قراءات ( 2 / 4 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التاريخ السري لـ ( مئة عام من العزلة )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
بول إيلي
ترجمة : تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
هذا المقال كتبه و نشره المحرر الثقافي الأمريكي " بول إيلي " في موقع مجلة ( فانيتي فير ) الشهرية الأمريكية بتارريخ 9 ديسمبر / كانون الأول عام 2015 ، ثم أُعيد نشره ورقياً في الحادي و الثلاثين من الشهر ذاته ، و ذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على نشر رواية ( مئة عام من العزلة ) الشهيرة للكاتب الكولومبي الأبرز في القرن العشرين " غابرييل غارسيا ماركيز " ( 1927 ـ 2014 ) و التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982 ، و قد كتبها في المكسيك ، و طبعها في الأرجنتين ، و تجاوز عدد نسخها المطبوعة لاحقاً الخمسين مليون نسخة ، فيما تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة ، و تُعَد الرواية الأكثر قراءة ً في العالم .
وهذا المقال يأخذنا ، في سياحة ثقافية ممتعة ، الى عالم " ماركيز " و ما صاحبَ الرواية من وقائع و تاريخ مزدحم تمخض عن هذا العمل المذهل . و لأن المقال طويل ، و قد وددتُ إشراككم في قراءته ، فقد كان عليّ أن أجزّئَهُ الى أجزاء .
هـ . ي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر العربي للمقال : موقع ( حبر )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقة
ــــــــــــــــ
قالت " كارمن بالثيس " بنبرة حازمة لإنهاء الحوار ( هذه المقابلة خدعة ) . كنا في شقتها الواقعة فوق مكاتب ( وكالة كارمن بالثيس ) الأدبية ، في وسط مدينة برشلونة . وعلى كرسيها المتحرك خرجت لملاقاتي عند المصعد ثم أدارت الكرسي نحو طاولة ضخمة مُثقلة بالمخطوطات و صناديق حمراء . ( كُتب على أحد الصناديق : " بارغاس يوسا " و كُتب على آخر: وكالة " وايلي " .
بسنواتها الخمس والثمانين ، و شعرها الأبيض السميك الضخمة و المتينة التي قادت إلى تسميتها بـ ( الأم الكبيرة ) ، كانت ترتدي ثوباً أبيض واسعاً فبدت شبيهة بنسخة أنثوية من البابا .
قالت بالانجليزية ( خدعة ) بصوت مرتفع و دقيق ، و قالت : ( عندما يموت شخصٌ مشهور ، أو فنّان ، و لا يعود من الممكن أن يجيب على الكثير من الأمور، فتكون الحركة الأولى حينها هي إجراء المقابلات مع السكرتيرات و مصففي الشعر و الأطباء و الزوجات و الأبناء و الخياط . أنا لست فنانة . أنا وكيلة أدبية . أنا موجودة هنا كشخص كان له أهمية كبيرة في حياة " غابرييل غارسيا ماركيز " . ولكن هذا ليس الأمر الحقيقي ، فالحضور العظيم للفنان مفقود ) .
كانت " بالثيس " تعدّ لمستقبلٍ لن تكون موجودة لتشهد عليه ، حيث كانت هنالك صفقة لتبيع وكالتها إلى ( وكالة أندرو وايلي ) إلا أنها لم تنجح ( سيأتي المزيد عن هذا الموضوع لاحقاً ) . وهنالك طالبو ودٍّ آخرون يسعون لشراء الوكالة ، و " بالثيس " كانت تحاول أن تختار من سيعتني بعملائها الذين يزيدون عن الثلاثمئة كاتباً ، و تركة " ماركيز " أبرزهم . قالت لنا متبرّمةً أنها ستجتمع بعد مقابلتنا بمحاميها و وصفته بأنه ( عملٌ وسخ ) .
في ذلك المساء ، بحيويتها الفخمة ، نحّت هذه الأمور جانباً و أخذت تتذكر أول يوم شعرت فيه بأنها قريبة من ( الحضور العظيم للفنان ) .
تحبّ " كارمن " و زوجها " لويس " القراءة في الفراش . تقول " كارمن " : ( كنت أقرأ أحد أوائل كتب " ماركيز " ، و قلت لـ " لويس " : هذا رائع يا لويس ، يجب أن نقرأه في نفس الوقت . و هكذا أعددت نسخة من الكتاب ، و كلانا تحمسنا له : لقد كان كتاباً جديداً و منعشاً وأصيلاً و مشوّقاً . هنالك كتبٌ يقول عنها كل قارئ في ذهنه : هذا واحد من أفضل الكتب التي قرأتها على الإطلاق ، و عندما يحصل هذا مراراً و تكراراً مع نفس الكتاب ، في كل أنحاء العالم فهذا يعني أننا أمام تحفة أدبية . هذا هو ما حصل مع " غابرييل غارسيا ماركيز " ) .
