الدلالات الزمكانية في رواية " وكر السلمان " للروائي العراقي شلال عنوز.
غانم عمران المعموري
تُشّكل الرواية الوعاء الفني الأنسب لاستيعاب التغيرات والأزمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية والتحولات الفكرية وكل المراحل التاريخية التي يمر بها المجتمع على الصعيد العربي والغربي وهذا ما جعلها في الصدارة بين الأجناس الأدبية الأخرى لرصدها كل ما يطرأ من تغيير واستياء من الزيّف والقيم غير السوية في المجتمع والطموح نحو واقع ومستقبل جديد يفضح المخفي والمسكوت عنه في التاريخ الّذي خُطَّ بيد المزورين والمحرّفين والمنتفعين والمتسلطين .. يظهر العمل الروائي من خلال نّص أدبي حيّوي حافلاً بشخصياتٍ تتحرك وفق وعيّ بزمانٍ ومكانٍ يُمثلان حقبة زمكانية مهمة عالقة في ذهن الكاتب والقارئ على حد سواء .. فإن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه مليء بالحكايات وقصص الحروب والقتل وقد تناولتها العديد من الروايات العراقية ولا سيما ما يتعلق بالحرب العراقية الايرانية أي فترة الثمانينات وفترة الحصار والانتفاضة الشعبانية حتى سقوط التمثال .. لكن للقارئ العليم تساؤل هل جاءت تلك الروايات بتقنيةٍ جديدةٍ في السرّدِ أم مجرد حكي ؟ هل حققت الطموحات ؟ هل حققت دهشة ؟ هل حققت قفزة نوعيّة ؟ هل أصبحت في مطاف الروايات العالمية ؟ هل تناولت الحرب و الموت بأسلوب فني تقني ..
بين يدي رواية " وكر السلمان " للكاتب والروائي شلال عنوز من اصدارات اتحاد الادباء والكتاب في النجف الاشرف لعام 2020 الّتي ارتكزت على ثيمات الحرب والموت والقتل وسفك الدماء بعنونةٍ مكانيةٍ دالةٍ على مكانٍ بقي عالقاً في أذهانِ العراقيين .. وكر مضاف والسلمان مضاف إليه .. يعتقد القارئ للوهلة الأولى ومن بوابة النّص بأن الأمر يتعلق بالسجناء السياسيين الّذين تم حجرهم ونفيّهم في ( نقرة السلمان ) تلك المنطقة النائية والبعيدة جداً عن مركز المدينة بحيث تفصلها عن محافظة السماوة صحراء قاحلة فإذا استطاع السجين الهرب من الزنزانة يموت من العطش ومسافة الطريق الطويلة جداً .. لكن هل كان المؤلف يُريد بها الزنزانة أم ماذا ؟ هذا الانطباع الأولي الذي يتبادر إلى ذهن القارئ من خلال عنونة تخفي تحت طياتها المضمر والمسكوت عنه وتشّكل الفضاء الرئيس للنّص الروائي والصدمة الأولى التي يتلقاها القارئ من حيث المسافة الجمالية وأفق التلقي بأسلوب التكثيف والتركيز وحضور العنونة في الخيال والقابعة في أعماق النفس مما تخلق تأزم وصراع نفسي واثارة وتحرك المشاعر التي لها صلة بالماضي والمكان الذي أختاره الكاتب بعنايةٍ ودقةٍ باعتباره علامة سيميولوجية في بوابة النّص الأدبي لما يتضمنه من دلالاتٍ ومعانٍ وقيَّمٍ جماليةٍ وفنيةٍ..
تُمثّل العنونة " الوهج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارئ ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي..."1.
تشير العنونة المكانية إلى واقعيةِ النّص الروائي وارتباطه بالذاكرة الجمعية وله ابعادٍ اجتماعية ٍوسياسيةٍ ونفسيةٍ نابعة من رحم المجتمع العراقي الّذي يُشَّكل نقطة انطلاقة في نسيج وحياكة العمل السرّدي..
