيجة أفريقية الملامح و الهوية و في هذا تكمن عبقرية منظر الزنوجة :
يا ليلة الطفولة/يا ليلة زرقاء
يا ليلة شقراء
يا أيها القمر
كم مرة واعدتني
على أطراف الدروب
أنا الملوح بالحزن و المرارة
أبكي على شبابي الراحل
بالدموع ...
إن في هذه البكائية شكلان فنيان موسيقيا و شعريا لها طابع موسيقي يأخذ شكل اللحن الوداعي الراكوييم وشكل الترسل الذي في السوناتا شعريا و ليس موسيقيا كأنما اللحن الحزين المنساب لرجل يحتضر و تأتي طفولته و أماكنه الأولى ككلمات احتفال بالحياة و للحن جنائزية موجبة إنه موزارت يبكي على نابليون العائد إلى فرنسا جثة .
مع لمعات الأصوات الطفولية من أناشيد بصوت طفولي لقداسات باخ :
الزوبعة تصادر كل شيء
أوراقي .ثرثرتي
في الصمت تزمجر
تاركة للسلام أن يحلق على يباسها
و مطرها الراحل
أيتها العاتية
يا رياح الفصول النضرة
دعي النار تلتهم الزهر الأفكار السخيفة
و اسق الرمال على كثبان القلوب
......
لتحرقن النار صوتك-شهوتك
النار التي تضيء سواد أيامي
بجذوع النخيل و بالسعف
أيها الروح أجج شفتي القانيتين بنارك
و انضج الأنغام على أوتار (كوراي)
ليخرج نشيدي مدويا
كذهب غالام النقي
إنه تمثل واع لغضب الطبيعة و الأقدار صوت الشاعر و قد استعار جموح العاصفة كحركة تغيير و عنفوان و لهب مقدس إنها كوراليون بتهوفن و قد مهد لعاصفته الموسيقية في تصاعد لحظي قدري رمزي عاصفة بيتهوفن في مجاهل غابة أفريقية تتراقص على آلة من 32 وترا تجعل العواطف التي مستها بروق العاصفة تتجوهر و تفصح عن نفسها شعرا و موسيقا و عناصر في انفعال محسوس صوتيا و لحنيا و لغة في مطابقة و تمثل موضوعي للعاصفة عبر الصوت و الصدى و التجسيم بحيث نختار أيهما أقدر على ترجمة الداخل المتماهي مع الخارج الكلمة أم إيقاعها اللحن أم الكلمة الذي يتحول إلى تلاقيات لعناصر متوترة تعبر عن الجموح بشكل مجرد لا يحاكي الطبيعة بل عملها فعندما تتعب الكلمات و الإشارات تنبثق الموسيقا
عبر الانسجام و التنافر بين ىالعلو و الهبوط و اللين و الشدة في تجل لروح الشعر-الموسيقا و الموسيقا-الشعر
ابتهجي اسمك يا ناعت
متغنيا بك يا ناعت
ناعت
إن اسمك لطيف كالقرفة
عبير ينام فيه شجر الليمون
ناعت
إن اسمك نكهة من اللبن مزهرة
محاكاة للسافانا المبرعمة
تحت شبق شمس الظهيرة المذكر
اسم الندى و ظلال التمرحنة
غروب قصير العمر لشمس تصمت
ناعت التماع البرق /عملة الذهب
و الفحم المشع
ناعت
يا ليلي يا شمسي
أنا فارسك عرافك الذي يتغنى بأسمائك
يا أميرة اليسا
أيتها المنفية من فوتا في اليوم المشؤوم
هذا النص مادة صوتية إن تحوله إلى مادة مكتوبة يساوي قتل لإمكاناته التعبيرية و جرسه الظلال الموسيقية تعطي كلماته إلى النفس ولا تبقيه في المجرد و بالتالي تجسمه ذهنيا و حسيا و إشاريا إنها موسيقا الخلق الكلام –الجرس تتردد عبر أول آلة و أعرق آلة عرفتها البشرية –الحنجرة .
النص جمالية نغمية ملاحقة للرنين قبل الكلمات و تفكير بالنغم قبل المعنى انتزاع قطعة من الأبدية و تحريرا للشغب من الصمت و للعواطف من العقل .
إنها اشتغالات ديبوسي على ظهيرة الفون لمالارميه عبر مركباته الهارمونية الطفولية الرؤيوية في إعادة إنتاج الحساسية و مهرها بالموسيقا و ترجمة هذه الدالات إلى تجريد عبر الموسيقا في تعبير عن المشاعر دون دوافعها عبر ملاحقة اللمسات الهاربة و السراب و الانتقال من المحدود إلى اللانهائي .
الصانع الأمهر عزرا باوند قال في إحدى مقالاته : لا تظن أن فن الشعر أبسط من الموسيقا لن يكون بوسعك إمتاع الذواقة قبل أن تبذل جهدا يعادل ما يبذله أستاذ البيانو .
الشاعر يتصرف كالموسيقار من حيث اعتماده طبقة النغم و ضخامة الأوركسترا في إيقاع الشعر نغمات مختلفة متزامنة كالنغم الخلفي للأرغن و حين يطابق الإيقاع ظل العاطفة يمتلك خصوصيته فالسيطرة على فن معين هي عمل الحياة كلها .
في شعر سنغور نجد الإرث الموسيقي العالمي محملا عبر الشعر بنكهة أفريقية و نجد كذلك تاريخية كلا من الشعر و الموسيقا بوصفهما فنا واحدا . من الباروك إلى الجاز عبر التقاط تداعيات العالم في قصيدة فنقرأ دخول حرف كدخول آلة موسيقية طبلا كمانا بيانو و نرى المسافات الصوتية تساوي الآلات بنغماتها و مفاتيحها و إيقاعاتها و تاريخيا يمكن لنا القول أن الموسيقا الأفريقية فرضت في عصرنا الحاضر سيادتها على الذوق الفني بل و هيمنتها .
