لِڤ أولمان
«التمثيل بالنسبة لي هو بمثابة فضاءات رحبة للفرح»!
ترجمة وتقديم علي كامل
”شيء رائع أن تذهب لمشاهدة فيلم لغرض التسلية. لكن في بعض الأحيان شيء رائع أيضاً أن تذهب لا لكي تتسلى فقط بقدر ما تُثار داخلياً، لتخرج من قاعة العرض وتقول: (ماذا يعني هذا الفيلم؟ ما هي القيم التي يطرحها؟) أو من الممكن أن تغضب وتنزعج أو ربما تهدأ وتقول: (سوف أصمت قليلاً ولن أتكلم لبعض الوقت). وهذا هو بالضبط ما ينبغي على المُشاهد أن يفعله إزاء الفيلم. ينبغي أن يكون مبدعاً أيضاً وعليه أن يعثر على أشياء في الفيلم لم يفكر بها الكاتب أو المخرج أو الممثل مطلقاً“ لِڤ أولمان
في مذكراتها التي صدرت عام ١٩٧٧ بعنوان ”أتغيّر“ كتبتْ لِڤ أولمان تقول: إنني أكتب عن شخص أعرفه جيداً، شخص أعرفه حق المعرفة، عن امرأة نشأتْ وترعرتْ في النروج وما طرأ عليها من تغيير. امرأة تمتهن عملاً جرّبته وخبرته كحق خاص (....) أريد أن أُظهر هذا الشخص من دون قناع وأقول: إنه أنا. (*)
على الرغم من أن لِڤ أولمان هي مواطنة نروجية إلا أن قدمها لم تطأ أرض النرويج لحين أصبح عمرها سبعة أعوام، فقد ولدت في اليابان عام ١٩٣٨ من أبوين نرويجيين حيث كان والدها جوني أولمان مهندساً يعمل ويقيم هناك آنذاك. كتبت أولمان بهذا الشأن تقول:
”ولدتُ في مستشفى صغير في طوكيو. أخبرتني أمي أنها تتذكر شيئين لحظة ولادتي: الأول، أنها رأت فأراً يمّر من أمامها واعتبرت ذلك بمثابة فأل حسن. والثاني، أن إحدى الممرضات تقدمّت نحوها وهمست في أُذنها باعتذار قائلة: إنها فتاة. هل تفضلين إخبار زوجك بنفسك؟“.
بيرگمان المعلّم والعاشق!
لا يمكن الحديث بالطبع عن لِِڤ أولمان، الإنسانة والفنانة، دون التطرق إلى علاقتها العاطفية والإبداعية بإنگمار بيرگمان. فإذا كان بيرگمان هو الفنان الخبير في رسم شقاء الإنسان، فأولمان هي القماشة التي كان يرسم عليها ذلك الشقاء. فقد ارتبط اسمها به وكادت تتوارى تحت ظلاله الوارفة لفترة طويلة الأمر الذي كان يثير فيها القلق حقاً. تقول:”كنت أحس أنني لا شيء من دونه!“. وعن أول لقاء به تقول:
”كان ذلك عام ١٩٦٦. لقد كان إنگمار قد شاهد بعضاً من أفلامي قبل أن ألتقيه، وحين التقيت به أحسست كما لو أنه شيء ما قد انبثق من صفحات مجلات هوليوود السينمائية. كنا نسير في الشارع أنا وهو وببي أندرسون، وفجأة أوقفني وقال: (أريدك أن تكوني في فيلمي القادم).. (تضحك).. حينها فكرّت: أوه يا إلهي، هذا يحدث تماماً كما في مجلات الأفلام.. (تضحك)..
لقد كان إنگمار حينها يتهّيأ لإخراج فيلم كنتُ سألعبُ فيه دوراً صغيرا لكنه مرضَ فجأة وألغى الفيلم. عندئذ ولأجل أن نغيّر مزاجنا ونبتهج قليلاً سافرنا أنا وببي وأزواجنا إلى بولندا وتشيكوسلوفاكيا. وهناك في تشيكوسلوفاكيا أخبرتنا السفارة النروجية أن رسالة وصلت من إنگمار. يبدو أنه أراد منا العودة على الفور. كان لا يزال في المستشفى وكان يتطلع في صورة ببي وصورتي، كما عرفت فيما بعد، وخطرت له فكرة فيلم (ﭙيرسونا)، وكان قد أتمّ كتابة السيناريو له.
عُدنا إلى النرويج وشرع في تصوير الفيلم بعد حوالى أسبوعين، لذا لم يُجرى لنا أي اختبار. لا شيء. فقد استوحى كل شيء من صورنا الفوتوغرافية فقط.. (تضحك).. حينها فكرّنا أنا وببي بأن هذا الفيلم سوف لن يراه أحد لأنه كان غريباً جداً.. (تضحك).. لقد كانت تجربة رائعة أن نفعل ذلك معاً. ببي كانت يومها واحدة من أفضل صديقاتي، أما أنا فقد وقعت في غرام إنگمار...(تضحك)“ (**).
كثيراً ما كان بيرگمان يرّدد جملته الشهيرة بأنه يوظف لِڤ في أفلامه بوصفها ”روحه الثانية“. أما هي فتقول:”في معظم العلاقات العاطفية لا يمكنك مطلقاً أن تفهم الشخص الآخر بشكل كامل وتستخدمه إبداعياً في ذات الوقت، إلا أن بيرگمان فعل ذلك معي، على الرغم من أنه سرق بعض الأشياء من حياتي لا سيما في فيلمه (مَشاهد من الحياة الزوجية)“.
وهكذا ومنذ ذلك الحين أصبح بيرگمان معلّمها الأول وعشيقها وتواصلت علاقتهما الإبداعية والعاطفية التي أثمرت فيما بعد ابنتهما لين أولمان، التي ستظهر لاحقاً في واحد من أفلام والدتها، وكذلك تسعة أيقونات رائعة أخرى هي:
ـ العار (١٩٦٨) بدور إيفا روزنبرغ
ـ ساعة الذئب (١٩٦٨) بدور ألما بورغ
ـ آلام آنا (١٩٦٩) بدور آنا فروم
ـ صرخات وهمسات (١٩٧٢) بدور ماريا
ـ مشاهد من الحياة الزوجية (١٩٧٣) بدور ماريانا
ـ وجها لوجه (١٩٧٦) بدور د. جيني اسحاقسن
ـ بيضة الافعى (١٩٧٧) بدور مانويلا روزنبرغ
ـ سوناتا الخريف (١٩٧٨) بدور إيفا
ـ سرباندا (٢٠٠٣) فيلم تلفزيوني. بدور ماريانا
في الفيلم التلفزيوني الأخير لإنگمار بيرگمان (ساراباند) الذي أخرجه عام ٢٠٠٣ تُقرّر مارينا (التي لعبت دورها لِڤ أولمان) زيارة زوجها السابق في بيته الصيفي في يوم خريفي جميل بعد ثلاثين عاماً من الانفصال. وحين يسألها عن سبب قدومها، تجيب:”لأنك أنت من طلب مني الحضور“.