تقنية الحدث
لجأ الكاتب من خلال خبرته الثقافية والقانونية والاجتماعية وسنين الحرب في العراق التي خبرها بنفسه وعاشها مع جيل ذاق مرارة المعارك وقسوتها وما خلفته من ويلات ومآسي وأرامل ويتامى وفقر وتخلف و جرائم تولد من جراء تلك الآثار وبذلك استطاع أن يرسم لنا ملامح شخصيته الرئيسة في الرواية (نعمان) وطبيعة حركتها وأفعالها وتجاذبها وتنافرها والعداء والانتقام وحب القتل وكيفية تعاملها مع الشخصيات الأخرى التي اختارها الكاتب من الذين يرتبطون بالشخصية الرئيسة بعلاقات حميمة ومحبة .. كشف لنا الكاتب شخصية (نعمان ) من السطور الأولى في الرواية كما في ( كل ما في رأسه مهرجانات من رعب لا يقوى على مقاومتها هو امتهن القتل أحد قتلاه يوم أمس صديقه ناظم الذي انقذه من الموت المحقق في حرب أكلت كل أمانيه ..) ص7 من الرواية..
ربما يتساءل القارئ العليم لماذا فضح الكاتب شخصيته الرئيسة في الرواية وبين نوازعها الاجرامية وما تفكر به ؟ هل أراد بذلك بيان تأثير مخلفات الحرب على سلوكيات الأفراد الذين كانوا منخرطين في سلك الجيش وأصابتهم بعاهاتٍ مستديمةٍ ؟ أم أنه أراد أن يُبين لنا أيدولوجية تختلف عن رأي دكتور تشيزري لومبروزو صاحب كتاب ( الرجل المجرم ) ونظريته التي خرج منها بتحديد مواصفات جسدية ظاهرية تُحدد المجرم دون سواه والّتي أثبتت فشلها ..
ولماذا لم يخفي شخصيته الاجرامية إلى نهاية الرواية ؟وهل أن ذلك له أثر على أفق التلقي ؟
أن الكاتب بين لنا شخصيته الرئيسة بأن ( نعمان ) هو خريج كلية القانون والتحق بالجيش العراقي أبان الحرب بين العراق وايران كما أنه من عائلة ميسورة الحال وترك له والده محل في الشورجة ( ... ميسور الحال لقد ترك له والده بيتاً في منطقة حي العامل في بغداد وهو وريثه الشرعي ... ) ص 20 ... وهو ذو حسّ مرهف وشاعر بدليل تبادل القصائد الغرامية مع حبيبته ( سناء) إلا أن مسقط رأسه في قضاء السلمان والمعروفة لدى العراقيين (نقرة السلمان ) ذلك السجن والذكريات الأليمة للسجناء وهذا ما طُبع في ذاكرته..
أي أن الكاتب ربما يريد أن يقول بأن القاتل ممكن أن يكون ذا مواصفات وميسور الحال ويتمتع بكل صفات الإنسان السوي ويرتكب الجرائم ويسفك دم أصدقاءه ومحبيه دون غيره ( نشأ طفلاً مدلّلاً لم يبخل أبوه بشيء فكل طلباته مجابه .. ) ص25 من الرواية.. وهذه مخالفة لمسار المجرمين وطرقهم الإجرامية..
ذكر الكثير من النقاد الذين تناولوا الرواية من زوايا مختلفة بأن الاسم الذي أختاره الكاتب على شخصيته الرئيسة في الرواية ( نعمان ) لتماثلها واقترانها من حادثة الملك ( نعمان بن المنذر) الذي قتل أحب الناس إليه واقربهم إلى قلبه .. وهذا الرأي يجعلنا نقترب من نظرية ( لومبروزو ) التي أثبتت فشلها حيث أنه ليس كل (نعمان ) هو قاتل كما أنه ليس كل ( علي) هو إمام يقتدى به فالاسم هو اختيار الآباء وليس للأبناء أي ذنب ولا يمكن القياس .. ولكن الكاتب ربما كان اختياره للشخصية من منظار آخر أو أراد الإشارة إلى شخصية ( نعمان بن المنذر) ..
