قراءات
ــــــــــــــــــ
التاريخ السري لـ ( مئة عام من العزلة ) ( 4 ــ 4 )
القسم الأخير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بول إيلي
ترجمة : تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
هذا المقال كتبه و نشره المحرر الثقافي الأمريكي " بول إيلي " في موقع مجلة ( فانيتي فير ) الشهرية الأمريكية ، بتاريخ 9 ديسمبر / كانون الأول عام 2015 ، ثم أُعيد نشره ورقياً في الحادي و الثلاثين من الشهر ذاته ، و ذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على نشر رواية ( مئة عام من العزلة ) الشهيرة للكاتب الكولومبي الأبرز في القرن العشرين " غابريل غارسيا ماركيز " ( 1927 ـ 2014 ) و التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982 ، و قد كتبها في المكسيك ، و طبعها في الأرجنتين ، و تجاوز عدد نسخها المطبوعة لاحقاً الخمسين مليون نسخة ، فيما تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة ، و تُعَد الرواية الأكثر قراءة ً في العالم .
و هذا المقال يقودنا في سياحة ثقافية ممتعة الى عالم " ماركيز " و ما صاحب الرواية من وقائع و تاريخ مزدحم تمخض عن هذا العمل المذهل . و لأن المقال طويل ، و قد وددتُ إشراككم في قراءته ، فقد كان أن أجزئهُ الى أجزاء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر العربي للمقال : موقع ( حبر )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ـ 4
كان " سلمان رشدي " يعيش في لندن ، و يفكر بأرض طفولته بينما كان يقرأ الرواية لأول مرة ، و بعد عدة سنوات كتب ( كنت أعرف كولونيلات " ماركيز " و جنرالاته ، أو كنت أعرف على الأقل نظراءهم الهنود و الباكستانيين ، أساقفتهم كانوا ملالينا ، شوارع أسواقه كانت بازاراتي . كان عالمه عالمي مُترجماً للإسبانية . وليس من المستغرب أنني وقعت في حب الكتاب ، لم أقع في حب سحره ، بل في حب واقعيته ) .
و عندما كتب " رشدي " مراجعةً لرواية " ماركيز " ( قصة موت معلن ) اختصر شهرة " ماركيز " بمبالغة مضبوطة ، وهي شيء مشترك بينه و بين " غابو " حيث كتب :
( أنباء كتاب جديد لـ " ماركيز " تحتل الصفحات الأولى للجرائد الأمريكية الناطقة بالإسبانية ، الباعة المتجولون ينادون في الطرقات ليبيعوا نسخاً من الكتاب ، و ينتحر النقاد إذ لا يجدون أسماء تفضيل لم تستخدم من قبل ) .
كان " رشدي " يسمّيه « الملاك غابرييل » و هي إشارة مرتجلة تشير إلى أثر " ماركيز " على كتاب « آيات شيطانية » و الذي يحمل بطله اسم الملاك جبريل .
في ذلك الحين كان " ماركيز " حائزاً على جائزة نوبل ، و كان لديه دار نشر أمريكية هي دار كنوبف . و في حركة نادرة ، نُشرت روايته « قصة موت معلن » كاملةً في مجلة ( فانيتي فير ) التي كانت قد عادت للصدور سنة 1983 ، و كان " ريتشارد لوك " قد أخذ موقع المحرر فيها . و قرر " لوك " و مدير التحرير " أليكساندر ليبرمان " قررا أن يعهدا إلى رسّام البورتريه الكولومبي الشهير " بوتيرو " ليرسم عملًا فنيًا يرافق الرواية . لقد عمّ الإعجاب بـ " ماركيز " العالم . كان الأديب الفائز بنوبل الذي يحبه الجميع .