وحين كان بيرگمان يحتضر في جزيرة فارو في نهاية شهر يوليو عام ٢٠٠٧ غادرتْ لِڤ بيتها الصيفي في النروج وسافرت لرؤيته ووداعه، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة حال وصولها، ومع ذلك فقد حرصت على أن تقول له:”إنك أنت من طلب مني الحضور“.
تقول أولمان:”لقد جئت لأقول له وداعاً. لا أدري إن كان قد عرف أنني هناك، لأن هذا أمر مهم جداً بالنسبة لي“.
استدارت أولمان فيما بعد لتصبح مخرجة مسرحية وسينمائية، وهي تعترف أنها استخلصت الكثير من دروس بيرگمان بهذا الشأن وخصوصا جملته التي كان يردّدها على مسامعها دائماً كما تقول:”كان يقول لي دائماً أن الشيء الجوهري الذي ينبغي عليك عمله وأنت تلعبين أدوارك هو أن توّظفي لها كل اوهامك وخيالاتك وأي شيء آخر كنت قد فعلته في طفولتك“.
أنجزت أولمان، كمخرجة سينمائية، أربعة أفلام مميزة لعل أبرزهما ”اعترافات خاصة“ ١٩٩٦ وفيلم ”الخائن“ ٢٠٠٠، اللذان اعتمدا على مخطوطتين لسيناريوهين كتبهما بيرگمان على أمل أن يخرجهما يوماً ما وكلاهما مستمد من حياته الخاصة. الأول يتناول الحياة التعيسة لوالدي بيرگمان والثاني يُظهر الدمار الذي تحدثه امرأة حين تقيم علاقة حب مع أفضل أصدقاء زوجها.
وهكذا جاء الوقت الذي تَخرج فيه أولمان من ذلك الظل الوارف لتقف على قدميها لوحدها، فقد أنشأت ابنتهما ”لين اولمان“ التي هي الآن روائية وواحدة من أبرز الصحافيين في النروج، ومن ثم تألقها، ليس في ميدان السينما كممثلة ومخرجة، إنما أيضاً كممثلة ومخرجة في أشهر مسارح العالم، فضلاً عن عملها مع منظمة يونيسيف كسفيرة للنوايا الحسنة وتأسيسها لمنظمة تعنى باللاجئين من النساء والأطفال.
الآن وهي في خريف العمر تقول إنها تتحرق شوقاً في العودة إلى جذورها الأولى، إلى خشبات المسرح النرويجي بعد أربعين عاماً من الغياب، بل إنها ترغب في القيام بجولة طويلة في شمال بلادها وهي تستقل واحدة من حافلات الإنتاج السينمائي، كما تقول، وهو شيء لم تفعله منذ أن كانت ممثلة ناشئة. بغبطة طفل تقول:”سيكون ذلك ممتعاً حقاً. إنه نوع من العودة والوداع في الوقت نفسه. إنها دورة كاملة من البدء إلى البدء“.
لِڤ أولمان ممثلة!
(ليس بوسع شيء موازاة اللحظة التي أكون فيها أمام الكاميرا) (***)
أعتقد أن الممثل هو كائن مُنح نعمة اسمها ”الموهبة“ فهو إذاً مبارك. إنه الرحّال دوماً إلى كل مكان، وهو من ستتاح له الفرص في مقابلة أناس رائعين في هذا الكون، وهو من سيكون جزءاً من بيئة لم تكن يوماً بيئته لو لم يمتهن هذه المهنة العذبة.
لقد كنتُ ممثلة في المسرح والسينما لمدة نصف قرن تقريباً. إنه عمر.. حياة نوعية. هذه المهنة منحتني إمكانية إعادة إكتشاف وتأمل وفهم واستلهام واقع غالباً ما كان نائياً عن نوعية الحياة التي احييتها وعن طبيعة ما ترعرعت وتثقفت على قبوله وفهمه.
لقد عثرت على الكثير من معرفتي وكذا تعاطفي مع الآخرين عبر مشاهدتي الأفلام في قاعة العرض المظلمة أشارك وأتبادل الخبرات مع أناس آخرين لا أعرفهم.
إن الوجوه والحركات والأصوات القادمة من هناك، من الأعلى، من شاشة الفيلم، أصبح بالنسبة لي، كفتاة شابة آنذاك، شيئاً ما، أكثر حقيقة من الواقع.أما فيلمي المفضّل أبداً فهو ”أمبيرتو دي“ لفيتوريو دي سيكا (****)، الفيلم الذي ظهر ربما بسنوات عديدة قبل ولادة الكثير من قرّاء هذه المقال.
أمبيرتو دي، آه، ما أحلى سن الثالثة عشرة تلك التي كنتها. لقد كنت أحس بما كان يحس به ذلك العجوز المشرد أمبيرتو، وقد كان ألمه بمثابة ألمي، ووحدته كادت تخترق سائر جسدي. حبه لكلبه وحزنه بفقدان أحدهما الآخر، أشياء لا زال بوسعها حتى هذه اللحظة استدرار الدموع من عيوني. الشارع الذي كان يعيش فيه العجوز أمبرتو دي كنت أحسه وأعرفه كما لو أنه شارعي أنا. على الرغم من كوني آنذاك فتاة صغيرة أقيم بعيداً عن الشمال فضلاً عن أنني كنت محمية ومحبوبة، لكن أمبرتو دي وأنا كنا شخصاً واحداً. وحتى الآن، حين أفكر به، أحس به وأتماهى مع حكايته كما لو أنها حكايتي. إن المادة التي أشتغل عليها في مهنتي كممثلة هي الحياة التي أحياها، والحياة التي أرقبها وأراها، والحياة التي أقرأ عنها، وتلك التي أُصغي إليها.
ثمة لحظة مدهشة حين تقفز راقصة باليه وتبقى محلقة في الهواء لبعض الوقت مدة أطول من الممكن. تلك اللحظة هي ما أتوق إليها كممثلة. وهذا ما أرقب حدوثه في عملي مع الممثلين الآخرين حين أمارس الإخراج، وهو أن ترى شيئاً ما ربما يكون ممكناً حدوثه. لدي رغبة حقاً في محاولة القفز مرة أخرى وأخرى وأريد التسليم بذلك حتى لو كانت المحاولة فاشلة.
أحب أن أعبّر عن شيء ما، إنساني، في عملي كممثلة أو كمخرجة أو كاتبة سيناريو. شيء ما يمكن أن يكون مدهشاً حين يتم تحديده ويمكن تحقيقه. أحب أن أُبلّغ رسالة أنه لا ينبغي للإنسان مطلقاً أن يشعر بالوحدة. وهذا حق إنساني لسائر البشر في حرية الانتماء إلى هذه الإنسانية بما أنهم أعضاء في هذا المجتمع الإنساني.