ويتساءل القارئ هل كانت شخصية ( نعمان ) لها الحريّة في سلوكها وأيديولوجيتها المستقلة أم أنها مُقيدة ؟ هل تمتلك وعياً وارادة في تصرفاتها وآراءها باستقلالية ؟ وهل تنطبق التصرفات والافعال الاجرامية مع صفاتها الّتي تحلت بها في الرواية ؟ أم ربما تكون شخصية خيالية فريدة من نوعها ؟ .. ميخائيل باختين ركز ( على الوعي الذاتي للبطل بوصفه فكرة فنية مسيطرة في بناء صورة البطل ولكن بشرط أن يقوم – بوصفه وعيا ذاتيا – بالتعبير عن نفسه فعلاً أي بشرط ألا يندمج مع المؤلف " شرط ألا يصبح بوقا لإيصال صوت المؤلف ... وأن يحافظ العمل الأدبي نفسه على مسافة تفصل بين البطل والمؤلف ومالم يقطع الحبل السري الذي يربط البطل بمؤلفه فلن نجد أمامنا عملاً أدبياً بل وثيقة شخصية )2..
ركز الكاتب على التأزم والصراع النفسي للشخصية الرئيسة (نعمان ) وما خلفته له الحرب من عاهة مستديمة أي النظرة من داخل الشخصية وكل ما يتعلق بمشاعرها واحاسيسها والافكار السلبية الّتي تولدت نتيجة تفكيره وانعكاسها على سلوكه الخارجي وهذا واضح من خلال الندم والبكاء بعد استدراج وقتل كل ضحية من ضحاياه ..
قد يتساءل القارئ لماذا لم يختار القاتل ضحاياه من المتنفذين أو القادة أو المسؤولين السياسيين الذين لهم دور في زجه مع الآخرين في حرب طاحنة لا ناقة له فيها ولا جمل ؟ ولماذا لم يختار ضحاياه اذا كان متعطشاً للدماء من قضاء السلمان أو المناطق القريبة له ؟ ولماذا يقطع كل هذه المسافة من بغداد إلى نقرة السلمان التي تبعد تقريبا 473 كم, ناهيك عن المسافة التي يقع فيها النفق الذي ينفذ فيه ( نعمان ) جرائمه ... هل بغداد لا توجد فيها مناطق بعيد عن عيون السلطة ؟ ربما للكاتب هدف آخر في اختياره المكان ( نقرة السلمان ) لما يتضمنه من ذكرى قابعة في النفس عند العراقيين وارتباطها في ذلك الوقت بتعذيب وقتل الاحرار ؟ وكيف يستطيع استدراج حبيبته ( سناء ) إلى ذلك المكان البعيد وهي وصفت بأنها فتاة من عائلة غنية ووحيدة لأهلها ومخصص لها سيارة تقلّها إلى أي مكان تذهب ؟ وكيف يتركها السائق ويذهب ؟ وما هو رد فعل أهلها عند غيابها ؟ لم يبين الكاتب ذلك مع جميع الضحايا الذين استدرجهم القاتل ولم يُعرف قارئه عن الانفعالات والفوضى والحزن لدى أهالي الضحايا وما هو موقف الجهات التنفيذية والقضائية عقب كل حادثة قتل الّتي لابد أن تحصل مع كل ضحية لأن القاتل ليس وحده يعيش وسط هذا المجتمع الّذي يتفاعل مع كل صغيرة وكبيرة ..
وقد يتساءل القارئ إذا كان القاتل (نعمان ) قد فقد ذكوريته لماذا لم تكن ضحاياه من النساء فقط دون تعين ؟
امتاز أسلوب الكاتب بلغةٍ رصينةٍ تخللتها صور شعريّة حسيّة وانزياح في تركيب المفردات ( تجثو في ربوعٍ من ندم ) ص10..
كما أنه وظف المثل والأغاني الفلكلورية والتراثية في روايته مما أعطى جمالية لحركة السرّد وتتابعه ( هاي من الله قسمتي, دوم أتسلّه بدمعتي .. ) ص10, ( على شواطئ دجله مُر يا منيتي وقت الفجر)ص48..
أراد الكاتب أن يبين بأنه في ذلك الوقت لا فرق بين سني وشيعي ومسيحي وصابئي ويزيدي وأن الحرب والقتل شمل الجميع ( ذهب ضحية الحرب كل الفئات في المجتمع العراقي العربي والكردي والتركماني والمسيحي كما لم يرحل جميل وحده بل شاركه الرحيل كل من سردار من السليمانية وخوشا بامتّي ... ) 64..
