قراءات
ــــــــــــــــــــ
التاريخ السري لـ ( مئة عام من العزلة ) ( 1 / 4 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بول إيلي
ترجمة : تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
هذا المقال كتبه و نشره المحرر الثقافي الأمريكي " بول إيلي " في موقع مجلة ( فانيتي فير ) ، الشهرية الأمريكية ، بتاريخ 9 ديسمبر / كانون الأول عام 2015 ، ثم أُعيد نشره ورقياً في الحادي و الثلاثين من الشهر ذاته ، و ذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على نشر رواية ( مئة عام من العزلة ) الشهيرة للكاتب الكولومبي الأبرز في القرن العشرين " غابرييل غارسيا ماركيز " ( 1927 ـ 2014 ) و التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982 ، و قد كتبها في المكسيك ، و طبعها في الأرجنتين ، و تجاوز عدد نسخها المطبوعة لاحقاً الخمسين مليون نسخة ، فيما تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة ، و تُعَد الرواية الأكثر قراءة ً في العالم .
و هذا المقال يأخذنا ، في سياحة ثقافية ممتعة ، الى عالم " ماركيز " و ما صاحَبَ الرواية من وقائع و تاريخ مزدحم تمخض عن هذا العمل المذهل . و لأن المقال طويل ، و قد وددتُ إشراككم في قراءته ، فقد جزأته الى أجزاء ، سأنشرها بالتتابع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر العربي للمقال : موقع ( حبر )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ 4
كان البيت في ناحية هادئة من مكسيكو سيتي ، و كان يضمّ مكتباً وجد فيه عزلة لم يعرفها من قبل و لا من بعد . كانت سجائره على الطاولة ، حيث كان يدخن 60 سيجارة في اليوم . كانت الأسطوانات على الغرامافون ، ليستمع إلى مقطوعات " ديبوسي " و " بارتوك " و إلى ألبوم « أ هارد ديز نايت » لفرقة البيتلز . أما على الجدران فقد علّق عليها رسوماً تتحدّث عن تاريخ بلدة كاريبيه ، أطلق عليها اسم « ماكوندو » و شجرة عائلة أسماها « آل البويندياس » . في الخارج كانت الستينات ، و في الداخل كانت سنوات ما قبل الاستعمار في الأمريكتين ، أما الكاتب فكان جالساً قبالة آلة الكتابة مفعماً بالقوة .
أطلقَ وباءَ الأرق على أهل ماكوندو ، و جعل قسيساً يرتفع إلى السماء ، و بقوّة الشوكولاتة الساخنة أرسل نحوهم سرباً من الفراشات الصفراء . قاد شعبه في الدرب الطويل بين الحرب الأهلية و الاستعمار و جمهوريات الموز المُتزعزعة ، تتبّع خطواتهم إلى داخل غرف نومهم و شهد مغامراتهم الجنسية الفاحشة والمسافِحة .
و عندما كان يتذكر ، كان يصف عمله بقوله ( في أحلامي كنتُ أخترع الأدب ) . و شهراً تلو شهرٍ أخذت المسوّدة المطبوعة على الآلة الكاتبة تنمو مؤذنًة بالثّقل الذي كانت الرواية العظيمة ستلحقه به ، و هو الثّقل الذي وصفه لاحقًا بأنه ( عزلة الشهرة ) .
بدأ " غابرييل غارسيا ماركيز " كتابة ( مئة عام من العزلة ) قبل نصف قرن ، و أنهاها في أواخر سنة 1966. خرجت الرواية من المطبعة في ( بوينوس آيريس ) في الثلاثين من أيار سنة 1967، قبل يومين من صدور أسطوانة فرقة البيتلز ( سرجنت ببرز لونلي هارت كلوب باند ) و كانت ردة فعل القرّاء من الناطقين بالإسبانية شبيهة بحالة الهوس التي رافقت كل ما له علاقة بفرقة البيتلز . حشود و كاميرات و علامات تعجب و إحساس عارمٌ بباكورة عهد جديد . ظهر الكتاب باللغة الإنجليزية سنة 1970، و تبعته نسخة بغلاف ورقي عليه رسمٌ لشمسٍ حارقة ، و أصبح هذا الرسمُ الرمزَ المقدّس لذلك العقد من الزمان .