يحبه الجميع ما عدا " ماريو بارغاس يوسا " . كانا صديقين لعدة سنوات ، فالإثنان لاتينيان أمريكيان مقيمان في برشلونة ، و كلاهما كانا كاتبين بارزين من فترة نهضة أدب أمريكا اللاتينية ، و كلاهما تمثلهما " كارمن بالثيس " ، و زوجتاهما " مرسيدس " و " باتريسيا " كانتا تتزاوران . ثم وقع بينهما الخلاف . ففي سنة 1976 حضر " ماركيز " في مكسيكو سيتي عرضاً لفيلم « أوديسة الأنديز » الذي كتب نصه " يوسا " ، و عندما رأى صديقه ذهب " ماركيز " ليعانقه ، فما كان من " يوسا " إلا أن لكمه في وجهه ملقياً به أرضاً و تاركاً كدمةً على وجهه .
فقال " ماركيز " : « بما أنك الآن لكمتني وطرحتني أرضاً ، فلماذا لا تطلعني على السبب ؟ » . هكذا قصّت عليّ " بالثيس " الحادثة . و منذ ذلك الحين تساءل أهل الأدب في أمريكا اللاتينية عن السبب . إحدى الروايات تقول أن السبب هو أن " ماركيز " كان قد قال لصديق مشترك أنه يرى " باتريسيا " متواضعة الجمال . و تقول رواية آخرى أن " باتريسيا " شكّت بأن " يوسا " يخونها فسألت " غابو " عما ينبغي عليه فعله فنصحها " غابو " بأن تتركه . أما يوسا فاكتفى بالقول أن الحادثة نجمت عن « مشكلة شخصية » .
و تذكر " بالثيس " أن أحد الأدباء قال لـ " ماريو " ( احذر، فأنت لا تريد أن تُعرف بأنك الرجل الذي ضرب مؤلف « مئة عام من العزلة » ) .
و لأربعة عقود رفض " يوسا " رفضاً باتاً أن يناقش الحادثة ، و قال أنه توصل إلى « اتفاق » مع " غابو " يقتضي أن يأخذا هذه القصة معهما إلى القبر . ولكن في حوار أُجريَ معه مؤخراً ، تحدّث " يوسا " ـ و هو نفسه حائزٌ على جائزة نوبل ـ عن صديقه و غريمه " ماركيز " ، و شرح بتأثر و استفاضة عما كان يعنيه له ، منذ أول مرة قرأ فيها أدب " غابو " ( وكان ذلك في باريس و بالترجمة الفرنسية ) حتى لقائهما الأول في مطار كاراكاس سنة 1967، و إلى سنوات رفقتهما في برشلونة ، و إلى خطتهما لكتابة رواية معاً عن حرب سنة 1982 بين البيرو و كولومبيا .
و تحدّث عن « مئة عام من العزلة » التي قرأها و كتب عنها « مباشرةً مباشرةً » عندما وصلته في كريكيلوود شماليّ لندن ، بعد نشرها ببضعة أسابيع . « هذا الكتاب وسّع الجمهور القارئ للأدب الناطق بالإسبانية ، ليشمل المثقفين و كذلك القراء العاديين بسبب أسلوبه الواضح الشفاف . في نفس الوقت عكس الكتاب أمريكا اللاتينية جيداً : الحروب الأهلية في أمريكا اللاتينية ، و خيالها و لامساواتها ، و حبّها للموسيقى و الألوان . كل هذا كان في روايةٍ اختلطت فيها الواقعية و الخيال بطريقةٍ مُحكمة » أما عن خلافه مع " غابو " فقد التزم " يوسا " الصمت ، و قال « هذا سرٌّ نتركه لكاتب سيرة مستقبليّ » .
ستظل " كارمن بالثيس " تُعرف دائماً على أنها الوكيلة التي قدّمت كاتب « مئة عام من العزلة » . قابلتني في برشلونة ، متفهمةً أنها ستتكلّم نظراً لكونها ، في سيرة " غابو " الذاتية ، ما زالت « تعيش لتروي » *.
اتخذ لقاؤنا ، كما اتضح لاحقاً ، منعطفًا ماركيزياً . كنا عند الطاولة الكبيرة في الصالة ، التي تشبه غرف شقق نيويورك الكلاسيكية . لوحة رُسمتْ قبل سنواتٍ لـ " بالثيس " كانت معلقةً على أحد الجدران ـ العيون الجريئة ذاتها ، و الفك القوي ذاته ـ كأن " بالثيس " الشابة كانت حاضرة أيضاً وشاهدةً على القصة الطويلة لعلاقة الوكيلة مع كاتبها ، التي كُنِّيَت بالـ « ماتريموني و بيرفيكتو (الزواج المثالي ) » .