في الموسيقا الأفريقية غالبا ما يتم التماهي بين الجسد و الآلة إلى حد التقمص
إن موسيقا الجاز و البلوز لها طابع ردة فعل جماعية تجعل الفردية جزء من طقسها إنها تحرر جزئي و غيبوبة في تشابه لحني و اختلاف موضوعي في الجرس الصوتي و الإيقاع
وفي الشعر موسيقا الموسيقا محمولة لغويا و معادا إنتاجها
نيويورك –أوركسترا الجاز- البوق المنفرد
نيويورك بداية ذهلت بمفاتنك
مفاتن فتياتك الرائعات طويلات الساقين
في البدء تعاظم خجلي أمام عينيك الزرقاوين المعدنيتين
و ابتسامتك الجليدية
خجلت كثيرا و تولاني الضيق في ظلمة
شوارع ناطحات السحب التي تحدق بعيون صقر
إلى كسوف الشمس
جحيمي نورك و باهتة أبراجك
التي تحتك بالسماء و ناطحات السحب
التي تجابه العواصف بعضلات الفولاذ
و بجلود رخامية مصقولة
لبثت أسبوعين على ممرات مانهاتن العارية
في نهاية الأسبوع الثالث
هاجمتني الحمى بمخلب فهد
أسبوعان بلا أنهار و لا حقول و كل طيور
الهواء تسقط فجأة ميتة على الرماد
المرتفع للسطوح المستوية
أفتقد تورد بسمة الطفل يده ناضجة
في يدي
ليس من ثدي أم بل سيقان من البلاستيك
سيقان و أثداء بلا عرق و لا رائحة
ما من كلمة رقيقة /لا شفاه
بل قلوب مصنعة مدفوعة بالعملة الصعبة
مامن كتاب يمكن أن تجد فيه الحكمة
لوحة الفنان مزهرة بالمرجان
يا ليالي مانهاتن –ياليالي الأرق المشوب
بأضواء ترقص بينما تنبح أبواق المحركات في ساعات الراحة
بينما تحمل المياه
السود المضاجعات الصحية و تجرفه إلى البعيد كما تجرف الأنهار الطافحة جثث الأطفال
هذا زمن الإشارات و الحسابات
نيويورك-
هذا زمن المن و الزوفا
وما عليك سوى الإصغاء إلى الترومبيت الإلهية
أن تصغي إلى قلبك الخافق في يقاع الدم –إيقاع دمك
أبصرت في هارلم كرنفالا صاخبا و روائح
عابقة إنها ساعة الشاي عند موزع المنتجات
الصيدلانية
شاهدتهم يعدون احتفالا ليليا للهروب من النهار
إنها ساعة للصراخ حيث الله يصنع حياة الشوارع
فتشع العناصر الرهابية كالشموس
هارلم-هارلم
الآن أبصرت بهارلم نسمة قمح خضراء
تنبجس من البلاطات المحروثة بالأقدام
العارية للراقصين أرداف فرس-
نسيم يرف بالجريد و نهودا صلبة كالرماح
و باليه النيلوفر و الأقنعة الخرافية
وتحت سنابك خيل الشرطة تتدحرج مانجا
الحب من المنازل الخفيضة
و شاهدت على الأرصفة جداول الروم الأبيض
و جداول من الحليب الأسود في ضباب
سجائر زرقاء
شاهدت ندف القطن تتساقط أزهارا
من ثلج المساء
زهرا قطني اللون أجنحة ملائكة
و أقنعة سحرة
انصتي نيويورك إلى صوتك الذكري
النحاسي المتماوج بالأبواق
للأسى أسى العبرات المخنوقة
الدمع المتساقط على هيئة خثارات دم كبيرة
أنصتي لخفقان فؤادك الأسود الليلي البعيد
لإيقاع و دم –التام تم- دم التم تم و التم تم
دعي الدم الأسود يتدفق فيك
دعيه يزيل الصدأ عن فولاذ مفاصلك
كما يفعل زيت الحياة
ليعطي جسورك انحناءة أرداف الخيول
و لدونة العرائش
استعيدي الآن ذاكرتك السحيقة ووحديها
لتكمل مصالحة الليث و الثور و الشجرة
ادمج الفكر و العمل –الأذن بالقلب الإشارة بالمعنى
ثمة أنهار تصخب بتماسيح الكايمان
و تعج بعجول النهر عيونها بلون السراب
لا حاجة بك لابتكار حوريات البحر
حسبك فتح العيون على قوس قزح نيسان و حسبك فتح الآذان على الله
الذي من ضحكة ساكسفون خلق الكون في ستة أيام
و في اليوم السابع نام نوما زنجيا ثقيلا...
ليوبولد سنغور أورفيوس الأسود الشاعر الموسيقي و الموسيقي الشاعر
اشتغل على المنجز العالمي الفني الشعري –الموسيقي و أعطاه سمة مستمدة لا من الثقافة و المثاقفة بل من جذوره إن أثر السوناتات و الأناشيد و الرعويات كمنجز حضاري أوروبي طعم بغناء الأفارقة الشعراء- الكهنة وإن إرث باخ و شوبان و فاجنر و بتهوفن طعم بالتام تام و الكورات و البلافونغ .
و أخيرا الجاز ذلك الإرث الأفريقي الجذور الذي حول الشعر و الموسيقا إلى شكل جديد ملتهب و الذي اعتبره بوب ديلان قوة اجتماعية هو بالأساس اندماج بين تقاليد أفروأمريكية بل إنه الإرث الموسيقي الذي سيهيمن على عصرنا الراهن و الجاز لا شيء سوى الإيقاع و التحرر من القواعد و الارتجال
سنغور أورفيوس الأسود ألم يقل لا تكتمل القصيدة إلا إذا أصبحت أغنية كلاما و موسيقا
ألم يشر إلى نوع الآلة التي تغنى الكلمات على إيقاعاتها أو ألحانها
هذا الشاعر المدهش الأورفيوس الأسود استخدم قلمه كما استخدم أرمسترونغ بوقه
تكنيك الشاعر
تكنيك الموسيقي
الموسيقي و الشاعر يريان الوحدة في التنوع و يداومان على كسر التلقي بالتركيب و التفكيك و يعطيان مهان مشفرة على أساسها يتم التواصل مع المكونات الجمالية
الصياغة هي العمود الفقري للعمل و الميزان يعطيه جوا عاما و السرعة تعطي للحدث الجمالي حركيته و اللحن يعطيه الواجهة الجمالية و التنويع عليه هو تقليب للأفكار و التلاوين الصوتية تخلط و تمزج و تضيف و تكون الألحن و الأصوات و التظليل بمثابة مكياج لحني و الإيقاع إطار خارجي و علات داخلية و هنا التباس يوحي بالكثير هل نتكلم عن الشاعر أم عن الموسيقا أم كليهما
فالشعر أداة موسيقية لغوية تعطي لكل آلة ما تريده منها و لكل حنجرة ترنيماتها و لكل مخيلة فضاء
و أخيرا نتذكر قول ابن سناء الملك في وصفه لعروض الموشح :عروض الموشح باللحن مؤلفة علىالأرغن و الغناء بها على غيره مستعار و على سواه مجاز ما لها عروض إلى الضرب و لا أوتاد غير الملاوي ولا أسباب غير الأوتار .
و نتذكر إخوان الصفا (أن ا لغناء مركب من الألحان و الأحان من النغمات و النغمات من النقرات و الإيقاعات أصلها ساكن –متحرك و الأشعار مركبة من المصاريع و المصاريع من التفاعيل و التفاعيل من الأسباب و الأوتاد و الفواصل و أصلها حروف و حركات و سواكن .
الزنوجة:
ليوبولد سنغور من منظري الزنوجة:
إن الزنجي يشعر قبل أن يرى يتميز بقوة الانفعال و هو كائن حدسي و دائم الحوار مع الكائنات و يكون حرا وسط جماعته . إن فنه جميل و جماعي أغانيه رقصاته أقنعته .إن فنونه رمزية منفعلة لا تعتمد المحاكاة بل الانفعال فنهم ليس للتأمل بل لتحديد الهوية و الذات في شكل نمطي .
إن الإيقاع سمة الذات الزنجية معبرا عنه بالعمارة و النحت و الرسم و الشعر و الموسيقا و الرقص أهم مميزاته عدم التناظر و ل يعتمد التكرار إن الحس الإيقاعي كخفقات قلبه .
رامبو في (فصل في الجحيم) قال أنا زنجي بمعنى أن إيقاعاته غريزية و نحن المنفتحون على المطر و الشمس و الحضارات نحتاج أفضل ما في الروح الأوروبي فهي تجذر من جهة و اجتثاث من جهة أخرى فهي تؤكد الحضارات الأفريقية و تأصلها .