وعندما وصلت " كارمن " و " لويس " إلى مكسيكو سيتي في تموز سنة 1965 لم يكن " ماركيز " قد التقى بوكيلته الجديدة حسب ، بل التقى بشخصين يتعاملان مع أعماله بحميمية . خلال النهار كان يرافقهم ليريهم المدينة ، و في الليل كانوا يتناولون العشاء مع كُتّاب محليين . و بعد أن شعر " ماركيز " بالألفة الكاملة مع ضيوفه، أخرج ورقةً ، و بوجود " لويس " ـ كشاهد ـ وقع هو و " بالثيس " عقداً باتت بموجبه ممثلته في كل أنحاء العالم للسنوات المئة والخمسين القادمة .
قالت لي مبتسمة : ( ليست مئة و خمسين سنة، بل أعتقد انها مئة وعشرون سنة … لقد كانت مزحة ، عقدٌ ساخرٌ كما ترى ) .
ولكن كان هنالك عقدٌ آخر، و لم يكن ذلك العقد مزحةً على الإطلاق ، ففي الأسبوع السابق في نيويورك وجدت " بالثيس " ناشراً أمريكياً ـ " هاربر آند رو" - لينشر أعمال " ماركيز " . كانت قد عقدت صفقة لحقوق كتبه الأربعة باللغة الإنجليزية . بكم ؟ بألف دولار . و كانت قد أحضرت العقد معها و قدمته له ليوقعه .
( الواقعية السحرية ) ، بات المصطلح الذي يصف انتهاك " ماركيز " لشروط الطبيعة من خلال الفن . و يبقى السحر في الرواية أولاً و أخيراً في القوة التي تجعل " آل بوينديا " و جيرانهم حاضرين للقارئ . فأنت تشعر بها عندما تقرأها . تشعر أنهم على قيد الحياة ، و أن هذا قد حدث بالفعل .
بدت شروط العقد مجحفة ، لا بل ضارية ، كما أعطى العقد ( دار هاربر آند رو ) للنشر الخيار الأول لتقديم عرض سعر لكتابه الأدبي التالي مهما كان . قال لها : ( هذا العقد خرائي ) إلا أنه وقّعه على أية حال .
غادرت " بالثيس " لتعود إلى برشلونة ، و انطلق " ماركيز " مع عائلته لإمضاء عطلة على شاطئ ( أكابولكو ) الذي يبعد يوماً بالسيارة باتجاه الجنوب . في منتصف الطريق أوقف سيارته الأوبل البيضاء ذات الفرش الأحمر من طراز 1962، وعاد أدراجه . لقد خطرت له فكرة عمله التالي فجأة . فلقد أمضى عشرين سنة و هو يجرجر و يستنهض قصةً عن عائلة كبيرة في قرية صغيرة . و الآن تراءت له بوضوح كما يرى رجلٌ ـ يقف أمام فصيل الإعدام ـ حياته تمرّ أمامه في لحظة واحدة .
و في وقت لاحق قال : ( لقد كانت القصة ناضجةً بداخلي ، إلى الحد الذي كان يجعلني قادراً على أن أُملي الفصل الأول كلمةً بكلمة على شخص يطبع على الآلة الكاتبة ) .
وطّن نفسَه أمام الآلة الكاتبة في المكتب . ( لم أنهض طوال ثمانية عشر شهراً ) و كبطل الكتاب ( الكولونيل أوريليانو بوينديا ) الذي كان يختبئ في ورشته في ماكوندو ليبتدع أسماكاً صغيرة بعيون من الحجارة الكريمة ، كان الكاتب يجلس ليعمل بهوَس . كان يضع العلامات على الصفحات المطبوعة ، ثم يرسلها إلى طابع ليعدّ نسخة جديدة . كان يتّصل بالأصدقاء ليقرأ عليهم صفحات بصوتٍ عالٍ . " مرسيدس " كانت تعتني بالعائلة ، و كانت تملأ الخزانة بالويسكي ليكون موجوداً عندما ينتهي العمل ، و كانت تتكفّل بمحصّلي الفواتير . و بحسب " خيرالد مارتين " كاتب سيرة " ماركيز " فقد رهنت " مرسيدس " أدوات المنزل لتحصل على المال : ( رهنتُ الهاتف و الثلاجة و الراديو و المجوهرات ) . باع سيارة ( الأوبل ) ، وعندما انتهت الرواية ذهب " غابو " و" مرسيدس " إلى مكتب البريد ليرسلوا المخطوطة إلى ( دار سود أميريكانا ) للنشر في بوينوس آيريس . لم يكن معهما الـ 82 بيسو أجرة البريد . أرسلوا النصف الأول ، و أرسلوا البقية بعد أن ذهبوا إلى متجر الرهونات .
