مثل حكاية بصرية قصيرة وممتعة
منحوتات محمد بعجانو امتازت ببلاغاتها التعبيرية وظرافة شكلها
غازي عانا
في معرضه الأحدث بصالة ( الآرت هاوس) بدمشق يقدم محمد بعجانو بحدود الثلاثين عملاُ خلاصة مغامراته مع الكتلة والفراغ المدروسين أكثر هذه المرة في كل من الحجر والخشب كمادتين أساسيتين اعتاد النحات الاشتغال عليهما، وهو المعروف لدى متابعي المشهد التشكيلي السوري منذ بداية التسعينات من خلال منحوتاته اللطيفة التي تمتاز ببلاغاتها التعبيرية وظرافة شكلها الذي تعلنه تدريجياً، مثل حكاية بصرية قصيرة وممتعة في سردها للتفاصيل الحميمة أحياناً، من حيث استنادها على الأسطورة والحكايات الشعبية التي تشكـّل جزءاً مهمّاً من ثقافة أهل المنطقة، والفنان المهتم بتاريخ فن وحضارة سوريا القديمة .
.................................................
هو في هذا المعرض لاحظنا اختلافاً ولو بسيطاً في اعتماده على اختزال الكتلة وإلغاء الفراغ الغير مبرّر في أحيان كثيرة لصالح النهوض الأرشق والأكثر حيوية لعمله الذي بدا أيضاً أقل تزيناً، وهذا برأيي ما يمنح المنحوتة قيماً تعبيرية مُتضمّنة بالتأليف ومكتفية بما بقي من الشكل كحالة جمالية راقية، تاركاً للمتلقي وخياله إكمال المهمّة في التعرّف أكثر على ماهية الموضوع إذا رغب بالمزيد، وهذه حالة إيجابية تٌسجّل لصالح العمل الفني كحالة إبداعية متفرّدة بعيداً عن الأدب ودهشته الأولى والاكتفاء بحلاوة مظهره التي قد تهم شريحة واسعة من المقتنين.
تتميّز أعمال "بعجانو" على اختلاف تقنياتها والصياغات، بفيض العاطفة والحب، من تدفـق المشاعر الإنسانية النبيلة التي تنعكس من روح الفنان ومن داخل عمله النحتي على حدّ سواء، النحت المتقشّف بتفاصيله والمكتفي بأسرار المعرفة والدهشة التي تخصّه دون غيره، وهي هنا أكثر ما تظهر في تماهي بعض الشكل كدلالة ليؤجل البوح بما تبقى منه للمتلقي أن يفكّر أكثر ولتكون مفاتيح حوار مع العمل أو النحات على شكل أسئلة وبداية حديث حول طريقة تفكير وقناعات "بعجانو" الخاصة في الفن والحياة، وهذه بحدّ ذاتها حالة غالباً ما يستفيض في شرحها الفنان بمتعة مضيفاً لمن يرغب من خلالها كثيراً من أسرار تلك المعرفة والثقافة التي تخصّه بالإضافة إلى تحليله وفهمه لتاريخ الحضارة والفنون السورية القديمة التي يبني عليها كأساس ومصدر ثري لأفكاره وحتى صياغاته للعمل الذي يبدو أحياناً وكأنه أقرب إلى اللقى الأثرية التي تخصّ ثقافة وقناعة "بعجانو".
بشكل عام نلاحظ أنه بكثير من الحلم وبعض الواقع وقليل من الأدوات ما زال يجتهد هذا النحات في البحث عن حلول جمالية وتعبيرية جديدة لمشروعه الجميل، وضمن مجموعة من المعطيات الحسية والجماليات البسيطة، وهي تأتي كمحصّلة طبيعية لعلاقته المميّزة بعمله الفني الذي يرى من خلاله ذاته وروحه ومدى قدرته على التخيّل والحلم، ذلك الكائن الذي يحمل في مضمونه خصائص وطبائع الفنان الغير منظورة بالنسبة له على الأقل، وهذه غاية لا تدرك إلاّ من خلال ما يكتشفه أو يبدعه في كل مرة .
