قراءة في كتاب
: الفلسفة الإلهية عند المعتزلة .. دراسة في فلسفة أبي القاسم الكعبي للدكتور يحيى المشهداني
د. عبد الجبار الرفاعي
صدر حديثا عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد كتاب: الفلسفة الإلهية عند المعتزلة .. دراسة في فلسفة أبي القاسم الكعبي للدكتور يحيى المشهداني
وهو اطروحة دكتوراه فلسفة يلخص الباحث مضمونها بقوله:
المعتزلة، اسم علم لامع لأوسع مدرسة فلسفية، وقعاً وتأثيراً وأصالة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، قيل فيها الكثير، قديماً وحديثاً. وتباينت أحكام الحاكمين بين منصف ومجحف، ومكثر ومقتر، حتى ان محاولة الإحاطة بتلك الأحكام والآراء، ولكثرتها، تعد بمثابة نوع من العبث.
يقول فيهم أحد خصومهم المنصفين: «هم أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم، وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل والمنصفون في مناظرة الخصوم» .
وليس هم هذه الرسالة بالأساس هو التقدير والتجويد للكلام في مدح هؤلاء الأسلاف العظام، بل ان مرادها وبغيتها هو بيان فلسفتهم، وإخراجها على وجهها الحقيقي المشرق، وبما يفيد ويزيد في فهم هذه الفلسفة فهماً شاملاً وملماً بجميع أبعادها التقليدية والمبتكرة، وكذلك الإحاطة بالمرامي والقصود التي وضعت تلك الفلسفة لخدمتها، من خلال البحث والدراسة لفلسفة أحد أكبر أعلام تلك المدرسة بفرعها البغدادي، وهو أبو القاسم الكعبي.
وقد لاحظنا ان البحث في فلسفة المعتزلة، إن لم يعد بمثابة مغامرة، فهو مركب صعب، أو مفازة ولابد لسالكها من ان يستحضر عدتها من الصبر والأناة والمطاولة، فهذا الميدان من البحث الفلسفي لم يزل جديد عهد، وان أرخ لبواكير الاهتمام به من قبل المستشرقين، لما يزيد عن قرن من الزمان.
إلا ان درجة ونوع الاهتمام وكثافته، لم تكن بالمقدار الذي يوازي أو يقرب من نسبة معقولة من حجم الإرث الفلسفي الضخم لهذه المدرسة، والتي عاشت لما يقرب من خمسة أو ستة قرون من الزمن، وفي أوج عصور الحضارة العربية الإسلامية ازدهاراً.
وباعتقادنا فإن هذا الإرث، وخصوصاً بعد ان اكتشفت بعض كنوزه، من المصادر الأمهات لأفكار المعتزلة، وأقصد موسوعة القاضي المعتزلي «المغني في أبواب التوحيد والعدل»، وجملة من مؤلفاته الأخرى. و كذلك كتب تلاميذه من المعتزلة البصريين، مثل النيسابوري، والنجراني، وأبو الحسين البصري، وغيرهم. والتي نشرت في الستينات من هذا القرن، كانت بمثابة حافز أو مهماز يستنهض همم الباحثين العرب لخدمة تراثهم العظيم، فخرج على أثر ذلك جيل جديد من الباحثين المجيدين في تراث وفلسفة المعتزلة، فأخرجوا لنا دراسات علمية قيمة، وعلى عمق هذه الدراسات ورصانتها، فإنها تعتبر نقطة الشروع الصحيحة. أو أول الغيث ان صح التعبير، وخصوصاً إذا قورنت هذه الدراسات مع ما حظيت به الفلسفة اليونانية مثلاً، من اهتمام وعناية فائقين، يمتدان إلى قرون عديدة ومتطاولة في القدم، ولم تزل تدرس بشوق واهتمام لا يفتران.
وحين شرعنا في اختيار موضوع رسالتنا هذه كانت أغلب الصعوبات المنهجية والمضمونية التي اعترضتنا فيما بعد ماثلة وحاضرة في أذهاننا، لأننا في الحقيقة سبق وأن قدمنا رسالة نلنا بها درجة الماجستير في الفلسفة، عن الفلسفة الطبيعية عند المعتزلة .
