علينا أَن نُغدِقَ الثنَّاء على مُخيّلة الواقع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • علينا أَن نُغدِقَ الثنَّاء على مُخيّلة الواقع

    علينا أَن نُغدِقَ الثنَّاء على مُخيّلة الواقع (*)

    الفيلم الوثائقي
    "أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ"
    للمخُرجة الجورجيَّة نينو كيرتازه (**)
    ترجمة وتقديم: علي كامل

    "الموتُ، أوَّلاً وقبل كُلِّ شيءٍ، هو صورةٌ، وسيظلُّ صورةً أبداً"
    ج. باشلار

    لا يزالُ النّاسُ في جورجيا، وَفقاً لأعرافهِم القديمة، يُواصلون حياتُهم مع موتاهُم كما لو أنَّهم لازالوا أحياءً، فالمراسم التي يُمارسونها في المقابر في حضرةِ الموتى هي طقوسٌ مرتجلة، أمَّا مقابرُهم فهي أشبهُ بأماكنَ للقاءاتِ العُشِّاق!. فحُضور الأحياءِ هذا، حسبَ أعرافِهم تلك، يُشعِر الموتى بالحُريَّة والطُمأنينة. إنهَّم الأحياءُ وهم يُقحمونَ أعزَّائهم الموتى في حياتهِم العائليَّة، يتحدَّثون إليهم ويلتمسُونَ العزاءَ منهُم، يُؤمّنونَ لهُم الحماية من المجهول ويأملُونَ منهُم الشَّيء ذاته في نفس الوقت.!
    سَكَنَةُ القُرى الجورجيَّة هؤُلاء يَرْعَونَ أرواحُ أُولئك الموتى ويُشدُّونَ من أزرِهم عَبْرَ مُشاركتِهم تلك الطقوس كي لا يشعروا في قبورِهم بالوحدة.
    الهاتِف المحمُول وجهاز الكمبيوتر مثلاً أصبحا أشياءاً مألوفةً وجُزءاً من المشهَد، كما الجنازةُ ذاتُها، التي تُعتبر أكثرَ الأشياءِ أُلفةً في الحياة!.
    الصِلاتُ بين الميّتِ والحَيِّ هنا مُصانةً، مُتواصلةً، مُبجَّلةً، وراسخةً في القولِ والفعل. وحين يبلُغُ الحدث ذُروته، تتماهى الشعائرُ بالطقوسِ الاستعراضية القديمة، حيث المرحُ المفعمُ بالحيوية والحماسة وحيثُ كُلُّ شيءٍ مُغرقٍ في مُغالاته. إنه مشهَدٌ نادرٌ واستثنائي.
    الصُّور الفوتوغرافيَّة الكبيرة الحجم وهي تتوسَّطُ واجهاتِ القُبور على نحوٍ متزايد، المداخِلُ وهي ملأى بالمُتنافسين على تلاوة الكلمات، مُفرداتٌ مفعمةٌ بالأوصاف الجيَّاشة تشي ببعثِ الموتى من قُبُورِهم وعودتِهم إلى الأَرض ثانيةً، يتلُوهُ نَواحٍ مُنفردٍ وارتجالاتٍ تكاد تُحاكي النَّدبْ المَشهَديّ.
    هنا ينبغي على أُسرة المتوفَّى الحفاظُ على مثلِ هذا التَّوتُّرِ المُتصاعد وهذهِ الدهشة. فكُلُّ شيءٍ سيتمُّ على مرأَى ومسمعِ الجميع، ولا يُمكنك مُطلقاً معرفةَ ما إذا كان ما تراهُ يُعبّرُ عن الألم الداخليّ أو هو مُجرَّدُ ارتجالٍ مسرحيِ مَحضٍ.