كان قد دخّن 30 ألف سيجارة و أنفق 120 ألف بيسو ( قرابة العشر آلاف دولار) . سألت " مرسيدس " : ( و ماذا لو كانت الرواية بعد كل هذا روايةً سيئة ؟ ) .
ذهن متأجج
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول " فوكنر " ( الماضي لا يموت أبداً ، إنه ليس ماضياً حتى ) و مع ( مئة عام من العزلة ) جعل " ماركيز " حضور الماضي شرطًا للحياة في ( ماكوندو) ، كالفقر و الظلم . فعلى امتداد سبعة أجيال استمر حضور " خوسيه أركاديو بوينديا " و أبنائه في حياة بعضهم : ظلوا حاضرين في الأسماء المتوارثة ، و في نوبات غضبهم وغيرتهم ، و في عداواتهم و حروبهم ، و في كوابيسهم ، و في تيار سفاح الأقارب الذي يمرّ خلالهم . قوة تجعلُ الشبه في العائلة لعنةً ، و الانجذاب الجنسي قوةً تُكافح ، خشية أن يولد لك و لحبيبتك ( و هي أيضًا ابنة عمك ) طفلٌ له ذيل خنزير .
بيعت ثمانية آلاف نسخة من الكتاب في الأسبوع الأول في الأرجنتين فقط ، و كان هذا رقماً غير مسبوق لأي عمل أدبي في أمريكا الجنوبية ، قرأها العمال و خدم المنازل و أساتذة الجامعات و بائعات الهوى ، حيث يستذكر الروائي " فرانثيسكو غولدمان " أنه رأى نسخة من الرواية على طاولة قرب الفراش في بيت هوى عند الساحل .
( يتبع )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التاريخ السري لـ ( مئة عام من العزلة )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
بول إيلي
ترجمة : تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
هذا المقال كتبه و نشره المحرر الثقافي الأمريكي " بول إيلي " في موقع مجلة ( فانيتي فير ) الشهرية الأمريكية بتارريخ 9 ديسمبر / كانون الأول عام 2015 ، ثم أُعيد نشره ورقياً في الحادي و الثلاثين من الشهر ذاته ، و ذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على نشر رواية ( مئة عام من العزلة ) الشهيرة للكاتب الكولومبي الأبرز في القرن العشرين " غابرييل غارسيا ماركيز " ( 1927 ـ 2014 ) و التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982 ، و قد كتبها في المكسيك ، و طبعها في الأرجنتين ، و تجاوز عدد نسخها المطبوعة لاحقاً الخمسين مليون نسخة ، فيما تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة ، و تُعَد الرواية الأكثر قراءة ً في العالم .
وهذا المقال يأخذنا ، في سياحة ثقافية ممتعة ، الى عالم " ماركيز " و ما صاحبَ الرواية من وقائع و تاريخ مزدحم تمخض عن هذا العمل المذهل . و لأن المقال طويل ، و قد وددتُ إشراككم في قراءته ، فقد كان عليّ أن أجزّئَهُ الى أجزاء .
هـ . ي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر العربي للمقال : موقع ( حبر )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقة
ــــــــــــــــ
قالت " كارمن بالثيس " بنبرة حازمة لإنهاء الحوار ( هذه المقابلة خدعة ) . كنا في شقتها الواقعة فوق مكاتب ( وكالة كارمن بالثيس ) الأدبية ، في وسط مدينة برشلونة . وعلى كرسيها المتحرك خرجت لملاقاتي عند المصعد ثم أدارت الكرسي نحو طاولة ضخمة مُثقلة بالمخطوطات و صناديق حمراء . ( كُتب على أحد الصناديق : " بارغاس يوسا " و كُتب على آخر: وكالة " وايلي " .
بسنواتها الخمس والثمانين ، و شعرها الأبيض السميك الضخمة و المتينة التي قادت إلى تسميتها بـ ( الأم الكبيرة ) ، كانت ترتدي ثوباً أبيض واسعاً فبدت شبيهة بنسخة أنثوية من البابا .