إن علاقة الذات بالذات جوهر كل شعر و الذات تنتمي لأفريقيا سرة العالم الزيتية مثل جلد أفعى أفريقيا النار و المطر أفريقيا قارة في الخيال .
إن الزنوجة هي معرفة الذات عبر السجون الثقافية و إعلان العودة إلى الجذور .
الزنوجه موقف من العالم يأخذ طابع الفعل أكثر من العقل إنه عودة إلى التطابق مع الهوية و التماهي بين كينونة الذات و جذورها إنها طقوس إخصاب الطبيعة و ممارسة الحب معها.
إن تاريخية العرق الزنجي أصبحت ضرورة و أداة تحرر إنها عرقية مضادة للعرقية إن الزنوجة وسيلة عبور لتحقيق هدف مجتمع لا عرقي أسطورة حزينة ولدت من الشر توتر بين ماض لا سبيل إلى العودة إليه و بين مستقبل يحتاج قيما جديدة .
أثناء دراسة سنغور كان يكتب في مجلة الدفاع المشترك هو وليون داماس و ايميه سيزار كسرياليين ثم انصرفوا عن السوريالية و الشيوعية داعين إلى مقاومة ثقافية تمثلت في الزنوجة.
كان أندريه بروتون أحد مؤسسي الجلة و كان يبحث عن جمالية مغايرة تترسم رؤى الشعوب البدائية –ثم تحولوا إلى مجلة الطالب الأسود منظرين للزنوجة....
ختاما تحية لسنغور شاعر أفريقيا الموشومة بالنار و القارة التي تسكن المخيلة ...
الصرخة أول شكل من أشكال الشعر و اللغة و الموسيقا و الصرخة توسم من خارج اللغة لالتقاط الوعي الإيقاعي فهي ليست جهدا لغويا في البداية بل محاولة لترسم حالة أو ظاهرة وتقليدها لحنيا و دلاليا في موائمة بلا معنى ثم تحويلها عبر اللغة و الشعر إلى خبرة
و من هنا كانت نشأة الشعر و الموسيقا لغة لا مألوفة تلاحق الإيقاع و الوزن و من هذه البدايات الشفوية و امتلاكنا للذاكرة السمعية التي تخزن و تضيف و تمحو العلامات انبثق عمود الشعر كتراث شفوي يعتمد على تعاقب أزمنة قوية و أزمنة ضعيفة و الإيقاع الذي يملأ الفاصل بين زمنين قويين انتزع لنفسه وجودا مستقلا و مؤسسا لكل من الموسيقا و الشعر .
الذات البشرية الممتزجة بالكون جسدت المسافة بين ظواهر محيطها الحيوي المدركة حسيا و عتبات شعورها المتنامي بالمسافة بين هذه الذات و محيطها بالمحاكاة محولة كل ما يلامس إدراكاتها الأولية إلى إيقاعات تترجم بالهمهمة و التمتمة و الصراخ ممتمثلة الحركة و الإيقاع و الصورة عبر هذه الصرخة –الكلمة-الفعل-الإيقاع تم رصد المعنى الذي يتغير تبعا للمسافة بين الشيء –الفعل- وحركيته عبر هذا الجرس اللفظي –الدالة الصوتية بإعادة إنتاجه تحول إلى الشيء و معناه عبر تعقب مسارات رنينه بالإنابة الصوتية التي تحولت إلى كلمة تختزن مسارات المعنى و تعبر عنه حسيا و ادراكيا و في مرحلة لاحقة لغويا
لا يمكن لنا القول أن ترسيمة ما تطابق ما ذهبنا إليه أنه في البدء كان الإنسان فالموسيقا فاللغة فالشعر و بالتالي الصرخة أول شكل موسيقي و لغوي و شعري
ما من لغة إلا و جذرها الأولي محاكاة و حتى في مراحل التعبير الأولي الأبجدي منها اختزلت علاقاتها إلى هيروغليف سمعي –بصري مجموعه مجموعة علاقاته الصوتية و صورها و هي تتحول إلى جملة مستلهمة توافقا إيحائيا يحس دون أن يفسر ثم يجرد إلى رمز مغادرا هيروغليفيته التي لم يبق منها إلا ظلالا توحي بالبدايات التي يصعب التعبير عنها إلا عبر الامتزاج التوافقي بين لفظ و موسيقاه و تمثلاتهما العيانية إلى مدركات شتى تلاحق إيقاعا ما وتعطيه معنى وفقا لتراسل الحواس و مدركاتها لتحول الإيقاع –المعنى
هذه البداهة تمثل حالة أولية مؤسسة لكلا من اللغة و الموسيقا و الشعر و للعلاقة اللاحقة التفاعلية بين تحولات المعنى من الجذر الى النسغ إلى العلاقة بين فنين يتقاربان بالإيقاع والصوت ووسائل التعبير و يمتزجان ليصبحا فنا واحدا إذا أخذنا بالتخوم المتقاربة و أحيانا يبدوان لنا فنين مستقلين لا علاقة بينهما إلا علاقة النوع
اللغة تمثلت الإيقاع من المسافة بين الكلمة و ما تعبر عنه فهو ظاهرة خارجة عن اللغة و إن كانت تكتنزه و الشعر بتحوله عن التطابق بين الدال و المدلول و شحنهما بدلالات جديدة جمالية خاصة
اصطدم لعلاقته باللغة بما اصطدمت به اللغة و هي تجتاز المسافة بين الذات و العالم فأقامت تماثلا دلاليا ساكنا و منظومة جعلت أول مشكلات الشاعر التعامل مع معطياتها الساكنة –الإستاتيكية إلى لا شعورها حيث تنام علاقاتها بالأولي الذي يحتاج إلى خلخلة المعنى الساكن و منح الكلمات فضاءا مغايرا لتلامس معان جديدة و من ثم تخلق عالما يجعل الكلمة ضمن هذا الفضاء هي هي و لكن في علاقات جديدة لمعنى تمارس اصطفافاتها فيه عبر تغيير الإيقاع و بالتالي تغيير المعنى إنها إعادة خلق جديدة بشروط مختلفة
الكلمة مشحونة بفعل الخلق ككائن يمارس دوره حسب علاقات لازمة و متعدية و بالتالي إمكانات استخدام ممكناتها اللانهائية أحد أسرارها المقدسة التي لا تذعن إلا لانتهاك الشاعر الذي يوازي إعادة بعثها وخلقها أو نحتها في فضاء جديد تكون فيه هي هي و ليست هي بنفس اللحظة إلى أن تعاود تمظهراتها الجديدة أو تعود مصطفة في موات يحتاج إلى إعادة بحث و قيامة جديدة
من هنا تأتي عبقرية اللغة وعبقرية الكائن الشعري و هما يتبادلان اشتغالاتهما على أنفسهما و على العالم
كل تعبير عن النفس و عن العالم يحتاج لغة
لا شيء خارج العالم ولا شيء خارج اللغة
اللغة دون الكائن لا شيء و الكائن دون اللغة لا معنى له
و من هنا يأتي الاشتباك بين الكائن و اللغة وجها آخر للاشتباك بين الكائن و الكون و بين اللغة و الكون وهذان الكائنان لا يمكن أن يكون هذا التعالق النوعي بينهما بمستوى الحياة و إعادة الخلق إلا بين شاعر يعيد تسمية الأشياء و لغة مكتنزة و مشاكسة متحولة تقبل الدعوة إلى الدخول في طقس جديد مع شاعر لا يترجم إلى لغة