    الفيلم الوثائقي "أَخبروا أَصدقائي إنّي مُّتْ" على أي حال، فيلمٌ ألِقٌ رغمَ الحُزنِ
    والكآبةِ والحِدادِ التي تسودُ أَجوائِهِ. فيلمٌ أَشبهُ بحكايةٍ سُورياليَّةٍ يروي لنا إمكانيَّةُ التعايُشِ الغرائبيّ بين عالمَين: أحدُهُما واقعيٌّ والآخرُ مجازيّ، عالَمُ الأحياءِ وعالَم الأَموات.
    ***

    مُخيَّلة الواقع

    المُخرجة الجورجية نينو كيرتازه تتحدَّث عن تفاصيلِ عملِ فيلمها الوثائقي "أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ"
    إنتاج شبكة التلفزيون الفرنسي ـ الألماني ARTE

    نصُّ الحديث:

    يقول الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرداييف "حين نواجهُ الحياة فنحن إنَّما نواجه لُغزاً. لُغزٌ نسعى لفهمه، إلَّا إنَّ سِرَّهُ وغُموضهُ يعتليان إلى السطح".
    من هنا يُمكننا البدءُ في الحديث عن الفيلم الوثائقي الذي يُولد عادةً من سؤالٍ، فكرةٍ، رؤيةٍ، مكانٍ، أو حتى وجهٍ بشريّ. على الرغم من أَنه يستكشفُ الواقع المواجه للكاميرا، إلا إنه يذهبُ أبعد من ذلك بكثير. إنه لا يحكي عمَّا يرى فحسبْ، إنَّما يصفُ أيضاً ما ليس بوسعنا رؤيتهُ بشكل مباشر، فهو يتجلَّى في الزمان ويتحرّكُ صوب المكان، وغالباً ما يتخطَّى النقطة التي يلتقي فيها الواقع بالكونيّ.
    إنَّ وجهة النَّظر الذاتيَّة وحدها فقط هي من يُحقّق هذا الكونيّ، فهي وحدها الكفيلة في استكشاف أعماق الواقع أمام الكاميرا.
    الأفلام الوثائقية تتحدَّثُ عن لا شيء وعن كُلِّ شيء في الوقت ذاته. فهي، حين تتحدَّث عن لا شي، فإنها تتحدَّث عنَّا، عن العالَم، عن الكونِ، عن اللُّغز الكبير للحياة، والذي هو مِحورُ الفلسفة الأَهّم، لأن الأفلام الوثائقية هي وُجهة نظرٍ عن
    وبما إن لُغزَ العالَم مُعقَّدٌ للغاية ومن الصَّعب توصيفُه، فقد تمَّ في البدءِ إنتاجَ فيلمٍ واحدٍ حول هذا الموضوع ثُمَّ تلاهُ فيلمٌ آخر، من أجل مواصلة سير عجلة البحث. الأسئلة تتوالد وتتكاثر فيما نحن نتحرَّكُ نحو الأمام عَبرَ النَّقائض.
    قبل سنواتٍ عِدَّة مضتْ قررَّتُ أن أبحث ثيمة "الموتْ" في فيلم وثائقي يبقى في إطار مفهومِ الموت نفسه، لكن، في الإمكان تحويلَهُ إلى نشيدٍ وثناءٍ للحياة.
    لقد كانت رغبتي تتمحورُ في ربط أواصر الطَّرفين، الموتُ والحياةُ معاً. كنتُ أَحلُمُ بفيلمٍ مفعمٍ بالطَّاقة والقُوَّة والحيويَّة تجعلُني قادرةً في الحديث عن الحياةِ عَبرَ الموتِ.
    قِيلَ إنَّ جُوهان ساباستيان باخ حين عَلِمَ بموت أحدِ أبنائهِ سقطَ على رُكبتيه مُبتهلاً إلى الله قائلاً:"ربيّ لا تَدََعُني أفقد مُتعةَ الحياة".
    إنَّ البشريَّة في جمالها وبهائها وفي مواطن ضَعفها أيضاً وهي تُواجهُ لُغز الموت حيث الحزنُ يُصبِحُ احتفالاً بالحياة، هو أمرٌ يفتننُي حقّاً.