و عندما حاز " ماركيز " على جائزة نوبل سنة 1982، باتت الرواية تمثّل الـ ( دون كيخوتة ) للنصف الجنوبي من العالم ، و باتت الدليل على الشوكة الأدبية لأمريكا اللاتينية ، و صار " ماركيز " معروفاً باسم " غابو " ، يمتدّ صيته إلى كل القارات باسمه الأول ، شأنه كشأن صديقه الكوبي " فيديل " .
مرت سنوات عديدة ، و ما يزال الاهتمام بـ " غابو " و بروايته متأججاً ، فقد دفع مركز ( هاري رانسوم ) في جامعة تكساس مؤخراً 2,2 مليون دولار لشراء إرشيفه ، بما في ذلك مسوّدة على الآلة الكاتبة باللغة الإسبانية لـ ( مئة عام من العزلة ) ، كما اجتمعَ أفراد عائلته و أكاديميون في تشرين الأول ليلقوا نظرة جديدة على إرثه ، معتبرين الكتاب مجدداً رائعته الأدبية الخالدة .
و بشكلٍ غير رسميّ فإن ( مئة عام من العزلة ) هي رواية الجميع المفضلة من الأدب العالمي ، و هي الرواية التي ألهمت روائيي عصرنا أكثر من غيرها منذ الحرب العالمية الثانية ، مثل " توني موريسون " و " سلمان رشدي " و " جونوت دياث " .
أحد مشاهد فيلم ( الحي الصيني ) يدور في عمارة في هوليود أُطلق عليها اسم ( شقق ماكوندو ) . و خلال فترته الرئاسية الأولى ، أعرب " بيل كلينتون " عن رغبته في لقاء " غابو " عندما كان كلاهما في جزيرة مارثا فينيارد في ماساتشوستس ، و انتهى بهما الأمر الى تناول العشاء معاً في بيت " ويل " و " روز " ستايرن ، بينما تبادلا وجهات النظر حول " ويليام فوكنر " . و شاركهما العشاء كلٌّ من الروائي " كارلوس فوينتيس " و رجل الأعمال والناشط " فيرنون جوردان " والمنتج السينمائي " هارفي واينستين " .
عندما توفّي " ماركيز " في نيسان 2014 ، إنضم " باراك أوباما " إلى " بيل كلينتون " في نعيه لـ " ماركيز " بوصفه بأنه ( من كتّابي المفضلين منذ كنت طفلًا ) ، و تحدّث عن نسخته العزيزة الموقّعة من ( مئة عام من العزلة ) .
أمّا " يان ستافانس " ، الباحث البارز في الثقافة اللاتينية في الولايات المتحدة الذي قرأ الكتاب ثلاثين مرة فإنه يصر على أن ( الكتاب لم يُعِد تعريف أدب أمريكا اللاتينية فحسب ، بل أعاد تعريف الأدب ، نقطة و سطر جديد ) .
كيف كان لهذه الرواية أن تكون مثيرة و ممتعة و تجريبية و متطرفة سياسياً و أن تحظى بهذه الشعبية العارمة في آن معاً ؟ إن نجاح الرواية لم يكن أمراً مضموناً ، و قصة هذه الرواية جزءٌ مهمٌ و غير معروفٍ من التاريخ الأدبي خلال نصف القرن الأخير .
ترك الديار
ـــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب الذي نسجَ أشهر قرية في الأدب هو ابن مدينة ، حيث وُلد سنة 1927 في قرية ( آراكاتاكا ) الكولومبية قرب الساحل الكاريبي ، و درس داخل البلاد في ضاحية من ضواحي ( بوغوتا ) . ترك " غابرييل غارسيا ماركيز " دراسة القانون ليصبح صحفياً في ( كارتاخينا ) و ( باررانكيا ) ، كان يكتب عموداً صحفياً ، و في ( بوغوتا ) .. حيث كان يكتب مراجعات لأفلام سينمائية .