لذا يمكن للبعض منا ممن كان يفكر أننا كنا نحّلق خارج السرب أن يحس أننا نخوض تجربة مشتركة واحدة في جلوسنا معاً في القاعة المظلمة للعرض، وتلك هي فرصة رائعة لتبادل المشاعر والرؤى والإحساس بأنفسنا والتعرف إليها عن قرب.
لقد أمضيتُ معظم حياتي كممثلة في المسرح والسينما. وحين كنت أمثل وأنا طفلة، كانت هناك حقيقة واحدة موجودة في ذهني هي متعة الوجود في عالم يخلق لديك إيماناً ما، عالم مبني على الثقة والصدق.
كنت أرسم الصور في صغري وهذا مجرد حدث عابر بالطبع. لم يخطر ببالي حينها مطلقاً أنه يمكن رسم الناس والأشجار والبيوت بأية طريقة معينة إذا كان الآخرون قد ميزوها وأحبوها مثلما هي في الطبيعة. لذا فقد كانت أشجاري بنفسجية اللون وسماوية خضراء. ما هذا؟ كان يسألني الكبار. إلا إنني لم أُعر لذلك أي إهتمام لأن جدتي كانت تقول لي دائماً:”آه يا لِڤ .. ما هذه الأحلام الجميلة التي تصنعينها!“. حقيقة الأمر هو أن تلك الرسومات كانت تمثلني أنا. ومن بعد، أصبحت الأدوار التي ألعبها هي الأخرى تمثلني أنا. ولذا سيّسلم ويعترف البعض بها مثلما فعلتْ جدتي يوماً.
أما ما هو أكثر الأشياء الذي أتوق إليه كممثلة، فعلى الأرجح إن الدور الذي أقوم بأدائه، ولنقل شخصية ”نورا“ في بيت الدمية لهنريك إبسن مثلاً. ما هو محتمل جداً هو أن نورا تلك ينبغي هي أن تلعب شخصية لِڤ وليس العكس. وهذا ما كان يحدث لي في أكثر الأوقات إن لم يكن في أفضل اللحظات.
إن قيد الممثل هو أن يكون أداة أو وسيلة للتعبير. ذلك بالنسبة لي أمر مستحيل، بل دون فائدة أو أهمية، أن يقوم الممثل بتغيير كامل شخصيته من دور إلى آخر.
ما أقرّ وأسّلم به هو أن ثمة أسرارا مجهولة، أسرارا في أعماق نفسي، لم أكن على علم وإدراك ومعرفة بها حتى الآن. أسرار كهذه تتقدم نحوي محدثة شرراً بواعز من تشكيل الدور و بدافع من تجربة حياتي، أسرار تتفجر أحياناً بدافع من المخرج نفسه.
التمثيل بالنسبة لي هو بمثابة مديات رحبة للفرح لا سيما حين تحس أن كل شيء حقيقي. بل أكثر من ذلك، اليوم وأنا أمارس عملية الإخراج أستطيع رؤية أرواح الممثلين، حيواتهم، تأملاتهم ومراقبتهم للبشرية والإنسان، وقد أصبحتْ جميعاً الشيء الذي يقدمونه إلى المتفرج. إنها حقيقة المخيلة، الحقيقة التي تتكشف في هذه اللحظة الذهبية ولأول مرة أمام ذلك المتفرج. ولأن الممثل قد أحس بتلك الحقيقة فإن المتفرج سيتحسسها بالضرورة. العرض هو من يجعلنا ندرك الحقيقة، على الأقل، تلك الحقيقة المعطاة لنا لكي نستوعبها.
أنا لا أعرف تماماً لمن سأُعطي الأولوية إذا ما خُيرّت ما بين الإخراج المسرحي أو السينمائى، رغم أنني أعرف جيداً أن الأفلام تتميز بشيء واحد لا يتمتع به المسرح، ألا وهو اللقطة الكبيرة ”كلوز آب“.
كلما إقتربتْ الكاميرا أكثر كلما ازددتُ توقاً ورغبة أكثر لإظهار”الوجه“ وهو عارٍ تماماً. الكشف عما هو مختبئ خلف البشرة، وراء العينين. الكشف عمّا هو داخل الرأس، عن الأفكار وهي تتشكل.
إن الهدف من ممارستي العمل كممثلة في الفيلم هو قبل كل شيء مواصلة رحلة الكشف عن دواخلي الخاصة، نزع القناع وإظهار ما يختبئ خلفه.
إن ما يثير الدهشة في اقتراب الكاميرا نحوك أكثر فأكثر هو التقاط ما لا تستطيع العين التقاطه. إن إظهار وجه الإنسان على الشاشة وهو يقترب من المتفرج هو الوسيط الحقيقي الوحيد الذي لا تنافسه واسطة أخرى.
المتفرج وهو في لحظة التماهي تلك ينبغي عليه مواجهة شخص حقيقي وليس الممثل. حين يريد مواجهة نفسه سيواجهه عندئذ وجه الممثل. إنها الروح وهي تتماثل وتتماهى مع الوجه. نعم هذا ما أعرفه عن الإنسان، هذا هو ما أملكه من خبرة وتجربة، وهذا ما أراه وما أحب أن أشارك الآخرين فيه.
ليس ثمة مجال للحديث هنا عن الماكياج والشَعر أو الجمال. إنه الكشف الذي ينأى بعيداً عن الكاميرا لكي يُظهر ليس الوجه فحسب، إنما أيضاً أي نوع من الحياة قد شهدها هذا الوجه. إن الأفكار التي خلف الجبين هي أشياء لا يعرفها الوجه ذاته عن نفسه، لكن المتفرج هو من سيراها ويحسها.
بشكل خاص، نحن نتوق بالضبط لهكذا نوع من الإحساس، حيث بوسع الآخرين إدراك ما نخبأه نحن في أعماقنا حقاًً. نعم، هذا هو ما أحبه كممثلة ومخرجة.
إن خطابات معظم الزعماء ورؤساء الوزارات والجنرالات ستُنسى حتماً. لكنني أعرف تماماً أن وجه أمبرتو دي الحزين وهو ينشد الرأفة بوسعه أن يغيّر على الأقل أولئك الذين عانوا ذلك الحزن ليكون جزءاً منهم إلى الأبد. بوسعه أن يوقظ وعيهم الاجتماعي. لقد حدث ذلك لي حين كنت في سن الثالثة عشرة.
نحن نعلم حتى هذه اللحظة أن صور السينما ورؤاها التي أبدعتها عقول المبدعين الموهوبين ستبقى تُطعم الناس ببعض الأمل، الأمل حيث ثمة بهاء وإجلال للحياة، الرجاء في أن لا يزال ثمة الكثير من الفرص والإمكانات.
