«السّينما سِلسلةٌ من الأكاذيبِ هدفَها تَقصّي الحَقيق المخرجة السينمائية الجورجية نينو كرتادزه
ترجمة وتقديم علي كامل
أُسلوبيَّاً، تنتمي أفلام المخرجة السينمائية نينو كرتادزه إلى منهج «سينما الحقيقة» الذي ابتكره المخرج السينمائي
والأنثروبولوجي الفرنسي «جان روش» مُستوحياً إيَّاه من المُخرج والمنظَّر السينمائي الروسي ديزيگا ڤيرترف بما كان يُعرف بـ «سينما الحقيقة»، في عشرينات القرن الماضي.
يُؤكّد هذا المنهج على عنصرين حيويين أساسيَّين في الفيلم الوثائقي هما، الارتجال وعين الكاميرا، التي هي عين المُخرج، للكشف عن الحقيقة أو تسليط الضوء على الأمور المختبئة خلف تفاصيل الواقع الخام أو اليومي.
إنها السينما المباشرة الخالصة أو سينما الرصد التي كثيراً ما تسعى إلى تجنَّب صوت الرَّاوي والمٌعلّق أو الموسيقى والمؤثّرات الصوتيَّة الجاهزة، بوصفِها عناصرَ مُقحمة. هذا النوع من السينما معنيٌّ بتسجيل الأحداث التي يُصبح فيها "الموضوع والمتفرّج" غيرُ مُدركين لوجودِ وسيطٍ بينهُما، وأعني بالوسيط، الكاميرا وتدخُّل المُخرج، لأنَّ «الكاميرا الوثائقيَّة"، إذا جاز القول، تسعى حقَّاً أن تكونَ حيث لا ينبغي على من يعمل خلفها عادة أن يكون!. وهذه مفارقةٌ جماليَّة مُحيّرة ومُلغزة.
تستمدُّ أفلام نينو كرتادزه طاقتها وتأثيرها من غِنى الواقع أولاً ومن ثَمَّ من أُسلوب المُعالجات الإخراجية للثيمات المُنتقاة بدقَّة وحذر، فضلاً عن رصدها الدَّقيق للأحداث الاستثنائيَّة غيرَ العاديَّة.
كرتادزه تُقيمُ، في أفلامها، عَلاقة سرّية وخفيَّة مع الشخصيات التي تقوم بتصويرها وتُطلق إشعاعاتها وتأثيراتها على تلك الشخصيَّات من خلف كاميرتها، التي هي عينها السينمائيَّة، بشكل خفيٍّ فطِنٍ وغيرِ مرئيّ، وهذه هي سمةٌ بارزة ومميَّزة لجماليات نظرية ديزيگا ڤيرترف بشأن «سينما الحقيقة».
«لهذا السبب أُحّب السينما الوثائقية».. تقول كيرتادزه.. «ما يَفتنني فيها دائماً هو ذلك الارتباط الوثيق والعميق بين الشخص الذي يعمل خلف الكاميرا والشخص الذي يتواجد أمامها».
إن الهدفَ الجماليّ والفلسفيّ الذي تسعى نينو كيرتادزه لتحقيقه في أفلامها هو محو الحُدُود بين الكاميرا والموضوع، بين التوثيقيّ والفنيّ، بين الواقع والخيال. مُعالجاتها السياسيَّة الخلّاَقة ومُناوراتها البارعة وجُرأتها الفريدة كُلَّ ذلك يُفضي دائماً إلى خلق حبكات مُلتوية مُبهِرة ومُثيرة للجدل على الدوام.
تتمحور ثيمات أفلامها حول وطنِها جورجيا، حول هُمومِ أُناسه ومُجتمعه، عاداتُهُ وتقاليدُهُ، ثقافتُهُ، تضاريس بيئته الغنيَّة والخلاَّبة، كما أنها تُعالج أيضاً موضوع الهُويَّة الوطنيَّة في وضع عالمي مُتزايد التعقيد.
وُلدت نينو كرتادزه عام 1968 في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا السوﭬييتية (آنذاك)، والدها كان عالِماً بيولوجياً، وهي حاصلة على درجة شهادة ماجستير في الأدب. شَرعتْ، إبَّان تخرُّجها، في كتابة البحوث والدّراسات الأدبيَّة والنقديَّة حول أدب القرون الوسطى على وجه التَّحديد. ثُمَّ واصلتْ الكتابة، ولكن هذه المرة كتابة مقالاتٍ سياسيَّة تحريضيَّة إِثرَ أوَّل قمعٍ دمويٍّ مارستْهُ القوَّات الروسية ضدَّ الجورجيّين الذين كانوا يطالبون بالحريَّة، وتلك هي المرَّة الأُولى التي يدنو جيلُها من حوافِّ الموت والحرب. بطرافةٍ وتهكَّم علَّقتْ نينو حينها تقول:«كان الوضعُ سُورياليٌّ حقَّاً. أتذّكَّرُ أنَّ الناس كانوا يتظاهرون خارج مكاتبنا مُطالبين بالحُريَّة والاستقلال فيما نحن غارقون في بحث وقراءة نصوص القرن الثالث عشر والرابع عشر».
جَرتْ الأُمور بعد ذلك بشكلٍ سريع حيث شهدتُ نينو انهيار الاتَّحاد السوفييتيّ في 9 أﭙريل (نيسان) عام 1991 ثُمَّ اندلعتْ العديد من الصراعات في المرحلة التي تلتْ ذلك السقوط، لا سيّما في جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وبدءِ الحرب الشّيشانيَّة الأُولى.
وخلال تلك الاضطرابات التي حدثتْ في القوقاز عملتْ مُراسِلةً حربيَّة لصالح وكالة فرانس برس ووكالة أنباء أسوشيتد ﭙريس لتغطية الحرب في الشّيشان وسواها من الصّراعات المسلَّحة حيث أمضتْ قُرابةَ الأربع سنوات هناك:
«كان ذلك العمل هو من شكَّلَ شخصيتي وما غدوت عليه فيما بعد. أعتقدُ أن ثمَّة شيئاً ما يحدثُ لك حين تكونُ على مقرُبةٍ من الموت والمُعاناة. تتطلَّع إلى العالَم من حولك، من حولي أنا على أيَّة حال، وهو يتغيَّر أمامَ ناظري...».
حين توقَّف إطلاق النَّار في الشيشان عام 1996 تلقَّت نينو مُكالمة هاتفية من مخرجةٍ سينمائية فرنسية من أصلٍ جورجي اسمها نانا جورجادزه، تطلبُ منها القيام في أداء الدَّور الرئيسي في فيلم سينمائيّ جورجيّ مشترك بعنوان «رئيس الطُّهاة عاشقاً». وافقتْ نينو بالطبع على الفور ثم أُنجز الفيلم ورُشِّح لعرضه في مهرجان (كان) السينمائي. طُلب منها حينها السَّفر إلى ﭙاريس والمكوث مدَّة شهر للترويج للفيلم في المهرجان، حينها اعتقدتْ أنها ستبقى لبعض الوقت في ﭙاريس، لكنها فكَّرت في ما إذا كان بإمكانها متابعة أحلامها الوثائقية هناك كما تقول. حصل فيلم «رئيس الطُّهاة عاشقاً»على جائزة مهرجان (كان) وتمَّ ترشيحه لجائزة الأوسكار.
«كان الأمرُ مُضحكاً حقّاً» تقول كرتادزه... «حين وصلتُ ﭙاريس لم تكن لديَّ أيَّةُ فكرةٍ عن مدى الصُّعوبة التي يُمكن فيها تحقيق مثل هذه الأحلام. لقد اتَّصلتْ هاتفياً بأحد المنتجين الكبار فأجابتني سكرتيرتهمن يتكلَّم؟)، قلتُ لها: أنا نينو كرتادزه. (مَن؟). وبعد ثوانٍ تلقَّيتُ الإجابة ذاتها (إنَّه في الخارج، أو غير موجود، أو شي من هذا القبيل). وقد جرى الحال على هذا المنوال لفترة من الوقت، لكن في النهاية استطعتُ أن أخرج فيلمي الأول، والثاني، وامتدَّتْ مدَّةُ مُكوثي في ﭙاريس لتصل إلى ما يقرُب العقدين الآن. لقد كنتُ محظوظةً في حياتي وعملي حقّاً. إنني أُؤمنُ بالمُعجزات وقد تحقَّقت هذه المُعجزات بشكل واقعي في حياتي».