قلت لها أنني عملت كمحررٍ مع دار« فارار، شتراوس و جيرو » . فقالت متعجبةً : « آها! ، لديّ ذاكرة فوتوغرافية للوجوه ، و من المؤكد أنني رأيتك عندما كنت هناك للقاء " روجر " ـ " روجر شتراوس " و هو الناشرـ مازلت تحتفظ بنفس الملامح ».
« لأنني التقيتك من قبل ، يمكنك أن تسألني عمّا تشاء » ، أكملت كلامها ، ثم تحدثنا لساعةٍ و نصف ، و لأنها لطالما كانت وكيلةً ، ظلّت تملي عليّ شروطها طوال حديثنا . قالت لي « لكن ليس لتقريرك » سبب ضربِ " ماريو " لـ " غابو " ذات ليلة في عام 1976. و وضحت لي « لكن عليك أن تعدني بعدم النشر قبل أن أموت » كيف استحوذت على حقوق ( مئة عام من العزلة ) مراراً و تكراراً « لتعقد صفقات سرية » مع ناشريها حول العالم ، ضامنةً لهم حقوق كتبٍ جديدةٍ بشرطِ قيامهم بتعديل عقودهم الشخصية لكتاب " غابو " ، فتعود حقوق الكتاب بذلك إلى وكالتها .
تحدّثت دون تحفّظات عن حالة الوكالة « تقاعدت سنة 2000 ، و كان لدي ثلاثة شركاء : ابني ، و الرجل الذي كان يعد العقود ، و رجل آخر. ولكنني اضطررت للعودة للعمل بسبب الديون و الخسائر » . وصفت تعاملاتها مع أكبر الناشرين باللغة الانجليزية : « " أندرو وايلي " هو أحد الأشخاص الذين رغبوا بشراء وكالتي قبل عشرين عاماً ، و كان ينبغي للصفقة أن تتم قبل ستة أشهر . " أندرو " كان هنا مع نائبته " سارة " ، و مع ناشرٍ أصبح وكيلاً … » و هزّت رأسها عاجزة عن تذكر اسم " كريستوبال بيرا " ، الذي كان يدير مجموعة ( بنغوين راندوم هاوس ) للنشر في المكسيك قبل انضمامه لدار وايلي في شهر آب .
في أيار 2014 دخلت وكالة " كارمن بالثيس " في مذكرة تفاهم مع وكالة وايلي تتناول بيع الوكالة في النهاية ، و كتبت جريدة التايمز أن الصفقة قد تمت تقريباً . ومن الواضح أن " بالثيس " كانت تثق بـ " وايلي " لدرجة أنها مضت في البيع حتى تلك المرحلة ، فلماذا إذن لم تتم الصفقة ؟ قالت " بالثيس " أنّها خمّنت أن " وايلي " كان يترقّب إغلاق المكتب في شارع دياغونال في برشلونة و أنه سيضم أعمال وكالة " بالثيس " إلى عمل مكتبَي نيويورك و لندن . و هذا ما عارضته بشدّة ، و هكذا بدأت تدرس عروضاً أخرى : كعرض الوكيل اللندني " آندرو نورنبيرغ " ، الذي يمثّل أدباء مثل " هاربر لي " و " طارق علي " و الراحل " جاكي كولينز" ، كما تلقّت عرضاً من " ريكاردو كافاليرو " الذي كان يدير « دار موندادوري » للنشر في كلًّ من إيطاليا و إسبانيا .
قالت لي " بالثيس " « ثلاثة عروض مُلفتة ، إلا أن العملية مجمّدة لأنّ أياً من هذه العروض لم يكن بالمستوى المطلوب . بعد قليل سيصل المحامون و سيحاولون تسوية الأمور » ثم أفصحت عن أكبر مخاوفها : خذلان أدبائها في حال حلّت احتياجات الشريك الجديد في الوكالة مكان احتياجات الأدباء الفردية . « أن تكون وكيلاً أدبياً : هذه وظيفة متواضعة ، إلا أنها وظيفة مهمة للكاتب . إنه موقع يجعلك تتخذ القرارات الصحيحة لمن تمثلهم . و تكمن المشكلة في أن كبرياء الوكلاء قد يعترض الطريق . من المهم جداً أن الوكالة شخص . شخصٌ واحد . و الأمر ليس متعلقاً بالمال » .