إن المأساة التي يواجهها المخرجون السينمائيون الأوروبيون وجميع العاملين في حقل الإبداع سببها جلّ التغيرات السلبية في السياسات الأوروبية وهي في الحقيقة مأساة للجميع، بمن فيهم الجمهور نفسه.
نحن اليوم في عالم تحكمه الغباوة للأسف الشديد. ومع ذلك، لا زال بوسعنا، نحن العاملين في ميدان الثقافة، مواجهة اللحظة الأخيرة حيث بالإمكان عمل شيء من التغيير والاختلاف. بوسعنا البقاء كعامل ضغط من أجل تحقيق القضايا الكبرى، وبإمكاننا إيصال أصواتنا لمن لا يسمع.
إن القضايا التي تتعامل مع عقل الإنسان وروحه وحنّوه وأحلامه، لا يمكن للحروب والخطابات التلفزيونية حلها مطلقاً. إن الحل الحقيقي يكمن في إقرارنا بقيمة الإنسان وتفرده.
نحن نقاتل من أجل هويتنا. وبغض النظر عن كيفية الانتماء لهذا الطريق أو ذاك في عالم السينما، إلا أن لدينا مسؤولية كاملة ومشتركة لأننا شهود عن أزمنتنا.
***
فيلموغرافيا
(الممثلة والمخرجة السينمائية النروجية ”لِڤ جوني أولمان“ ١٦ سبتمبر ١٩٣٨)
(أفلامها كممثلة)
ـ بيرسونا (١٩٦) بدور إليزابيث فركلر. إخراج بيرگمان
ـ العار (١٩٦٨) بدور إيفا روزنبرغ. إخراج بيرگمان
ـ ساعة الذئب (١٩٦٨) بدور ألما بورغ. إخراج بيرگمان
ـ آلام آنا (١٩٦٩) بدور آنا فروم.إخراج بيرگمان
ـ المهاجرون (١٩٧١) بدور كريستينا. إخراج: جان ترول
ـ زائر الليل (١٩٧١) بدور إيستر جينك. إخراج لاسلو بينيديك
ـ صرخات وهمسات (١٩٧٢) بدور ماريا. إخراج بيرگمان
ـ البابا جون (١٩٧٢) بدور البابا جون. إخراج مايكل أندرسون
ـ مشاهد من الحياة الزوجية (١٩٧٣) بدور ماريانا. إخراج بيرگمان
ـ أربعون قيراط (١٩٧٣) بدور آن ستانلي. إخراج ميلتون كاستيلاس
ـ الأفق المفقود (١٩٧٣) بدور كاترين. إخراج تشارلس تشاروت
ـ عروس زاندي (١٩٧٤) بدور هنا لاند. إخراج جان ترول
ـ التنازل (١٩٧٤) بدور الملكة كريستينا. إخراج أنتوني هارفي
ـ وجها لوجه (١٩٧٦) بدور د. جيني إسحاقسن. إخراج بيرگمان
ـ بيضة الأفعى (١٩٧٧) بدور مانويلا روزنبرغ. إخراج بيرگمان
ـ الجسر النائي (١٩٧٧) بدور كاتي تير هورست. إخراج ريتشارد آتينبورو
ـ سوناتة الخريف (١٩٧٨) بدور إيفا. إخراج بيرگمان
ـ الصبي الكستنائي (١٩٨٤) بدور السيدة كامبل. إخراج دانيال بيتري
ـ غابي: قصة حقيقية (١٩٨٧) بدور ساري. إخراج لويس مندوكي
ـ وداعاً موسكو (١٩٨٧) بدور عايدا نودل. إخراج ماورو بولوغنيني
ـ الصديقة Girlfriend (١٩٨٨) بدور ماريا. إخراج جينيني ميرابفل
ـ حديقة الزهور (١٩٨٩) بدور غابريلي. إخراج فونس راديماركر
ـ الظل الطويل (١٩٩٢) بدور كاثرين. إخراج فيلموس سيغموند
ـ درومسبيل (١٩٩٤) بدور بائعة تذاكر. إخراج أوني ستراومي
ـ زورن (١٩٩٤) بدور إيما زورن. إخراج غونار هيلستروم
ـ سرباندا (٢٠٠٣) فيلم تلفزيوني بدور ماريانا. وهو فيلم بيرگمان الأخير
ـ عبر زجاج معتم (٢٠٠٨) بدور الجدة إخراج جيسبر دبليو نيلسون
(أفلامها كمخرجة)
ـ صوفيا (١٩٩٢) سيناريو وإخراج
ـ كريستين لافرانسداتار (١٩٩٦)
ـ إعترافات خاصة مسلسل تلفزيوني (١٩٩٦) مخطوطة سيناريو لبيرگمان
ـ الخائن (٢٠٠٠) مخطوطة سيناريو لبيرگمان
(كتبها)
ـ أتغيّر (١٩٧٧) أوتوبيوغرافيا
ـ الخيارات (١٩٨٤) أوتوبيوغرافيا
ـ نحن الأطفال (١٩٩٠)
ـ رسالة إلى حفيدي (١٩٩٨)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
هوامش:
(*)
Live Ullmann. Changing. published in UK in 1977
(**)
هوليوود إنترفيو. مجلة فينيسيا ويب سايت. لِڤ أولمان: الحفاظ على الثقة!..أليكس سيمون
(***) المصدر:
.Projections (15) European Cinema Edited by Peter Cowie Pascal Edelmann
(****) فيلم أمبيرتو دي: (١٩٥٢)
هو ثمرة شراكة إبداعية بين المخرج السينمائي دي سيكا وكاتب السيناريو الشهير زﭬاتيني وهو يروي حكاية رجل عجوز متقاعد يعيش على مرّتب تقاعدي بائس وتافه ولم يعد له في هذا العالم سوى كلبه وخادمة البانسيون الذي يقيم فيه. إنه شبيه بفيلم ”سارق الدراجة“ للمخرج نفسه، حيث الشخصية الرئيسية في كلا الفيلمين هي الإنسان اليومي المُعدم البسيط. (لعب دوره كارول باتيستي، وهو ليس ممثلاً إنما بروفيسور في جامعة فلورنسا، عثر عليه دي سيكا في أحد الأيام وهو يتمشى في أحد الشوارع. يقول سكورسيزي:”لاأظن أن بوسع ممثل محترف أن يجيد أداء الدور مثلما فعل باتيستي“.
حين شاهد الفيلم وزير الثقافة الإيطالي جيوليو أنريوتي آنذاك نشر رسالة في الصحف أعلن بها معارضته العلنية لسينما الواقعية الإيطالية الجديدة بسبب ”نشرها الغسيل القذر بشكل معلن“ على حد قوله. مضيفاً”ينبغي على دي سيكا ومخرجي هذا التيار الجديد أن يكونوا أكثر تفاؤلاً“!.