كمُمّثلة، لعبتْ نينو كرتادزه دوراً آخر في فيلم آخر للمُخرجة نانا جورجادزه هو «صانعُ قوسِ قُزح» عام 2008. أمَّا كمُخرجة،
فهي تُعتبر واحدةً من المُخرجين الجورجيّين القلائل الذين شيّدوا حُضورهم السّينمائيّ الأول في فرنسا، فقد استطاعتْ أن تكوِّنَ شخصيتها السينمائية كإحدى السينمائيات الوثائقيات الممُيَّزات في جميع أنحاء العالَم من خلال جُرأةِ ثيمات أفلامها ومعالجاتها الفريدة للدّراما الإنسانيَّة.
تعيش كرتادزه في فرنسا منذ عام 1997 وهي تُجيد اللغات الروسيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة إضافة إلى الجورجيّة لُغتها الأُم. عملتْ نينو مع مخرجين كِبار أمثال بيتر بروك، بن گازار، فيتوريو گاسمان، جان بيير آمريس، كلود گوريتا، فيليب مونير، جيرارد بيرس وأليفر لانغلس وسِواهم. كما أنَّها تنشط، إضافة إلى عملها كمُخرجة، في مُختلف المنظَّمات الوطنيّة والدوليّة ومدارس السينما كمستشار وعُضو لَجنة تحكيم وأُستاذ محاضر.
حازتْ أفلامَها على شُهرة عالميّة وجوائز عديدة مرموقة في جميع أنحاء العالَم بما في ذلك جائزة أفضل مُخرجٍ في مهرجان سانداس عن فيلمها (دوراكوﭬو أو «قرية المغفلين»)، وجائزة أكاديميَّة الأفلام الأوروبيّة عن فيلمها «خطّ الأنابيب المُجاور»، والجائزة الذهبيّة الألمانيّة الكُبرى أدولف ﮒريم عن فيلمها الوثائقي «التَّهويدة الشّيشانيَّة»، وكذلك جائزة المهرجان السينمائي العالمي «سينما الحقيقة» في باريس عن فيلمها «أخبِروا أصدقائي إنّي مُتّ».(*)
لقد تمَّ تصوير مُعظم أفلام نينو كرتادزه إمَّا في جورجيا، بلدها الأم، أو في روسيا، أو في العلاقة بينهما، وهذا أمرٌ نادرٌ جداً لشخص يعيش ويعمل في فرنسا وغالباً ما يعودُ إلى جُذوره، وليس ثمَّة استثنائات كثيرة تشذُّ عن هذه القاعدة حتى إذا تنوَّعتْ الموضوعات التي تقومُ بمعالجتها.
نص اللقاء:
س ـ حدّثينا عن جماليَّاتك وأفكارك حول فنّ السّينما؟
ج ـ إنَّ تكوين الإطار (**) وحركة الكاميرا والإضاءة وكل ما هو موجودٌ في مُقدَّمة الصورة وخلفها والطّبقات أو الشرائح أو المُستويات، جميعُها أمور غاية في الأهمّية إذا أرَدنا الحديث عن السينما. وهذه هي السينما حقّاً. الأمرُ الآخر هو الطّاقة. ما هي طاقة الـ sequence (***) وكيف يُمكن إحرازها عند القيام بتصوير شيء ما، بغضّ النَّظر ما إذا كان الفيلم وثائقيٌّ أو روائيّ؟.
ينبغي أن يتضمَّن الـ sequence على طاقةٍ مُفعمةٍ بالحياة لأنَّ خلافَ ذلك يُصبِح مُجرَّدَ صورةً جميلة ليس أكثر. ومن أجل أن يُصبِح الفيلم شيئاً حيويَّاً هو بحاجة إلى أن يتنفَّس.
س ـ ما هو أفضلُ فيلمٍ قُمتِ باخراجه؟ وما هي انطباعاتُك حول الأفلام التي أَنجزتِها؟
ج ـ كان في فرنسا رسَّاماً اسمهُ بونارد. قامتْ إدارة متحف اللُّوفر يوماً بشراء لوحاته وعرضِها في المتحف. حين أصبح حُلمُ بونارد حقيقة تمنَّى حينها أن يحمل ألوانه وفرشاته ويذهب إلى المتحف في مُحاولةٍ لتصحيح بعض الأخطاء في لوحاته المعروضة. لكنَّ ذلك كان شيئاً مُحال.
أعتقد أنَّ شيئاً شبيهاً بهذا يحدثُ للمُخرج السينمائي. فأنا مثلاً عندما أُشاهدُ أفلامي التي أخرجتها، أقول لنفسي «حسناً، رُبمَّا كانَ عليَّ أن أُغيّر هذا المشهد أو ذاك، أن أُجري تغييراً هنا وهناك». إلا أنَّ ذلك غير ممكن، فقد انتهى الأمر.
إنَّ أفضل فيلمٍ هو الفيلم الذي أنت على وشك القيام بعمله في المُستقبل في مكان ما. إنَّ رغبة الفنَّان في مواصلة العمل وعدم التوقُّف هو ما ينبغي القيام به دائماً.
س ـ أيٌّ من تلك الأفلام كان الأسهل في تصويره أو الأكثر بساطةً وأُلفة ًبالنسبة لك؟
ج ـ لا أحد منهم. لم يكن أيَّاً منهم سهلاً. كُلُّ فيلمٍ له تأريخه وحكايته وسجلّه الخاص به، لأسبابٍ تتعلَّق بأُمور شتَّى: طاقِمُ العمل، موقعُ التصوير، نوعُ الثيمة، النَّاس الذَّين ستقومُ بتصويرهم، التحدّيات التي ستواجهُها، فكُلُّ تحدٍّ مختلف دائماً عن التَّحدّي الآخر. عُموماً، أنا أُحبّ وأَكره أفلامي على حد سواء.
س ـ ما هي العَلاقة بين أفلامك وتقصّي الحقيقة؟ هل تعتقدين أنَّ أفلامُك تبحثُ عن الأصالة والمصداقيَّة؟
ج ـ أعتقدُ أنَّ «الحقيقة» و «الواقع» هما أمران غايةً في الأهميَّة، لكنَّهما مُختلفان بالطبع. إنَّ ما يُسمّيه الناس «واقعٌ» هو فكرةٌ ضبابية تغشى البصر. لنفترض أنَّ لدينا هنا كاميرا. ما هو «واقع» الكاميرا؟.
واقعُ الكاميرا هو ذلك الذي اخترتُهُ أنت، والذي سيُصبِح واقعُك أنت في النهاية. وهذا هو الأمرُ المثير للاهتمام جدّاً بشأن الإخراج الوثائقي.
دور المخرج هنا هو أن ينتقي جُزءاً من تلك الفوضى التي يّسمُّونها الناس «واقع». طيّب، ماذا سيكون واقع إطار اللَّقطة الخاصّ بيَ؟ (**) وما هو الشَّيء الذي أُريد التَّركيز عليه في فكرة الفيلم؟
إنَّ اللَّحظة التي أُركّز فيها على (الباب) مثلاً، تُصبِح تلك الباب في هذه الحال هي الخيار. اللَّحظة هي التي تُقرّر الأمر الأساسّي أو الشخصيَّة الرئيسيَّة في الفيلم الوثائقي، ومن ثمَّ تأتي المراحل الأخرى، تقطيعُ الصورة، تقطيعُ الصوت... وسِواه. لكنَّ الأمر الرَّئيسي دائماً له علاقة بنوع الخيارات.
س ـ هل يُمكن أن تُحدّثينا قليلاً عن ثيمة الموت في فيلمك «أَخبِروا أصدقائي أَنّي مُّتْ»؟
ج ـ كنتُ قرَّرت قبل سنواتٍ عديدةٍ مضت أن أبحث ثيمة «الموت» في فيلم وثائقي في إطار مفهوم الموت، لكن بالإمكان في ذات الوقت تحويله إلى نشيدٍ وثناءٍ للحياة.