    مشروعُ فيلم "أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ" يرتكزُ، بشكل جوهريّ، على ذكرياتٍ من طُفولتي، عن صُورٍ بقيت مخزونةً في ذاكرتي
    للجنائز التي كنتُ شهدتها في جورجيا، هناك حيثُ وُلِدْتْ، ووفقَ عاداتِ وأعرافِ بعض مناطق محدَّدة، يحتفظ الأَحياء بأعزَّائهم الموتى بروابطَ متينة من شأنها جعلُهم يواصلون الحياة كما لو أنَّهم لازالوا أحياء.
    عُنوانُ الفيلم مصدرهُ نقشٌ على ضريحٍ عثرتُ عليه في إحدى المقابر خلالَ رحلةِ بحثي عن موقع للتَّصوير في غرب جورجيا.
    صاحبُ النَّقش، أي المُتوّفى، جُسدَّ بصورةٍ فوتوغرافية بالحجم الطبيعي وُضعتْ على ضريحه. كان صدرُهُ مغطَّى بالأوسمة إقراراً بخدماته الجليلة للدَّولة والتي كان يزهو ويفتخر بها.
    كان النقشُ يتضمَّن كلماتٍ على لسانه يدعو فيها جميعُ معارفه أن يجلسوا ويشربوا قربه، كما يطلب منهم أن يأتوا لرؤيته دائماً وأن يُنشدوا له أَغانيه المُفضَّلة كي لا يشعرُ بالضجر وحيداً في قبره مُجدِّداً بهذا رغبته في مواصلة الحياة.
    ثمَّةَ شيٌء سُورياليّ حول هذا الواقع الذي رأيته، شيٌء مميّزٌ لا يُصدّق بشأن هذه الطريقة في مواجهة الموت والابتهاج بالحياة والتي انبثقتْ جميعُها من خلال تلك النُّقوش الغرائبيَّة في المقبرة.
    المكان أشبهُ بگاليري مفتوحٍ في الهواء الطَّلق يتضمَّن بورتريهاتٍ بالحجم الطَّبيعي لموتى يبتسمون، ويبعثون بدعواتهم إلى الأَصدقاء والأَقرباء للمجيء والجلوس بقربهم على كراسٍ ومصاطبَ تحيطُ بالقبر خُصصِّت لهؤلاء الزّوُّار. ولعلَّ الأمر الأكثرَ دهشةً أن إحدى العائلات قد جلبتْ معها جهازَ تلفزيون ليتجمَّعوا حول عزيزِهم المُتوفىّ ويشاهدوا لُعبةَ كُرة القدم "معاً"!.
    حين بدأتُ التحضير للفيلم أخبرت مُساعدي عمَّا خططّت له للعمل فتطلَّع بي كما لو أَنَّني مجنونة، قائلاً:"وماذا بشأن فريق العمل؟".
    إنَّ الأمر العسير بفيلمٍ كهذا هو الاستحالة المُطلقة لتحضير أيِّ شيءٍ مُسبقاً. كُنَّا نجهل كيفية العثور على الشخصية الرئيسة في الفيلم، والًّتي ينبغي أن تكون (المتوفَّى) نفسه، أو كيفية الحصول على موافقةٍ من العائلة لنُصوّر ما أحسسنا به بشكل جوهري.
    التَّحضير الطَّويل للجنازة يكاد يتماهى كثيراً مع التحضيرات لحفلة زفاف. إنها مراسمُ عزاءٍ تُذكُّر بمسرح الكوميديا دي لارتي، حيثُ النُّواح المنفرد والذي عادةً ما يكون مُباغِتاً في عروضهم، بل يُمكن أن يذهب بعيداً جداً حيث تُرتجَل ذكريات وحكايات مُضحكة حول حياة المتوفَّى. أَمَّا الضَّحِكُ، فهو شيءٌ يصعُبُ التحكُّم به في مناسباتٍ كهذه إلى الدَّرجة التي يمكن أن يفُوقَ فيها طقسُ الحِدادِ نفسه!.
