قراءات
ـــــــــــــــــــ
من رسائل " نيكوس كازانتزاكيس " الى زوجته " ايليني "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
مدريد ، 8 ديسمبر 1932
.. أدركت من خلال أغنية شعبية ، سمعتها أول أمس ، أنني عشت حياتي سُدىً . و لو عدت الى هذه الأرض لاخترتُ ، بالتأكيد ، طريقاً آخر . لكنني لا أتمنى العودة اليها . عندما أشم رائحة التربة المبلولة ، ينقبض قلبي و تملأني العودة الى حضن الأرض بفرح مُر .
أتذكر أنني التفتُ ، عند منعطف الشارع ، أثناء توجهي الى الميناء ، و رأيتُ أمي ــ لآخر مرة ــ واقفة ًعلى العتبة تبكي . و هي الآن موجودة في الضفة الأخرى و تناديني . و لم تعد الأرض تزدريني . لا يمر يومٌ دون أن تتملكني هذه الرؤيا ، و لا تمر ليلة دون رؤية أمي في الحلم . لقد اكتسب الجحيم تألقاً غير معهود ، و أعتقد أنك الوحيدة القادرة على استبقائي في هذه الأرض .
ليس ذلك ما أريد التحدث عنه .. أحتاج الى ( الأوديسة )* أكثر من أي وقت مضى ، كي أمنع قلبي من التفتت ، إنها تشبه الخمرة التي تزوّد بالنسيان . لكنني لم أتوصل الى الإنتشاء و فقدان الذاكرة مطلقاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
ليلة 21 فبراير 1935
مازلنا في قناة السويس الشهيرة . على يسارنا صحراءُ العرب ، رتيبةٌ بلا أشجار ، و لا حتى بيت واحد . و على يميننا الأرض المصرية منبسطة بنخيلها و قُراها . و هكذا ننزل الى البحر الأحمر، بين افريقيا و آسيا .
تعرفتُ الى ياباني مسيحي ! تحدثنا مطولاً عن الدين . تحمس و بدأ يؤلف كتاباً سوف يحمل عنوان " كوكورو مان " ( كوكورو ، باليابانية ، تعني " قلب " ) لأنني سميت له المسيح بذلك الإسم . لقد فتنته الفكرة و هاهوذا يشرع ، منذ الآن ، في تأليف كتاب ليتحدث فيه عن رؤية اليابانيين للديانة المسيحية .. إن البشر في كل مكان متعطشون للكلمة الطيبة ، و كثيراً ما تكون الكلمة الطيبة خصبة ..
تجلس الى المائدة ، بجانبي ، تلك المرأة الفرنسية السَمجة ، و لم أكلمها و لن أفعل ذلك . نتناول وجبات نصف أوروبية ، نصف يابانية . و الفرنسية تشم و تشمشم ، و تمط شفتيها اشمئزازاً ، فالأكل لا يروق لها . أما أنا فآكل بنهم ، لقد بدأت أتأقلم ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
25 فبراير 1935
أحياناً يثب دلفين ، و حولنا تطير النوارس ، و في هذا الصباح جاء طائر أحمر من الحبشة . غرّد مرة أو مرتين ثم طار . هذا المساء ندخل المحيط الهندي . المسافرون يتململون من شدة الضجر . لا أحد يطالع . يشغّلون الفونوغراف ( الحاكي ) و يرقصون . في البداية كل واحد بمفرده ، و لا يتحدث الى أحد ، و الآن بدأ الجميع يتبادلون الحديث ، و حيثما كنت يقترب منك أحدهم محاولاً التحدث بتعلّة السؤال عن الساعة .. و بهذه الطريقة تعرّفت الى إنجليزية ثرية ، حيوية ، ثقيلة الفَـك ، تسافر الى الصين برفقة زوجها .. ألعب " الدك ــ غولف " أحياناً .. لكنني أمضي النهار كله تقريباً في القراءة .. خلال ثمانية أيام نبلغ كولومبو .. و تبقى لنا خمسة عشر يوماً لبلوغ شنغهاي .. أنها رحلة طويلة مضجرة ، و لاسيّما الآن ، لأننا لم نعد نرى اليابسة ، و لا شيء غير البحر ، بلا نهاية و لا فائدة ..
صارت الرحلة رتيبة ، و المسافرون يفقدون صوابهم .. فيلعبون الألعاب نفسها و يعيدون الدعابات نفسها ، لكنهم يَضْحون أقل ..
أطالع ، يومياً ، كتابين أو ثلاثة من المكتبة الفظيعة التابعة للباخرة ، و أعيد قراءة قصائدك فأعدّل قليلاً ، لكن بشكل مُجْدٍ .
كنت أودّ كتابة نشيد جديد غير أن الأجواء غير مناسبة . حرارة عالية .. كل يوم نقدّم ساعاتنا بقدْر نصف ساعة . حبيبتي ، أنت الوحيدة التي توجدين ، و حتى السفر في المحيط الهندي ما هو إلاّ أسطورة ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب ( المنشق )
تأليف : ايليني كازانتزاكيس
ترجمة : محمد علي اليوسفي
الناشر : دار الآداب ـ 1995
* ( الأوديسة ) عملٌ شعري كتبه كازانتزاكي على مدى تسعة أعوام ( 1929 ـ 1938 ) في 33333 بيتاً شعرياً .. باعتماد وزن مبتكر .