لقد كانت رغبتي تتمحور في ربط أواصر الطَّرفين، الموتُ والحياةُ معاً. كنتُ أحلُمُ بفيلم مفعمٍ بالطَّاقة والقوَّة والحيويَّة تجعلُني قادرةً في الحديث عن الحياة عبر الموت.
مشروعُ الفيلم يرتكز بشكل جوهري على ذكرياتٍ من طفولتي: عن صورٍ بقيت مخزونةً في ذاكرتي لجنازاتٍ شهدتها في جورجيا، هناك حيث وُلدْتُ. وحسب عادات وأعراف بعض المناطق المُحدَّدة، يحتفظُ الأحياء بموتاهم بروابط متينة تجعلهم يواصلون الحياة كما لو أنَّهم لازالوا أحياء.
عنوانُ الفيلم «أخبِروا أصدقائي أنيّ مُّتْ» مصدرُه نقش على ضريحٍ عثرتُ عليه في إحدى المقابر خلال رحلة بحثي عن موقع للتصوير في غرب جورجيا.
كان النقشُ يتضمَّن كلمات على لسان المُتوفَّى، يدعو فيها جميع معارفه أن يجلسوا ويشربوا بالقرب من قبره. كما يطلبُ منهم أن يأتوا لرؤيته دائماً وأن يُنشدوا له أغانيه المفضَّلة كي لا يشعرُ بالضجر والوحدة في قبره، مُجدِّداً بذلك رغبتهُ بمواصلة حياته.
كان ثمَّة شيٌء سوريالي حول هذا الواقع الذي رأيتُه. شيٌء قويٌ لا يُصّدق بشأن هذه الطريقة في مواجهة الموت والابتهاج بالحياة والتي انبثقت جميعُها من خلال تلك النُّقوش الغرائبيَّة في المقبرة.
«أخبِروا أصدقائي أنيّ مُّتْ» هو أكثرُ أفلامي جُنوناً وتناقضاً. لهذا السَّبب أجدُني أختزن مثل هذه الذكريات الأثيرة عنه. كان تحدّياً حقيقيَّاً لنا جميعاً، تحدّياً لفريق العمل ولمدراء الإنتاج وللقناة التلفزيونية التي أنتجته. نجاحُهُ والجوائزُ التي نالها كان بمثابة ثناءٍ لمُخيَّلة الواقع، مكافئَةً للعالمَين الحقيقي والسُّوريالي معاً، حيثُ الضَّحكُ والدموعُ يمتزجان، وحيثُ الحزنُ والفرحُ يتعايشان، وحيثُ الحياة والموت يُصبِحان شيئاً واحداً.
مُنذ تلك اللَّحظة ولغاية الآن، حين أُسئلُ عن أي شيءٍ يتحدَّث هذا الفيلم، لا أعرفُ ماذا أقول حقّاً: هل يتحدّثُ عن الحياة والموت؟
عن الحزن والفرح؟ أم عن الحُب والخُلود؟. أجل، لا زلتُ أجهلُ الإجابة عن هذا السُّؤال، لكننَّي أشعر بسعادة غامرة لأننَّي أنجزته.
س ـ "«دوراكوﭬا- Дураковo» أو قرية المغفَّلين «The village of fools» هو فيلم وثائقي، بمعنى أنه يوثّق أحداثاً واقعية. ما مدى حقيقة ما يحدث في هذه القرية بالنسبة لروسيا اليوم؟
ج ـ «دوراكوﭬا ـ Дураковo» أو قرية المغفلَّين، تم تصويره في مكان غريب جدّاً يشعر المرءُ من خلاله ما يمكن أن تفعله سلطة الاستبداد بالإنسان. إنَّ تواجدي هناك في تلك القرية اللُّغز كان هو الآخر غريباً جداً، بالنسبة لي على الأقل، فقد ذكَّرني بطريقة جَدَّتي حين كانتْ تروي لي قِصصاً وأنا طفلة. كانت جدَّتي تتحدَّث بصوت منخفض مهموس خشية أن يَسمع أحد ما شيئاً لا ينبغي عليه أن يسمعه. أعني، وجهاتُ نظرها السياسية. هناك، في تلك القرية، أدركتُ تماماً مغزى الطريقة التي كانت تتحدَّث بها جدَّتي عن فترة الثلاثينَّات من القرن الماضي ونظام حُكم ستالين.
كتجربةٍ شخصية، ذهابي إلى هناك، ثم شُروعي في تصوير فيلم كهذا كان شيئاً لا يُصَّدق حقاً. شيء فريد من نوعه، بهذا المعنى يمكن القول أنه فيلم حقيقيّ وواقعيّ تماماً!. قد يبدو غيرَ قابلٍ للتصديق لكنه حقيقيّ.
التجربة كانت بالشَّكل التالي: أنت تشهد ما يحدثُ أمام عينيك ولا تُريد تصديقه، لكنَّه حقيقيّ وواقعيّ. إذاً، عليك التسليم به ومن ثمَّ التَّأمل والتساؤُل: «لماذا يحدثُ هذا؟. من الذي يُدعِم هذا الدّكتاتور الصَّغير؟ وكيف حدثَ، وإلى أي مدى يُمكن للناس أن يتعايشوا مع هذا الافتتان بهذه القبضة الحديديَّة وهذا المُستبدّ؟
إن ما يحدثُ في قرية دوراكوﭬا على النطاق الضّيق، هو بمثابة صورةٍ مصغرةٍ لما يحدثُ في باقي أنحاء البلاد. لقد كان الأمر بالنسبة لي حقاً بمثابة استعارةٍ أو مجازٍ للسُّؤال الأَكبر: إلى أين تتَّجه روسيا اليوم، وماذا حدثَ للنَّاس، وماذا سيحدثُ أيضاً؟
س ـ كيف عثرتِ على هذه القرية، وكيف استطعتِ مقابلةُ حاكمها المُستبدّ هذا؟
ج ـ لقد سمعتُ عنه وشاهدتُ بعض لقطات في التلفزيون الروسي تتحدث عن قُدراته وعظمته، وكيف أنقذ الجميع من شتَّى الآثام والخطايا، لأن ثمّة أشخاصاً في قريته كانوا يُعانون من مشاكل عِدَّة: الإدمانُ على الكحول والمخدرّات والتَّهميش حيثُ ليس بوسع الكثير منهم العثور على موقعٍ لهم في المجتمع. البعضَ منهم يبقى لفترةٍ ثم يغادر، لكن البعضَ الآخر يرفض مغادرة المكان على الإطلاق، فهم يُقيمون هناك منذ تأسيس المكان قبل أحد عشر أو إثنا عشر عاماً مضت. والمكان، حسب مالكه وحاكمه موروزوف نفسه، هو بمثابة الفضاء الذي سيتشكَّل فيه إنسانٌ جديد لروسيا جديدة!. هناك سيتعرَّف القادمون من كُلّ أرجاء البلاد على القيم الروسيَّة الجديدة المعلنة وكيفيَّة ممارستها وهي: (الإيمان بالرَّب، القيصر ووطن الأسلاف). وهذا هو شعارُ القرية!.
س ـ ما يتعلَّق بالايمان بالقيصر، هل يُمكنكِ تحديد معنى القيمة الجديدة المتعلّقة بهذا الايمان؟
ج ـ أنَّهم يعشقون رئيسُ بلادهم ﭙوتِن!. هذا ما عنيتُهُ بالتحديد. حاكمُ القرية هذا لا يتفوَّه بأية جملة دون ذكره أو محاكاته في ممارساته اليوميَّة مع طُلَّابه أو مُريديه، بل يعتقد أنَّهما، هو و ﭙوتِن، مُتشابهان ومثاليّان، وهذا ما تحتاجهُ روسيا، على حدّ قوله!.
أصدقاؤُه السياسيَّون يأتونَ لزيارته ويقولوا الشَّيء ذاته. يُمكن سماعُ ذلك في الكنيسة أيضاً وفي كُلّ مكان، إلى الحدّ الذي ينتابُكَ فيه شعورٌ غريب أنَّ الحكاية نفسها تتكرَّر من جديد مرَّات ومرَّات. وهذا الأمرُ بالنسبة لي محزنٌ على الصَّعيد الشَّخصي، لأن جَدّي كان روسياً وأنا أُحبُّ روسيا، أُحبُّ الثَّقافة الروسيَّة لأنَّني نشأتُ وكبُرتُ معها. إنَّ رؤية وجع الناس ومراراتهم بشأن الآمال التي لم تتحقَّق ولم يتمّ الوفاء بها كما وعدوا وتتحوَّل إلى شيء مقرف حقّاً في المستقبل، كُلُّ هذا يجعلُني حزينةً للغاية.