و عند السؤال « بماذا يتعلق الأمر إذاً ؟ » لم يعلّق " أندرو وايلي " على مفاواضاتهما ، و يبدو بالتالي أن كلمة " بالثيس " ستظل هي الكلمة الأخيرة . و بالنسبة لها فقد كان الأمر يتعلّق بشيء آخر، و هو أن يمثّل الوكيلُ حضوراً في حياة أدبائها ، و كشخص سيكون موجوداً عندما ـ على حد وصفها ـ يكفّ « الحضور العظيم للفنان » عن الوجود .
بحركةٍ رشيقة على كرسيها المتحرك أوصلتني إلى المصعد و قبّلت يدي عندما افترقنا . بعد ذلك بسبعة أسابيع ماتت " كارمن " بسكتة قلبية أصابتها في ذات الشقة في برشلونة . و رغم تقدّمها في العمر إلا أن موتها كان صادماً لمجتمع الناشرين . و بموتها ستصبح ككاتبها السحريّ كاملة الحضور ، و طيفاً يطارد في سبيل وكالتها ، و في سبيل إرث " غابو " .
من سيمثل « مئة عام من العزلة » ؟ حالياً ، لا أحد يعرف ذلك ، ولكن آل بوينديا و قريتهم ماكوندو مُمَثّـلون ببراعة : فنحن سلالتهم ، و هم حاضرون لنا ، مشعّون كسربٍ من الفراشات الصفراء في صفحات رواية " غابرييل غارسيا ماركيز " العظيمة .
( إنتهى )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
*إشارة الى عنوان كتاب " ماركيز " ( عشتُ لأروي ) . و قد ترجمه الراحل " صالح علماني " الى العربية . ( هـ . ي . ) .
ــــــــــــــــــ
التاريخ السري لـ ( مئة عام من العزلة ) ( 4 ــ 4 )
القسم الأخير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بول إيلي
ترجمة : تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
هذا المقال كتبه و نشره المحرر الثقافي الأمريكي " بول إيلي " في موقع مجلة ( فانيتي فير ) الشهرية الأمريكية ، بتاريخ 9 ديسمبر / كانون الأول عام 2015 ، ثم أُعيد نشره ورقياً في الحادي و الثلاثين من الشهر ذاته ، و ذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على نشر رواية ( مئة عام من العزلة ) الشهيرة للكاتب الكولومبي الأبرز في القرن العشرين " غابريل غارسيا ماركيز " ( 1927 ـ 2014 ) و التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982 ، و قد كتبها في المكسيك ، و طبعها في الأرجنتين ، و تجاوز عدد نسخها المطبوعة لاحقاً الخمسين مليون نسخة ، فيما تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة ، و تُعَد الرواية الأكثر قراءة ً في العالم .
و هذا المقال يقودنا في سياحة ثقافية ممتعة الى عالم " ماركيز " و ما صاحب الرواية من وقائع و تاريخ مزدحم تمخض عن هذا العمل المذهل . و لأن المقال طويل ، و قد وددتُ إشراككم في قراءته ، فقد كان أن أجزئهُ الى أجزاء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر العربي للمقال : موقع ( حبر )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ـ 4
كان " سلمان رشدي " يعيش في لندن ، و يفكر بأرض طفولته بينما كان يقرأ الرواية لأول مرة ، و بعد عدة سنوات كتب ( كنت أعرف كولونيلات " ماركيز " و جنرالاته ، أو كنت أعرف على الأقل نظراءهم الهنود و الباكستانيين ، أساقفتهم كانوا ملالينا ، شوارع أسواقه كانت بازاراتي . كان عالمه عالمي مُترجماً للإسبانية . وليس من المستغرب أنني وقعت في حب الكتاب ، لم أقع في حب سحره ، بل في حب واقعيته ) .