تقنية السرّد
وظف الكاتب تقنية الاسترجاع في نقل الأحداث باعتماده على دلالات مكانية وزمانية وربطها بأسلوب أكثر تشويقَّاً واثارة ضمن اطار زمني مُحدد فكانت الأحداث كلها تدور في زمن الحرب بين العراق وايران وبوجهة وأيدولوجية الكاتب وطبيعة العلاقة الترابطية بين الكاتب والعالم المتحرك المبنيِّ داخل سلسلة السرّد والغاية التي من أجلها ظهر صوت الكاتب في ثنايا النّص الأدبي ربما تكون من خلال رؤيته لموقف ما أو تأثره بالأحداث التي عاشها بنفسه باعتباره أحد الأجيال التي وقع عليها حيّف الحروب أو لغرض تحريك مشاعر القارئ ..
كما أنه استثمر اللغة الشعريّة في البنية السرّدية لامتلاكه القدرة في صياغة وخلق صور حسيّة ذات تأثير مباشر على ذائقة المتلقي الذي يميّل إلى التغيير والتنوع في أسلوب السرّد وتسليطه الضوء على نظريات علم الاجرام وأقوال الفلاسفة والحكماء وبيان وقائع تأريخيه ووصف أبرز المعالم في بغداد ( المتحف البغدادي, شارع أبو نؤاس, مطعم دنانير في الكرادة وغيرها من المناطق البارزة في بغداد ) أثناء تحريك شخوصه والحوارات الداخلية والخارجية بينهم لبيان تعدد الأصوات لكل شخصية إلا أن الوصف جاء بلسان الراوي ولم يعطي للشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية آراء مستقلة تتناقض وتتضارب فيما بينها وبذلك يكون الصوت الواحد هو الطاغي والمهيمن على الأصوات الأخرى..
جاء التحاور بين نعمان, وحبيبته سناء وصديقتها رحمه حول نظريات القانون بأسلوب مباشر تقريري كما في ( القانون: هو مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد وتحدد حقوقهم والتزاماتهم وتضع الجزاء على يخالفها ... )ص95 من الرواية..
وأقوال لأفلاطون في وصف القانون ( مستبد أحمق لا يغيّر رأيه مهما كان )ص97.. و الحوار كان بين شخصيات متطابقة في الرأي ولا تغير شيء من النظريات والتعريفات التي وضعها الفلاسفة ورجال القانون فيكون والحالة هذه تطابق رأي الشخصيات المتحاور وتنطوي ضمن الصوت الواحد..
وهذا النوع من الحوارات الداخلية والخارجية التي ساهمت في ابطاء حركة السرّد بالإضافة إلى الوصف والتوضيح لكثير من الأماكن الّتي كانت محط تجوال الشخصيات الرئيسة والثانوية من خلال راوٍ عليماً حاضراً مباشرةً وعارفاً بكل تفاصيل العمل الأدبي وطبيعة الأفكار والميّول والرغبات الّتي كانت مرصودة من قبل الراوي وهذه التقنية تدخل ضمن الرواية المونولوجية ..
يعتقد الكثير من خلال الموروث القديم والأساطير بأن القطط السوداء ترمز إلى الشر وترافق أعمال السحر والشعوذة إلا أن الكاتب أدخلها في العمل الروائي كبشير خير ونذير وقيامها بمهمة تحذير الضحية وابعادها من الوكر الشيطاني الذي أعده القاتل نعمان وقد كان دورها مع كل حادثة قتل بالإضافة إلى دورها بالاستدلال على مكان الجريمة ومرافقتها للشرطة .. لكن القارئ يتساءل لماذا اختار الكاتب قطة سوداء ولم تكن بيضاء ؟ دائماً يكون الحيوان الأليف ودوداً مع مُربيه مهما كانت صفاته وأفعاله مع الآخرين ولكن كان حال القطة السوداء في العمل الروائي تصرفت عكس المألوف .. يا ترى ماذا كان يقصده الكاتب من ذلك ؟ تساؤلات كثيرة بقيت عالقة في ذهن القارئ عن تصرفات الشخصية الرئيسة وطبيعة علاقتها مع الشخصيات الثانوية ربما يقدم لنا الكاتب تبريرا يرفع الغموض ويفك التعالقات والتشابك في الرؤى بمقالٍ مُلحقٍ مستقلٍ..
المصادر
1-غانم عمران المعموري: الذات والوجدان في القصيدة, شعراء بابل انموذجاً, اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق, ط1, 2022,ص70.
2-ميخائيل باختين, شعرية دوستوفيسكي, ترجمة د. جميل نصيف التكريتي, دار توبقال للنشر, الدار البيضاء, المغرب, 1986,ص72.