و في الوقت الذي اشتدّت فيه قبضة الديكتاتورية ، ذهب ليعمل في أوروبا ، مبتعداً عن درب الخطر . مرّت عليه أيام صعبة هناك ، ففي باريس كان يرجع القناني الزجاجية إلى الدكاكين و يستردّ تأمينها ليؤمّن المال ، و في روما تلقّى دروساً حول صناعة الأفلام التجريبية ، أما في لندن فكان يرتعش من البرد ، و كان يرسل الأخبار من ألمانيا الشرقية و تشيكوسلوفاكيا و الاتحاد السوفيتي .
و عند عودته جنوباً إلى فنزويلا كاد أن يُعتقل في مداهمة عسكرية عشوائية ، و عندما تولّى " فيديل كاسترو " السلطة في كوبا ، وقّع " ماركيز " عقداً مع ( برينسا لاتينا ) و هي وكالة أنباء تمولها الحكومة الشيوعية الجديدة ، و بعد أن عانى من ضيق الحال في هافانا انتقل إلى نيويورك سنة 1961 مع زوجته " مرسيدس " و ابنهما الصغير " رودريغو " .
لاحقاً وصف المدينة بأنها ( متعفّنة متفسّخة ، إلا أنها كانت في طور الميلاد الجديد ، كالأدغال . لقد أذهلتني ) . أقامت العائلة في فندق ( ويبستير ) عند تقاطع الجادة 45 و شارع 5 ، و لاحقاً انتقلوا للسكن مع أصدقاء لهم في ( كوينز ) ، إلا أن " غابو " كان يمضي أغلب وقته في مكتب جريدة قرب مركز " روكفيلير " ، في غرفة بنافذة واحدة تطلّ على ساحة تغزوها الجرذان . كان الهاتف يرنّ طويلاً ، و كان المتصلون من المنفيين الكوبيين الغاضبين الذين كانوا يرون في الوكالة بؤرةً لنظام " كاسترو " الذي يمقتونه ، و كان يُبقي قضيباً حديدياً على أهبة الاستعداد في حال تعرضت الوكالة للهجوم .
كان يكتب الروايات طوال الوقت : كتب ( عاصفة الأوراق ) في بوغوتا ، و ( ساعة الشؤم ) و ( ليس للجنرال من يكاتبه ) في باريس ، و كتب ( جنازة الأم الكبيرة ) في كاراكاس . و عندما سيطر الشيوعيون المتشددون على قسم الصحافة و طردوا المحرّر ، استقال " ماركيز " متضامناً .
كان من المقدّر له أن ينتقل إلى ( مكسيكو سيتي ) و أن يركز على الأدب ، ولكن قبل ذلك كان عليه أن يرى الجنوب الذي لطالما تحدث عنه " ويليام فوكنر" ، و الذي قرأ كتبه مُترجمةً منذ كان في العشرينات من عمره . و يروي عن مروره في ( غريهاوند ) أن عائلته عوملت على أنها جماعة من ( المكسيكيين القذرين ) ، حيث كانوا يرفضون تأجيرهم الغرف و يمنعون عنهم الخدمة في المطاعم .
يصف " ماركيز " الرحلة فيقول ( المعابد النقية وسط حقول القطن ، و المزارعون ينامون قيلولتهم تحت حواف نوافذ النّزُل على جانب الطريق ، و أكواخ السود تستمرّ في العيش وسط الضنك … عالم مقاطعة يوكناباتوفا الفظيع مرّ أمام عيوننا من نافذة الحافلة ، و كان حقيقياً و إنسانياً كما هو في روايات الأستاذ الكبير * ) .
عانى " ماركيز" ، و تحوّل لكتابة السيناريو ، و حرّر مجلّة نسائية من ذوات الورق المصقول اسمها ( لا فاميليا ) و حرر مجلة أخرى تختص بالفضائح والجرائم . و كتب المحتوى لـ " جي والتر تومبسون " ، و على الضفة اليسرى من ( مكسيكو سيتي ) كان يُعرف بأنه متجهّم و نكِد .
ثم تغيرت حياته . اهتمت وكيلة أدبية من برشلونه بأعماله ، و بعد أسبوع من الاجتماعات في نيويورك سنة 1965 ذهبت معه نحو الجنوب .
( يتبع )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
* المقصود بـ ( الأستاذ الكبير ) الروائي الأمريكي " ويليام فوكنر " ( 1897 ـ 1962 ) .