«التمثيل بالنسبة لي هو بمثابة فضاءات رحبة للفرح»!
ترجمة وتقديم علي كامل
”شيء رائع أن تذهب لمشاهدة فيلم لغرض التسلية. لكن في بعض الأحيان شيء رائع أيضاً أن تذهب لا لكي تتسلى فقط بقدر ما تُثار داخلياً، لتخرج من قاعة العرض وتقول: (ماذا يعني هذا الفيلم؟ ما هي القيم التي يطرحها؟) أو من الممكن أن تغضب وتنزعج أو ربما تهدأ وتقول: (سوف أصمت قليلاً ولن أتكلم لبعض الوقت). وهذا هو بالضبط ما ينبغي على المُشاهد أن يفعله إزاء الفيلم. ينبغي أن يكون مبدعاً أيضاً وعليه أن يعثر على أشياء في الفيلم لم يفكر بها الكاتب أو المخرج أو الممثل مطلقاً“ لِڤ أولمان
في مذكراتها التي صدرت عام ١٩٧٧ بعنوان ”أتغيّر“ كتبتْ لِڤ أولمان تقول: إنني أكتب عن شخص أعرفه جيداً، شخص أعرفه حق المعرفة، عن امرأة نشأتْ وترعرتْ في النروج وما طرأ عليها من تغيير. امرأة تمتهن عملاً جرّبته وخبرته كحق خاص (....) أريد أن أُظهر هذا الشخص من دون قناع وأقول: إنه أنا. (*)
على الرغم من أن لِڤ أولمان هي مواطنة نروجية إلا أن قدمها لم تطأ أرض النرويج لحين أصبح عمرها سبعة أعوام، فقد ولدت في اليابان عام ١٩٣٨ من أبوين نرويجيين حيث كان والدها جوني أولمان مهندساً يعمل ويقيم هناك آنذاك. كتبت أولمان بهذا الشأن تقول:
”ولدتُ في مستشفى صغير في طوكيو. أخبرتني أمي أنها تتذكر شيئين لحظة ولادتي: الأول، أنها رأت فأراً يمّر من أمامها واعتبرت ذلك بمثابة فأل حسن. والثاني، أن إحدى الممرضات تقدمّت نحوها وهمست في أُذنها باعتذار قائلة: إنها فتاة. هل تفضلين إخبار زوجك بنفسك؟“.
بيرگمان المعلّم والعاشق!
لا يمكن الحديث بالطبع عن لِِڤ أولمان، الإنسانة والفنانة، دون التطرق إلى علاقتها العاطفية والإبداعية بإنگمار بيرگمان. فإذا كان بيرگمان هو الفنان الخبير في رسم شقاء الإنسان، فأولمان هي القماشة التي كان يرسم عليها ذلك الشقاء. فقد ارتبط اسمها به وكادت تتوارى تحت ظلاله الوارفة لفترة طويلة الأمر الذي كان يثير فيها القلق حقاً. تقول:”كنت أحس أنني لا شيء من دونه!“. وعن أول لقاء به تقول:
”كان ذلك عام ١٩٦٦. لقد كان إنگمار قد شاهد بعضاً من أفلامي قبل أن ألتقيه، وحين التقيت به أحسست كما لو أنه شيء ما قد انبثق من صفحات مجلات هوليوود السينمائية. كنا نسير في الشارع أنا وهو وببي أندرسون، وفجأة أوقفني وقال: (أريدك أن تكوني في فيلمي القادم).. (تضحك).. حينها فكرّت: أوه يا إلهي، هذا يحدث تماماً كما في مجلات الأفلام.. (تضحك)..
لقد كان إنگمار حينها يتهّيأ لإخراج فيلم كنتُ سألعبُ فيه دوراً صغيرا لكنه مرضَ فجأة وألغى الفيلم. عندئذ ولأجل أن نغيّر مزاجنا ونبتهج قليلاً سافرنا أنا وببي وأزواجنا إلى بولندا وتشيكوسلوفاكيا. وهناك في تشيكوسلوفاكيا أخبرتنا السفارة النروجية أن رسالة وصلت من إنگمار. يبدو أنه أراد منا العودة على الفور. كان لا يزال في المستشفى وكان يتطلع في صورة ببي وصورتي، كما عرفت فيما بعد، وخطرت له فكرة فيلم (ﭙيرسونا)، وكان قد أتمّ كتابة السيناريو له.
عُدنا إلى النرويج وشرع في تصوير الفيلم بعد حوالى أسبوعين، لذا لم يُجرى لنا أي اختبار. لا شيء. فقد استوحى كل شيء من صورنا الفوتوغرافية فقط.. (تضحك).. حينها فكرّنا أنا وببي بأن هذا الفيلم سوف لن يراه أحد لأنه كان غريباً جداً.. (تضحك).. لقد كانت تجربة رائعة أن نفعل ذلك معاً. ببي كانت يومها واحدة من أفضل صديقاتي، أما أنا فقد وقعت في غرام إنگمار...(تضحك)“ (**).
كثيراً ما كان بيرگمان يرّدد جملته الشهيرة بأنه يوظف لِڤ في أفلامه بوصفها ”روحه الثانية“. أما هي فتقول:”في معظم العلاقات العاطفية لا يمكنك مطلقاً أن تفهم الشخص الآخر بشكل كامل وتستخدمه إبداعياً في ذات الوقت، إلا أن بيرگمان فعل ذلك معي، على الرغم من أنه سرق بعض الأشياء من حياتي لا سيما في فيلمه (مَشاهد من الحياة الزوجية)“.
وهكذا ومنذ ذلك الحين أصبح بيرگمان معلّمها الأول وعشيقها وتواصلت علاقتهما الإبداعية والعاطفية التي أثمرت فيما بعد ابنتهما لين أولمان، التي ستظهر لاحقاً في واحد من أفلام والدتها، وكذلك تسعة أيقونات رائعة أخرى هي:
ـ العار (١٩٦٨) بدور إيفا روزنبرغ
ـ ساعة الذئب (١٩٦٨) بدور ألما بورغ
ـ آلام آنا (١٩٦٩) بدور آنا فروم
ـ صرخات وهمسات (١٩٧٢) بدور ماريا
ـ مشاهد من الحياة الزوجية (١٩٧٣) بدور ماريانا
ـ وجها لوجه (١٩٧٦) بدور د. جيني اسحاقسن
ـ بيضة الافعى (١٩٧٧) بدور مانويلا روزنبرغ
ـ سوناتا الخريف (١٩٧٨) بدور إيفا
ـ سرباندا (٢٠٠٣) فيلم تلفزيوني. بدور ماريانا
في الفيلم التلفزيوني الأخير لإنگمار بيرگمان (ساراباند) الذي أخرجه عام ٢٠٠٣ تُقرّر مارينا (التي لعبت دورها لِڤ أولمان) زيارة زوجها السابق في بيته الصيفي في يوم خريفي جميل بعد ثلاثين عاماً من الانفصال. وحين يسألها عن سبب قدومها، تجيب:”لأنك أنت من طلب مني الحضور“.