غانم عمران المعموري
تُشّكل الرواية الوعاء الفني الأنسب لاستيعاب التغيرات والأزمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية والتحولات الفكرية وكل المراحل التاريخية التي يمر بها المجتمع على الصعيد العربي والغربي وهذا ما جعلها في الصدارة بين الأجناس الأدبية الأخرى لرصدها كل ما يطرأ من تغيير واستياء من الزيّف والقيم غير السوية في المجتمع والطموح نحو واقع ومستقبل جديد يفضح المخفي والمسكوت عنه في التاريخ الّذي خُطَّ بيد المزورين والمحرّفين والمنتفعين والمتسلطين .. يظهر العمل الروائي من خلال نّص أدبي حيّوي حافلاً بشخصياتٍ تتحرك وفق وعيّ بزمانٍ ومكانٍ يُمثلان حقبة زمكانية مهمة عالقة في ذهن الكاتب والقارئ على حد سواء .. فإن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه مليء بالحكايات وقصص الحروب والقتل وقد تناولتها العديد من الروايات العراقية ولا سيما ما يتعلق بالحرب العراقية الايرانية أي فترة الثمانينات وفترة الحصار والانتفاضة الشعبانية حتى سقوط التمثال .. لكن للقارئ العليم تساؤل هل جاءت تلك الروايات بتقنيةٍ جديدةٍ في السرّدِ أم مجرد حكي ؟ هل حققت الطموحات ؟ هل حققت دهشة ؟ هل حققت قفزة نوعيّة ؟ هل أصبحت في مطاف الروايات العالمية ؟ هل تناولت الحرب و الموت بأسلوب فني تقني ..
بين يدي رواية " وكر السلمان " للكاتب والروائي شلال عنوز من اصدارات اتحاد الادباء والكتاب في النجف الاشرف لعام 2020 الّتي ارتكزت على ثيمات الحرب والموت والقتل وسفك الدماء بعنونةٍ مكانيةٍ دالةٍ على مكانٍ بقي عالقاً في أذهانِ العراقيين .. وكر مضاف والسلمان مضاف إليه .. يعتقد القارئ للوهلة الأولى ومن بوابة النّص بأن الأمر يتعلق بالسجناء السياسيين الّذين تم حجرهم ونفيّهم في ( نقرة السلمان ) تلك المنطقة النائية والبعيدة جداً عن مركز المدينة بحيث تفصلها عن محافظة السماوة صحراء قاحلة فإذا استطاع السجين الهرب من الزنزانة يموت من العطش ومسافة الطريق الطويلة جداً .. لكن هل كان المؤلف يُريد بها الزنزانة أم ماذا ؟ هذا الانطباع الأولي الذي يتبادر إلى ذهن القارئ من خلال عنونة تخفي تحت طياتها المضمر والمسكوت عنه وتشّكل الفضاء الرئيس للنّص الروائي والصدمة الأولى التي يتلقاها القارئ من حيث المسافة الجمالية وأفق التلقي بأسلوب التكثيف والتركيز وحضور العنونة في الخيال والقابعة في أعماق النفس مما تخلق تأزم وصراع نفسي واثارة وتحرك المشاعر التي لها صلة بالماضي والمكان الذي أختاره الكاتب بعنايةٍ ودقةٍ باعتباره علامة سيميولوجية في بوابة النّص الأدبي لما يتضمنه من دلالاتٍ ومعانٍ وقيَّمٍ جماليةٍ وفنيةٍ..
تُمثّل العنونة " الوهج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارئ ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي..."1.
تشير العنونة المكانية إلى واقعيةِ النّص الروائي وارتباطه بالذاكرة الجمعية وله ابعادٍ اجتماعية ٍوسياسيةٍ ونفسيةٍ نابعة من رحم المجتمع العراقي الّذي يُشَّكل نقطة انطلاقة في نسيج وحياكة العمل السرّدي..