إن رؤية الطَّابع الوطنيّ الرائع وهو يتضاءل وينكمش بالتَّدريج، رؤية الطَّريقة التي يجري فيها التَّلاعب بالقيم الكاثوليكية على هذا النَّحو، كُلُّ ذلك يجعلُني أتسائل، «إلى متى سيظلُّ الناس يدعمون ذلك؟ وكم بالغٌ هو صبرهم في الاستمرار على هذا؟».
س ـ أرجوا أن تُحدّثينا، ولو قليلاً، عن الطّريقة التي عُوملتِ بها في القرية؟
ج ـ أوه، هذه قصةٌ طويلة. لقد كانت فترة التَّصوير كئيبة ومفزعة تماماً. كُنَّا نشعر ولأوَّل مرة ولمدَّة شهر كامل بالقمع وعدم اليقين حول ما سنفعله لاحقاً، أو ماذا سيحدثْ، وكيف سيكونُ ردَّ فعل حاكم القرية هذا على الطَّريقة التي كُنَّا نعملُ بها. لقد كنتُ مُتعبة ومتوتّرة جدّاً وقد أحسستُ بإرهاق طاقم العمل كذلك. كنتُ أُحسُّ في كل لحظة أنَّه سيرفض مشروع تصويرنا للفيلم ويقوم بطردنا من القرية لمجرَّد طرحنا أسئلةً من شأنها أن تُثير أعصابه أو القيام بشيء ما خاطىء أو إزعاج طُلَّابه أو مُريديه بأسئلةٍ لا يُحبِّذ هو أن أطرحها عليهم.
دعانا في اليوم الأَوَّل لتناول الشاي وسألني سؤالاً غريباً ما إذا كُنتُ أتذكَّر كيف تُوفّي تروتسكي!؟ ومن ثم واصلَ حديثُه بطريقةٍ تهديديَّة بقوله:«لا تنسي بأنَّ فرنسا ليست بعيدةً من هنا»!. لقد أُصبتُ بالفزع وكان مُساعدي يُصغي له وهو يرتجف من الخوف طوال الوقت.
س ـ ماذا تأملين من هذا الفيلم؟
ج ـ آملُ أن يكون باستطاعة الناس في روسيا مشاهدته، كما وأتمنَّى لهم مستقبلاً آخر أفضل. أعتقد أنَّهم يستحقُّون العيش أفضل بكثير مما هم عليه الآن.
س ـ طيب، دعينا نتحدَّث الآن عن مستقبل فن السّينما، رُبمَّا بالنسبة لك شخصياً، أو السينما بشكل عام؟ أعرفُ أنَّ هذا السؤال واسع ومُلتبس، لكن ما الّذي تعتقدينه سيحدثُ لاحقاً بالنسبة لهذا الفن؟
ج ـ أعتقد أنه سيكون هناك إعادة اكتشافٍ أو ابتكارٍ، لابدَّ من التَّجديد. ثمَّة نقاشات واسعة وعميقة تدور اليوم في فرنسا بشأن المسموحِ وغير المسموح به في الفيلم الوثائقي. فهناك أفلامٌ وثائقيَّة مثلاً تَستخدم مُمثّلين وأخرى تُعيد تمثيل الأحداث. الأمرُ شبيه بولادة طفل يبدأ في النُّمو شيئاً فشيئاً ولا يُمكنك أن تضع هذا الطفل في عُلبةٍ وتقول له «الآن يجب أن تتوقَّف عن النُّمو». إنه كائنٌ حي، كذلك الفيلم. لذا أعتقد أن الكثير من الأمور ستتغيَّر لاحقاً.
لو نظرنا إلى السّينما على نطاق أوسع سنجد أن الحدود بين ما هو وثائقي وروائي أصبحتْ غائمة جداً حقاً. خذ الطريقة التي تم فيها تصوير فيلم «الطريق إلى غوانتانامو» مثلاً (****) ستجد أنَّه صُوِّر، وبقصد، بطريقةٍ أشبهَ بتصوير الفيلم الوثائقي. وإذا نظرتَ إلى الفيلم الوثائقي اليوم سترى أن الأُسلوب الذي يتبعه قد أصبح قريباً جداً من أُسلوب الفيلم الرّوائي.
أعتقد، في الآخِر، أنَّ الوثائقيّ والرّوائي كِلاهما يتقصَّى الحقيقة، وهذا هو الأهمّ. لوك ﮔودار قال مرَّةً «السّينما هي سلسلةٌ من الأكاذيب غرضها تقصّي الحقيقة» وأنا أتَّفق مع ذلك.
حين تحاول وضع مجموعة عناصر جنباً إلى جنب لرؤية ما إذا كان سينبثق من ذلك شيء ما، شيء يسطعُ كالحقيقة، عليك فقط أن تُفكّر فقط في الكيفية التي يُمكنك فيها الغوص تحت السطح، هناك حيث تكمن الحقيقة. إنه شيء يتماهى والبحث عن الماس. هناك تحت الأرض يكمن حجر الماس، فما عليك سوى أن تحفر عميقاً لتعثر عليه. هذا الشيء شبيه بعملنا تماماً وأظنُّ أن هذا البحث سيتواصل دون توقُّف.
هوامش:
(*)
أفلام نينو كرتادزه:
أنجزَتْ نينو كيرتازه الأفلام التالية:
«ثلاثُ حَيَواتٍ لإدوارد شيفرنادزة» 1999.
«كان يا ما كان في الشيشان» 2001.
«تهويدة شيشانيَّة» 2002.
«ستالين بقلم ستالين» 2003
«جنازة الرَّب» 2003
«قُلْ لي مَنْ أنا؟» 2004.
«أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ» 2004.
«خطُّ الأنابيب المُجاوِر» 2005 (فاز بجائزة أكاديمية الفيلم الأوروبي كأفضلِ فيلمٍ وثائقي).
«التِنّين في مياه القفقاس الصافية» 2005
««دوراكوﭬا، أو قرية المغفَّلين» 2008 (فاز بجائزة أفضلِ مُخرجٍ في مهرجان ساندانس السينمائي في الولايات المتحدة الأميركية).
«شيءٌ عن جيورجيا» 2009.
«البحثُ الحثيث عن أوروبَّا» 2014.
«اللُّهاث» 2014.
«أدعوكم إلى إِعدامي» 2018.
(**)
إطار أو (Frame) ويُعرف في اللغة الدارجة (كادر) المأخوذ من الفرنسية، هو عبارة عن إطار سيلليلويد واحد ثابت. إنَّ ما يوحي بحركة الصورة التي نشاهدها على الشاشة هو مرور 24 إطار في الثانية الواحدة عبر آلة العرض وذلك بفضل خاصية العين المعروفة بـ «استمرارية الرؤية».
(***)
سيكوينس Sequence هو سلسلة من المشَاهد أو اللقطات التي تشكّل الوحدة السردية المتميزة للفيلم والتي ترتبط بعضها ببعض عادة إما عن طريق وحدة المكان أو الزمان أو وفقاً للشكل أو الموضوع.
(****)
«الطريق إلى غوانتانامو»
فيلم (دوكو ـ دراما) بريطاني تم إنتاجه عام 2006 سيناريو مايكل وينتيربوتوم ومات ويكروس وإخراج مايكل وينتيربوتوم. وهو يتحدث عن القاء القبض على ثلاثة مواطنين بريطانيين عام 2001 في أفغانستان واحتجازهم من قبل الولايات المتحدة لأكثر من عامين في معسكر الاعتقال في قاعدة خليج غوانتانامو البحرية. كوبا. لعب أدوار الفيلم: رز أحمد بدور شفيق، فرهاد هارون بدور راحيل، وقّار صّديقي بدور منير، أفران عثمان بدور أسيف إقبال، ومارك هولدن بدور محقق قندهار.فاز الفيلم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي وحصل على جائزة الروح المستقلة independent Spirit Award كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان ساندانس السينمائي.