وحين كان بيرگمان يحتضر في جزيرة فارو في نهاية شهر يوليو عام ٢٠٠٧ غادرتْ لِڤ بيتها الصيفي في النروج وسافرت لرؤيته ووداعه، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة حال وصولها، ومع ذلك فقد حرصت على أن تقول له:”إنك أنت من طلب مني الحضور“.
تقول أولمان:”لقد جئت لأقول له وداعاً. لا أدري إن كان قد عرف أنني هناك، لأن هذا أمر مهم جداً بالنسبة لي“.
استدارت أولمان فيما بعد لتصبح مخرجة مسرحية وسينمائية، وهي تعترف أنها استخلصت الكثير من دروس بيرگمان بهذا الشأن وخصوصا جملته التي كان يردّدها على مسامعها دائماً كما تقول:”كان يقول لي دائماً أن الشيء الجوهري الذي ينبغي عليك عمله وأنت تلعبين أدوارك هو أن توّظفي لها كل اوهامك وخيالاتك وأي شيء آخر كنت قد فعلته في طفولتك“.
أنجزت أولمان، كمخرجة سينمائية، أربعة أفلام مميزة لعل أبرزهما ”اعترافات خاصة“ ١٩٩٦ وفيلم ”الخائن“ ٢٠٠٠، اللذان اعتمدا على مخطوطتين لسيناريوهين كتبهما بيرگمان على أمل أن يخرجهما يوماً ما وكلاهما مستمد من حياته الخاصة. الأول يتناول الحياة التعيسة لوالدي بيرگمان والثاني يُظهر الدمار الذي تحدثه امرأة حين تقيم علاقة حب مع أفضل أصدقاء زوجها.
وهكذا جاء الوقت الذي تَخرج فيه أولمان من ذلك الظل الوارف لتقف على قدميها لوحدها، فقد أنشأت ابنتهما ”لين اولمان“ التي هي الآن روائية وواحدة من أبرز الصحافيين في النروج، ومن ثم تألقها، ليس في ميدان السينما كممثلة ومخرجة، إنما أيضاً كممثلة ومخرجة في أشهر مسارح العالم، فضلاً عن عملها مع منظمة يونيسيف كسفيرة للنوايا الحسنة وتأسيسها لمنظمة تعنى باللاجئين من النساء والأطفال.
الآن وهي في خريف العمر تقول إنها تتحرق شوقاً في العودة إلى جذورها الأولى، إلى خشبات المسرح النرويجي بعد أربعين عاماً من الغياب، بل إنها ترغب في القيام بجولة طويلة في شمال بلادها وهي تستقل واحدة من حافلات الإنتاج السينمائي، كما تقول، وهو شيء لم تفعله منذ أن كانت ممثلة ناشئة. بغبطة طفل تقول:”سيكون ذلك ممتعاً حقاً. إنه نوع من العودة والوداع في الوقت نفسه. إنها دورة كاملة من البدء إلى البدء“.
لِڤ أولمان ممثلة!
(ليس بوسع شيء موازاة اللحظة التي أكون فيها أمام الكاميرا) (***)
أعتقد أن الممثل هو كائن مُنح نعمة اسمها ”الموهبة“ فهو إذاً مبارك. إنه الرحّال دوماً إلى كل مكان، وهو من ستتاح له الفرص في مقابلة أناس رائعين في هذا الكون، وهو من سيكون جزءاً من بيئة لم تكن يوماً بيئته لو لم يمتهن هذه المهنة العذبة.
لقد كنتُ ممثلة في المسرح والسينما لمدة نصف قرن تقريباً. إنه عمر.. حياة نوعية. هذه المهنة منحتني إمكانية إعادة إكتشاف وتأمل وفهم واستلهام واقع غالباً ما كان نائياً عن نوعية الحياة التي احييتها وعن طبيعة ما ترعرعت وتثقفت على قبوله وفهمه.
لقد عثرت على الكثير من معرفتي وكذا تعاطفي مع الآخرين عبر مشاهدتي الأفلام في قاعة العرض المظلمة أشارك وأتبادل الخبرات مع أناس آخرين لا أعرفهم.
إن الوجوه والحركات والأصوات القادمة من هناك، من الأعلى، من شاشة الفيلم، أصبح بالنسبة لي، كفتاة شابة آنذاك، شيئاً ما، أكثر حقيقة من الواقع.أما فيلمي المفضّل أبداً فهو ”أمبيرتو دي“ لفيتوريو دي سيكا (****)، الفيلم الذي ظهر ربما بسنوات عديدة قبل ولادة الكثير من قرّاء هذه المقال.
أمبيرتو دي، آه، ما أحلى سن الثالثة عشرة تلك التي كنتها. لقد كنت أحس بما كان يحس به ذلك العجوز المشرد أمبيرتو، وقد كان ألمه بمثابة ألمي، ووحدته كادت تخترق سائر جسدي. حبه لكلبه وحزنه بفقدان أحدهما الآخر، أشياء لا زال بوسعها حتى هذه اللحظة استدرار الدموع من عيوني. الشارع الذي كان يعيش فيه العجوز أمبرتو دي كنت أحسه وأعرفه كما لو أنه شارعي أنا. على الرغم من كوني آنذاك فتاة صغيرة أقيم بعيداً عن الشمال فضلاً عن أنني كنت محمية ومحبوبة، لكن أمبرتو دي وأنا كنا شخصاً واحداً. وحتى الآن، حين أفكر به، أحس به وأتماهى مع حكايته كما لو أنها حكايتي. إن المادة التي أشتغل عليها في مهنتي كممثلة هي الحياة التي أحياها، والحياة التي أرقبها وأراها، والحياة التي أقرأ عنها، وتلك التي أُصغي إليها.
ثمة لحظة مدهشة حين تقفز راقصة باليه وتبقى محلقة في الهواء لبعض الوقت مدة أطول من الممكن. تلك اللحظة هي ما أتوق إليها كممثلة. وهذا ما أرقب حدوثه في عملي مع الممثلين الآخرين حين أمارس الإخراج، وهو أن ترى شيئاً ما ربما يكون ممكناً حدوثه. لدي رغبة حقاً في محاولة القفز مرة أخرى وأخرى وأريد التسليم بذلك حتى لو كانت المحاولة فاشلة.
أحب أن أعبّر عن شيء ما، إنساني، في عملي كممثلة أو كمخرجة أو كاتبة سيناريو. شيء ما يمكن أن يكون مدهشاً حين يتم تحديده ويمكن تحقيقه. أحب أن أُبلّغ رسالة أنه لا ينبغي للإنسان مطلقاً أن يشعر بالوحدة. وهذا حق إنساني لسائر البشر في حرية الانتماء إلى هذه الإنسانية بما أنهم أعضاء في هذا المجتمع الإنساني.