تقنية الحدث
لجأ الكاتب من خلال خبرته الثقافية والقانونية والاجتماعية وسنين الحرب في العراق التي خبرها بنفسه وعاشها مع جيل ذاق مرارة المعارك وقسوتها وما خلفته من ويلات ومآسي وأرامل ويتامى وفقر وتخلف و جرائم تولد من جراء تلك الآثار وبذلك استطاع أن يرسم لنا ملامح شخصيته الرئيسة في الرواية (نعمان) وطبيعة حركتها وأفعالها وتجاذبها وتنافرها والعداء والانتقام وحب القتل وكيفية تعاملها مع الشخصيات الأخرى التي اختارها الكاتب من الذين يرتبطون بالشخصية الرئيسة بعلاقات حميمة ومحبة .. كشف لنا الكاتب شخصية (نعمان ) من السطور الأولى في الرواية كما في ( كل ما في رأسه مهرجانات من رعب لا يقوى على مقاومتها هو امتهن القتل أحد قتلاه يوم أمس صديقه ناظم الذي انقذه من الموت المحقق في حرب أكلت كل أمانيه ..) ص7 من الرواية..
ربما يتساءل القارئ العليم لماذا فضح الكاتب شخصيته الرئيسة في الرواية وبين نوازعها الاجرامية وما تفكر به ؟ هل أراد بذلك بيان تأثير مخلفات الحرب على سلوكيات الأفراد الذين كانوا منخرطين في سلك الجيش وأصابتهم بعاهاتٍ مستديمةٍ ؟ أم أنه أراد أن يُبين لنا أيدولوجية تختلف عن رأي دكتور تشيزري لومبروزو صاحب كتاب ( الرجل المجرم ) ونظريته التي خرج منها بتحديد مواصفات جسدية ظاهرية تُحدد المجرم دون سواه والّتي أثبتت فشلها ..
ولماذا لم يخفي شخصيته الاجرامية إلى نهاية الرواية ؟وهل أن ذلك له أثر على أفق التلقي ؟
أن الكاتب بين لنا شخصيته الرئيسة بأن ( نعمان ) هو خريج كلية القانون والتحق بالجيش العراقي أبان الحرب بين العراق وايران كما أنه من عائلة ميسورة الحال وترك له والده محل في الشورجة ( ... ميسور الحال لقد ترك له والده بيتاً في منطقة حي العامل في بغداد وهو وريثه الشرعي ... ) ص 20 ... وهو ذو حسّ مرهف وشاعر بدليل تبادل القصائد الغرامية مع حبيبته ( سناء) إلا أن مسقط رأسه في قضاء السلمان والمعروفة لدى العراقيين (نقرة السلمان ) ذلك السجن والذكريات الأليمة للسجناء وهذا ما طُبع في ذاكرته..
أي أن الكاتب ربما يريد أن يقول بأن القاتل ممكن أن يكون ذا مواصفات وميسور الحال ويتمتع بكل صفات الإنسان السوي ويرتكب الجرائم ويسفك دم أصدقاءه ومحبيه دون غيره ( نشأ طفلاً مدلّلاً لم يبخل أبوه بشيء فكل طلباته مجابه .. ) ص25 من الرواية.. وهذه مخالفة لمسار المجرمين وطرقهم الإجرامية..
ذكر الكثير من النقاد الذين تناولوا الرواية من زوايا مختلفة بأن الاسم الذي أختاره الكاتب على شخصيته الرئيسة في الرواية ( نعمان ) لتماثلها واقترانها من حادثة الملك ( نعمان بن المنذر) الذي قتل أحب الناس إليه واقربهم إلى قلبه .. وهذا الرأي يجعلنا نقترب من نظرية ( لومبروزو ) التي أثبتت فشلها حيث أنه ليس كل (نعمان ) هو قاتل كما أنه ليس كل ( علي) هو إمام يقتدى به فالاسم هو اختيار الآباء وليس للأبناء أي ذنب ولا يمكن القياس .. ولكن الكاتب ربما كان اختياره للشخصية من منظار آخر أو أراد الإشارة إلى شخصية ( نعمان بن المنذر) ..
ويتساءل القارئ هل كانت شخصية ( نعمان ) لها الحريّة في سلوكها وأيديولوجيتها المستقلة أم أنها مُقيدة ؟ هل تمتلك وعياً وارادة في تصرفاتها وآراءها باستقلالية ؟ وهل تنطبق التصرفات والافعال الاجرامية مع صفاتها الّتي تحلت بها في الرواية ؟ أم ربما تكون شخصية خيالية فريدة من نوعها ؟ .. ميخائيل باختين ركز ( على الوعي الذاتي للبطل بوصفه فكرة فنية مسيطرة في بناء صورة البطل ولكن بشرط أن يقوم – بوصفه وعيا ذاتيا – بالتعبير عن نفسه فعلاً أي بشرط ألا يندمج مع المؤلف " شرط ألا يصبح بوقا لإيصال صوت المؤلف ... وأن يحافظ العمل الأدبي نفسه على مسافة تفصل بين البطل والمؤلف ومالم يقطع الحبل السري الذي يربط البطل بمؤلفه فلن نجد أمامنا عملاً أدبياً بل وثيقة شخصية )2..