وقد أفادنا هذا في قراءة وفهم المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي وللمرة الثانية، وتحديداً مؤلفات القاضي المعتزلي وتلاميذه، ولم يشكل حجم هذه المؤلفات الضخمة صعوبة لنا، إنما تتأتى الصعوبة والمعاناة من فهم اللغة المعقدة التي تعرض فيها الأفكار؛ فلكل عصر لغته الخاصة ومنهجه بالتأليف، ولغة هذه الكتب في الحقيقة، مليئة بالمفاهيم والمصطلحات التي لا يمكن الوقوف على دلالتها لغير المتخصص، وحتى هذا المتخصص وفي أحيان كثيرة لا يقف على المقصود من دلالة هذه المفاهيم، إلا من خلال سياق العبارات والجمل، لأن بعضها يمتلك أكثر من دلالة أحياناً، ولهذا السبب، وجدنا، ان بعض الباحثين، ربما أخطأ في فهم مقصود النصوص التي يعبر عنها بأسلوبه اللغوي الخاص، وقد يبتعد عن مرامي وقصود النصوص الأصلية كثيراً. ولهذا السبب المنهجي بالذات، آثرت الإكثار من إيراد النصوص الأصلية بلفظها ورسمها ودون إعادة صياغتها إلا ما دعت له الضرورة، بحيث تكون الصياغة الجديدة معبرة تماماً عن روح النص الأصلي، ومن دون ان تكون هذه الصياغة مفسدة لمراد الفكرة ووجهتها.
وكذلك حتى لا نتجاوز على حق غيرنا، ونمنعه من ان يعبر عن فكرته بلغته الخاصة، معتقدين بأن الأمانة في هذا الجانب، ليست ضرورة منهجية فحسب بل هي ضرورة أخلاقية أيضاً.
يضاف إلى ذلك، ان المتكلمين والمعتزلة بوجه خاص، وفي أغلب مؤلفاتهم كانوا صريحين في التعبير عن آرائهم، ولم يستخدموا لغة الرمز أو الإرهاص في إيصال أفكارهم أو التعمية لها عن أعين غرمائهم، ولم يحيلوا أحداً ما إلى ان يقرأ ما بين السطور، أو انهم كانوا يعتقدون بأن الكلام كالثمرة يقسم إلى ثلاثة أنحاء، قشور، ولب، ولب اللب، الأول للعامة، والثاني للخاصة والثالث لخاصة الخاصة. فهم كانوا يعبرون عن آرائهم بطلاقة وبصورة مباشرة، مهما كانت هذه الآراء جريئة أو تتقاطع مع المألوف والتقاليد.
وقد جاء اختيارنا لعنوان هذه الرسالة دون غيره من عناوين محتملة، بمثابة نتيجة لفعل مدبر، ووعي وتصميم مسبقين.
وهو بالأساس جاء انتصاراً لمنهج بحث درج عليه أغلب المحققين من الباحثين العرب، المحدثين، الذين لم يرتضوا الفصل بين علم الكلام والفلسفة الإسلامية، بوصف الأول لاهوتاً والثاني فلسفة .
وتعاملوا مع الاثنين على مستوى واحد، نوعاً ودرجة، وموضوعاً وغاية، بغض النظر عن الانتصار لأيهما الأكثر عمقاً وأصالة من غيره.
وقد كان أبو القاسم الكعبي باعتقادنا جديراً بالدراسة الفلسفية المعمقة لما كان له من شأن مهم في تاريخ مدرسة الاعتزال بوصفه آخر الفلاسفة الكبار لهذه المدرسة بفرعها البغدادي، وعلى أهميته الكبرى على ما وضحنا في هذه الرسالة، إلا انه قد عانى الإهمال شبه الكامل، فلم يدرس بصورة كلية أو جزئية أو بصورة مستقلة كما حصل للنظام، والعلاف، والجبائيين، والقاضي المعتزلي وغيرهم.