إليكم رابط الفيلم:
https://youtu.be/fQgiDKGHnr0
ترجمة وتقديم علي كامل
أُسلوبيَّاً، تنتمي أفلام المخرجة السينمائية نينو كرتادزه إلى منهج «سينما الحقيقة» الذي ابتكره المخرج السينمائي
والأنثروبولوجي الفرنسي «جان روش» مُستوحياً إيَّاه من المُخرج والمنظَّر السينمائي الروسي ديزيگا ڤيرترف بما كان يُعرف بـ «سينما الحقيقة»، في عشرينات القرن الماضي.
يُؤكّد هذا المنهج على عنصرين حيويين أساسيَّين في الفيلم الوثائقي هما، الارتجال وعين الكاميرا، التي هي عين المُخرج، للكشف عن الحقيقة أو تسليط الضوء على الأمور المختبئة خلف تفاصيل الواقع الخام أو اليومي.
إنها السينما المباشرة الخالصة أو سينما الرصد التي كثيراً ما تسعى إلى تجنَّب صوت الرَّاوي والمٌعلّق أو الموسيقى والمؤثّرات الصوتيَّة الجاهزة، بوصفِها عناصرَ مُقحمة. هذا النوع من السينما معنيٌّ بتسجيل الأحداث التي يُصبح فيها "الموضوع والمتفرّج" غيرُ مُدركين لوجودِ وسيطٍ بينهُما، وأعني بالوسيط، الكاميرا وتدخُّل المُخرج، لأنَّ «الكاميرا الوثائقيَّة"، إذا جاز القول، تسعى حقَّاً أن تكونَ حيث لا ينبغي على من يعمل خلفها عادة أن يكون!. وهذه مفارقةٌ جماليَّة مُحيّرة ومُلغزة.
تستمدُّ أفلام نينو كرتادزه طاقتها وتأثيرها من غِنى الواقع أولاً ومن ثَمَّ من أُسلوب المُعالجات الإخراجية للثيمات المُنتقاة بدقَّة وحذر، فضلاً عن رصدها الدَّقيق للأحداث الاستثنائيَّة غيرَ العاديَّة.
كرتادزه تُقيمُ، في أفلامها، عَلاقة سرّية وخفيَّة مع الشخصيات التي تقوم بتصويرها وتُطلق إشعاعاتها وتأثيراتها على تلك الشخصيَّات من خلف كاميرتها، التي هي عينها السينمائيَّة، بشكل خفيٍّ فطِنٍ وغيرِ مرئيّ، وهذه هي سمةٌ بارزة ومميَّزة لجماليات نظرية ديزيگا ڤيرترف بشأن «سينما الحقيقة».
«لهذا السبب أُحّب السينما الوثائقية».. تقول كيرتادزه.. «ما يَفتنني فيها دائماً هو ذلك الارتباط الوثيق والعميق بين الشخص الذي يعمل خلف الكاميرا والشخص الذي يتواجد أمامها».
إن الهدفَ الجماليّ والفلسفيّ الذي تسعى نينو كيرتادزه لتحقيقه في أفلامها هو محو الحُدُود بين الكاميرا والموضوع، بين التوثيقيّ والفنيّ، بين الواقع والخيال. مُعالجاتها السياسيَّة الخلّاَقة ومُناوراتها البارعة وجُرأتها الفريدة كُلَّ ذلك يُفضي دائماً إلى خلق حبكات مُلتوية مُبهِرة ومُثيرة للجدل على الدوام.
تتمحور ثيمات أفلامها حول وطنِها جورجيا، حول هُمومِ أُناسه ومُجتمعه، عاداتُهُ وتقاليدُهُ، ثقافتُهُ، تضاريس بيئته الغنيَّة والخلاَّبة، كما أنها تُعالج أيضاً موضوع الهُويَّة الوطنيَّة في وضع عالمي مُتزايد التعقيد.
وُلدت نينو كرتادزه عام 1968 في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا السوﭬييتية (آنذاك)، والدها كان عالِماً بيولوجياً، وهي حاصلة على درجة شهادة ماجستير في الأدب. شَرعتْ، إبَّان تخرُّجها، في كتابة البحوث والدّراسات الأدبيَّة والنقديَّة حول أدب القرون الوسطى على وجه التَّحديد. ثُمَّ واصلتْ الكتابة، ولكن هذه المرة كتابة مقالاتٍ سياسيَّة تحريضيَّة إِثرَ أوَّل قمعٍ دمويٍّ مارستْهُ القوَّات الروسية ضدَّ الجورجيّين الذين كانوا يطالبون بالحريَّة، وتلك هي المرَّة الأُولى التي يدنو جيلُها من حوافِّ الموت والحرب. بطرافةٍ وتهكَّم علَّقتْ نينو حينها تقول:«كان الوضعُ سُورياليٌّ حقَّاً. أتذّكَّرُ أنَّ الناس كانوا يتظاهرون خارج مكاتبنا مُطالبين بالحُريَّة والاستقلال فيما نحن غارقون في بحث وقراءة نصوص القرن الثالث عشر والرابع عشر».
جَرتْ الأُمور بعد ذلك بشكلٍ سريع حيث شهدتُ نينو انهيار الاتَّحاد السوفييتيّ في 9 أﭙريل (نيسان) عام 1991 ثُمَّ اندلعتْ العديد من الصراعات في المرحلة التي تلتْ ذلك السقوط، لا سيّما في جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وبدءِ الحرب الشّيشانيَّة الأُولى.
وخلال تلك الاضطرابات التي حدثتْ في القوقاز عملتْ مُراسِلةً حربيَّة لصالح وكالة فرانس برس ووكالة أنباء أسوشيتد ﭙريس لتغطية الحرب في الشّيشان وسواها من الصّراعات المسلَّحة حيث أمضتْ قُرابةَ الأربع سنوات هناك:
«كان ذلك العمل هو من شكَّلَ شخصيتي وما غدوت عليه فيما بعد. أعتقدُ أن ثمَّة شيئاً ما يحدثُ لك حين تكونُ على مقرُبةٍ من الموت والمُعاناة. تتطلَّع إلى العالَم من حولك، من حولي أنا على أيَّة حال، وهو يتغيَّر أمامَ ناظري...».
حين توقَّف إطلاق النَّار في الشيشان عام 1996 تلقَّت نينو مُكالمة هاتفية من مخرجةٍ سينمائية فرنسية من أصلٍ جورجي اسمها نانا جورجادزه، تطلبُ منها القيام في أداء الدَّور الرئيسي في فيلم سينمائيّ جورجيّ مشترك بعنوان «رئيس الطُّهاة عاشقاً». وافقتْ نينو بالطبع على الفور ثم أُنجز الفيلم ورُشِّح لعرضه في مهرجان (كان) السينمائي. طُلب منها حينها السَّفر إلى ﭙاريس والمكوث مدَّة شهر للترويج للفيلم في المهرجان، حينها اعتقدتْ أنها ستبقى لبعض الوقت في ﭙاريس، لكنها فكَّرت في ما إذا كان بإمكانها متابعة أحلامها الوثائقية هناك كما تقول. حصل فيلم «رئيس الطُّهاة عاشقاً»على جائزة مهرجان (كان) وتمَّ ترشيحه لجائزة الأوسكار.
«كان الأمرُ مُضحكاً حقّاً» تقول كرتادزه... «حين وصلتُ ﭙاريس لم تكن لديَّ أيَّةُ فكرةٍ عن مدى الصُّعوبة التي يُمكن فيها تحقيق مثل هذه الأحلام. لقد اتَّصلتْ هاتفياً بأحد المنتجين الكبار فأجابتني سكرتيرتهمن يتكلَّم؟)، قلتُ لها: أنا نينو كرتادزه. (مَن؟). وبعد ثوانٍ تلقَّيتُ الإجابة ذاتها (إنَّه في الخارج، أو غير موجود، أو شي من هذا القبيل). وقد جرى الحال على هذا المنوال لفترة من الوقت، لكن في النهاية استطعتُ أن أخرج فيلمي الأول، والثاني، وامتدَّتْ مدَّةُ مُكوثي في ﭙاريس لتصل إلى ما يقرُب العقدين الآن. لقد كنتُ محظوظةً في حياتي وعملي حقّاً. إنني أُؤمنُ بالمُعجزات وقد تحقَّقت هذه المُعجزات بشكل واقعي في حياتي».