ــــــــــــــــــــ
التاريخ السري لـ ( مئة عام من العزلة ) ( 1 / 4 )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بول إيلي
ترجمة : تقوى مساعدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
هذا المقال كتبه و نشره المحرر الثقافي الأمريكي " بول إيلي " في موقع مجلة ( فانيتي فير ) ، الشهرية الأمريكية ، بتاريخ 9 ديسمبر / كانون الأول عام 2015 ، ثم أُعيد نشره ورقياً في الحادي و الثلاثين من الشهر ذاته ، و ذلك بمناسبة مرور خمسين عاماً على نشر رواية ( مئة عام من العزلة ) الشهيرة للكاتب الكولومبي الأبرز في القرن العشرين " غابرييل غارسيا ماركيز " ( 1927 ـ 2014 ) و التي نال عنها جائزة نوبل للآداب عام 1982 ، و قد كتبها في المكسيك ، و طبعها في الأرجنتين ، و تجاوز عدد نسخها المطبوعة لاحقاً الخمسين مليون نسخة ، فيما تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة ، و تُعَد الرواية الأكثر قراءة ً في العالم .
و هذا المقال يأخذنا ، في سياحة ثقافية ممتعة ، الى عالم " ماركيز " و ما صاحَبَ الرواية من وقائع و تاريخ مزدحم تمخض عن هذا العمل المذهل . و لأن المقال طويل ، و قد وددتُ إشراككم في قراءته ، فقد جزأته الى أجزاء ، سأنشرها بالتتابع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر العربي للمقال : موقع ( حبر )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ 4
كان البيت في ناحية هادئة من مكسيكو سيتي ، و كان يضمّ مكتباً وجد فيه عزلة لم يعرفها من قبل و لا من بعد . كانت سجائره على الطاولة ، حيث كان يدخن 60 سيجارة في اليوم . كانت الأسطوانات على الغرامافون ، ليستمع إلى مقطوعات " ديبوسي " و " بارتوك " و إلى ألبوم « أ هارد ديز نايت » لفرقة البيتلز . أما على الجدران فقد علّق عليها رسوماً تتحدّث عن تاريخ بلدة كاريبيه ، أطلق عليها اسم « ماكوندو » و شجرة عائلة أسماها « آل البويندياس » . في الخارج كانت الستينات ، و في الداخل كانت سنوات ما قبل الاستعمار في الأمريكتين ، أما الكاتب فكان جالساً قبالة آلة الكتابة مفعماً بالقوة .
أطلقَ وباءَ الأرق على أهل ماكوندو ، و جعل قسيساً يرتفع إلى السماء ، و بقوّة الشوكولاتة الساخنة أرسل نحوهم سرباً من الفراشات الصفراء . قاد شعبه في الدرب الطويل بين الحرب الأهلية و الاستعمار و جمهوريات الموز المُتزعزعة ، تتبّع خطواتهم إلى داخل غرف نومهم و شهد مغامراتهم الجنسية الفاحشة والمسافِحة .
و عندما كان يتذكر ، كان يصف عمله بقوله ( في أحلامي كنتُ أخترع الأدب ) . و شهراً تلو شهرٍ أخذت المسوّدة المطبوعة على الآلة الكاتبة تنمو مؤذنًة بالثّقل الذي كانت الرواية العظيمة ستلحقه به ، و هو الثّقل الذي وصفه لاحقًا بأنه ( عزلة الشهرة ) .
بدأ " غابرييل غارسيا ماركيز " كتابة ( مئة عام من العزلة ) قبل نصف قرن ، و أنهاها في أواخر سنة 1966. خرجت الرواية من المطبعة في ( بوينوس آيريس ) في الثلاثين من أيار سنة 1967، قبل يومين من صدور أسطوانة فرقة البيتلز ( سرجنت ببرز لونلي هارت كلوب باند ) و كانت ردة فعل القرّاء من الناطقين بالإسبانية شبيهة بحالة الهوس التي رافقت كل ما له علاقة بفرقة البيتلز . حشود و كاميرات و علامات تعجب و إحساس عارمٌ بباكورة عهد جديد . ظهر الكتاب باللغة الإنجليزية سنة 1970، و تبعته نسخة بغلاف ورقي عليه رسمٌ لشمسٍ حارقة ، و أصبح هذا الرسمُ الرمزَ المقدّس لذلك العقد من الزمان .