ولم أعتمد في كتابة هذه الرسالة على منهج محدد، إذ أخذت بأطراف أغلب مناهج البحث المعروفة، وكلما استدعت طبيعة البحث ذلك.
فعوّلنا على المنهج التاريخي بصورة أساسية في الفصل الأول، وإن لم يخل من منهج التحليل والتركيب تماماً. أما الفصول اللاحقة، فكانت موزعة، وبصورة متداخلة بين منهج التحليل والتركيب، والمنهج التاريخي، والمنهج النقدي المقارن، وقد آثرت مقارنة آراء الكعبي مع ما يماثلها أو يتقاطع معها من داخل مدرسة المعتزلة أو خارجها، وخصوصاً مع الأشاعرة.
ولغرض توجيه تفصيلات هذه الدراسة بفصولها ومباحثها إلى وجهتها المرسومة ولغرض كسر حدة وصعوبة بعض مباحثه الجافة، وبيان عناصر الاستمداد أو الأصالة والابتكار، آثرنا الابتداء بمقدمات تمهيدية للبعض من هذه الفصول والمباحث، كل حسب حاجته لذلك.
لا أدعي لها الكمال، وإن كلفتني الجهد الجهيد والتعب الشديد، وهذا هو حال العلم بوصف إبراهيم بن سيار النظام، فإنه لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. فإذا أعطيته كلك، فأنت من إعطائه لك البعض على خطر.
وأخيراً. فلابد من القول، بأنا قد بذلنا غاية ما في وسعنا. ولم ندخر منه شيئاً في إخراج فلسفة الكعبي بمضاءات تليق بمكانتها المرموقة في تاريخ مدرسة المعتزلة وعموم الفلسفة العربية الإسلامية، فإن أحسنا، فتلك بغيتنا، وإن لم نصل إلى بغيتنا ـ لا سامح الله ـ فذلك لا عن تقصير، لأن ذلك أقصى المستطاع، والله تعالى نسأل التوفيق والسداد في الأمر أولاً وآخراً.
كما جاء في خاتمتها:
تعد فلسفة أبي القاسم الكعبي، بمثابة واسطة العقد في فلسفة عموم معتزلة بغداد، التي كان ينتصر لها أيما انتصار، خصوصاً عندما آلت إليه رئاسة تلك المدرسة بعد وفاة أستاذه أبي الحسين الخياط.
وقد أخذ أبو القاسم الكعبي على عاتقة خدمة مدرسة المعتزلة وبفرعيها البغدادي والبصري؛ فقد جمع جميع مقالاتهم ومقالات أسلافهم في كتاب المقالات، والذي أصبح العمدة في بابه لجميع كتاب المقالات من الأشعري نزولاً. وبهذا يكون الكعبي ليس مطلعاً على فلسفة هذه المدرسة وآرائها فحسب، بل محققاً لها، وربما لهذا السبب جاءت فلسفته بإضافات نوعية دفعت بفلسفة المعتزلة إلى القمة من الإبداع والعنفوان والابتكار، وكان لإطلاع الكعبي ومعرفته الموسوعية بالآراء للفرق غير الإسلامية، والتيارات الفلسفية الإسلامية التوجه والمنحى في زمنه، أثر بالغ في توجيه فلسفته وجهة فريدة، فهو وإن تأثر ببعض طروحات تلك الفلسفات إلا انه لم يسايرها في تخريجاتها، ولم يحد عن منهج مدرسته وتوجهاتها العامة.
فقد تأثر بالآراء الفلسفية فيما يخص قوله بصفة الإرادة الإلهية مثلاً. إلا انه لم يرتضِ بحثها خارج نطاق العقيدة الدينية بصورة تامة. ووازن بين ضرورات العقل ومتطلبات الدين في هذا المبحث.