و عندما كتب " رشدي " مراجعةً لرواية " ماركيز " ( قصة موت معلن ) اختصر شهرة " ماركيز " بمبالغة مضبوطة ، وهي شيء مشترك بينه و بين " غابو " حيث كتب :
( أنباء كتاب جديد لـ " ماركيز " تحتل الصفحات الأولى للجرائد الأمريكية الناطقة بالإسبانية ، الباعة المتجولون ينادون في الطرقات ليبيعوا نسخاً من الكتاب ، و ينتحر النقاد إذ لا يجدون أسماء تفضيل لم تستخدم من قبل ) .
كان " رشدي " يسمّيه « الملاك غابرييل » و هي إشارة مرتجلة تشير إلى أثر " ماركيز " على كتاب « آيات شيطانية » و الذي يحمل بطله اسم الملاك جبريل .
في ذلك الحين كان " ماركيز " حائزاً على جائزة نوبل ، و كان لديه دار نشر أمريكية هي دار كنوبف . و في حركة نادرة ، نُشرت روايته « قصة موت معلن » كاملةً في مجلة ( فانيتي فير ) التي كانت قد عادت للصدور سنة 1983 ، و كان " ريتشارد لوك " قد أخذ موقع المحرر فيها . و قرر " لوك " و مدير التحرير " أليكساندر ليبرمان " قررا أن يعهدا إلى رسّام البورتريه الكولومبي الشهير " بوتيرو " ليرسم عملًا فنيًا يرافق الرواية . لقد عمّ الإعجاب بـ " ماركيز " العالم . كان الأديب الفائز بنوبل الذي يحبه الجميع .
يحبه الجميع ما عدا " ماريو بارغاس يوسا " . كانا صديقين لعدة سنوات ، فالإثنان لاتينيان أمريكيان مقيمان في برشلونة ، و كلاهما كانا كاتبين بارزين من فترة نهضة أدب أمريكا اللاتينية ، و كلاهما تمثلهما " كارمن بالثيس " ، و زوجتاهما " مرسيدس " و " باتريسيا " كانتا تتزاوران . ثم وقع بينهما الخلاف . ففي سنة 1976 حضر " ماركيز " في مكسيكو سيتي عرضاً لفيلم « أوديسة الأنديز » الذي كتب نصه " يوسا " ، و عندما رأى صديقه ذهب " ماركيز " ليعانقه ، فما كان من " يوسا " إلا أن لكمه في وجهه ملقياً به أرضاً و تاركاً كدمةً على وجهه .
فقال " ماركيز " : « بما أنك الآن لكمتني وطرحتني أرضاً ، فلماذا لا تطلعني على السبب ؟ » . هكذا قصّت عليّ " بالثيس " الحادثة . و منذ ذلك الحين تساءل أهل الأدب في أمريكا اللاتينية عن السبب . إحدى الروايات تقول أن السبب هو أن " ماركيز " كان قد قال لصديق مشترك أنه يرى " باتريسيا " متواضعة الجمال . و تقول رواية آخرى أن " باتريسيا " شكّت بأن " يوسا " يخونها فسألت " غابو " عما ينبغي عليه فعله فنصحها " غابو " بأن تتركه . أما يوسا فاكتفى بالقول أن الحادثة نجمت عن « مشكلة شخصية » .
و تذكر " بالثيس " أن أحد الأدباء قال لـ " ماريو " ( احذر، فأنت لا تريد أن تُعرف بأنك الرجل الذي ضرب مؤلف « مئة عام من العزلة » ) .
و لأربعة عقود رفض " يوسا " رفضاً باتاً أن يناقش الحادثة ، و قال أنه توصل إلى « اتفاق » مع " غابو " يقتضي أن يأخذا هذه القصة معهما إلى القبر . ولكن في حوار أُجريَ معه مؤخراً ، تحدّث " يوسا " ـ و هو نفسه حائزٌ على جائزة نوبل ـ عن صديقه و غريمه " ماركيز " ، و شرح بتأثر و استفاضة عما كان يعنيه له ، منذ أول مرة قرأ فيها أدب " غابو " ( وكان ذلك في باريس و بالترجمة الفرنسية ) حتى لقائهما الأول في مطار كاراكاس سنة 1967، و إلى سنوات رفقتهما في برشلونة ، و إلى خطتهما لكتابة رواية معاً عن حرب سنة 1982 بين البيرو و كولومبيا .