تمتاز أعمال " بعجانو " في معظم معارضه بتنوّع صياغاتها أحياناً أو خاماتها، وإن غلب عليها شكل المعلّقات الجدارية التي ميّزت عمله لفترة من الزمن، لاسيّما تلك الأقنعة التي يلبسها لوجوه منحوتاته الصغيرة المتجاورة التي تبدو وكأنها آتية من الماضي السحيق، مع تأكيد واضح على استيعابه للصياغات المعاصرة، وهنا أتذكر قول يعجبني له في لقاء قديم : ( في الغالب يأخذ النحت منحى وظيفياً، هذا ما اعتدنا عليه، في الواقع هدفنا آخر، نحن نسعى للوصول إلى حقيقة تشير إلى أن ثمة ثقافة سورية ممتدة في هذه البيئة، والقناع قديماً كان حالة ذوبان للفرد في شخصية الجماعة، مثلاً عندما كانت تحدث الأعياد الدينية أو الموسمية، كانت الجماعات البشرية تلبس القناع وترقص، ترقص حتى النشوة و الذوبان ) .
اعتاد الفنان في معارض سابقة أن يناغم أو يولـّف فيها بين تلك الوجوه (ماسكات) والطيور ومجموعة البيوتات وأسماك وسواها من المفردات اللطيفة التي تتزاحم على الحضور في أعماله تلك، لتتناغم مع بعضها بتوشيحات من الزجاج وأحياناً من المعدن وغيرها من المواد التي يلوّن فيها مشاهده التي تنزاح بوضوح في أكثر الأحيان باتجاه أجواء الأسطورة والحكاية الشعبية بسردها المشوّق .
في هذا المعرض والذي برأيي هو الأفضل من حيث تنوّع الصياغات لنفس الموضوعات التي يفضل الخوض فيها بمزاج خاص ما زال يتميّز به عن غيره من النحاتين المشتغلين في نفس المواد والمواضيع أحياناً، لتقديمه الحالة التعبيرية على الجماليات والتزيين وتلك الدهشة التي مازالت تحدثها أعماله دائماً، ولكن هذه المرّة ربما تحتاج لأكثر من مشاهدة وتمعّن أو تفكير، وهذه غاية لا تدرك للفن بشكل عام وفي النحت بشكل خاص، هذا الفن الذي يتطلّب من الفنان مجهوداً اكبر وحالة من الصفاء الذهني والشرود في فضاءات الحلم لبعض من الواقع الجميل المفترض في أي عمل على اختلاف صياغاته.
تحية إلى النحات محمد بعجانو هذا المعرض المتميّز، وإلى النحت ( التعب الجميل )، هذا الفن الآسر والمُتضمّن حكايا المتعة للبصر والنشوة للبصيرة.
منحوتات محمد بعجانو امتازت ببلاغاتها التعبيرية وظرافة شكلها
غازي عانا
في معرضه الأحدث بصالة ( الآرت هاوس) بدمشق يقدم محمد بعجانو بحدود الثلاثين عملاُ خلاصة مغامراته مع الكتلة والفراغ المدروسين أكثر هذه المرة في كل من الحجر والخشب كمادتين أساسيتين اعتاد النحات الاشتغال عليهما، وهو المعروف لدى متابعي المشهد التشكيلي السوري منذ بداية التسعينات من خلال منحوتاته اللطيفة التي تمتاز ببلاغاتها التعبيرية وظرافة شكلها الذي تعلنه تدريجياً، مثل حكاية بصرية قصيرة وممتعة في سردها للتفاصيل الحميمة أحياناً، من حيث استنادها على الأسطورة والحكايات الشعبية التي تشكـّل جزءاً مهمّاً من ثقافة أهل المنطقة، والفنان المهتم بتاريخ فن وحضارة سوريا القديمة .
.................................................
هو في هذا المعرض لاحظنا اختلافاً ولو بسيطاً في اعتماده على اختزال الكتلة وإلغاء الفراغ الغير مبرّر في أحيان كثيرة لصالح النهوض الأرشق والأكثر حيوية لعمله الذي بدا أيضاً أقل تزيناً، وهذا برأيي ما يمنح المنحوتة قيماً تعبيرية مُتضمّنة بالتأليف ومكتفية بما بقي من الشكل كحالة جمالية راقية، تاركاً للمتلقي وخياله إكمال المهمّة في التعرّف أكثر على ماهية الموضوع إذا رغب بالمزيد، وهذه حالة إيجابية تٌسجّل لصالح العمل الفني كحالة إبداعية متفرّدة بعيداً عن الأدب ودهشته الأولى والاكتفاء بحلاوة مظهره التي قد تهم شريحة واسعة من المقتنين.