والقضية نفسها يمكن ان تقال عن انتصاره وتبنيه لنظرية الجوهر الفرد، فهو وإن دافع عن هذه النظرية واحتج لها، واجتهد في البرهنة على صدقها من خلال ابتكاره لكثير من الأدلة النظرية والتجريبية، إلا إننا نجده مع ذلك، لا يقر بوجود الخلاء، ذلك الصنو الملازم، والشق المكمل لهذه النظرية. ونعتقد ان احتجاجات الفلاسفة ضد وجود الخلاء، قد فعلت فعلها في إقناع الكعبي بما أفضى إلى ان يرتضيها مذهباً في تفسير الطبيعة، وإن يكيف نظرية الجوهر الفرد، بصورة توائم ما آل إليه الأمر. وهو إنكار وجود الخلاء داخل العالم.
وقد لاحظنا، ان طبيعة هذه النظرية التي لا تشبه نظيرتها اليونانية سوى في الاسم، كانت تحتمل مثل هكذا تحويرات مركزية وكبرى، ولو أجريت على نظيرتها اليونانية، لقوضتها تماماً ولأفقدتها كامل اتساقها، لكنها لم تأل إلى هذا المصير عند المعتزلة وعند أبي القاسم بصورة خاصة، والأمر يعود لسبب بسيط، وهو ان هذه النظرية عند لوقيبوس وديموقريطس نظرية مادية صرفة، بينما هي عند المعتزلة غير ذلك تماماً.
ويلاحظ ان هامش الإبداع عند المعتزلة انتهى مطافه، وحط رحاله عند علمين كبيرين من أعلامهم، ولم ترزق هذه المدرسة بمن يفوقهما بعد رحيلهما، وهما كل من أبي هاشم الجبائي من معتزلة البصرة، وأبي القاسم الكعبي من معتزلة بغداد، وإن وجدنا بعدهم أعلاماً محققين وكتبة مجيدين مثل القاضي المعتزلي وتلاميذه إلا انهم يصرحون انهم من البهاشمة أي من تلامذة أبي هاشم غير المباشرين، أي من متابعيه في فلسفته. أما ابن الأخشيد ومن تحلق معه فيعدون من تلامذة أبي القاسم الكعبي وكذلك الحال مع المعتزلة الزيديين في اليمن.
ويلاحظ ان هامش الإبداع عند المعتزلة انتهى مطافه، وحط رحاله عند علمين كبيرين من أعلامهم، ولم ترزق هذه المدرسة بمن يفوقهما بعد رحيلهما، وهما كل من أبي هاشم الجبائي من معتزلة البصرة، وأبي القاسم الكعبي من معتزلة بغداد، وإن وجدنا بعدهم أعلاماً محققين وكتبة مجيدين مثل القاضي المعتزلي وتلاميذه إلا انهم يصرحون انهم من البهاشمة أي من تلامذة أبي هاشم غير المباشرين، أي من متابعيه في فلسفته. أما ابن الأخشيد ومن تحلق معه فيعدون من تلامذة أبي القاسم الكعبي وكذلك الحال مع المعتزلة الزيديين في اليمن.
ويلاحظ أيضاً على مؤلفات تلاميذ القاضي المعتزلي، انها مطبوعة بطابع المقارنة بين آراء هذين العلمين، وخصوصاً كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين لأبي رشيد النيسابوري، والتذكرة في أحكام الجواهر والأعراض للنجراني، وكذلك بعض مؤلفات القاضي المعتزلي، الذي لا يخفي انتصاره لفلسفة أبي هاشم الجبائي مع إجلاله لجميع أسلافه من المعتزلة الذين يعدهم بمثابة آباء روحيين له.
وبناءاً على ما سبق يمكن القول ان فلسفة الكعبي تمثل جانباً من أصل جانبين يمثلان أعلى مراحل التطور الذي طبع بطابعة العصور المتأخرة لفلسفة المعتزلة.
ويتجلى هذا التطور لفلسفة أبي القاسم في انصع صورة في دائرة نظرية المعرفة، التي لا يخلو مفصل منها من رأي مبتكر له، يشابه في وجه التخريج والعرض والاحتجاج أحياناً، ما عرف من مذاهب اشتهرت على يد الفلاسفة الابستمولوجيين في بداية عصر النهضة الأوربي.