و عندما حاز " ماركيز " على جائزة نوبل سنة 1982، باتت الرواية تمثّل الـ ( دون كيخوتة ) للنصف الجنوبي من العالم ، و باتت الدليل على الشوكة الأدبية لأمريكا اللاتينية ، و صار " ماركيز " معروفاً باسم " غابو " ، يمتدّ صيته إلى كل القارات باسمه الأول ، شأنه كشأن صديقه الكوبي " فيديل " .
مرت سنوات عديدة ، و ما يزال الاهتمام بـ " غابو " و بروايته متأججاً ، فقد دفع مركز ( هاري رانسوم ) في جامعة تكساس مؤخراً 2,2 مليون دولار لشراء إرشيفه ، بما في ذلك مسوّدة على الآلة الكاتبة باللغة الإسبانية لـ ( مئة عام من العزلة ) ، كما اجتمعَ أفراد عائلته و أكاديميون في تشرين الأول ليلقوا نظرة جديدة على إرثه ، معتبرين الكتاب مجدداً رائعته الأدبية الخالدة .
و بشكلٍ غير رسميّ فإن ( مئة عام من العزلة ) هي رواية الجميع المفضلة من الأدب العالمي ، و هي الرواية التي ألهمت روائيي عصرنا أكثر من غيرها منذ الحرب العالمية الثانية ، مثل " توني موريسون " و " سلمان رشدي " و " جونوت دياث " .
أحد مشاهد فيلم ( الحي الصيني ) يدور في عمارة في هوليود أُطلق عليها اسم ( شقق ماكوندو ) . و خلال فترته الرئاسية الأولى ، أعرب " بيل كلينتون " عن رغبته في لقاء " غابو " عندما كان كلاهما في جزيرة مارثا فينيارد في ماساتشوستس ، و انتهى بهما الأمر الى تناول العشاء معاً في بيت " ويل " و " روز " ستايرن ، بينما تبادلا وجهات النظر حول " ويليام فوكنر " . و شاركهما العشاء كلٌّ من الروائي " كارلوس فوينتيس " و رجل الأعمال والناشط " فيرنون جوردان " والمنتج السينمائي " هارفي واينستين " .
عندما توفّي " ماركيز " في نيسان 2014 ، إنضم " باراك أوباما " إلى " بيل كلينتون " في نعيه لـ " ماركيز " بوصفه بأنه ( من كتّابي المفضلين منذ كنت طفلًا ) ، و تحدّث عن نسخته العزيزة الموقّعة من ( مئة عام من العزلة ) .
أمّا " يان ستافانس " ، الباحث البارز في الثقافة اللاتينية في الولايات المتحدة الذي قرأ الكتاب ثلاثين مرة فإنه يصر على أن ( الكتاب لم يُعِد تعريف أدب أمريكا اللاتينية فحسب ، بل أعاد تعريف الأدب ، نقطة و سطر جديد ) .
كيف كان لهذه الرواية أن تكون مثيرة و ممتعة و تجريبية و متطرفة سياسياً و أن تحظى بهذه الشعبية العارمة في آن معاً ؟ إن نجاح الرواية لم يكن أمراً مضموناً ، و قصة هذه الرواية جزءٌ مهمٌ و غير معروفٍ من التاريخ الأدبي خلال نصف القرن الأخير .
ترك الديار
ـــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب الذي نسجَ أشهر قرية في الأدب هو ابن مدينة ، حيث وُلد سنة 1927 في قرية ( آراكاتاكا ) الكولومبية قرب الساحل الكاريبي ، و درس داخل البلاد في ضاحية من ضواحي ( بوغوتا ) . ترك " غابرييل غارسيا ماركيز " دراسة القانون ليصبح صحفياً في ( كارتاخينا ) و ( باررانكيا ) ، كان يكتب عموداً صحفياً ، و في ( بوغوتا ) .. حيث كان يكتب مراجعات لأفلام سينمائية .