كمُمّثلة، لعبتْ نينو كرتادزه دوراً آخر في فيلم آخر للمُخرجة نانا جورجادزه هو «صانعُ قوسِ قُزح» عام 2008. أمَّا كمُخرجة،
فهي تُعتبر واحدةً من المُخرجين الجورجيّين القلائل الذين شيّدوا حُضورهم السّينمائيّ الأول في فرنسا، فقد استطاعتْ أن تكوِّنَ شخصيتها السينمائية كإحدى السينمائيات الوثائقيات الممُيَّزات في جميع أنحاء العالَم من خلال جُرأةِ ثيمات أفلامها ومعالجاتها الفريدة للدّراما الإنسانيَّة.
تعيش كرتادزه في فرنسا منذ عام 1997 وهي تُجيد اللغات الروسيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة إضافة إلى الجورجيّة لُغتها الأُم. عملتْ نينو مع مخرجين كِبار أمثال بيتر بروك، بن گازار، فيتوريو گاسمان، جان بيير آمريس، كلود گوريتا، فيليب مونير، جيرارد بيرس وأليفر لانغلس وسِواهم. كما أنَّها تنشط، إضافة إلى عملها كمُخرجة، في مُختلف المنظَّمات الوطنيّة والدوليّة ومدارس السينما كمستشار وعُضو لَجنة تحكيم وأُستاذ محاضر.
حازتْ أفلامَها على شُهرة عالميّة وجوائز عديدة مرموقة في جميع أنحاء العالَم بما في ذلك جائزة أفضل مُخرجٍ في مهرجان سانداس عن فيلمها (دوراكوﭬو أو «قرية المغفلين»)، وجائزة أكاديميَّة الأفلام الأوروبيّة عن فيلمها «خطّ الأنابيب المُجاور»، والجائزة الذهبيّة الألمانيّة الكُبرى أدولف ﮒريم عن فيلمها الوثائقي «التَّهويدة الشّيشانيَّة»، وكذلك جائزة المهرجان السينمائي العالمي «سينما الحقيقة» في باريس عن فيلمها «أخبِروا أصدقائي إنّي مُتّ».(*)
لقد تمَّ تصوير مُعظم أفلام نينو كرتادزه إمَّا في جورجيا، بلدها الأم، أو في روسيا، أو في العلاقة بينهما، وهذا أمرٌ نادرٌ جداً لشخص يعيش ويعمل في فرنسا وغالباً ما يعودُ إلى جُذوره، وليس ثمَّة استثنائات كثيرة تشذُّ عن هذه القاعدة حتى إذا تنوَّعتْ الموضوعات التي تقومُ بمعالجتها.
نص اللقاء:
س ـ حدّثينا عن جماليَّاتك وأفكارك حول فنّ السّينما؟
ج ـ إنَّ تكوين الإطار (**) وحركة الكاميرا والإضاءة وكل ما هو موجودٌ في مُقدَّمة الصورة وخلفها والطّبقات أو الشرائح أو المُستويات، جميعُها أمور غاية في الأهمّية إذا أرَدنا الحديث عن السينما. وهذه هي السينما حقّاً. الأمرُ الآخر هو الطّاقة. ما هي طاقة الـ sequence (***) وكيف يُمكن إحرازها عند القيام بتصوير شيء ما، بغضّ النَّظر ما إذا كان الفيلم وثائقيٌّ أو روائيّ؟.
ينبغي أن يتضمَّن الـ sequence على طاقةٍ مُفعمةٍ بالحياة لأنَّ خلافَ ذلك يُصبِح مُجرَّدَ صورةً جميلة ليس أكثر. ومن أجل أن يُصبِح الفيلم شيئاً حيويَّاً هو بحاجة إلى أن يتنفَّس.
س ـ ما هو أفضلُ فيلمٍ قُمتِ باخراجه؟ وما هي انطباعاتُك حول الأفلام التي أَنجزتِها؟
ج ـ كان في فرنسا رسَّاماً اسمهُ بونارد. قامتْ إدارة متحف اللُّوفر يوماً بشراء لوحاته وعرضِها في المتحف. حين أصبح حُلمُ بونارد حقيقة تمنَّى حينها أن يحمل ألوانه وفرشاته ويذهب إلى المتحف في مُحاولةٍ لتصحيح بعض الأخطاء في لوحاته المعروضة. لكنَّ ذلك كان شيئاً مُحال.
أعتقد أنَّ شيئاً شبيهاً بهذا يحدثُ للمُخرج السينمائي. فأنا مثلاً عندما أُشاهدُ أفلامي التي أخرجتها، أقول لنفسي «حسناً، رُبمَّا كانَ عليَّ أن أُغيّر هذا المشهد أو ذاك، أن أُجري تغييراً هنا وهناك». إلا أنَّ ذلك غير ممكن، فقد انتهى الأمر.
إنَّ أفضل فيلمٍ هو الفيلم الذي أنت على وشك القيام بعمله في المُستقبل في مكان ما. إنَّ رغبة الفنَّان في مواصلة العمل وعدم التوقُّف هو ما ينبغي القيام به دائماً.
س ـ أيٌّ من تلك الأفلام كان الأسهل في تصويره أو الأكثر بساطةً وأُلفة ًبالنسبة لك؟
ج ـ لا أحد منهم. لم يكن أيَّاً منهم سهلاً. كُلُّ فيلمٍ له تأريخه وحكايته وسجلّه الخاص به، لأسبابٍ تتعلَّق بأُمور شتَّى: طاقِمُ العمل، موقعُ التصوير، نوعُ الثيمة، النَّاس الذَّين ستقومُ بتصويرهم، التحدّيات التي ستواجهُها، فكُلُّ تحدٍّ مختلف دائماً عن التَّحدّي الآخر. عُموماً، أنا أُحبّ وأَكره أفلامي على حد سواء.
س ـ ما هي العَلاقة بين أفلامك وتقصّي الحقيقة؟ هل تعتقدين أنَّ أفلامُك تبحثُ عن الأصالة والمصداقيَّة؟
ج ـ أعتقدُ أنَّ «الحقيقة» و «الواقع» هما أمران غايةً في الأهميَّة، لكنَّهما مُختلفان بالطبع. إنَّ ما يُسمّيه الناس «واقعٌ» هو فكرةٌ ضبابية تغشى البصر. لنفترض أنَّ لدينا هنا كاميرا. ما هو «واقع» الكاميرا؟.
واقعُ الكاميرا هو ذلك الذي اخترتُهُ أنت، والذي سيُصبِح واقعُك أنت في النهاية. وهذا هو الأمرُ المثير للاهتمام جدّاً بشأن الإخراج الوثائقي.
دور المخرج هنا هو أن ينتقي جُزءاً من تلك الفوضى التي يّسمُّونها الناس «واقع». طيّب، ماذا سيكون واقع إطار اللَّقطة الخاصّ بيَ؟ (**) وما هو الشَّيء الذي أُريد التَّركيز عليه في فكرة الفيلم؟
إنَّ اللَّحظة التي أُركّز فيها على (الباب) مثلاً، تُصبِح تلك الباب في هذه الحال هي الخيار. اللَّحظة هي التي تُقرّر الأمر الأساسّي أو الشخصيَّة الرئيسيَّة في الفيلم الوثائقي، ومن ثمَّ تأتي المراحل الأخرى، تقطيعُ الصورة، تقطيعُ الصوت... وسِواه. لكنَّ الأمر الرَّئيسي دائماً له علاقة بنوع الخيارات.
س ـ هل يُمكن أن تُحدّثينا قليلاً عن ثيمة الموت في فيلمك «أَخبِروا أصدقائي أَنّي مُّتْ»؟
ج ـ كنتُ قرَّرت قبل سنواتٍ عديدةٍ مضت أن أبحث ثيمة «الموت» في فيلم وثائقي في إطار مفهوم الموت، لكن بالإمكان في ذات الوقت تحويله إلى نشيدٍ وثناءٍ للحياة.
لقد كانت رغبتي تتمحور في ربط أواصر الطَّرفين، الموتُ والحياةُ معاً. كنتُ أحلُمُ بفيلم مفعمٍ بالطَّاقة والقوَّة والحيويَّة تجعلُني قادرةً في الحديث عن الحياة عبر الموت.
