رواية دفوف رابعة العدوية للروائي عبد الستار البيضاني
إنقروا الدفوف في ... دفوف رابعة العدوية
دراسة نقدية يوسف عبود جويعد
يبدو لنا أن رواية (دفوف رابعة العدوية)، للروائي عبد الستار البيضاني، هي واحدة من النصوص السردية، التي إستخدم فيها الروائي، عنصر من العناصر الحديثة في السرد، وجعله طاغياً ومهيمناً على بقية العناصر والأدوات التي تدخل ضمن البناء الفني، لعملية فن صناعة الرواية، وهذا العنصر أو الاداة، هو التبئير، بدلاً من وجهة النظر، أو زاوية النظر، التي يتخذها الروائي غالباً، في سياق عمله الفني، ولأن التبئير يعد من الجوانب الفنية الواعية والعميقة التي تتطلب من الروائي الدقة المتناهية، للسيطرة على البناء الفني للرواية، ويحيلها الى سياق فني مبهر وساحر، لأنه في ذلك يجعل من الأدوات الاخرى مادة طيعة ومرنة يستطيع صناعتها وفق ما تقتضيه الضرورة الفنية لحركة السرد، فجعل البؤرة أو التبئير حالة مهيمنة وطاغية ومسيطرة على بقية عناصر بناء الرواية، فاللغة السردية مبأرة كونها انطلقت من عمق تأثر الروائي بالأحداث، وخبرته الطويلة في مجال كتابة القصة والرواية، التي امتدت لسنوات طوال، والزمان جاء مبأراً كونه ينقل لنا اعماق الحقبة الزمنية وسحرها وطبيعتها، والمكان مبأر لأنه لا ينقل بأسلوب مجرد وخالٍ من التفاصيل التي تمنحه حيويته وتفاعله مع القارئ، مع ذكر التفاصيل والمرئيات والشيئات والمرويات التي تدخل ضمن تعريفه وإيصاله بكل ما يحيطه من معلومات، وسحره وطقوسه والحياة فيه وارتباطه بحركة ومسار بقية عناصر الرواية المبأرة ايضاً، مثل الشخوص والأحداث والثيمة، وسنشهد تفاصيل مبأرة في أماكن بغداد، والبصرة، واماكن داخل البصرة، مثل الزبير ومقبرة الحسن البصري، ومنطقة الحكاكة وغيرها من الاماكن التي تدور رحاها ضمن متن النص، لننتقل الى الشخوص داخل الرواية وهي شخوص اعتمد الروائي في توظيف عنصر التبئير فيها، مثل بطل النص، الذي يأخذنا بتفاصيل تعلقه بعازفة السنطور قبس، والسكن في عينيها، وسبر أغوار حياتها، وكذلك تعلقه وحبه لرابعة العدوية، والسكن في عينيها وهي حالة تبئيرية لكشف الكثير من تفاصيل شخصية رابعة العدوية، وحياتها، ويظل البطل متعلق بهالتين الشخصيتين حد الوله والعشق، لاقتراب صفاتهما ببعضهما، وكأن قبس هي امتداد لحياة رابعة العدوية وتشبهها في تفاصيل كثيرة، مثل كونها عازفة على السنطور، ورابعة العدوية عازفة على الدف، كما يحسها بطل الرواية كونه يجد أن النقر على السنطور أو الدف هو عزف روحي يصل شذاه وسحره الى اعماقه وينجذب إليه، ونجد أن الأحداث هي توليفة موفقة لتوظيف تلك العناصر ومعالجتها فنياً لتكون أحداث لمبنى هذا السرد الروائي، كون حركة هذه العناصر، هي حركة للأحداث التي تأخذ مسارها بشكلها المتبع، التعريف، الحبكة، التأزم الانفراج، ومن هذه الأحداث تىنبثق الثيمة المبأرة التي لا يمكن أن نعرفها الا بعد أن نعيش تفاصيل حياة الشخوص، وندخل الى اعماق العملية السردية، فبعد أن يقنعه صديقه بضرورة التقديم لنيل شهادة الماجستير، ويستقر رأيهما على اختيار شخصية دينية يختار البطل شخصية (رابعة العدوية) كأطروحة لنيل شهادة الماجستير، ويأتي ذلك متناسقاً ومتماهياً مع حبه لرابعة العدوية، وحب قبس أيضاً لهذه الشخصية:
(تمنيت أن أخبرها اللحظة بقراري، استحضرت وجهها الطافي على الضوء وملامحها التي كانت تنطق بالغموض مع كلمات سؤالها لي بشيء من الاستنكار(كيف أنت بصراوي ولا تعرف رابعة العدوية؟).. حتى هذه اللحظة يتردد صداه في داخلي!.. سأعرفها.. وسأعرفك أيضا.) (ص 21 )
ومن محاسن الصدف أن التقديم للموافقة على دراسة الماجستير، يتطلب جلب شهادة (الرعوية) من البصرة لتثبيت اصول اجداده، الأمر الذي يقربه أكثر لمعرفة حياة رابعة العدوية، لكون قبرها في الزبير، مقبرة حسن البصري، وخلف قبر حسن البصري، ولكنه بدون شاهدة، أي أنها قطعة أرض خلف قبر هذا الرجل الجليل، وآثار لبقايا قبر، وسنتابع بعدها تفاصيل عن البحث عن شخصية (عبيد الخربطلي) وهو رجل عجوز يعرف جد بطل الرواية، الذي ظل اسمه مجهولاً طيلة أحداث الرواية، وتدور الاحداث بين عملية المقارنة والشبه بين قبس ورابعة العدوية، ويزداد التبئير في هذا الجانب، ليصل الى الحد الذي فيه يتناوب صوت السنطور مع ايقاع الدفوف:
(- أيّهما انتِ، رابعة أم قبس عازفة السنطور؟.. أرجوكِ اغيثيني.