تتميّز أعمال "بعجانو" على اختلاف تقنياتها والصياغات، بفيض العاطفة والحب، من تدفـق المشاعر الإنسانية النبيلة التي تنعكس من روح الفنان ومن داخل عمله النحتي على حدّ سواء، النحت المتقشّف بتفاصيله والمكتفي بأسرار المعرفة والدهشة التي تخصّه دون غيره، وهي هنا أكثر ما تظهر في تماهي بعض الشكل كدلالة ليؤجل البوح بما تبقى منه للمتلقي أن يفكّر أكثر ولتكون مفاتيح حوار مع العمل أو النحات على شكل أسئلة وبداية حديث حول طريقة تفكير وقناعات "بعجانو" الخاصة في الفن والحياة، وهذه بحدّ ذاتها حالة غالباً ما يستفيض في شرحها الفنان بمتعة مضيفاً لمن يرغب من خلالها كثيراً من أسرار تلك المعرفة والثقافة التي تخصّه بالإضافة إلى تحليله وفهمه لتاريخ الحضارة والفنون السورية القديمة التي يبني عليها كأساس ومصدر ثري لأفكاره وحتى صياغاته للعمل الذي يبدو أحياناً وكأنه أقرب إلى اللقى الأثرية التي تخصّ ثقافة وقناعة "بعجانو".
بشكل عام نلاحظ أنه بكثير من الحلم وبعض الواقع وقليل من الأدوات ما زال يجتهد هذا النحات في البحث عن حلول جمالية وتعبيرية جديدة لمشروعه الجميل، وضمن مجموعة من المعطيات الحسية والجماليات البسيطة، وهي تأتي كمحصّلة طبيعية لعلاقته المميّزة بعمله الفني الذي يرى من خلاله ذاته وروحه ومدى قدرته على التخيّل والحلم، ذلك الكائن الذي يحمل في مضمونه خصائص وطبائع الفنان الغير منظورة بالنسبة له على الأقل، وهذه غاية لا تدرك إلاّ من خلال ما يكتشفه أو يبدعه في كل مرة .
تمتاز أعمال " بعجانو " في معظم معارضه بتنوّع صياغاتها أحياناً أو خاماتها، وإن غلب عليها شكل المعلّقات الجدارية التي ميّزت عمله لفترة من الزمن، لاسيّما تلك الأقنعة التي يلبسها لوجوه منحوتاته الصغيرة المتجاورة التي تبدو وكأنها آتية من الماضي السحيق، مع تأكيد واضح على استيعابه للصياغات المعاصرة، وهنا أتذكر قول يعجبني له في لقاء قديم : ( في الغالب يأخذ النحت منحى وظيفياً، هذا ما اعتدنا عليه، في الواقع هدفنا آخر، نحن نسعى للوصول إلى حقيقة تشير إلى أن ثمة ثقافة سورية ممتدة في هذه البيئة، والقناع قديماً كان حالة ذوبان للفرد في شخصية الجماعة، مثلاً عندما كانت تحدث الأعياد الدينية أو الموسمية، كانت الجماعات البشرية تلبس القناع وترقص، ترقص حتى النشوة و الذوبان ) .
اعتاد الفنان في معارض سابقة أن يناغم أو يولـّف فيها بين تلك الوجوه (ماسكات) والطيور ومجموعة البيوتات وأسماك وسواها من المفردات اللطيفة التي تتزاحم على الحضور في أعماله تلك، لتتناغم مع بعضها بتوشيحات من الزجاج وأحياناً من المعدن وغيرها من المواد التي يلوّن فيها مشاهده التي تنزاح بوضوح في أكثر الأحيان باتجاه أجواء الأسطورة والحكاية الشعبية بسردها المشوّق .
في هذا المعرض والذي برأيي هو الأفضل من حيث تنوّع الصياغات لنفس الموضوعات التي يفضل الخوض فيها بمزاج خاص ما زال يتميّز به عن غيره من النحاتين المشتغلين في نفس المواد والمواضيع أحياناً، لتقديمه الحالة التعبيرية على الجماليات والتزيين وتلك الدهشة التي مازالت تحدثها أعماله دائماً، ولكن هذه المرّة ربما تحتاج لأكثر من مشاهدة وتمعّن أو تفكير، وهذه غاية لا تدرك للفن بشكل عام وفي النحت بشكل خاص، هذا الفن الذي يتطلّب من الفنان مجهوداً اكبر وحالة من الصفاء الذهني والشرود في فضاءات الحلم لبعض من الواقع الجميل المفترض في أي عمل على اختلاف صياغاته.
تحية إلى النحات محمد بعجانو هذا المعرض المتميّز، وإلى النحت ( التعب الجميل )، هذا الفن الآسر والمُتضمّن حكايا المتعة للبصر والنشوة للبصيرة.