قالت بالانجليزية ( خدعة ) بصوت مرتفع و دقيق ، و قالت : ( عندما يموت شخصٌ مشهور ، أو فنّان ، و لا يعود من الممكن أن يجيب على الكثير من الأمور، فتكون الحركة الأولى حينها هي إجراء المقابلات مع السكرتيرات و مصففي الشعر و الأطباء و الزوجات و الأبناء و الخياط . أنا لست فنانة . أنا وكيلة أدبية . أنا موجودة هنا كشخص كان له أهمية كبيرة في حياة " غابرييل غارسيا ماركيز " . ولكن هذا ليس الأمر الحقيقي ، فالحضور العظيم للفنان مفقود ) .
كانت " بالثيس " تعدّ لمستقبلٍ لن تكون موجودة لتشهد عليه ، حيث كانت هنالك صفقة لتبيع وكالتها إلى ( وكالة أندرو وايلي ) إلا أنها لم تنجح ( سيأتي المزيد عن هذا الموضوع لاحقاً ) . وهنالك طالبو ودٍّ آخرون يسعون لشراء الوكالة ، و " بالثيس " كانت تحاول أن تختار من سيعتني بعملائها الذين يزيدون عن الثلاثمئة كاتباً ، و تركة " ماركيز " أبرزهم . قالت لنا متبرّمةً أنها ستجتمع بعد مقابلتنا بمحاميها و وصفته بأنه ( عملٌ وسخ ) .
في ذلك المساء ، بحيويتها الفخمة ، نحّت هذه الأمور جانباً و أخذت تتذكر أول يوم شعرت فيه بأنها قريبة من ( الحضور العظيم للفنان ) .
تحبّ " كارمن " و زوجها " لويس " القراءة في الفراش . تقول " كارمن " : ( كنت أقرأ أحد أوائل كتب " ماركيز " ، و قلت لـ " لويس " : هذا رائع يا لويس ، يجب أن نقرأه في نفس الوقت . و هكذا أعددت نسخة من الكتاب ، و كلانا تحمسنا له : لقد كان كتاباً جديداً و منعشاً وأصيلاً و مشوّقاً . هنالك كتبٌ يقول عنها كل قارئ في ذهنه : هذا واحد من أفضل الكتب التي قرأتها على الإطلاق ، و عندما يحصل هذا مراراً و تكراراً مع نفس الكتاب ، في كل أنحاء العالم فهذا يعني أننا أمام تحفة أدبية . هذا هو ما حصل مع " غابرييل غارسيا ماركيز " ) .
وعندما وصلت " كارمن " و " لويس " إلى مكسيكو سيتي في تموز سنة 1965 لم يكن " ماركيز " قد التقى بوكيلته الجديدة حسب ، بل التقى بشخصين يتعاملان مع أعماله بحميمية . خلال النهار كان يرافقهم ليريهم المدينة ، و في الليل كانوا يتناولون العشاء مع كُتّاب محليين . و بعد أن شعر " ماركيز " بالألفة الكاملة مع ضيوفه، أخرج ورقةً ، و بوجود " لويس " ـ كشاهد ـ وقع هو و " بالثيس " عقداً باتت بموجبه ممثلته في كل أنحاء العالم للسنوات المئة والخمسين القادمة .
قالت لي مبتسمة : ( ليست مئة و خمسين سنة، بل أعتقد انها مئة وعشرون سنة … لقد كانت مزحة ، عقدٌ ساخرٌ كما ترى ) .
ولكن كان هنالك عقدٌ آخر، و لم يكن ذلك العقد مزحةً على الإطلاق ، ففي الأسبوع السابق في نيويورك وجدت " بالثيس " ناشراً أمريكياً ـ " هاربر آند رو" - لينشر أعمال " ماركيز " . كانت قد عقدت صفقة لحقوق كتبه الأربعة باللغة الإنجليزية . بكم ؟ بألف دولار . و كانت قد أحضرت العقد معها و قدمته له ليوقعه .
( الواقعية السحرية ) ، بات المصطلح الذي يصف انتهاك " ماركيز " لشروط الطبيعة من خلال الفن . و يبقى السحر في الرواية أولاً و أخيراً في القوة التي تجعل " آل بوينديا " و جيرانهم حاضرين للقارئ . فأنت تشعر بها عندما تقرأها . تشعر أنهم على قيد الحياة ، و أن هذا قد حدث بالفعل .