ركز الكاتب على التأزم والصراع النفسي للشخصية الرئيسة (نعمان ) وما خلفته له الحرب من عاهة مستديمة أي النظرة من داخل الشخصية وكل ما يتعلق بمشاعرها واحاسيسها والافكار السلبية الّتي تولدت نتيجة تفكيره وانعكاسها على سلوكه الخارجي وهذا واضح من خلال الندم والبكاء بعد استدراج وقتل كل ضحية من ضحاياه ..
قد يتساءل القارئ لماذا لم يختار القاتل ضحاياه من المتنفذين أو القادة أو المسؤولين السياسيين الذين لهم دور في زجه مع الآخرين في حرب طاحنة لا ناقة له فيها ولا جمل ؟ ولماذا لم يختار ضحاياه اذا كان متعطشاً للدماء من قضاء السلمان أو المناطق القريبة له ؟ ولماذا يقطع كل هذه المسافة من بغداد إلى نقرة السلمان التي تبعد تقريبا 473 كم, ناهيك عن المسافة التي يقع فيها النفق الذي ينفذ فيه ( نعمان ) جرائمه ... هل بغداد لا توجد فيها مناطق بعيد عن عيون السلطة ؟ ربما للكاتب هدف آخر في اختياره المكان ( نقرة السلمان ) لما يتضمنه من ذكرى قابعة في النفس عند العراقيين وارتباطها في ذلك الوقت بتعذيب وقتل الاحرار ؟ وكيف يستطيع استدراج حبيبته ( سناء ) إلى ذلك المكان البعيد وهي وصفت بأنها فتاة من عائلة غنية ووحيدة لأهلها ومخصص لها سيارة تقلّها إلى أي مكان تذهب ؟ وكيف يتركها السائق ويذهب ؟ وما هو رد فعل أهلها عند غيابها ؟ لم يبين الكاتب ذلك مع جميع الضحايا الذين استدرجهم القاتل ولم يُعرف قارئه عن الانفعالات والفوضى والحزن لدى أهالي الضحايا وما هو موقف الجهات التنفيذية والقضائية عقب كل حادثة قتل الّتي لابد أن تحصل مع كل ضحية لأن القاتل ليس وحده يعيش وسط هذا المجتمع الّذي يتفاعل مع كل صغيرة وكبيرة ..
وقد يتساءل القارئ إذا كان القاتل (نعمان ) قد فقد ذكوريته لماذا لم تكن ضحاياه من النساء فقط دون تعين ؟
امتاز أسلوب الكاتب بلغةٍ رصينةٍ تخللتها صور شعريّة حسيّة وانزياح في تركيب المفردات ( تجثو في ربوعٍ من ندم ) ص10..
كما أنه وظف المثل والأغاني الفلكلورية والتراثية في روايته مما أعطى جمالية لحركة السرّد وتتابعه ( هاي من الله قسمتي, دوم أتسلّه بدمعتي .. ) ص10, ( على شواطئ دجله مُر يا منيتي وقت الفجر)ص48..
أراد الكاتب أن يبين بأنه في ذلك الوقت لا فرق بين سني وشيعي ومسيحي وصابئي ويزيدي وأن الحرب والقتل شمل الجميع ( ذهب ضحية الحرب كل الفئات في المجتمع العراقي العربي والكردي والتركماني والمسيحي كما لم يرحل جميل وحده بل شاركه الرحيل كل من سردار من السليمانية وخوشا بامتّي ... ) 64..