لذا يمكن للبعض منا ممن كان يفكر أننا كنا نحّلق خارج السرب أن يحس أننا نخوض تجربة مشتركة واحدة في جلوسنا معاً في القاعة المظلمة للعرض، وتلك هي فرصة رائعة لتبادل المشاعر والرؤى والإحساس بأنفسنا والتعرف إليها عن قرب.
لقد أمضيتُ معظم حياتي كممثلة في المسرح والسينما. وحين كنت أمثل وأنا طفلة، كانت هناك حقيقة واحدة موجودة في ذهني هي متعة الوجود في عالم يخلق لديك إيماناً ما، عالم مبني على الثقة والصدق.
كنت أرسم الصور في صغري وهذا مجرد حدث عابر بالطبع. لم يخطر ببالي حينها مطلقاً أنه يمكن رسم الناس والأشجار والبيوت بأية طريقة معينة إذا كان الآخرون قد ميزوها وأحبوها مثلما هي في الطبيعة. لذا فقد كانت أشجاري بنفسجية اللون وسماوية خضراء. ما هذا؟ كان يسألني الكبار. إلا إنني لم أُعر لذلك أي إهتمام لأن جدتي كانت تقول لي دائماً:”آه يا لِڤ .. ما هذه الأحلام الجميلة التي تصنعينها!“. حقيقة الأمر هو أن تلك الرسومات كانت تمثلني أنا. ومن بعد، أصبحت الأدوار التي ألعبها هي الأخرى تمثلني أنا. ولذا سيّسلم ويعترف البعض بها مثلما فعلتْ جدتي يوماً.
أما ما هو أكثر الأشياء الذي أتوق إليه كممثلة، فعلى الأرجح إن الدور الذي أقوم بأدائه، ولنقل شخصية ”نورا“ في بيت الدمية لهنريك إبسن مثلاً. ما هو محتمل جداً هو أن نورا تلك ينبغي هي أن تلعب شخصية لِڤ وليس العكس. وهذا ما كان يحدث لي في أكثر الأوقات إن لم يكن في أفضل اللحظات.
إن قيد الممثل هو أن يكون أداة أو وسيلة للتعبير. ذلك بالنسبة لي أمر مستحيل، بل دون فائدة أو أهمية، أن يقوم الممثل بتغيير كامل شخصيته من دور إلى آخر.
ما أقرّ وأسّلم به هو أن ثمة أسرارا مجهولة، أسرارا في أعماق نفسي، لم أكن على علم وإدراك ومعرفة بها حتى الآن. أسرار كهذه تتقدم نحوي محدثة شرراً بواعز من تشكيل الدور و بدافع من تجربة حياتي، أسرار تتفجر أحياناً بدافع من المخرج نفسه.
التمثيل بالنسبة لي هو بمثابة مديات رحبة للفرح لا سيما حين تحس أن كل شيء حقيقي. بل أكثر من ذلك، اليوم وأنا أمارس عملية الإخراج أستطيع رؤية أرواح الممثلين، حيواتهم، تأملاتهم ومراقبتهم للبشرية والإنسان، وقد أصبحتْ جميعاً الشيء الذي يقدمونه إلى المتفرج. إنها حقيقة المخيلة، الحقيقة التي تتكشف في هذه اللحظة الذهبية ولأول مرة أمام ذلك المتفرج. ولأن الممثل قد أحس بتلك الحقيقة فإن المتفرج سيتحسسها بالضرورة. العرض هو من يجعلنا ندرك الحقيقة، على الأقل، تلك الحقيقة المعطاة لنا لكي نستوعبها.
أنا لا أعرف تماماً لمن سأُعطي الأولوية إذا ما خُيرّت ما بين الإخراج المسرحي أو السينمائى، رغم أنني أعرف جيداً أن الأفلام تتميز بشيء واحد لا يتمتع به المسرح، ألا وهو اللقطة الكبيرة ”كلوز آب“.
كلما إقتربتْ الكاميرا أكثر كلما ازددتُ توقاً ورغبة أكثر لإظهار”الوجه“ وهو عارٍ تماماً. الكشف عما هو مختبئ خلف البشرة، وراء العينين. الكشف عمّا هو داخل الرأس، عن الأفكار وهي تتشكل.
إن الهدف من ممارستي العمل كممثلة في الفيلم هو قبل كل شيء مواصلة رحلة الكشف عن دواخلي الخاصة، نزع القناع وإظهار ما يختبئ خلفه.
إن ما يثير الدهشة في اقتراب الكاميرا نحوك أكثر فأكثر هو التقاط ما لا تستطيع العين التقاطه. إن إظهار وجه الإنسان على الشاشة وهو يقترب من المتفرج هو الوسيط الحقيقي الوحيد الذي لا تنافسه واسطة أخرى.
المتفرج وهو في لحظة التماهي تلك ينبغي عليه مواجهة شخص حقيقي وليس الممثل. حين يريد مواجهة نفسه سيواجهه عندئذ وجه الممثل. إنها الروح وهي تتماثل وتتماهى مع الوجه. نعم هذا ما أعرفه عن الإنسان، هذا هو ما أملكه من خبرة وتجربة، وهذا ما أراه وما أحب أن أشارك الآخرين فيه.
ليس ثمة مجال للحديث هنا عن الماكياج والشَعر أو الجمال. إنه الكشف الذي ينأى بعيداً عن الكاميرا لكي يُظهر ليس الوجه فحسب، إنما أيضاً أي نوع من الحياة قد شهدها هذا الوجه. إن الأفكار التي خلف الجبين هي أشياء لا يعرفها الوجه ذاته عن نفسه، لكن المتفرج هو من سيراها ويحسها.
بشكل خاص، نحن نتوق بالضبط لهكذا نوع من الإحساس، حيث بوسع الآخرين إدراك ما نخبأه نحن في أعماقنا حقاًً. نعم، هذا هو ما أحبه كممثلة ومخرجة.
إن خطابات معظم الزعماء ورؤساء الوزارات والجنرالات ستُنسى حتماً. لكنني أعرف تماماً أن وجه أمبرتو دي الحزين وهو ينشد الرأفة بوسعه أن يغيّر على الأقل أولئك الذين عانوا ذلك الحزن ليكون جزءاً منهم إلى الأبد. بوسعه أن يوقظ وعيهم الاجتماعي. لقد حدث ذلك لي حين كنت في سن الثالثة عشرة.
نحن نعلم حتى هذه اللحظة أن صور السينما ورؤاها التي أبدعتها عقول المبدعين الموهوبين ستبقى تُطعم الناس ببعض الأمل، الأمل حيث ثمة بهاء وإجلال للحياة، الرجاء في أن لا يزال ثمة الكثير من الفرص والإمكانات.