ونفس الشيء يقال على ميدان الفلسفة العملية، وأقصد الفلسفة الأخلاقية والسياسية فللكعبي مضاءات جديدة، أعلت من بنيان المعتزلة في هذا الجانب الفلسفي المهم، الذي حاول فيه ان يوازن بين الغاية الأخلاقية الخالصة التي تطمع الفلسفة لتقرير أحقيتها بالعناية لذاتها، وليس لغرض آخر، وبين الحاجة الاجتماعية لمعايير ومقاييس أخلاقية واقعية ذات طبيعة عملية، يمكن الحكم بها على ما هو حسن أو ما هو قبيح من الأفعال، أو ما هو فضيلة أو رذيلة بلغة الفلاسفة.
والتمس أبو القاسم كحال بقية المعتزلة، ان يكون الحاكم السياسي، ذات مواصفات إنسانية وأخلاقية رفيعة المستوى، ولم يشترط فيه ان تكون هذه المواصفات خارقة للعادة، وإن جدارته الحقيقية لهذا المنصب، تلتمس من ممارسة فضيلته، وهي العدالة المستندة إلى أصل العلم، الذي يعد في عرفه من أهم شروط الإمام وأولاها بالتقديم، على النسب والفضل بالدين وما شاكل من شروط.
رحم الله أبا القاسم الكعبي، فقد كان فيلسوفاً مجيداً وبارعاً حقاً.
وختاماً نسأل الله تعالى ان نكون قد وفينا بجزء يسير من أفضاله وأفضال أقرانه من المعتزلة ولما أسدوه من خدمة جليلة لتاريخ وحضارة أمتنا العربية الإسلامية المجيدة، ولما جعلونا فخورين به أمام الأمم الأخرى أيضاً.
: الفلسفة الإلهية عند المعتزلة .. دراسة في فلسفة أبي القاسم الكعبي للدكتور يحيى المشهداني
د. عبد الجبار الرفاعي
صدر حديثا عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد كتاب: الفلسفة الإلهية عند المعتزلة .. دراسة في فلسفة أبي القاسم الكعبي للدكتور يحيى المشهداني
وهو اطروحة دكتوراه فلسفة يلخص الباحث مضمونها بقوله:
المعتزلة، اسم علم لامع لأوسع مدرسة فلسفية، وقعاً وتأثيراً وأصالة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، قيل فيها الكثير، قديماً وحديثاً. وتباينت أحكام الحاكمين بين منصف ومجحف، ومكثر ومقتر، حتى ان محاولة الإحاطة بتلك الأحكام والآراء، ولكثرتها، تعد بمثابة نوع من العبث.
يقول فيهم أحد خصومهم المنصفين: «هم أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم، وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل والمنصفون في مناظرة الخصوم» .
وليس هم هذه الرسالة بالأساس هو التقدير والتجويد للكلام في مدح هؤلاء الأسلاف العظام، بل ان مرادها وبغيتها هو بيان فلسفتهم، وإخراجها على وجهها الحقيقي المشرق، وبما يفيد ويزيد في فهم هذه الفلسفة فهماً شاملاً وملماً بجميع أبعادها التقليدية والمبتكرة، وكذلك الإحاطة بالمرامي والقصود التي وضعت تلك الفلسفة لخدمتها، من خلال البحث والدراسة لفلسفة أحد أكبر أعلام تلك المدرسة بفرعها البغدادي، وهو أبو القاسم الكعبي.
وقد لاحظنا ان البحث في فلسفة المعتزلة، إن لم يعد بمثابة مغامرة، فهو مركب صعب، أو مفازة ولابد لسالكها من ان يستحضر عدتها من الصبر والأناة والمطاولة، فهذا الميدان من البحث الفلسفي لم يزل جديد عهد، وان أرخ لبواكير الاهتمام به من قبل المستشرقين، لما يزيد عن قرن من الزمان.
إلا ان درجة ونوع الاهتمام وكثافته، لم تكن بالمقدار الذي يوازي أو يقرب من نسبة معقولة من حجم الإرث الفلسفي الضخم لهذه المدرسة، والتي عاشت لما يقرب من خمسة أو ستة قرون من الزمن، وفي أوج عصور الحضارة العربية الإسلامية ازدهاراً.