ـــــــــــــــــــ
من رسائل " نيكوس كازانتزاكيس " الى زوجته " ايليني "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
مدريد ، 8 ديسمبر 1932
.. أدركت من خلال أغنية شعبية ، سمعتها أول أمس ، أنني عشت حياتي سُدىً . و لو عدت الى هذه الأرض لاخترتُ ، بالتأكيد ، طريقاً آخر . لكنني لا أتمنى العودة اليها . عندما أشم رائحة التربة المبلولة ، ينقبض قلبي و تملأني العودة الى حضن الأرض بفرح مُر .
أتذكر أنني التفتُ ، عند منعطف الشارع ، أثناء توجهي الى الميناء ، و رأيتُ أمي ــ لآخر مرة ــ واقفة ًعلى العتبة تبكي . و هي الآن موجودة في الضفة الأخرى و تناديني . و لم تعد الأرض تزدريني . لا يمر يومٌ دون أن تتملكني هذه الرؤيا ، و لا تمر ليلة دون رؤية أمي في الحلم . لقد اكتسب الجحيم تألقاً غير معهود ، و أعتقد أنك الوحيدة القادرة على استبقائي في هذه الأرض .
ليس ذلك ما أريد التحدث عنه .. أحتاج الى ( الأوديسة )* أكثر من أي وقت مضى ، كي أمنع قلبي من التفتت ، إنها تشبه الخمرة التي تزوّد بالنسيان . لكنني لم أتوصل الى الإنتشاء و فقدان الذاكرة مطلقاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
ليلة 21 فبراير 1935
مازلنا في قناة السويس الشهيرة . على يسارنا صحراءُ العرب ، رتيبةٌ بلا أشجار ، و لا حتى بيت واحد . و على يميننا الأرض المصرية منبسطة بنخيلها و قُراها . و هكذا ننزل الى البحر الأحمر، بين افريقيا و آسيا .
تعرفتُ الى ياباني مسيحي ! تحدثنا مطولاً عن الدين . تحمس و بدأ يؤلف كتاباً سوف يحمل عنوان " كوكورو مان " ( كوكورو ، باليابانية ، تعني " قلب " ) لأنني سميت له المسيح بذلك الإسم . لقد فتنته الفكرة و هاهوذا يشرع ، منذ الآن ، في تأليف كتاب ليتحدث فيه عن رؤية اليابانيين للديانة المسيحية .. إن البشر في كل مكان متعطشون للكلمة الطيبة ، و كثيراً ما تكون الكلمة الطيبة خصبة ..
تجلس الى المائدة ، بجانبي ، تلك المرأة الفرنسية السَمجة ، و لم أكلمها و لن أفعل ذلك . نتناول وجبات نصف أوروبية ، نصف يابانية . و الفرنسية تشم و تشمشم ، و تمط شفتيها اشمئزازاً ، فالأكل لا يروق لها . أما أنا فآكل بنهم ، لقد بدأت أتأقلم ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
25 فبراير 1935
أحياناً يثب دلفين ، و حولنا تطير النوارس ، و في هذا الصباح جاء طائر أحمر من الحبشة . غرّد مرة أو مرتين ثم طار . هذا المساء ندخل المحيط الهندي . المسافرون يتململون من شدة الضجر . لا أحد يطالع . يشغّلون الفونوغراف ( الحاكي ) و يرقصون . في البداية كل واحد بمفرده ، و لا يتحدث الى أحد ، و الآن بدأ الجميع يتبادلون الحديث ، و حيثما كنت يقترب منك أحدهم محاولاً التحدث بتعلّة السؤال عن الساعة .. و بهذه الطريقة تعرّفت الى إنجليزية ثرية ، حيوية ، ثقيلة الفَـك ، تسافر الى الصين برفقة زوجها .. ألعب " الدك ــ غولف " أحياناً .. لكنني أمضي النهار كله تقريباً في القراءة .. خلال ثمانية أيام نبلغ كولومبو .. و تبقى لنا خمسة عشر يوماً لبلوغ شنغهاي .. أنها رحلة طويلة مضجرة ، و لاسيّما الآن ، لأننا لم نعد نرى اليابسة ، و لا شيء غير البحر ، بلا نهاية و لا فائدة ..
صارت الرحلة رتيبة ، و المسافرون يفقدون صوابهم .. فيلعبون الألعاب نفسها و يعيدون الدعابات نفسها ، لكنهم يَضْحون أقل ..
أطالع ، يومياً ، كتابين أو ثلاثة من المكتبة الفظيعة التابعة للباخرة ، و أعيد قراءة قصائدك فأعدّل قليلاً ، لكن بشكل مُجْدٍ .
كنت أودّ كتابة نشيد جديد غير أن الأجواء غير مناسبة . حرارة عالية .. كل يوم نقدّم ساعاتنا بقدْر نصف ساعة . حبيبتي ، أنت الوحيدة التي توجدين ، و حتى السفر في المحيط الهندي ما هو إلاّ أسطورة ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب ( المنشق )
تأليف : ايليني كازانتزاكيس
ترجمة : محمد علي اليوسفي
الناشر : دار الآداب ـ 1995
* ( الأوديسة ) عملٌ شعري كتبه كازانتزاكي على مدى تسعة أعوام ( 1929 ـ 1938 ) في 33333 بيتاً شعرياً .. باعتماد وزن مبتكر .