و في الوقت الذي اشتدّت فيه قبضة الديكتاتورية ، ذهب ليعمل في أوروبا ، مبتعداً عن درب الخطر . مرّت عليه أيام صعبة هناك ، ففي باريس كان يرجع القناني الزجاجية إلى الدكاكين و يستردّ تأمينها ليؤمّن المال ، و في روما تلقّى دروساً حول صناعة الأفلام التجريبية ، أما في لندن فكان يرتعش من البرد ، و كان يرسل الأخبار من ألمانيا الشرقية و تشيكوسلوفاكيا و الاتحاد السوفيتي .
و عند عودته جنوباً إلى فنزويلا كاد أن يُعتقل في مداهمة عسكرية عشوائية ، و عندما تولّى " فيديل كاسترو " السلطة في كوبا ، وقّع " ماركيز " عقداً مع ( برينسا لاتينا ) و هي وكالة أنباء تمولها الحكومة الشيوعية الجديدة ، و بعد أن عانى من ضيق الحال في هافانا انتقل إلى نيويورك سنة 1961 مع زوجته " مرسيدس " و ابنهما الصغير " رودريغو " .
لاحقاً وصف المدينة بأنها ( متعفّنة متفسّخة ، إلا أنها كانت في طور الميلاد الجديد ، كالأدغال . لقد أذهلتني ) . أقامت العائلة في فندق ( ويبستير ) عند تقاطع الجادة 45 و شارع 5 ، و لاحقاً انتقلوا للسكن مع أصدقاء لهم في ( كوينز ) ، إلا أن " غابو " كان يمضي أغلب وقته في مكتب جريدة قرب مركز " روكفيلير " ، في غرفة بنافذة واحدة تطلّ على ساحة تغزوها الجرذان . كان الهاتف يرنّ طويلاً ، و كان المتصلون من المنفيين الكوبيين الغاضبين الذين كانوا يرون في الوكالة بؤرةً لنظام " كاسترو " الذي يمقتونه ، و كان يُبقي قضيباً حديدياً على أهبة الاستعداد في حال تعرضت الوكالة للهجوم .
كان يكتب الروايات طوال الوقت : كتب ( عاصفة الأوراق ) في بوغوتا ، و ( ساعة الشؤم ) و ( ليس للجنرال من يكاتبه ) في باريس ، و كتب ( جنازة الأم الكبيرة ) في كاراكاس . و عندما سيطر الشيوعيون المتشددون على قسم الصحافة و طردوا المحرّر ، استقال " ماركيز " متضامناً .
كان من المقدّر له أن ينتقل إلى ( مكسيكو سيتي ) و أن يركز على الأدب ، ولكن قبل ذلك كان عليه أن يرى الجنوب الذي لطالما تحدث عنه " ويليام فوكنر" ، و الذي قرأ كتبه مُترجمةً منذ كان في العشرينات من عمره . و يروي عن مروره في ( غريهاوند ) أن عائلته عوملت على أنها جماعة من ( المكسيكيين القذرين ) ، حيث كانوا يرفضون تأجيرهم الغرف و يمنعون عنهم الخدمة في المطاعم .
يصف " ماركيز " الرحلة فيقول ( المعابد النقية وسط حقول القطن ، و المزارعون ينامون قيلولتهم تحت حواف نوافذ النّزُل على جانب الطريق ، و أكواخ السود تستمرّ في العيش وسط الضنك … عالم مقاطعة يوكناباتوفا الفظيع مرّ أمام عيوننا من نافذة الحافلة ، و كان حقيقياً و إنسانياً كما هو في روايات الأستاذ الكبير * ) .
عانى " ماركيز" ، و تحوّل لكتابة السيناريو ، و حرّر مجلّة نسائية من ذوات الورق المصقول اسمها ( لا فاميليا ) و حرر مجلة أخرى تختص بالفضائح والجرائم . و كتب المحتوى لـ " جي والتر تومبسون " ، و على الضفة اليسرى من ( مكسيكو سيتي ) كان يُعرف بأنه متجهّم و نكِد .
ثم تغيرت حياته . اهتمت وكيلة أدبية من برشلونه بأعماله ، و بعد أسبوع من الاجتماعات في نيويورك سنة 1965 ذهبت معه نحو الجنوب .
( يتبع )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
* المقصود بـ ( الأستاذ الكبير ) الروائي الأمريكي " ويليام فوكنر " ( 1897 ـ 1962 ) .