إذا اعتبرنا أن منشأ اللغة و جذرها صوتيا إيقاعيا فالصوت يستدعي النغم و اللون ثم يترجم إلى أفكار في علاقات تبادلية الكون في مفهومه اللغوي المستمد من وعي الذات البشرية له تجربة لفظية صوتية قبل أن يصبح مدركا و بما أننا محكومون بملاحقة هذه الظاهرة و إيقاعاتها فنحن نراه كمدرك أولي متناظر فهو في شكله الأولي ظاهرة لفظية متناغمة و إيقاعية و لغوية قابل للتشكل إلى ما لانهاية سحري شعري مموسق و منفتح على معان لا حدود لها
اللغة إحدى وسائل تعريفه بل كلها و بالتالي هي مماثلة له
الكائن الشعري خلق معادلا له اللغة و بها استشف إمكانية أن يتولى تعريف ذاته المنصهرة به وصولا إلى توالي حركة الاتصال و الانفعال المعرفة و عبر إيقاع الشيء –اللغة-العالم –و الذات و رصد الإيقاع و تحولاته و نقلها إلى اللغة –العالم بالإيقاع أدرك الإنسان ذاته و العالم كممارسة لغوية رمزية و باللغة ظل يتبادل عبر إيقاعاتها علاقاته التحولية الانفعال بامتلاك اللغة و خلق عالم بديل طقوسي ثقافي ممهدا للابتعاد عن التطابق بينه و بين العالم إلا عبر فضاء له ترجمة لغوية الطقس –الشعيرة
ففصل الفتش عن الطبيعة و أخذ صورها الأرواحية في التحول من الطبيعة إلى الثقافة إلى المجتمع مقيما عبر اللغة تواصله و اغترابه معا ككائن مدرك و اجتماعي
باللغة تحول الكائن البشري لامتلاك كينونة امتلكت أداة إتصالية قابلة للنقل و التعبير و التأثير في الوسط و الأشياء و الذات امتلك الكائن العاقل لغة و منها سن القوانين ووزع الآلهة تاركا لهم عبر ذاكرته و لغته و مخيلته أن يقيموا نظاما نسقه لغوي إنه انتقال من الفوضى إلى النظام باللغة الموسيقا الشعر
فصل أشياء الطبيعة عن الطبيعة و هز الأشياء تاركا لعفاريتها أن تنفصل عنها و تأخذه من مخيلته مسافة فتتحول إلى صور و أنماط و أدوات أول أداة امتلكها الكائن اللغة مغمسة بالسحر و الشعر و الموسيقا تهيمن على مفردات الوجود و لتجعله واقفا منتصبا يحدق في الأكوان و يتمثلها باللغة ورموزا و مكونات للفرد و الجماعة التي غالبا ما حولت مكابداتها الجماعية إلى مخيال إيقاعي تنتصر به الحياة على خلقها الأساسي –الموت- و الخوف من المجهول الفوضى إلى النظام في تدفق للأصوات و الحشرجات و الفرح عبر أروع آلة بشرية موسيقية الحنجرة و عبر اليد التي تعلمت أن تفكر و تعيد خلق العوالم من حولها و تمنحها لغة و ذاكرة معا
الموسيقا-الشعر
بانتقال الكائن البشري من فضاء الجماعة الطبيعي إلى الفضاء الاجتماعي نقل معه شعائره عبر أسرار إيقاع ناظم كانت الكلمات بالنسبة له مجرد جرس يتبع مسار التحول من الفوضى إلى تجاوزها من خلال طقس أولي ذو معنى ثم حدث التجاوز بانتقال الكلمة من صدى للحدث إلى فعل ينوب عنه من فضاء الطقس إلى باحة المعبد دخلت الكلمة –اللحن – اللغة وفي بعد مقدس و أسراري من الفرد إلى العشيرة ومن العشيرة إلى الملك .
هنالك تحول لغوي إيقاعي شعري مؤسس للتحولات الحضارية و هنالك انتقال من المقدس إلى الرمز و من الديني إلى المديني تحولت اللغة إلى أداة و قوانين و إكراهات بعد أن أنهت تجوالها الغابي اللا مدجن المنفتح الطبيعي تحولت إلى أداة اجتماعية تمارس الضبط و التنظيم مبتعدة عن دلالاتها الأولى الغامضة السرية البدائية من أداة تواصل إلى أداة سيطرة و بالتالي هربت من قمع و تدجين الشخصية التي تعيش بها محاولة الوصول إلى تكيف قهري فاستعانت مرة أخرى بجذرها اللا متعين لتصوغ خطابات مواربة بها الحنين إلى الأصل مقارنة بالحاضر و بها الهروب إلى الأمام مستعينة بالشعر و الإيقاع اللذان أكملا مرحلة في رحم اللغة المولد لينفصلا عنها جزئيا محتفظان بالحبل السري لعلاقتهما الجذرية مع أساسات اللغة في مفارقة و علاقات جديدة للأشياء و الجماعة .
انفصل الإيقاع عن الممارسة ليأخذ قيما خاصة به و انفصلت الكلمة عن تراتيبها و فيزيقيتها لتأخذ شكلا فنيا مستمدا من الكلمات الممسوسة بالمزاج و التي تعرف عن نفسها استنادا إلى تقاليد لغوية و خبرة حياتية .
الشعر في مرحلته اللاحقة انفصل عن الطبيعة إلى منجزه الإنساني اللغة و بالتالي صارت علاقته معها عبر وسيط و الموسيقا أصبحت علاقات متداخلة بين العالم و الفكرة ووقع للصخب و الصمت و فيزياء لدوي العالم الطبيعي و البشري يمكن ترجمته أدائيا و يمكن اللعب على ممكناته فلم تعد انعالات الشعر و الموسيقا حياتية بل فنية هذا التمفصل بين فنين امتزج في الشعر في صيغة تبادلية ليصبح كلا منهما جزء عفوي منالآخر و منفصلا عنه في الوقت نفسه
الشعر و الموسيقا:
تشبه العلاقة بين الشعر و الموسيقا حالة التوائم و التوأمة كفكرة لها تحولاتها مرة يكون التوائم نسختان متطابقتان لكل منهما هويته و مرة يكونان مختلفان لا رابط سوى القرابة و مرة يكونان جنسان مختلفان ذكر و أنثى و مرة يأتيان متلاصقان يمكن الفصل بينهما و أحيانا يشتركان بنفس المكونات فإذا ما فصلناهما يموتان معا .
من حيث المبدأ في العلاقات التبادلية بين الفنون هنالك مجاز في الرابطة المؤسسة بينهما تتباعد و تتقارب و أحيانا لا تلتقي و لكن العلاقة بين فني الموسيقا و الشعر هي الأقرب و نلمس الحضور العياني لكلا منهما في الآخر بحيث نحتاج إلى الفصل القسري بينهما لتبين ملامح كلا منهما بعيدا عن الآخر و صعوبة هذه الحالة تشبه التقريب بين فنين متباعدين في وجهها الآخر و إقامة روابط بينهما .