مشروعُ الفيلم يرتكز بشكل جوهري على ذكرياتٍ من طفولتي: عن صورٍ بقيت مخزونةً في ذاكرتي لجنازاتٍ شهدتها في جورجيا، هناك حيث وُلدْتُ. وحسب عادات وأعراف بعض المناطق المُحدَّدة، يحتفظُ الأحياء بموتاهم بروابط متينة تجعلهم يواصلون الحياة كما لو أنَّهم لازالوا أحياء.
عنوانُ الفيلم «أخبِروا أصدقائي أنيّ مُّتْ» مصدرُه نقش على ضريحٍ عثرتُ عليه في إحدى المقابر خلال رحلة بحثي عن موقع للتصوير في غرب جورجيا.
كان النقشُ يتضمَّن كلمات على لسان المُتوفَّى، يدعو فيها جميع معارفه أن يجلسوا ويشربوا بالقرب من قبره. كما يطلبُ منهم أن يأتوا لرؤيته دائماً وأن يُنشدوا له أغانيه المفضَّلة كي لا يشعرُ بالضجر والوحدة في قبره، مُجدِّداً بذلك رغبتهُ بمواصلة حياته.
كان ثمَّة شيٌء سوريالي حول هذا الواقع الذي رأيتُه. شيٌء قويٌ لا يُصّدق بشأن هذه الطريقة في مواجهة الموت والابتهاج بالحياة والتي انبثقت جميعُها من خلال تلك النُّقوش الغرائبيَّة في المقبرة.
«أخبِروا أصدقائي أنيّ مُّتْ» هو أكثرُ أفلامي جُنوناً وتناقضاً. لهذا السَّبب أجدُني أختزن مثل هذه الذكريات الأثيرة عنه. كان تحدّياً حقيقيَّاً لنا جميعاً، تحدّياً لفريق العمل ولمدراء الإنتاج وللقناة التلفزيونية التي أنتجته. نجاحُهُ والجوائزُ التي نالها كان بمثابة ثناءٍ لمُخيَّلة الواقع، مكافئَةً للعالمَين الحقيقي والسُّوريالي معاً، حيثُ الضَّحكُ والدموعُ يمتزجان، وحيثُ الحزنُ والفرحُ يتعايشان، وحيثُ الحياة والموت يُصبِحان شيئاً واحداً.
مُنذ تلك اللَّحظة ولغاية الآن، حين أُسئلُ عن أي شيءٍ يتحدَّث هذا الفيلم، لا أعرفُ ماذا أقول حقّاً: هل يتحدّثُ عن الحياة والموت؟
عن الحزن والفرح؟ أم عن الحُب والخُلود؟. أجل، لا زلتُ أجهلُ الإجابة عن هذا السُّؤال، لكننَّي أشعر بسعادة غامرة لأننَّي أنجزته.
س ـ "«دوراكوﭬا- Дураковo» أو قرية المغفَّلين «The village of fools» هو فيلم وثائقي، بمعنى أنه يوثّق أحداثاً واقعية. ما مدى حقيقة ما يحدث في هذه القرية بالنسبة لروسيا اليوم؟
ج ـ «دوراكوﭬا ـ Дураковo» أو قرية المغفلَّين، تم تصويره في مكان غريب جدّاً يشعر المرءُ من خلاله ما يمكن أن تفعله سلطة الاستبداد بالإنسان. إنَّ تواجدي هناك في تلك القرية اللُّغز كان هو الآخر غريباً جداً، بالنسبة لي على الأقل، فقد ذكَّرني بطريقة جَدَّتي حين كانتْ تروي لي قِصصاً وأنا طفلة. كانت جدَّتي تتحدَّث بصوت منخفض مهموس خشية أن يَسمع أحد ما شيئاً لا ينبغي عليه أن يسمعه. أعني، وجهاتُ نظرها السياسية. هناك، في تلك القرية، أدركتُ تماماً مغزى الطريقة التي كانت تتحدَّث بها جدَّتي عن فترة الثلاثينَّات من القرن الماضي ونظام حُكم ستالين.
كتجربةٍ شخصية، ذهابي إلى هناك، ثم شُروعي في تصوير فيلم كهذا كان شيئاً لا يُصَّدق حقاً. شيء فريد من نوعه، بهذا المعنى يمكن القول أنه فيلم حقيقيّ وواقعيّ تماماً!. قد يبدو غيرَ قابلٍ للتصديق لكنه حقيقيّ.
التجربة كانت بالشَّكل التالي: أنت تشهد ما يحدثُ أمام عينيك ولا تُريد تصديقه، لكنَّه حقيقيّ وواقعيّ. إذاً، عليك التسليم به ومن ثمَّ التَّأمل والتساؤُل: «لماذا يحدثُ هذا؟. من الذي يُدعِم هذا الدّكتاتور الصَّغير؟ وكيف حدثَ، وإلى أي مدى يُمكن للناس أن يتعايشوا مع هذا الافتتان بهذه القبضة الحديديَّة وهذا المُستبدّ؟
إن ما يحدثُ في قرية دوراكوﭬا على النطاق الضّيق، هو بمثابة صورةٍ مصغرةٍ لما يحدثُ في باقي أنحاء البلاد. لقد كان الأمر بالنسبة لي حقاً بمثابة استعارةٍ أو مجازٍ للسُّؤال الأَكبر: إلى أين تتَّجه روسيا اليوم، وماذا حدثَ للنَّاس، وماذا سيحدثُ أيضاً؟
س ـ كيف عثرتِ على هذه القرية، وكيف استطعتِ مقابلةُ حاكمها المُستبدّ هذا؟
ج ـ لقد سمعتُ عنه وشاهدتُ بعض لقطات في التلفزيون الروسي تتحدث عن قُدراته وعظمته، وكيف أنقذ الجميع من شتَّى الآثام والخطايا، لأن ثمّة أشخاصاً في قريته كانوا يُعانون من مشاكل عِدَّة: الإدمانُ على الكحول والمخدرّات والتَّهميش حيثُ ليس بوسع الكثير منهم العثور على موقعٍ لهم في المجتمع. البعضَ منهم يبقى لفترةٍ ثم يغادر، لكن البعضَ الآخر يرفض مغادرة المكان على الإطلاق، فهم يُقيمون هناك منذ تأسيس المكان قبل أحد عشر أو إثنا عشر عاماً مضت. والمكان، حسب مالكه وحاكمه موروزوف نفسه، هو بمثابة الفضاء الذي سيتشكَّل فيه إنسانٌ جديد لروسيا جديدة!. هناك سيتعرَّف القادمون من كُلّ أرجاء البلاد على القيم الروسيَّة الجديدة المعلنة وكيفيَّة ممارستها وهي: (الإيمان بالرَّب، القيصر ووطن الأسلاف). وهذا هو شعارُ القرية!.
س ـ ما يتعلَّق بالايمان بالقيصر، هل يُمكنكِ تحديد معنى القيمة الجديدة المتعلّقة بهذا الايمان؟
ج ـ أنَّهم يعشقون رئيسُ بلادهم ﭙوتِن!. هذا ما عنيتُهُ بالتحديد. حاكمُ القرية هذا لا يتفوَّه بأية جملة دون ذكره أو محاكاته في ممارساته اليوميَّة مع طُلَّابه أو مُريديه، بل يعتقد أنَّهما، هو و ﭙوتِن، مُتشابهان ومثاليّان، وهذا ما تحتاجهُ روسيا، على حدّ قوله!.
أصدقاؤُه السياسيَّون يأتونَ لزيارته ويقولوا الشَّيء ذاته. يُمكن سماعُ ذلك في الكنيسة أيضاً وفي كُلّ مكان، إلى الحدّ الذي ينتابُكَ فيه شعورٌ غريب أنَّ الحكاية نفسها تتكرَّر من جديد مرَّات ومرَّات. وهذا الأمرُ بالنسبة لي محزنٌ على الصَّعيد الشَّخصي، لأن جَدّي كان روسياً وأنا أُحبُّ روسيا، أُحبُّ الثَّقافة الروسيَّة لأنَّني نشأتُ وكبُرتُ معها. إنَّ رؤية وجع الناس ومراراتهم بشأن الآمال التي لم تتحقَّق ولم يتمّ الوفاء بها كما وعدوا وتتحوَّل إلى شيء مقرف حقّاً في المستقبل، كُلُّ هذا يجعلُني حزينةً للغاية.
