حين ريشاتُـهُم تَنْهَمِرُ المطر (2 من،2
هنري زغيب بيروت- للنهار العربي
الطريف أَن المطر لا يظهر جليًّا في هذه اللوحة إِلَّا من خلال المظلَّات وموجة غيوم رمادية قاتمة تظهر في البعيد خلف الأَشخاص. إِنه التلميح لا التصريح، وهو في أَساس الفن العالي
في الجزء الأَول من هذا المقال، وفي سياق حديثي عن أَنَّ للشعراء والفنانين مزاجَهم الـمُغاير المنعكِس على كتاباتهم وأَعمالهم التشكيلية والمسرحية والموسيقية وسواها، اخترتُ خمس لوحات تشهد على ذاك المزاج المغاير، بما فيه دقة العمل على تفاصيل اللوحة في تقْنية مذهلة
في هذا الجزء الآخَر، أَختُم بـخمس لوحات أُخرى
1. المطر المنهلّ من فضاء الخشب
الرسام الياباني أُوتاغاوا كونيسادا (1786 – 1865)، المعروف أَيضًا بـ”تويوكوني الثالث”، كان من أَبرز أَعلام فن الــ”أُوكيو” (أَي “صُوَر من فضاء العالم”) وهو فن ياباني خاص ازدهر بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، برع أَعلامه في الرسم والنحت على الخشب، وتناولوا في أَعمالهم الجمال الأُنثَوي والراقصين والراقصات والمصارعين وحكايات تقليدية ومشاهد سياحية ومناظر طبييعية وأَزهارًا ونباتات جميلة وبعض العري.
وكانت لكونيسادا شهرة خاصة ببراعته في حفْر المطر على الخشب. المشهد في هذه اللوحة (“مطر أَول الصيف”) يُظهر تلالًا ينهمر عليها المطر. لكنَّ الوجوه فيها لا تبدو متأَثِّرةً بالمطر، لذا يكملون ما هم إليه. والمطر يبدو خيوطًا متوازية متباعدة في مسافات بينها متساوية، وهذه إِحدى خصائص فن الـ”أُوكيو”
وهذه اللوحة المميَّزة تتصدَّر مجموعة مناظر يابانية متنوعة أَصدرتها منشورات توباي ياماغوشيا (تأَسست سنة 1805 ونشطت حتى 1895) الصيف” (1832)
2. تُـمطرُ في بوسطن
الانطباعي الأَميركي تشيلد هَيسَم (1859-1935) له لوحات عدة تبرز حبَّهُ رسْمَ المطر. في هذه اللوحة (“نهار مُمطر في بوسطن”) منظر جزءٍ من حيٍّ في طرف بوسطن الجنوبي، عند تقاطع جادة كولمبوس وشارع آبلون. وكان هيسم يعيش في آخر جادة كولمبوس، وفي اللوحة لحظة حيوية من الحياة اليومية تتحرك مع حصان تجرُّه عربة، وناس تحت المظلات على الرصيف المبلَّل. الأساس في اللوحة بقي أَبيض. ومنظر البولفار الواسع يعود إلى تأَثر الرسام إِبان وجوده سابقًا في باريس من جادات البارون جورج أُوجين هوسمان الضابط الفرنسي مدير ناحية السين، والذي كلَّفه نابوليون الثالث وضع تصميم مُدُني للشوارع والجادات والحدائق العام
3. الثور الهائج تحت مطر ويلز
الرسام الإنكليزي ديڤيد كوكْس (1783-1859) فنان موهوب منذ مطالعه من مدينة برمنغهام (المملكة المتحدة). انتقل الى لندن لكي يواصل تعمُّقَه في اختصاصه. عند أَواخر القرن التاسع عشر تطوَّر حتى أَصبح رائدًا في الرسم المائي والمناظر الطبيعية والمشاهد اليومية. في أَعماله استخدم كوكْس ريشاتٍ مائلةً لإِظهار الشعور الانطباعي في المشهد وفي زخّ الإِعصار الهائج فوق أَرض بور. وفي هذه اللوحة (“ثور يتحدَّى الإِعصار”) رسَمَ ثورًا وحيدًا ينظر إِلى فوق، إِلى الغيوم الكثيفة، كأَنه يتحدى المطر القوي والإِعصار الهائج، ما يوحي بلحظات تحدِّي الطبيعة من حيوان ثائر على الطبيعة وسط العاصفة الهائجة في برية متوحشة من ويلز
اليوم، في مقر جمعية برمنغهام الملكية للفنانين، تمثال نصفي لكوكْس تكريمًا مسيرتَه وإِرثَه
4. فرسان تحت المطر
الانطباعي الفرنسي إِدغار دوغا (1834-1917) اشتُهر بلوحاته التي رسم فيها الراقصات إِبان أَدائهنّ، وهي اليوم موجودة في متاحف عالمية عدّة. اختلف النقاد في دوافع الرسَّام إِلى هذا النوع من الأَعمال، أَن تكون بدافع كُره المرأَة أَو بدافع التولُّه بها. لكنهم يجمعون أَنَّ هدفه الرئيس هو الحركة في اللوحة أَيَّا يكُن مَن فيها. في هذه اللوحة (“فرسان تحت المطر”) رسَم دوغا خمسة فرسان يتهيأُون للسباق تحت المطر في حقل وسيع، وفي خلفية اللوحة يظهر أَشخاص بعيدون. من رقشات الريشة يتبين تأْثير النحت في الخشب الياباني كما اشتهر في القرن التاسع عشر الأُوروبي
5. المظلَّات
في هذه اللوحة (“المظلّات”) للفرنسي أُوغست رُنوار (1841-1919) رسم شارعًا مكتظًّا في باريس، يتوزع فيه الأَشخاص من دون تنسيق، وبدون أَن تكون النقطة الرئيسة في وسط اللوحة. فيها وجوه كثيرة، قريبُها والأَبعد، لكن الرائي إِليها يركِّز فورًا وتلقائيًّا على الوجه الأُنثوي الجميل عند يسار اللوحة: إِنها حبيبة رُنوار الرسامة الفرنسية سوزان ڤالادون (1865-1938)، وهي كانت أَول امرأَة رسامة تَدخل في عضوية “الجمعية الوطنية للفنون الجميلة” سنة 1894. ذلك أَنها أَمضت 40 سنة من حياتها في الرسم، وكانت موديلًا لعدد من الرسامين بينهم رُنوار وتولوز لوتريك
في هذه اللوحة تظهر سوزان بدون مظلَّة، ويظهر خلف كتفها اليمنى رجلٌ ينظر إِليها بانتباه، وإِلى يسارها أُمٌّ تنظر إِلى ابنتَيها وهي لابسة ثوبًا مزركشًا أَنيقًا. اشتهر رنوار بالتدقيق في الحركات الكبرى والطبيعة
الطريف أَن المطر لا يظهر جليًّا في هذه اللوحة إِلَّا من خلال المظلَّات وموجة غيوم رمادية قاتمة تظهر في البعيد خلف الأَشخاص. إِنه التلميح لا التصريح، وهو في أَساس الفن العالي