بدت شروط العقد مجحفة ، لا بل ضارية ، كما أعطى العقد ( دار هاربر آند رو ) للنشر الخيار الأول لتقديم عرض سعر لكتابه الأدبي التالي مهما كان . قال لها : ( هذا العقد خرائي ) إلا أنه وقّعه على أية حال .
غادرت " بالثيس " لتعود إلى برشلونة ، و انطلق " ماركيز " مع عائلته لإمضاء عطلة على شاطئ ( أكابولكو ) الذي يبعد يوماً بالسيارة باتجاه الجنوب . في منتصف الطريق أوقف سيارته الأوبل البيضاء ذات الفرش الأحمر من طراز 1962، وعاد أدراجه . لقد خطرت له فكرة عمله التالي فجأة . فلقد أمضى عشرين سنة و هو يجرجر و يستنهض قصةً عن عائلة كبيرة في قرية صغيرة . و الآن تراءت له بوضوح كما يرى رجلٌ ـ يقف أمام فصيل الإعدام ـ حياته تمرّ أمامه في لحظة واحدة .
و في وقت لاحق قال : ( لقد كانت القصة ناضجةً بداخلي ، إلى الحد الذي كان يجعلني قادراً على أن أُملي الفصل الأول كلمةً بكلمة على شخص يطبع على الآلة الكاتبة ) .
وطّن نفسَه أمام الآلة الكاتبة في المكتب . ( لم أنهض طوال ثمانية عشر شهراً ) و كبطل الكتاب ( الكولونيل أوريليانو بوينديا ) الذي كان يختبئ في ورشته في ماكوندو ليبتدع أسماكاً صغيرة بعيون من الحجارة الكريمة ، كان الكاتب يجلس ليعمل بهوَس . كان يضع العلامات على الصفحات المطبوعة ، ثم يرسلها إلى طابع ليعدّ نسخة جديدة . كان يتّصل بالأصدقاء ليقرأ عليهم صفحات بصوتٍ عالٍ . " مرسيدس " كانت تعتني بالعائلة ، و كانت تملأ الخزانة بالويسكي ليكون موجوداً عندما ينتهي العمل ، و كانت تتكفّل بمحصّلي الفواتير . و بحسب " خيرالد مارتين " كاتب سيرة " ماركيز " فقد رهنت " مرسيدس " أدوات المنزل لتحصل على المال : ( رهنتُ الهاتف و الثلاجة و الراديو و المجوهرات ) . باع سيارة ( الأوبل ) ، وعندما انتهت الرواية ذهب " غابو " و" مرسيدس " إلى مكتب البريد ليرسلوا المخطوطة إلى ( دار سود أميريكانا ) للنشر في بوينوس آيريس . لم يكن معهما الـ 82 بيسو أجرة البريد . أرسلوا النصف الأول ، و أرسلوا البقية بعد أن ذهبوا إلى متجر الرهونات .
كان قد دخّن 30 ألف سيجارة و أنفق 120 ألف بيسو ( قرابة العشر آلاف دولار) . سألت " مرسيدس " : ( و ماذا لو كانت الرواية بعد كل هذا روايةً سيئة ؟ ) .
ذهن متأجج
ــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول " فوكنر " ( الماضي لا يموت أبداً ، إنه ليس ماضياً حتى ) و مع ( مئة عام من العزلة ) جعل " ماركيز " حضور الماضي شرطًا للحياة في ( ماكوندو) ، كالفقر و الظلم . فعلى امتداد سبعة أجيال استمر حضور " خوسيه أركاديو بوينديا " و أبنائه في حياة بعضهم : ظلوا حاضرين في الأسماء المتوارثة ، و في نوبات غضبهم وغيرتهم ، و في عداواتهم و حروبهم ، و في كوابيسهم ، و في تيار سفاح الأقارب الذي يمرّ خلالهم . قوة تجعلُ الشبه في العائلة لعنةً ، و الانجذاب الجنسي قوةً تُكافح ، خشية أن يولد لك و لحبيبتك ( و هي أيضًا ابنة عمك ) طفلٌ له ذيل خنزير .
بيعت ثمانية آلاف نسخة من الكتاب في الأسبوع الأول في الأرجنتين فقط ، و كان هذا رقماً غير مسبوق لأي عمل أدبي في أمريكا الجنوبية ، قرأها العمال و خدم المنازل و أساتذة الجامعات و بائعات الهوى ، حيث يستذكر الروائي " فرانثيسكو غولدمان " أنه رأى نسخة من الرواية على طاولة قرب الفراش في بيت هوى عند الساحل .
( يتبع )