المؤرخ شبنغلر وزع الفنون كهاجس حضاري متصاعد و رأى أن لها قيمة تصاعدية حسب المرحلة التاريخية و حسب الفن النوعي المهيمن على حضارة ما و علاقته بها
للمصريين المعمار و لليونان النحت و للصين التصوير وللعرب الشعر و للغرب الموسيقا
وفق سلمه التفاضلي للنوع و الفنون أن آخر مرحلة تاريخية كان الشعر بها متعالقا مع الموسيقا تبنت الشعر العربي الذي سلم مفاتيح الحضارة و الموسيقا للغرب بعد أن نازعته السيادة لتنفصل عنه في هاجس حضاري مغاير .
ظلت الموسيقا في الشعر العربي مكونا رئيسيا يتبادل التأثر و التأثير مع الشعر فأخذت منه و عنه وسائلها لتعبر عن نفسها كذلك فعل الشعر .
الشعر ديوان العرب لم يمارس سيادة فنية فن من الفنون في ذائقة شعب ما كما السيادة المتوجة للشعر العربي على متلقيه و صانعيه صار يعرف بهم و يعرفون به .
اللغة العربية شاعرية بطبعها تصلح لشتى القوالب فهي منسجمة متحولة حتى ظان نثرها شعرا بها وفرة حتى أن هنالك ألف فعل للمعنى الواحد و مختزلة لدرجة أن كلمة تغني عن جملة شعرها موسيقا و موسيقاها شعر.
عندما تنقل قصيدة بيانها عن مفردات عالمها النصي تنقل معه إيقاع الحالة حتى لو كان المقصود توريتها و دخول حرف على تراكيبها يعادل دخول آلة موسيقية مرة عودا مرة نايا و مرة حسب معطيات هذه الآلة التي كثيرا ما تكون القصيدة مساوية لنغماتها و مفاتيحها جئير حزين للوتريات و إيقاع مهيمن للطبل وتريات ناعمة كصرخة
هنالك امتزاج قل نظيره بين الحرف و معناه تموج كلمة ماااء مساحة و علو السماااااء لكأن الحنجرة آلة موسيقية
في القصيدة العربية هناك اهتمام بالجرس قبل المعنى للسرد في اللغة موسيقاه عبر وحدات تتشابه و تختلف لتؤلف قطعة موسيقا
دوي الريح –خرير الماء صهيل الفرس رنين المعاني و صداها الداخلي يجعلها متقاربة لكل حرف رنينه صداه فضاؤه معناه النفسي و تحولاته الحرف فيها يعطي معناه ل(دقّ-هزّ-دبّ) فإن زيد معناه ضوعف هزهز (شد-دش) زمن ضعيف+زمن قوي الثانية معاكسة ولكل حرف فيزيولوجيته ولالته و ايقاعه الألف تسامي الهمزة للظهور الباء للحفر الحاء للحنين الثاء للرقة الهاء للتلاشي و الاهتزاز الكاف للاحتكاك السين للطلب إلخ ...
تقليد الأصوات في الطبيعة (ذر-شر) أصوات الفم (بت_قطع) المشاعر (أخ-أن-آه)ولك ما شئت و عن خصائص البحور توزعت إلى مميزات لكل بحر موسيقاه و طرقه فالكامل مثلا أجود في الخبر من لإنشاء و أقرب إلى الشدة له تحولات يصبح مطربا و تحولات يصبح راقصا يشتد إن شددته و يرق أن رققته و يصلح للمراثي و للقوافي القاف للشدة الدال للفخر الميم و اللام في الوصف الباء و الراء في الغزل.
الحرف و نغمته مضموم و مكسور و مفتوح و ما قبله متحرك و ما قبله ساكن أو ممدود بحرف علة
كل هذه تحولات ورنة الحرف في بحر غير في بحر آخر و على صعيد أنغام البحور الشعرية يمكن لنا أن نلاحظ مائة و أربعين نغما و أكثر من خمسة آلاف إيقاع .
وصف إخوان الصفا العلاقة بين الشعر و الموسيقا :الغناء مركب من الألحان و الألحان من النغمات و النغمات من النقرات و لإيقاعات أصلها ساكن و متحرك (الأشعر مركبة من المصاريع و المصاريع من التفاعيل و التفاعيل من الأسباب و الأوتاد و الفواصل و أصلها حروف و حركات و سواكن .)
لو أخذنا أية تجربة شعرية و بأية لغة كانت سنرى حضور الموسيقا ولو كان هنالك تعمد مقصود لغيابها من وجهة النظر و من التراكيب و من المزاج العام و سوف نرافق شاعرا على انغام الكورا والتام تام في قلب القارة الإفريقية مع شاعر موسيقي و موسيقى شاعر و بصحبة الموسيقى مع ليوبولد سنغور :
ولد سنة 1906-2003 في قرية سنغالية تسمى جوال ابنا لتاجر أنهى دراسته في السنغال و انتقل إلى جامعة السوربون ليصبح أستاذا للغة الفرنسية و أول أفريقي ينتسب للسوربون حصل على شهادة الدكتوراه و اتجه إلى العمل السياسي لينتخب نائبا في البرلمان الفرنسي ثم وزيرا في الحكومة الفرنسية كان من أهم المنظرين للزنوجة مع ايميه سيزار (أغاني الظلال –أغاني من أجل نايت –أهم مجموعاته قرابين سوداء-إثيوبيات-ليليات)
وبعد الاستقلال تولى رئاسة جمهورية السنغال بين عامي 1960-1980 و اعتزل متفرغا للأدب انتخب عام 1983 عضوا في الأكاديمية الفرنسية
تحضر الموسيقى و جمال المرأة الأفريقية في كل قصائده.
هنالك ثلاث مصادر لشعرية سنغور :التراث الشفوي الأفريقي الموسيقي و الشعري و اللذان لا يمكن الفصل بينهما الشعر وجد ليغنى و قد قام بالبناء عليه كمكون حضاري و تمثله و كانت علاقته به عودة إلى الينابيع .
الثقافة الفرنسية و مكوناتها و موسيقاها و شعرها علاقته بها علاقة ندية حيث يعيد استخدامها ليقول مكونات ضدها
الثقافة السوداء الأمريكية كأفريقيا وراء المحيط.
سنغور و التراث الشفوي الموسيقي الشعري الأفريقي :
الشعر في الأدب الشفوي الأفريقي ينشر على وقع التام تامات و الموسيقا سير الأسلاف و الملوك و الأمثال و يستخدم إضافة إلى الشعر الحركات و الرقصات و الأقنعة و الألبسة و غالبا ما يكون الموسيقي الشاعر تحت رعاية الزعامات فهو بمثابة ذاكرة تجلب أرواح الأسلاف من الأشجار و الحجارة إلى الكلمة لتأخذ بعدا روحيا و طقوسبا
وقعي يا أجراسا صغيرة
وقعي يا أيتها الألسن
وقعي يامجاديف
رقعة معلم الجذافين و سيدهم
آه ما أجدره و زورقه بمنشدي فادايوتا المنتصرة
و أنا أطالب بيدين تكلمان التام تام
وأربعين من العذارى المنشدات
وقعي سهما قان وقعي مخلبا في الظهيرة
وقعي ياخشخاشة الصدف خرير مياه عظيمة ...