إن المأساة التي يواجهها المخرجون السينمائيون الأوروبيون وجميع العاملين في حقل الإبداع سببها جلّ التغيرات السلبية في السياسات الأوروبية وهي في الحقيقة مأساة للجميع، بمن فيهم الجمهور نفسه.
نحن اليوم في عالم تحكمه الغباوة للأسف الشديد. ومع ذلك، لا زال بوسعنا، نحن العاملين في ميدان الثقافة، مواجهة اللحظة الأخيرة حيث بالإمكان عمل شيء من التغيير والاختلاف. بوسعنا البقاء كعامل ضغط من أجل تحقيق القضايا الكبرى، وبإمكاننا إيصال أصواتنا لمن لا يسمع.
إن القضايا التي تتعامل مع عقل الإنسان وروحه وحنّوه وأحلامه، لا يمكن للحروب والخطابات التلفزيونية حلها مطلقاً. إن الحل الحقيقي يكمن في إقرارنا بقيمة الإنسان وتفرده.
نحن نقاتل من أجل هويتنا. وبغض النظر عن كيفية الانتماء لهذا الطريق أو ذاك في عالم السينما، إلا أن لدينا مسؤولية كاملة ومشتركة لأننا شهود عن أزمنتنا.
***
فيلموغرافيا
(الممثلة والمخرجة السينمائية النروجية ”لِڤ جوني أولمان“ ١٦ سبتمبر ١٩٣٨)
(أفلامها كممثلة)
ـ بيرسونا (١٩٦) بدور إليزابيث فركلر. إخراج بيرگمان
ـ العار (١٩٦٨) بدور إيفا روزنبرغ. إخراج بيرگمان
ـ ساعة الذئب (١٩٦٨) بدور ألما بورغ. إخراج بيرگمان
ـ آلام آنا (١٩٦٩) بدور آنا فروم.إخراج بيرگمان
ـ المهاجرون (١٩٧١) بدور كريستينا. إخراج: جان ترول
ـ زائر الليل (١٩٧١) بدور إيستر جينك. إخراج لاسلو بينيديك
ـ صرخات وهمسات (١٩٧٢) بدور ماريا. إخراج بيرگمان
ـ البابا جون (١٩٧٢) بدور البابا جون. إخراج مايكل أندرسون
ـ مشاهد من الحياة الزوجية (١٩٧٣) بدور ماريانا. إخراج بيرگمان
ـ أربعون قيراط (١٩٧٣) بدور آن ستانلي. إخراج ميلتون كاستيلاس
ـ الأفق المفقود (١٩٧٣) بدور كاترين. إخراج تشارلس تشاروت
ـ عروس زاندي (١٩٧٤) بدور هنا لاند. إخراج جان ترول
ـ التنازل (١٩٧٤) بدور الملكة كريستينا. إخراج أنتوني هارفي
ـ وجها لوجه (١٩٧٦) بدور د. جيني إسحاقسن. إخراج بيرگمان
ـ بيضة الأفعى (١٩٧٧) بدور مانويلا روزنبرغ. إخراج بيرگمان
ـ الجسر النائي (١٩٧٧) بدور كاتي تير هورست. إخراج ريتشارد آتينبورو
ـ سوناتة الخريف (١٩٧٨) بدور إيفا. إخراج بيرگمان
ـ الصبي الكستنائي (١٩٨٤) بدور السيدة كامبل. إخراج دانيال بيتري
ـ غابي: قصة حقيقية (١٩٨٧) بدور ساري. إخراج لويس مندوكي
ـ وداعاً موسكو (١٩٨٧) بدور عايدا نودل. إخراج ماورو بولوغنيني
ـ الصديقة Girlfriend (١٩٨٨) بدور ماريا. إخراج جينيني ميرابفل
ـ حديقة الزهور (١٩٨٩) بدور غابريلي. إخراج فونس راديماركر
ـ الظل الطويل (١٩٩٢) بدور كاثرين. إخراج فيلموس سيغموند
ـ درومسبيل (١٩٩٤) بدور بائعة تذاكر. إخراج أوني ستراومي
ـ زورن (١٩٩٤) بدور إيما زورن. إخراج غونار هيلستروم
ـ سرباندا (٢٠٠٣) فيلم تلفزيوني بدور ماريانا. وهو فيلم بيرگمان الأخير
ـ عبر زجاج معتم (٢٠٠٨) بدور الجدة إخراج جيسبر دبليو نيلسون
(أفلامها كمخرجة)
ـ صوفيا (١٩٩٢) سيناريو وإخراج
ـ كريستين لافرانسداتار (١٩٩٦)
ـ إعترافات خاصة مسلسل تلفزيوني (١٩٩٦) مخطوطة سيناريو لبيرگمان
ـ الخائن (٢٠٠٠) مخطوطة سيناريو لبيرگمان
(كتبها)
ـ أتغيّر (١٩٧٧) أوتوبيوغرافيا
ـ الخيارات (١٩٨٤) أوتوبيوغرافيا
ـ نحن الأطفال (١٩٩٠)
ـ رسالة إلى حفيدي (١٩٩٨)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
هوامش:
(*)
Live Ullmann. Changing. published in UK in 1977
(**)
هوليوود إنترفيو. مجلة فينيسيا ويب سايت. لِڤ أولمان: الحفاظ على الثقة!..أليكس سيمون
(***) المصدر:
.Projections (15) European Cinema Edited by Peter Cowie Pascal Edelmann
(****) فيلم أمبيرتو دي: (١٩٥٢)
هو ثمرة شراكة إبداعية بين المخرج السينمائي دي سيكا وكاتب السيناريو الشهير زﭬاتيني وهو يروي حكاية رجل عجوز متقاعد يعيش على مرّتب تقاعدي بائس وتافه ولم يعد له في هذا العالم سوى كلبه وخادمة البانسيون الذي يقيم فيه. إنه شبيه بفيلم ”سارق الدراجة“ للمخرج نفسه، حيث الشخصية الرئيسية في كلا الفيلمين هي الإنسان اليومي المُعدم البسيط. (لعب دوره كارول باتيستي، وهو ليس ممثلاً إنما بروفيسور في جامعة فلورنسا، عثر عليه دي سيكا في أحد الأيام وهو يتمشى في أحد الشوارع. يقول سكورسيزي:”لاأظن أن بوسع ممثل محترف أن يجيد أداء الدور مثلما فعل باتيستي“.
حين شاهد الفيلم وزير الثقافة الإيطالي جيوليو أنريوتي آنذاك نشر رسالة في الصحف أعلن بها معارضته العلنية لسينما الواقعية الإيطالية الجديدة بسبب ”نشرها الغسيل القذر بشكل معلن“ على حد قوله. مضيفاً”ينبغي على دي سيكا ومخرجي هذا التيار الجديد أن يكونوا أكثر تفاؤلاً“!.