    كان السُّؤال الأهمُّ هو، كيف سَنُدخِل فريق العمل إلى هذا العالَم دون أن نُعكّرَ صفوُه، وكيف سنضعُ الكاميرا بشكل حميم وسط العائلة دون أن نُسّبب كارثة.
    "سيكون فيلماً دراميّاً مُدهشاً" قال مدير الإنتاج، مُضيفاً:"لكنْ، هل سيكونُ وثائقيّاً؟".
    أما مسؤُولُو القناة التلفزيونيَّة فقد تساءلوا، حين اطَّلعُوا على الفكرة، بقولهم: "هل أنتِ واثقة أنَّ ما تقولينه في هذا الفيلم هو حقيقةٌ فعلاً؟".
    انتفضتُ حينها غاضبة وقرَّرتُ إنجاز الفيلم بأيّ شكلٍ من الأَشكال. غادرتُ القناة التلفزيونيَّة لمدة شهر للعثور على مواقع التصوير وأقَمتُ في المنطقة التي أردتُ أن أصوّر فيها الفيلم. كان الوقتُ ثميناً جدّاً لما سيأتي. ولا يمكنُني مطلقاً أن أنسى كيف كنتُ أتطلَّعُ بوجوه الناس وأنا أطرحُ عليهم أسئلة هي الأكثرُ إزعاجاً وبَغضاً حقاً.
    ومع مرور الوقت تعرَّفتُ على جميعِ مُدراء المقابر، كما يُطلقُ عليهم في المنطقة، وإلى حدّ ما، على كُلِّ الناس الذين يأتون لزيارة موتاهُم بشكل منتظم، والذين كانوا عادةً يحملون لهم سلالُ الفواكه الطازجة والحلويات ويقرئوا لهم الصُحف، أو ببساطة يُمضُون الوقت معهم، ليس هذا فحسب، إنمّا كانوا يأتون بأطفالهم وأحفادهم ليتمكَّن موتاهُم من رؤية الصغار وهم يكبرون.
    وهكذا خُطوةٌ فخطوة تحرَّكتُ نحو الأمام لأدخل إلى هذا العالَم الشِّعري الغريب. عالَمٌ سُوريالي يجمع الأطراف المتُناقضة ويُوحّدُها: التسليةُ والحزنُ العميق والابتهاجُ بالحياة من خلال الاحتفاءِ بالموت.
    كان عويلُ الأحياء يُشبِهُ أَنغاماً تُحلّقُ في الهواء الطلق، مُؤاساةٌ تشبه عبارات نصٍّ مسرحي، وموتٌ كأنّه شيءٌ مجتزأٍ من الحياة.
    كُلُّ شيءٍ مترابطٍ ومُتصَّل، كما لو أَنَّ ليس ثمَّة شيءٌ مُنفصل، وكما لو أَنَّ الحياةَ تحتفلُ بانتصارِها على الموت.
    غالباً ما كنتُ أرى مَشَاهِدَ في المقبرة لا يُصدّقُها العقل: لقد رأيتُ شابّاً أتى لزيارة ضريحِ جدّه ليُقدّم له خطيبته، وكانتْ شابةً جميلةً متزينةً ترتدي أجملَ ثيابها من أجل هذا الطقس الغرائبي. وحين غادرا المقبرة تركا صُوراً التقطاها في هذه المناسبة كي يستطيع الجَدّ "الاحتفاظ بِهُما قريباً منه".
    شاهدتُ أيضاً شُبَّاناً وموسيقيّين جاءُوا ليحتفلوا بميلاد صديقهم المتوفَّى. وضعوا آلاتهم الموسيقية على القبر وبدأوا يُغنُّون عَبرَ ميكرفوناتهم أغانٍ غيرِ لائقة تماماً. كانتْ موسيقى فولكلورية وديسكو وجاز، وهي ذات الأغاني التي كان يُفضّلُها المتوفَّى في حياته.