ما أكثر ما جسد سنغور في شعره أغنيات و طقوس فالشعر عنده في هذا النوع من الأغاني تلاحق اللحن و توزيعاته وتقترب من معان تبدو من الخارج عفوية وبسيطة لكنها محملة برسائل مشفرة عن طبيعة الأشياء في حضور كأنه ليس للمغني و ليس للأغنية ولا للموسيقا بل للذاكرة الموشومة لأسرار مقدسة وقد أعطتها الموسيقا الجو العام و الكلمات الرموز .
الشعر و الموسيقا في أية حضارة جذرهما طقوسي فهما ممتزجان بالمقدس و الأسراري و الأرواحي وميزة هذه القصائد التي نسجت محاكاة لقصائد الطقس عند سنغور أنها كانت تمثل هدية ما ظلت مهيمنة تاريخيا حتى مجيء الرجل الأبيض إلى أفريقيا و من هذا التراث الذي ضاع منه الكثير بقيت لنا منه ترسبات جوهرية .
في الممالك الأفريقية القديمة مارس الشاعر دور الذاكرة و الكاهن و الموسيقي و صارت موسيقا و أشعار التقاليد على يديه تأخذ بعدا ثم حذف ما لا يناسب تراتبية البلاط و بالتالي ثم نقل من الجانب العملي و الديني إلى الجانب الاجتماعي و هذا الانتقال من مجال الفعل المباشر الغابي إلى المجتمع الملكي تطورت أدوات ووسائل الايصال من الكلمة و اللحن و الأدوات فصارت أقرب إلى الموسيقا الباروكية المستخلصة من عدة مصادر لتأخذ بعدا جديدا له صلة بالماضي و يحاول أن يقيم علاقة مع الحاضر بل و يتكيف معه على صعيد الاشتغال على الكلمة و اللحن و الطقس و بعثهما بما يتلاءم مع ما يتطلبه الراهن صحيح أن طابع العلاقة بينهما يبدو معزولا عن وسطه و متكلفا في لحظته التي غدت ثقافية لكن هذه هي فرصته الوحيدة من الاندثار .
وقد تلمس سنغور من خلال معرفته لأدوات تلق جديدة في حضارة مغايرة أن يبحث عن لحظة شعرية و موسيقية في مرحلة من مراحل شعره متماهيا مع باروك أفريقي على طريقته فأغاني الطقوس والصيد و الحرب و الحب و السلام و الأساطير تم بعثهما على يديه مخلعة من بعدها الذي أنتجها إلى بعد ثقافي بعيد التعامل معها كائن يعرف عن نفسه مقارنة مع الآخر كما في هذه الأغنية التي حدد لها موسيقا مرافقة قيثارتين :
نسجت لك أغنية
بألحان ندية
كأنها زجل الحمام
على الخلام
ذي الأوتار الأربع
صديقي الناعس و أنا أنسخ لك الأغنية
لكنك لم تسمعي ...
في هذه الأغاني يتم التواصل مع منجز غنائي موسيقي جديد يشبه أغاني المنشدين و أغاني التروبادور و الموشحات سواء باللحن أم بالكلمات أو في الدلالات الفنية و الموسيقية و الجمالية و يبدو الأثر الفني حتى على صعيد المكان الذي تهيمن موسيقاه المغربية التي تجمع بين الشرق و أفريقيا و الأندلس :
ترى هل كانت ليلة مغربية
ها أنا أترك موغاردو
للفتيات الذهبية
هل كانت ليلة مغربية
أجل و كانت (جوالية) من قبل أن آتي إلى الحياة
جوالية:بلدة الشاعر
إنها أغنية من أجل مزمارين و تام تام بعيد
اللحن الإيقاع التمثل طريقة الوصف هنا توجد هيمنة لحنية شعرية لغنائية المغرب للموشحات و صلتها مع أفريقيا التي تأتي ممثلة في التام تام البعيد .
الثقافة الفرنسية شعرا و موسيقا و نمط حياة يمكن لنا القول أن ليوبولد سنغور الذي لم يكتب إلا بالفرنسية كان موزعا بين ذاكرته و بين عقله فهو قد تمثل الثقافة الفرنسية من موقع المتلقي أولا و عن طريقها تعرف إلى العالم ثم إلى مكوناته الذاتية الشخصية و الحضارية و قد لمحنا أثر تلك الثقافة في شعره و موسيقاه عدا عن اللغة التي هي بالأساس نمط تقكير أو منفى آخر على رأي محمد ذيب إن اصطدامه الواعي بالآخر ثقافيا حرض أول ما حرض فيه الجذور التي تسري في دم أي أفريقي فحرص على أن يمدها بنسغ جديد معرفي و يصفها كموضوعة حضارية لتكون وطنا في الدم و اإيقاع و القصيدة .
أفريقيا-السنغال عند سنغور هي ليست أفريقيا المقيم إنها أفريقيا الإيقاع –إنها العربدة الداخلية –و التفرس في الظلال حتى في أغانيه استخدم آليات توزيع جديدة مستمدة من التراث الشعري الأوروبي من الأداء إلى الشكل إلى الأثر الكلامي إنها أفريقيا تشبه سنغور الذي استخدم الكلمة كما يستخدم مؤلف موسيقي المفاتيح الموسيقية ووزعها في فضاء يحمل إيقاعاتها الصاخبة ولكن الموظفة لتؤدي وظيفتها داخل عمل فني .
الأمر اللافت والمثير للجدل و الاستغراب أن سنغور استخدم كل الأنواع لشعرية و الموسيقية منذ عصر النهضة إلى الفنون الشعرية و الموسيقية الحديثة إضافة إلى موروثه الأفريقي و في لغة أخرى لتأتي النتيجة أفريقية الملامح و الهوية و في هذا تكمن عبقرية منظر الزنوجة :
يا ليلة الطفولة/يا ليلة زرقاء
يا ليلة شقراء
يا أيها القمر
كم مرة واعدتني
على أطراف الدروب
أنا الملوح بالحزن و المرارة
أبكي على شبابي الراحل
بالدموع ...
إن في هذه البكائية شكلان فنيان موسيقيا و شعريا لها طابع موسيقي يأخذ شكل اللحن الوداعي الراكوييم وشكل الترسل الذي في السوناتا شعريا و ليس موسيقيا كأنما اللحن الحزين المنساب لرجل يحتضر و تأتي طفولته و أماكنه الأولى ككلمات احتفال بالحياة و للحن جنائزية موجبة إنه موزارت يبكي على نابليون العائد إلى فرنسا جثة .
مع لمعات الأصوات الطفولية من أناشيد بصوت طفولي لقداسات باخ :
الزوبعة تصادر كل شيء
أوراقي .ثرثرتي
في الصمت تزمجر
تاركة للسلام أن يحلق على يباسها
و مطرها الراحل
أيتها العاتية
يا رياح الفصول النضرة
دعي النار تلتهم الزهر الأفكار السخيفة
و اسق الرمال على كثبان القلوب
......