و تحدّث عن « مئة عام من العزلة » التي قرأها و كتب عنها « مباشرةً مباشرةً » عندما وصلته في كريكيلوود شماليّ لندن ، بعد نشرها ببضعة أسابيع . « هذا الكتاب وسّع الجمهور القارئ للأدب الناطق بالإسبانية ، ليشمل المثقفين و كذلك القراء العاديين بسبب أسلوبه الواضح الشفاف . في نفس الوقت عكس الكتاب أمريكا اللاتينية جيداً : الحروب الأهلية في أمريكا اللاتينية ، و خيالها و لامساواتها ، و حبّها للموسيقى و الألوان . كل هذا كان في روايةٍ اختلطت فيها الواقعية و الخيال بطريقةٍ مُحكمة » أما عن خلافه مع " غابو " فقد التزم " يوسا " الصمت ، و قال « هذا سرٌّ نتركه لكاتب سيرة مستقبليّ » .
ستظل " كارمن بالثيس " تُعرف دائماً على أنها الوكيلة التي قدّمت كاتب « مئة عام من العزلة » . قابلتني في برشلونة ، متفهمةً أنها ستتكلّم نظراً لكونها ، في سيرة " غابو " الذاتية ، ما زالت « تعيش لتروي » *.
اتخذ لقاؤنا ، كما اتضح لاحقاً ، منعطفًا ماركيزياً . كنا عند الطاولة الكبيرة في الصالة ، التي تشبه غرف شقق نيويورك الكلاسيكية . لوحة رُسمتْ قبل سنواتٍ لـ " بالثيس " كانت معلقةً على أحد الجدران ـ العيون الجريئة ذاتها ، و الفك القوي ذاته ـ كأن " بالثيس " الشابة كانت حاضرة أيضاً وشاهدةً على القصة الطويلة لعلاقة الوكيلة مع كاتبها ، التي كُنِّيَت بالـ « ماتريموني و بيرفيكتو (الزواج المثالي ) » .
قلت لها أنني عملت كمحررٍ مع دار« فارار، شتراوس و جيرو » . فقالت متعجبةً : « آها! ، لديّ ذاكرة فوتوغرافية للوجوه ، و من المؤكد أنني رأيتك عندما كنت هناك للقاء " روجر " ـ " روجر شتراوس " و هو الناشرـ مازلت تحتفظ بنفس الملامح ».
« لأنني التقيتك من قبل ، يمكنك أن تسألني عمّا تشاء » ، أكملت كلامها ، ثم تحدثنا لساعةٍ و نصف ، و لأنها لطالما كانت وكيلةً ، ظلّت تملي عليّ شروطها طوال حديثنا . قالت لي « لكن ليس لتقريرك » سبب ضربِ " ماريو " لـ " غابو " ذات ليلة في عام 1976. و وضحت لي « لكن عليك أن تعدني بعدم النشر قبل أن أموت » كيف استحوذت على حقوق ( مئة عام من العزلة ) مراراً و تكراراً « لتعقد صفقات سرية » مع ناشريها حول العالم ، ضامنةً لهم حقوق كتبٍ جديدةٍ بشرطِ قيامهم بتعديل عقودهم الشخصية لكتاب " غابو " ، فتعود حقوق الكتاب بذلك إلى وكالتها .
تحدّثت دون تحفّظات عن حالة الوكالة « تقاعدت سنة 2000 ، و كان لدي ثلاثة شركاء : ابني ، و الرجل الذي كان يعد العقود ، و رجل آخر. ولكنني اضطررت للعودة للعمل بسبب الديون و الخسائر » . وصفت تعاملاتها مع أكبر الناشرين باللغة الانجليزية : « " أندرو وايلي " هو أحد الأشخاص الذين رغبوا بشراء وكالتي قبل عشرين عاماً ، و كان ينبغي للصفقة أن تتم قبل ستة أشهر . " أندرو " كان هنا مع نائبته " سارة " ، و مع ناشرٍ أصبح وكيلاً … » و هزّت رأسها عاجزة عن تذكر اسم " كريستوبال بيرا " ، الذي كان يدير مجموعة ( بنغوين راندوم هاوس ) للنشر في المكسيك قبل انضمامه لدار وايلي في شهر آب .