    شهِدتُ شِجاراتٍ غريبة بضمنها رأيتُ شابّاً كان يجلس حزيناً لأن أحداً ما غرسَ شجرة كبيرة فوق القبر المُجاور لقبر قريبه حاجباً إيّاه عن النظر:"لا يُمكنه رؤيةَ شيء" قال مُتشكّياً.
    أما صاحبُ الشجرة فلم يلين لمطالب جاره، لكنَّه أجابَ:”حين كان والدي حيّاً كان يُحبُّ أن ينام تحت ظِلّ شجرة، فلماذا ينبغي عليه أن يُغيِّرَ عادتهُ الآن؟".
    وحين تصاعد الانفعال نشبتْ معركةً حقيقيةً بينهما أمام بورتريهات صُورٍ بحجمها الطَّبيعي، كما لو أَنَّ الموتى يُشاهدون شِجارُ الأحياء.
    هكذا رأيتُ، مع ارتياحٍ كبيرٍ بالطبع، أَنَّ ما كنتُ قد دونتهُ وتخيلتهُ أصبح الآن شاحباً وباهتاً بالمقارنة مع الواقع. لقد ذهب خيالُ الأشياء الحقيقية إلى أبعد
    ما يُمكن أن أتخيَّله. وهذا الأمرُ علَّمني الكثير. علَّمني أن لا أستخفُّ بخيال الواقع
    مُطلقاً ولا أُكمَّمهُ بأفكارٍ مُعدَّة سلفاً بوُسعها في بعض الأحيان أن تحُولَ دونَ اكتشافِ الأشياء التي لم تتوقَّعها أو تُخطّط لها.
    كان الواقعُ، يهتَّزْ، ينبضْ، ويتنفَّسْ أمام الكاميرا وهو مُتخمٌ بإشاراتِ النَّقائض ومَجازاته. إِنَّه واقعٌ وسُوريال، مرئيّ ومخفيّ، جليّ ومُبهَم، في ذات الوقت، مُتطلِّباً الصبر والتّواضع.
    لقد أدركتُ حينها أَنَّه ينبغي أن تكونَ على أُهبةِ الاستعدادِ لمُفاجئاتٍ بعيدة الاحتمال، ولأكثرَ التَّغيُّرات تشويشاً، تماماً مثلما قال فيلسوفُنا:"حين نواجهُ الحياة فنحن إنَّما نواجه لُغزاً. لُغزٌ نسعى لفهمه، إلَّا إنَّ سرَّهُ وغُموضهُ يعتليان إلى السطح".
    "أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ" هو أكثرُ أفلامي جُنوناً وتناقُضاً. لهذا السَّبب أَجِدُني أَختزنُ مثل هذه الذّكريات الأثيرة إلى نفسي.
    لقد كان تحدّياً حقيقيّاً لنا جميعاً، تحدّياً لفريق العملِ كُلّه ولمدراء الانتاج وللقناة التلفزيونية ذاتها. نجاحُُ مع المُتلقّي وفي المهرجانات السينمائية والجوائز التي نالها، كّلُّ ذلك هو بمثابةِ ثناءٍ لمّخيّلة الواقع، مكافَئَةً للعالمَين الحقيقيّ والسُّوريالي معاً، حيثُ الضَّحِكُ والدمُوعُ يمتزجان، وحيثُ الحزنُ والفرحُ يتعايشان، وحيثُ الحياة والموت يُصبِحان شيئاً واحد.
    إنَّ أكثرَ الأُمورِ سُورياليّةً هي أنَّ السماح بتصوير الفيلم أُعطيَ لي من قِبلِ البطل الرَّئيسي في الفيلم، أي الشَّخص المتوفَّى نفسُه!.
    حين وصلتُ منزلَ المتوفَّى وأوضحتُ لزوجته موضوعَ الفيلم، تَطلَّعتْ بي لفترة طويلة وبعدها قالتْ:”لا أستطيعُ أن أُقرّرَ ذلك بنفسي، ينبغي أن أسأَلهُ أوّلاً"!.