لتحرقن النار صوتك-شهوتك
النار التي تضيء سواد أيامي
بجذوع النخيل و بالسعف
أيها الروح أجج شفتي القانيتين بنارك
و انضج الأنغام على أوتار (كوراي)
ليخرج نشيدي مدويا
كذهب غالام النقي
إنه تمثل واع لغضب الطبيعة و الأقدار صوت الشاعر و قد استعار جموح العاصفة كحركة تغيير و عنفوان و لهب مقدس إنها كوراليون بتهوفن و قد مهد لعاصفته الموسيقية في تصاعد لحظي قدري رمزي عاصفة بيتهوفن في مجاهل غابة أفريقية تتراقص على آلة من 32 وترا تجعل العواطف التي مستها بروق العاصفة تتجوهر و تفصح عن نفسها شعرا و موسيقا و عناصر في انفعال محسوس صوتيا و لحنيا و لغة في مطابقة و تمثل موضوعي للعاصفة عبر الصوت و الصدى و التجسيم بحيث نختار أيهما أقدر على ترجمة الداخل المتماهي مع الخارج الكلمة أم إيقاعها اللحن أم الكلمة الذي يتحول إلى تلاقيات لعناصر متوترة تعبر عن الجموح بشكل مجرد لا يحاكي الطبيعة بل عملها فعندما تتعب الكلمات و الإشارات تنبثق الموسيقا
عبر الانسجام و التنافر بين ىالعلو و الهبوط و اللين و الشدة في تجل لروح الشعر-الموسيقا و الموسيقا-الشعر
ابتهجي اسمك يا ناعت
متغنيا بك يا ناعت
ناعت
إن اسمك لطيف كالقرفة
عبير ينام فيه شجر الليمون
ناعت
إن اسمك نكهة من اللبن مزهرة
محاكاة للسافانا المبرعمة
تحت شبق شمس الظهيرة المذكر
اسم الندى و ظلال التمرحنة
غروب قصير العمر لشمس تصمت
ناعت التماع البرق /عملة الذهب
و الفحم المشع
ناعت
يا ليلي يا شمسي
أنا فارسك عرافك الذي يتغنى بأسمائك
يا أميرة اليسا
أيتها المنفية من فوتا في اليوم المشؤوم
هذا النص مادة صوتية إن تحوله إلى مادة مكتوبة يساوي قتل لإمكاناته التعبيرية و جرسه الظلال الموسيقية تعطي كلماته إلى النفس ولا تبقيه في المجرد و بالتالي تجسمه ذهنيا و حسيا و إشاريا إنها موسيقا الخلق الكلام –الجرس تتردد عبر أول آلة و أعرق آلة عرفتها البشرية –الحنجرة .
النص جمالية نغمية ملاحقة للرنين قبل الكلمات و تفكير بالنغم قبل المعنى انتزاع قطعة من الأبدية و تحريرا للشغب من الصمت و للعواطف من العقل .
إنها اشتغالات ديبوسي على ظهيرة الفون لمالارميه عبر مركباته الهارمونية الطفولية الرؤيوية في إعادة إنتاج الحساسية و مهرها بالموسيقا و ترجمة هذه الدالات إلى تجريد عبر الموسيقا في تعبير عن المشاعر دون دوافعها عبر ملاحقة اللمسات الهاربة و السراب و الانتقال من المحدود إلى اللانهائي .
الصانع الأمهر عزرا باوند قال في إحدى مقالاته : لا تظن أن فن الشعر أبسط من الموسيقا لن يكون بوسعك إمتاع الذواقة قبل أن تبذل جهدا يعادل ما يبذله أستاذ البيانو .
الشاعر يتصرف كالموسيقار من حيث اعتماده طبقة النغم و ضخامة الأوركسترا في إيقاع الشعر نغمات مختلفة متزامنة كالنغم الخلفي للأرغن و حين يطابق الإيقاع ظل العاطفة يمتلك خصوصيته فالسيطرة على فن معين هي عمل الحياة كلها .
في شعر سنغور نجد الإرث الموسيقي العالمي محملا عبر الشعر بنكهة أفريقية و نجد كذلك تاريخية كلا من الشعر و الموسيقا بوصفهما فنا واحدا . من الباروك إلى الجاز عبر التقاط تداعيات العالم في قصيدة فنقرأ دخول حرف كدخول آلة موسيقية طبلا كمانا بيانو و نرى المسافات الصوتية تساوي الآلات بنغماتها و مفاتيحها و إيقاعاتها و تاريخيا يمكن لنا القول أن الموسيقا الأفريقية فرضت في عصرنا الحاضر سيادتها على الذوق الفني بل و هيمنتها .
في الموسيقا الأفريقية غالبا ما يتم التماهي بين الجسد و الآلة إلى حد التقمص
إن موسيقا الجاز و البلوز لها طابع ردة فعل جماعية تجعل الفردية جزء من طقسها إنها تحرر جزئي و غيبوبة في تشابه لحني و اختلاف موضوعي في الجرس الصوتي و الإيقاع
وفي الشعر موسيقا الموسيقا محمولة لغويا و معادا إنتاجها
نيويورك –أوركسترا الجاز- البوق المنفرد
نيويورك بداية ذهلت بمفاتنك
مفاتن فتياتك الرائعات طويلات الساقين
في البدء تعاظم خجلي أمام عينيك الزرقاوين المعدنيتين
و ابتسامتك الجليدية
خجلت كثيرا و تولاني الضيق في ظلمة
شوارع ناطحات السحب التي تحدق بعيون صقر
إلى كسوف الشمس
جحيمي نورك و باهتة أبراجك
التي تحتك بالسماء و ناطحات السحب
التي تجابه العواصف بعضلات الفولاذ
و بجلود رخامية مصقولة
لبثت أسبوعين على ممرات مانهاتن العارية
في نهاية الأسبوع الثالث
هاجمتني الحمى بمخلب فهد
أسبوعان بلا أنهار و لا حقول و كل طيور
الهواء تسقط فجأة ميتة على الرماد
المرتفع للسطوح المستوية
أفتقد تورد بسمة الطفل يده ناضجة
في يدي
ليس من ثدي أم بل سيقان من البلاستيك
سيقان و أثداء بلا عرق و لا رائحة
ما من كلمة رقيقة /لا شفاه
بل قلوب مصنعة مدفوعة بالعملة الصعبة
مامن كتاب يمكن أن تجد فيه الحكمة
لوحة الفنان مزهرة بالمرجان
يا ليالي مانهاتن –ياليالي الأرق المشوب
بأضواء ترقص بينما تنبح أبواق المحركات في ساعات الراحة
بينما تحمل المياه
السود المضاجعات الصحية و تجرفه إلى البعيد كما تجرف الأنهار الطافحة جثث الأطفال
هذا زمن الإشارات و الحسابات
نيويورك-
هذا زمن المن و الزوفا
وما عليك سوى الإصغاء إلى الترومبيت الإلهية
أن تصغي إلى قلبك الخافق في يقاع الدم –إيقاع دمك
أبصرت في هارلم كرنفالا صاخبا و روائح
عابقة إنها ساعة الشاي عند موزع المنتجات
الصيدلانية
شاهدتهم يعدون احتفالا ليليا للهروب من النهار
إنها ساعة للصراخ حيث الله يصنع حياة الشوارع
فتشع العناصر الرهابية كالشموس
هارلم-هارلم
الآن أبصرت بهارلم نسمة قمح خضراء
تنبجس من البلاطات المحروثة بالأقدام
العارية للراقصين أرداف فرس-
نسيم يرف بالجريد و نهودا صلبة كالرماح
و باليه النيلوفر و الأقنعة الخرافية
وتحت سنابك خيل الشرطة تتدحرج مانجا
الحب من المنازل الخفيضة
و شاهدت على الأرصفة جداول الروم الأبيض
و جداول من الحليب الأسود في ضباب
سجائر زرقاء
شاهدت ندف القطن تتساقط أزهارا
من ثلج المساء
زهرا قطني اللون أجنحة ملائكة
و أقنعة سحرة
انصتي نيويورك إلى صوتك الذكري
النحاسي المتماوج بالأبواق
للأسى أسى العبرات المخنوقة
الدمع المتساقط على هيئة خثارات دم كبيرة
أنصتي لخفقان فؤادك الأسود الليلي البعيد
لإيقاع و دم –التام تم- دم التم تم و التم تم
دعي الدم الأسود يتدفق فيك
دعيه يزيل الصدأ عن فولاذ مفاصلك
كما يفعل زيت الحياة
ليعطي جسورك انحناءة أرداف الخيول
و لدونة العرائش
استعيدي الآن ذاكرتك السحيقة ووحديها
لتكمل مصالحة الليث و الثور و الشجرة
ادمج الفكر و العمل –الأذن بالقلب الإشارة بالمعنى
ثمة أنهار تصخب بتماسيح الكايمان
و تعج بعجول النهر عيونها بلون السراب
لا حاجة بك لابتكار حوريات البحر
حسبك فتح العيون على قوس قزح نيسان و حسبك فتح الآذان على الله
الذي من ضحكة ساكسفون خلق الكون في ستة أيام
و في اليوم السابع نام نوما زنجيا ثقيلا...