إن رؤية الطَّابع الوطنيّ الرائع وهو يتضاءل وينكمش بالتَّدريج، رؤية الطَّريقة التي يجري فيها التَّلاعب بالقيم الكاثوليكية على هذا النَّحو، كُلُّ ذلك يجعلُني أتسائل، «إلى متى سيظلُّ الناس يدعمون ذلك؟ وكم بالغٌ هو صبرهم في الاستمرار على هذا؟».
س ـ أرجوا أن تُحدّثينا، ولو قليلاً، عن الطّريقة التي عُوملتِ بها في القرية؟
ج ـ أوه، هذه قصةٌ طويلة. لقد كانت فترة التَّصوير كئيبة ومفزعة تماماً. كُنَّا نشعر ولأوَّل مرة ولمدَّة شهر كامل بالقمع وعدم اليقين حول ما سنفعله لاحقاً، أو ماذا سيحدثْ، وكيف سيكونُ ردَّ فعل حاكم القرية هذا على الطَّريقة التي كُنَّا نعملُ بها. لقد كنتُ مُتعبة ومتوتّرة جدّاً وقد أحسستُ بإرهاق طاقم العمل كذلك. كنتُ أُحسُّ في كل لحظة أنَّه سيرفض مشروع تصويرنا للفيلم ويقوم بطردنا من القرية لمجرَّد طرحنا أسئلةً من شأنها أن تُثير أعصابه أو القيام بشيء ما خاطىء أو إزعاج طُلَّابه أو مُريديه بأسئلةٍ لا يُحبِّذ هو أن أطرحها عليهم.
دعانا في اليوم الأَوَّل لتناول الشاي وسألني سؤالاً غريباً ما إذا كُنتُ أتذكَّر كيف تُوفّي تروتسكي!؟ ومن ثم واصلَ حديثُه بطريقةٍ تهديديَّة بقوله:«لا تنسي بأنَّ فرنسا ليست بعيدةً من هنا»!. لقد أُصبتُ بالفزع وكان مُساعدي يُصغي له وهو يرتجف من الخوف طوال الوقت.
س ـ ماذا تأملين من هذا الفيلم؟
ج ـ آملُ أن يكون باستطاعة الناس في روسيا مشاهدته، كما وأتمنَّى لهم مستقبلاً آخر أفضل. أعتقد أنَّهم يستحقُّون العيش أفضل بكثير مما هم عليه الآن.
س ـ طيب، دعينا نتحدَّث الآن عن مستقبل فن السّينما، رُبمَّا بالنسبة لك شخصياً، أو السينما بشكل عام؟ أعرفُ أنَّ هذا السؤال واسع ومُلتبس، لكن ما الّذي تعتقدينه سيحدثُ لاحقاً بالنسبة لهذا الفن؟
ج ـ أعتقد أنه سيكون هناك إعادة اكتشافٍ أو ابتكارٍ، لابدَّ من التَّجديد. ثمَّة نقاشات واسعة وعميقة تدور اليوم في فرنسا بشأن المسموحِ وغير المسموح به في الفيلم الوثائقي. فهناك أفلامٌ وثائقيَّة مثلاً تَستخدم مُمثّلين وأخرى تُعيد تمثيل الأحداث. الأمرُ شبيه بولادة طفل يبدأ في النُّمو شيئاً فشيئاً ولا يُمكنك أن تضع هذا الطفل في عُلبةٍ وتقول له «الآن يجب أن تتوقَّف عن النُّمو». إنه كائنٌ حي، كذلك الفيلم. لذا أعتقد أن الكثير من الأمور ستتغيَّر لاحقاً.
لو نظرنا إلى السّينما على نطاق أوسع سنجد أن الحدود بين ما هو وثائقي وروائي أصبحتْ غائمة جداً حقاً. خذ الطريقة التي تم فيها تصوير فيلم «الطريق إلى غوانتانامو» مثلاً (****) ستجد أنَّه صُوِّر، وبقصد، بطريقةٍ أشبهَ بتصوير الفيلم الوثائقي. وإذا نظرتَ إلى الفيلم الوثائقي اليوم سترى أن الأُسلوب الذي يتبعه قد أصبح قريباً جداً من أُسلوب الفيلم الرّوائي.
أعتقد، في الآخِر، أنَّ الوثائقيّ والرّوائي كِلاهما يتقصَّى الحقيقة، وهذا هو الأهمّ. لوك ﮔودار قال مرَّةً «السّينما هي سلسلةٌ من الأكاذيب غرضها تقصّي الحقيقة» وأنا أتَّفق مع ذلك.
حين تحاول وضع مجموعة عناصر جنباً إلى جنب لرؤية ما إذا كان سينبثق من ذلك شيء ما، شيء يسطعُ كالحقيقة، عليك فقط أن تُفكّر فقط في الكيفية التي يُمكنك فيها الغوص تحت السطح، هناك حيث تكمن الحقيقة. إنه شيء يتماهى والبحث عن الماس. هناك تحت الأرض يكمن حجر الماس، فما عليك سوى أن تحفر عميقاً لتعثر عليه. هذا الشيء شبيه بعملنا تماماً وأظنُّ أن هذا البحث سيتواصل دون توقُّف.
هوامش:
(*)
أفلام نينو كرتادزه:
أنجزَتْ نينو كيرتازه الأفلام التالية:
«ثلاثُ حَيَواتٍ لإدوارد شيفرنادزة» 1999.
«كان يا ما كان في الشيشان» 2001.
«تهويدة شيشانيَّة» 2002.
«ستالين بقلم ستالين» 2003
«جنازة الرَّب» 2003
«قُلْ لي مَنْ أنا؟» 2004.
«أَخبِروا أَصدقائي إنّي مُّتْ» 2004.
«خطُّ الأنابيب المُجاوِر» 2005 (فاز بجائزة أكاديمية الفيلم الأوروبي كأفضلِ فيلمٍ وثائقي).
«التِنّين في مياه القفقاس الصافية» 2005
««دوراكوﭬا، أو قرية المغفَّلين» 2008 (فاز بجائزة أفضلِ مُخرجٍ في مهرجان ساندانس السينمائي في الولايات المتحدة الأميركية).
«شيءٌ عن جيورجيا» 2009.
«البحثُ الحثيث عن أوروبَّا» 2014.
«اللُّهاث» 2014.
«أدعوكم إلى إِعدامي» 2018.
(**)
إطار أو (Frame) ويُعرف في اللغة الدارجة (كادر) المأخوذ من الفرنسية، هو عبارة عن إطار سيلليلويد واحد ثابت. إنَّ ما يوحي بحركة الصورة التي نشاهدها على الشاشة هو مرور 24 إطار في الثانية الواحدة عبر آلة العرض وذلك بفضل خاصية العين المعروفة بـ «استمرارية الرؤية».
(***)
سيكوينس Sequence هو سلسلة من المشَاهد أو اللقطات التي تشكّل الوحدة السردية المتميزة للفيلم والتي ترتبط بعضها ببعض عادة إما عن طريق وحدة المكان أو الزمان أو وفقاً للشكل أو الموضوع.
(****)
«الطريق إلى غوانتانامو»
فيلم (دوكو ـ دراما) بريطاني تم إنتاجه عام 2006 سيناريو مايكل وينتيربوتوم ومات ويكروس وإخراج مايكل وينتيربوتوم. وهو يتحدث عن القاء القبض على ثلاثة مواطنين بريطانيين عام 2001 في أفغانستان واحتجازهم من قبل الولايات المتحدة لأكثر من عامين في معسكر الاعتقال في قاعدة خليج غوانتانامو البحرية. كوبا. لعب أدوار الفيلم: رز أحمد بدور شفيق، فرهاد هارون بدور راحيل، وقّار صّديقي بدور منير، أفران عثمان بدور أسيف إقبال، ومارك هولدن بدور محقق قندهار.فاز الفيلم بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي وحصل على جائزة الروح المستقلة independent Spirit Award كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان ساندانس السينمائي.
إليكم رابط الفيلم:
https://youtu.be/fQgiDKGHnr0