    لم أفهم قَصدَها في الحال. أخَذَتْني إلى الطابق العُلوي ودخلنا في غرفة كبيرة هناك حيثُ يستلقي زوجها المتوفَّى. أَنْشَدَتْ له أغنيةً تشرحُ له فيها سببَ وجودي في المنزل، متسائلِةً عن رأيه بشأن فكرتي حول عملِ فيلمٍ يتحدَّثُ (عنه).
    وهكذا جَلَستُ إلى جِوارِها أَتساءَل، هل إنَّ ما أراهُ هو حقيقةً أم خيال؟ وفي نفس الوقت كنتُ قلقة وخائفة جداً عمَّا (سيقررّهُ!) المتوفَّى!.
    التَفَتَتْ المرأةَ نحوي بعد بُرهة لتقولَ إنَّ زوجَها قد وافق على التصوير!.
    مُنذُ تلك اللحظة ولغاية اليوم، حين أُسأَلْ عن أيّ شيءٍ يتحدَّثُ هذا الفيلم، لا أعرفُ حقاً ماذا أقول. هل يتحدَّثُ عن الحياةِ والموت؟ عن الحُزنِ والفرح؟ أَمْ عن الحُبّ والخلود؟
    ـــــــــــــــــــــــ
    (*)
    الحديث منشور في المجلَّة السينمائيَّة السنويَّة Projections (العدد 15 العام 2007 ص 166) والتي تُطبعُ في إنكلترا وتُصدرها أكاديمية الفيلم الأوروبي، ويحررها بيتر كاوي و باسكال إيديلمان.
    (**)
    وُلدتْ المُخرجة السينمائية نينو كيرتازه عام 1968 في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا. وبوصفها صحفيَّة، عملتْ في البدء مستشارةً للرئيس الجورجي السابق إدوارد شيفرنادزة لتغطية النزاع المُسَّلح في القفقاس.
    أما عملُها في ميدان السينما، فقد بدأتْهُ في تسعينيَّات القرن الماضي عَبرَ كتابتها سيناريو فيلم (يوم الإثنين). وكممثّلة، لعبتْ نينو بعضَ الأدوار في أفلام روائية أَهمُّها دورُها المُميَّز في فيلم "رئيس الطُّهاة عاشقاً" 1996 للمُخرجة الجورجية نينا ديورجازي، الذي كان حصل على جائزة مهرجان (كان) السينمائي في نفس العام ورُشّح لجائزة الأوسكار.
    نينو كيرتازه تعيشُ في فرنسا مُنذُ عام 1997 وقد عَمِلتْ مع مخرجينَ كِبار أمثالُ ﭙيتر بروك وجان ﭖيير آمريس وفيليب مونير وجيرارد بيرس وأوليفر لانغلس. وهي تُجيدُ اللغات: الروسيَّة، الجورجيَّة، الفرنسيَْة والإنگليزيَّة.
    (كمخرجة) أنجزَتْ نينو كيرتازه الأفلام التالية:
    "ثلاثُ حَيَواتٍ لإدوارد شيفرنادزة" 1999.
    "كانتْ يوماً ما تُدعى الشيشان" 2001.
    "تهويدة شيشانيَّة" 2002.
    "قُلْ لي مَنْ أنا؟" 2004.
    "أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ" 2004.
    "خطُّ الأنابيب المُجاوِر" 2005 (فاز بجائزة أكاديمية الفيلم الأوروبي كأفضلِ فيلمٍ وثائقي). "التِنّينْ في المياه البدائيّة للقوزاق" 2005.
    "قريةُ الحمقى" 2008 (فاز بجائزة أفضلِ مُخرجٍ في مهرجان ساندانس السينمائي في الولايات المتحدة الأميركية).
    "شيءٌ عن جيورجيا" 2009. "البحثُ الحثيث عن أوروبَّا" 2014. "اللُّهاث" 2014. "2015 "The Faille. "أدعوكم إلى إِعدامي" 2018.

يعمل...
X