تقنية السرّد
وظف الكاتب تقنية الاسترجاع في نقل الأحداث باعتماده على دلالات مكانية وزمانية وربطها بأسلوب أكثر تشويقَّاً واثارة ضمن اطار زمني مُحدد فكانت الأحداث كلها تدور في زمن الحرب بين العراق وايران وبوجهة وأيدولوجية الكاتب وطبيعة العلاقة الترابطية بين الكاتب والعالم المتحرك المبنيِّ داخل سلسلة السرّد والغاية التي من أجلها ظهر صوت الكاتب في ثنايا النّص الأدبي ربما تكون من خلال رؤيته لموقف ما أو تأثره بالأحداث التي عاشها بنفسه باعتباره أحد الأجيال التي وقع عليها حيّف الحروب أو لغرض تحريك مشاعر القارئ ..
كما أنه استثمر اللغة الشعريّة في البنية السرّدية لامتلاكه القدرة في صياغة وخلق صور حسيّة ذات تأثير مباشر على ذائقة المتلقي الذي يميّل إلى التغيير والتنوع في أسلوب السرّد وتسليطه الضوء على نظريات علم الاجرام وأقوال الفلاسفة والحكماء وبيان وقائع تأريخيه ووصف أبرز المعالم في بغداد ( المتحف البغدادي, شارع أبو نؤاس, مطعم دنانير في الكرادة وغيرها من المناطق البارزة في بغداد ) أثناء تحريك شخوصه والحوارات الداخلية والخارجية بينهم لبيان تعدد الأصوات لكل شخصية إلا أن الوصف جاء بلسان الراوي ولم يعطي للشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية آراء مستقلة تتناقض وتتضارب فيما بينها وبذلك يكون الصوت الواحد هو الطاغي والمهيمن على الأصوات الأخرى..
جاء التحاور بين نعمان, وحبيبته سناء وصديقتها رحمه حول نظريات القانون بأسلوب مباشر تقريري كما في ( القانون: هو مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد وتحدد حقوقهم والتزاماتهم وتضع الجزاء على يخالفها ... )ص95 من الرواية..
وأقوال لأفلاطون في وصف القانون ( مستبد أحمق لا يغيّر رأيه مهما كان )ص97.. و الحوار كان بين شخصيات متطابقة في الرأي ولا تغير شيء من النظريات والتعريفات التي وضعها الفلاسفة ورجال القانون فيكون والحالة هذه تطابق رأي الشخصيات المتحاور وتنطوي ضمن الصوت الواحد..
وهذا النوع من الحوارات الداخلية والخارجية التي ساهمت في ابطاء حركة السرّد بالإضافة إلى الوصف والتوضيح لكثير من الأماكن الّتي كانت محط تجوال الشخصيات الرئيسة والثانوية من خلال راوٍ عليماً حاضراً مباشرةً وعارفاً بكل تفاصيل العمل الأدبي وطبيعة الأفكار والميّول والرغبات الّتي كانت مرصودة من قبل الراوي وهذه التقنية تدخل ضمن الرواية المونولوجية ..
يعتقد الكثير من خلال الموروث القديم والأساطير بأن القطط السوداء ترمز إلى الشر وترافق أعمال السحر والشعوذة إلا أن الكاتب أدخلها في العمل الروائي كبشير خير ونذير وقيامها بمهمة تحذير الضحية وابعادها من الوكر الشيطاني الذي أعده القاتل نعمان وقد كان دورها مع كل حادثة قتل بالإضافة إلى دورها بالاستدلال على مكان الجريمة ومرافقتها للشرطة .. لكن القارئ يتساءل لماذا اختار الكاتب قطة سوداء ولم تكن بيضاء ؟ دائماً يكون الحيوان الأليف ودوداً مع مُربيه مهما كانت صفاته وأفعاله مع الآخرين ولكن كان حال القطة السوداء في العمل الروائي تصرفت عكس المألوف .. يا ترى ماذا كان يقصده الكاتب من ذلك ؟ تساؤلات كثيرة بقيت عالقة في ذهن القارئ عن تصرفات الشخصية الرئيسة وطبيعة علاقتها مع الشخصيات الثانوية ربما يقدم لنا الكاتب تبريرا يرفع الغموض ويفك التعالقات والتشابك في الرؤى بمقالٍ مُلحقٍ مستقلٍ..
المصادر
1-غانم عمران المعموري: الذات والوجدان في القصيدة, شعراء بابل انموذجاً, اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق, ط1, 2022,ص70.
2-ميخائيل باختين, شعرية دوستوفيسكي, ترجمة د. جميل نصيف التكريتي, دار توبقال للنشر, الدار البيضاء, المغرب, 1986,ص72.