في أيار 2014 دخلت وكالة " كارمن بالثيس " في مذكرة تفاهم مع وكالة وايلي تتناول بيع الوكالة في النهاية ، و كتبت جريدة التايمز أن الصفقة قد تمت تقريباً . ومن الواضح أن " بالثيس " كانت تثق بـ " وايلي " لدرجة أنها مضت في البيع حتى تلك المرحلة ، فلماذا إذن لم تتم الصفقة ؟ قالت " بالثيس " أنّها خمّنت أن " وايلي " كان يترقّب إغلاق المكتب في شارع دياغونال في برشلونة و أنه سيضم أعمال وكالة " بالثيس " إلى عمل مكتبَي نيويورك و لندن . و هذا ما عارضته بشدّة ، و هكذا بدأت تدرس عروضاً أخرى : كعرض الوكيل اللندني " آندرو نورنبيرغ " ، الذي يمثّل أدباء مثل " هاربر لي " و " طارق علي " و الراحل " جاكي كولينز" ، كما تلقّت عرضاً من " ريكاردو كافاليرو " الذي كان يدير « دار موندادوري » للنشر في كلًّ من إيطاليا و إسبانيا .
قالت لي " بالثيس " « ثلاثة عروض مُلفتة ، إلا أن العملية مجمّدة لأنّ أياً من هذه العروض لم يكن بالمستوى المطلوب . بعد قليل سيصل المحامون و سيحاولون تسوية الأمور » ثم أفصحت عن أكبر مخاوفها : خذلان أدبائها في حال حلّت احتياجات الشريك الجديد في الوكالة مكان احتياجات الأدباء الفردية . « أن تكون وكيلاً أدبياً : هذه وظيفة متواضعة ، إلا أنها وظيفة مهمة للكاتب . إنه موقع يجعلك تتخذ القرارات الصحيحة لمن تمثلهم . و تكمن المشكلة في أن كبرياء الوكلاء قد يعترض الطريق . من المهم جداً أن الوكالة شخص . شخصٌ واحد . و الأمر ليس متعلقاً بالمال » .
و عند السؤال « بماذا يتعلق الأمر إذاً ؟ » لم يعلّق " أندرو وايلي " على مفاواضاتهما ، و يبدو بالتالي أن كلمة " بالثيس " ستظل هي الكلمة الأخيرة . و بالنسبة لها فقد كان الأمر يتعلّق بشيء آخر، و هو أن يمثّل الوكيلُ حضوراً في حياة أدبائها ، و كشخص سيكون موجوداً عندما ـ على حد وصفها ـ يكفّ « الحضور العظيم للفنان » عن الوجود .
بحركةٍ رشيقة على كرسيها المتحرك أوصلتني إلى المصعد و قبّلت يدي عندما افترقنا . بعد ذلك بسبعة أسابيع ماتت " كارمن " بسكتة قلبية أصابتها في ذات الشقة في برشلونة . و رغم تقدّمها في العمر إلا أن موتها كان صادماً لمجتمع الناشرين . و بموتها ستصبح ككاتبها السحريّ كاملة الحضور ، و طيفاً يطارد في سبيل وكالتها ، و في سبيل إرث " غابو " .
من سيمثل « مئة عام من العزلة » ؟ حالياً ، لا أحد يعرف ذلك ، ولكن آل بوينديا و قريتهم ماكوندو مُمَثّـلون ببراعة : فنحن سلالتهم ، و هم حاضرون لنا ، مشعّون كسربٍ من الفراشات الصفراء في صفحات رواية " غابرييل غارسيا ماركيز " العظيمة .
( إنتهى )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
*إشارة الى عنوان كتاب " ماركيز " ( عشتُ لأروي ) . و قد ترجمه الراحل " صالح علماني " الى العربية . ( هـ . ي . ) .