فات اوان الأسئلة. قالتها ودعتني أن أتذكر (إن الاسئلة ليست متاحة في كل الأوقات)..التأمل أفضل من السؤال، تأمل صورتي وأنا أمسك أيادي أخواتي على حدبة جسر الأحرار، حيث اشتدّت الريح، ورفعت ثيابنا التي لا تشبه ثياب البنات في صباح ذلك العيد، لا تشبهها بكل شيء، ولم يعد يعنيني العيد ولا الثياب.. كنت جائعة، كما كنت ارى الجوع يمرد وجوه أخواتي ويجعلها مثل حبات النومي الذابلة)(ص 51 )
وهكذا تدور الأحداث بهذا العمق، وهذا السرد بلغته الساحرة، وبكل هذا التبئير، الذي شمل عناصر وأدوات الرواية، حيث نشهد بؤر بكل مفاصله، وهي تسير نحو البؤرة الرئيسية التي تربط هذه الفروع معها، وهي البؤرة المركزية، والتي سار بنا الروائي عبر وهج الأحداث وسطوعها وهي تمضي بانسيابية رائقة، وبإيقاع صاف هادئ شفاف حالم، فعملية اتقان استخدام البؤرة في اعماق متن النص، تتطلب مهارة عالية جداً، وقدرة فائقة ووعي للامساك بزمامها وتوظيفها بشكلها الذي يجعل كل شيء في هذا النص، ساحر يدخل اعماق السرد ويستخرج منه درر الكلام ولؤلؤه، لتكون الكتابة من الاعماق، أكثر تأثيراً وأكثر جمالاً.
ولتظهر الثيمة عبر البؤرة المركزية، بأننا امتداد لأجدادنا، وأن قبس هي رابعة العدوية في هذا الزمان.
من اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2022
إنقروا الدفوف في ... دفوف رابعة العدوية
دراسة نقدية يوسف عبود جويعد
يبدو لنا أن رواية (دفوف رابعة العدوية)، للروائي عبد الستار البيضاني، هي واحدة من النصوص السردية، التي إستخدم فيها الروائي، عنصر من العناصر الحديثة في السرد، وجعله طاغياً ومهيمناً على بقية العناصر والأدوات التي تدخل ضمن البناء الفني، لعملية فن صناعة الرواية، وهذا العنصر أو الاداة، هو التبئير، بدلاً من وجهة النظر، أو زاوية النظر، التي يتخذها الروائي غالباً، في سياق عمله الفني، ولأن التبئير يعد من الجوانب الفنية الواعية والعميقة التي تتطلب من الروائي الدقة المتناهية، للسيطرة على البناء الفني للرواية، ويحيلها الى سياق فني مبهر وساحر، لأنه في ذلك يجعل من الأدوات الاخرى مادة طيعة ومرنة يستطيع صناعتها وفق ما تقتضيه الضرورة الفنية لحركة السرد، فجعل البؤرة أو التبئير حالة مهيمنة وطاغية ومسيطرة على بقية عناصر بناء الرواية، فاللغة السردية مبأرة كونها انطلقت من عمق تأثر الروائي بالأحداث، وخبرته الطويلة في مجال كتابة القصة والرواية، التي امتدت لسنوات طوال، والزمان جاء مبأراً كونه ينقل لنا اعماق الحقبة الزمنية وسحرها وطبيعتها، والمكان مبأر لأنه لا ينقل بأسلوب مجرد وخالٍ من التفاصيل التي تمنحه حيويته وتفاعله مع القارئ، مع ذكر التفاصيل والمرئيات والشيئات والمرويات التي تدخل ضمن تعريفه وإيصاله بكل ما يحيطه من معلومات، وسحره وطقوسه والحياة فيه وارتباطه بحركة ومسار بقية عناصر الرواية المبأرة ايضاً، مثل الشخوص والأحداث والثيمة، وسنشهد تفاصيل مبأرة في أماكن بغداد، والبصرة، واماكن داخل البصرة، مثل الزبير ومقبرة الحسن البصري، ومنطقة الحكاكة وغيرها من الاماكن التي تدور رحاها ضمن متن النص، لننتقل الى الشخوص داخل الرواية وهي شخوص اعتمد الروائي في توظيف عنصر التبئير فيها، مثل بطل النص، الذي يأخذنا بتفاصيل تعلقه بعازفة السنطور قبس، والسكن في عينيها، وسبر أغوار حياتها، وكذلك تعلقه وحبه لرابعة العدوية، والسكن في عينيها وهي حالة تبئيرية لكشف الكثير من تفاصيل شخصية رابعة العدوية، وحياتها، ويظل البطل متعلق