ليوبولد سنغور أورفيوس الأسود الشاعر الموسيقي و الموسيقي الشاعر
اشتغل على المنجز العالمي الفني الشعري –الموسيقي و أعطاه سمة مستمدة لا من الثقافة و المثاقفة بل من جذوره إن أثر السوناتات و الأناشيد و الرعويات كمنجز حضاري أوروبي طعم بغناء الأفارقة الشعراء- الكهنة وإن إرث باخ و شوبان و فاجنر و بتهوفن طعم بالتام تام و الكورات و البلافونغ .
و أخيرا الجاز ذلك الإرث الأفريقي الجذور الذي حول الشعر و الموسيقا إلى شكل جديد ملتهب و الذي اعتبره بوب ديلان قوة اجتماعية هو بالأساس اندماج بين تقاليد أفروأمريكية بل إنه الإرث الموسيقي الذي سيهيمن على عصرنا الراهن و الجاز لا شيء سوى الإيقاع و التحرر من القواعد و الارتجال
سنغور أورفيوس الأسود ألم يقل لا تكتمل القصيدة إلا إذا أصبحت أغنية كلاما و موسيقا
ألم يشر إلى نوع الآلة التي تغنى الكلمات على إيقاعاتها أو ألحانها
هذا الشاعر المدهش الأورفيوس الأسود استخدم قلمه كما استخدم أرمسترونغ بوقه
تكنيك الشاعر
تكنيك الموسيقي
الموسيقي و الشاعر يريان الوحدة في التنوع و يداومان على كسر التلقي بالتركيب و التفكيك و يعطيان مهان مشفرة على أساسها يتم التواصل مع المكونات الجمالية
الصياغة هي العمود الفقري للعمل و الميزان يعطيه جوا عاما و السرعة تعطي للحدث الجمالي حركيته و اللحن يعطيه الواجهة الجمالية و التنويع عليه هو تقليب للأفكار و التلاوين الصوتية تخلط و تمزج و تضيف و تكون الألحن و الأصوات و التظليل بمثابة مكياج لحني و الإيقاع إطار خارجي و علات داخلية و هنا التباس يوحي بالكثير هل نتكلم عن الشاعر أم عن الموسيقا أم كليهما
فالشعر أداة موسيقية لغوية تعطي لكل آلة ما تريده منها و لكل حنجرة ترنيماتها و لكل مخيلة فضاء
و أخيرا نتذكر قول ابن سناء الملك في وصفه لعروض الموشح :عروض الموشح باللحن مؤلفة علىالأرغن و الغناء بها على غيره مستعار و على سواه مجاز ما لها عروض إلى الضرب و لا أوتاد غير الملاوي ولا أسباب غير الأوتار .
و نتذكر إخوان الصفا (أن ا لغناء مركب من الألحان و الأحان من النغمات و النغمات من النقرات و الإيقاعات أصلها ساكن –متحرك و الأشعار مركبة من المصاريع و المصاريع من التفاعيل و التفاعيل من الأسباب و الأوتاد و الفواصل و أصلها حروف و حركات و سواكن .
الزنوجة:
ليوبولد سنغور من منظري الزنوجة:
إن الزنجي يشعر قبل أن يرى يتميز بقوة الانفعال و هو كائن حدسي و دائم الحوار مع الكائنات و يكون حرا وسط جماعته . إن فنه جميل و جماعي أغانيه رقصاته أقنعته .إن فنونه رمزية منفعلة لا تعتمد المحاكاة بل الانفعال فنهم ليس للتأمل بل لتحديد الهوية و الذات في شكل نمطي .
إن الإيقاع سمة الذات الزنجية معبرا عنه بالعمارة و النحت و الرسم و الشعر و الموسيقا و الرقص أهم مميزاته عدم التناظر و ل يعتمد التكرار إن الحس الإيقاعي كخفقات قلبه .
رامبو في (فصل في الجحيم) قال أنا زنجي بمعنى أن إيقاعاته غريزية و نحن المنفتحون على المطر و الشمس و الحضارات نحتاج أفضل ما في الروح الأوروبي فهي تجذر من جهة و اجتثاث من جهة أخرى فهي تؤكد الحضارات الأفريقية و تأصلها .
إن علاقة الذات بالذات جوهر كل شعر و الذات تنتمي لأفريقيا سرة العالم الزيتية مثل جلد أفعى أفريقيا النار و المطر أفريقيا قارة في الخيال .
إن الزنوجة هي معرفة الذات عبر السجون الثقافية و إعلان العودة إلى الجذور .
الزنوجه موقف من العالم يأخذ طابع الفعل أكثر من العقل إنه عودة إلى التطابق مع الهوية و التماهي بين كينونة الذات و جذورها إنها طقوس إخصاب الطبيعة و ممارسة الحب معها.
إن تاريخية العرق الزنجي أصبحت ضرورة و أداة تحرر إنها عرقية مضادة للعرقية إن الزنوجة وسيلة عبور لتحقيق هدف مجتمع لا عرقي أسطورة حزينة ولدت من الشر توتر بين ماض لا سبيل إلى العودة إليه و بين مستقبل يحتاج قيما جديدة .
أثناء دراسة سنغور كان يكتب في مجلة الدفاع المشترك هو وليون داماس و ايميه سيزار كسرياليين ثم انصرفوا عن السوريالية و الشيوعية داعين إلى مقاومة ثقافية تمثلت في الزنوجة.
كان أندريه بروتون أحد مؤسسي الجلة و كان يبحث عن جمالية مغايرة تترسم رؤى الشعوب البدائية –ثم تحولوا إلى مجلة الطالب الأسود منظرين للزنوجة....
ختاما تحية لسنغور شاعر أفريقيا الموشومة بالنار و القارة التي تسكن المخيلة ...