بهالتين الشخصيتين حد الوله والعشق، لاقتراب صفاتهما ببعضهما، وكأن قبس هي امتداد لحياة رابعة العدوية وتشبهها في تفاصيل كثيرة، مثل كونها عازفة على السنطور، ورابعة العدوية عازفة على الدف، كما يحسها بطل الرواية كونه يجد أن النقر على السنطور أو الدف هو عزف روحي يصل شذاه وسحره الى اعماقه وينجذب إليه، ونجد أن الأحداث هي توليفة موفقة لتوظيف تلك العناصر ومعالجتها فنياً لتكون أحداث لمبنى هذا السرد الروائي، كون حركة هذه العناصر، هي حركة للأحداث التي تأخذ مسارها بشكلها المتبع، التعريف، الحبكة، التأزم الانفراج، ومن هذه الأحداث تىنبثق الثيمة المبأرة التي لا يمكن أن نعرفها الا بعد أن نعيش تفاصيل حياة الشخوص، وندخل الى اعماق العملية السردية، فبعد أن يقنعه صديقه بضرورة التقديم لنيل شهادة الماجستير، ويستقر رأيهما على اختيار شخصية دينية يختار البطل شخصية (رابعة العدوية) كأطروحة لنيل شهادة الماجستير، ويأتي ذلك متناسقاً ومتماهياً مع حبه لرابعة العدوية، وحب قبس أيضاً لهذه الشخصية:
(تمنيت أن أخبرها اللحظة بقراري، استحضرت وجهها الطافي على الضوء وملامحها التي كانت تنطق بالغموض مع كلمات سؤالها لي بشيء من الاستنكار(كيف أنت بصراوي ولا تعرف رابعة العدوية؟).. حتى هذه اللحظة يتردد صداه في داخلي!.. سأعرفها.. وسأعرفك أيضا.) (ص 21 )
ومن محاسن الصدف أن التقديم للموافقة على دراسة الماجستير، يتطلب جلب شهادة (الرعوية) من البصرة لتثبيت اصول اجداده، الأمر الذي يقربه أكثر لمعرفة حياة رابعة العدوية، لكون قبرها في الزبير، مقبرة حسن البصري، وخلف قبر حسن البصري، ولكنه بدون شاهدة، أي أنها قطعة أرض خلف قبر هذا الرجل الجليل، وآثار لبقايا قبر، وسنتابع بعدها تفاصيل عن البحث عن شخصية (عبيد الخربطلي) وهو رجل عجوز يعرف جد بطل الرواية، الذي ظل اسمه مجهولاً طيلة أحداث الرواية، وتدور الاحداث بين عملية المقارنة والشبه بين قبس ورابعة العدوية، ويزداد التبئير في هذا الجانب، ليصل الى الحد الذي فيه يتناوب صوت السنطور مع ايقاع الدفوف:
(- أيّهما انتِ، رابعة أم قبس عازفة السنطور؟.. أرجوكِ اغيثيني.
فات اوان الأسئلة. قالتها ودعتني أن أتذكر (إن الاسئلة ليست متاحة في كل الأوقات)..التأمل أفضل من السؤال، تأمل صورتي وأنا أمسك أيادي أخواتي على حدبة جسر الأحرار، حيث اشتدّت الريح، ورفعت ثيابنا التي لا تشبه ثياب البنات في صباح ذلك العيد، لا تشبهها بكل شيء، ولم يعد يعنيني العيد ولا الثياب.. كنت جائعة، كما كنت ارى الجوع يمرد وجوه أخواتي ويجعلها مثل حبات النومي الذابلة)(ص 51 )
وهكذا تدور الأحداث بهذا العمق، وهذا السرد بلغته الساحرة، وبكل هذا التبئير، الذي شمل عناصر وأدوات الرواية، حيث نشهد بؤر بكل مفاصله، وهي تسير نحو البؤرة الرئيسية التي تربط هذه الفروع معها، وهي البؤرة المركزية، والتي سار بنا الروائي عبر وهج الأحداث وسطوعها وهي تمضي بانسيابية رائقة، وبإيقاع صاف هادئ شفاف حالم، فعملية اتقان استخدام البؤرة في اعماق متن النص، تتطلب مهارة عالية جداً، وقدرة فائقة ووعي للامساك بزمامها وتوظيفها بشكلها الذي يجعل كل شيء في هذا النص، ساحر يدخل اعماق السرد ويستخرج منه درر الكلام ولؤلؤه، لتكون الكتابة من الاعماق، أكثر تأثيراً وأكثر جمالاً.
ولتظهر الثيمة عبر البؤرة المركزية، بأننا امتداد لأجدادنا، وأن قبس هي رابعة العدوية في هذا الزمان.
من اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لعام 2022