وباعتقادنا فإن هذا الإرث، وخصوصاً بعد ان اكتشفت بعض كنوزه، من المصادر الأمهات لأفكار المعتزلة، وأقصد موسوعة القاضي المعتزلي «المغني في أبواب التوحيد والعدل»، وجملة من مؤلفاته الأخرى. و كذلك كتب تلاميذه من المعتزلة البصريين، مثل النيسابوري، والنجراني، وأبو الحسين البصري، وغيرهم. والتي نشرت في الستينات من هذا القرن، كانت بمثابة حافز أو مهماز يستنهض همم الباحثين العرب لخدمة تراثهم العظيم، فخرج على أثر ذلك جيل جديد من الباحثين المجيدين في تراث وفلسفة المعتزلة، فأخرجوا لنا دراسات علمية قيمة، وعلى عمق هذه الدراسات ورصانتها، فإنها تعتبر نقطة الشروع الصحيحة. أو أول الغيث ان صح التعبير، وخصوصاً إذا قورنت هذه الدراسات مع ما حظيت به الفلسفة اليونانية مثلاً، من اهتمام وعناية فائقين، يمتدان إلى قرون عديدة ومتطاولة في القدم، ولم تزل تدرس بشوق واهتمام لا يفتران.
وحين شرعنا في اختيار موضوع رسالتنا هذه كانت أغلب الصعوبات المنهجية والمضمونية التي اعترضتنا فيما بعد ماثلة وحاضرة في أذهاننا، لأننا في الحقيقة سبق وأن قدمنا رسالة نلنا بها درجة الماجستير في الفلسفة، عن الفلسفة الطبيعية عند المعتزلة .
وقد أفادنا هذا في قراءة وفهم المصادر الأصلية للفكر الاعتزالي وللمرة الثانية، وتحديداً مؤلفات القاضي المعتزلي وتلاميذه، ولم يشكل حجم هذه المؤلفات الضخمة صعوبة لنا، إنما تتأتى الصعوبة والمعاناة من فهم اللغة المعقدة التي تعرض فيها الأفكار؛ فلكل عصر لغته الخاصة ومنهجه بالتأليف، ولغة هذه الكتب في الحقيقة، مليئة بالمفاهيم والمصطلحات التي لا يمكن الوقوف على دلالتها لغير المتخصص، وحتى هذا المتخصص وفي أحيان كثيرة لا يقف على المقصود من دلالة هذه المفاهيم، إلا من خلال سياق العبارات والجمل، لأن بعضها يمتلك أكثر من دلالة أحياناً، ولهذا السبب، وجدنا، ان بعض الباحثين، ربما أخطأ في فهم مقصود النصوص التي يعبر عنها بأسلوبه اللغوي الخاص، وقد يبتعد عن مرامي وقصود النصوص الأصلية كثيراً. ولهذا السبب المنهجي بالذات، آثرت الإكثار من إيراد النصوص الأصلية بلفظها ورسمها ودون إعادة صياغتها إلا ما دعت له الضرورة، بحيث تكون الصياغة الجديدة معبرة تماماً عن روح النص الأصلي، ومن دون ان تكون هذه الصياغة مفسدة لمراد الفكرة ووجهتها.
وكذلك حتى لا نتجاوز على حق غيرنا، ونمنعه من ان يعبر عن فكرته بلغته الخاصة، معتقدين بأن الأمانة في هذا الجانب، ليست ضرورة منهجية فحسب بل هي ضرورة أخلاقية أيضاً.
يضاف إلى ذلك، ان المتكلمين والمعتزلة بوجه خاص، وفي أغلب مؤلفاتهم كانوا صريحين في التعبير عن آرائهم، ولم يستخدموا لغة الرمز أو الإرهاص في إيصال أفكارهم أو التعمية لها عن أعين غرمائهم، ولم يحيلوا أحداً ما إلى ان يقرأ ما بين السطور، أو انهم كانوا يعتقدون بأن الكلام كالثمرة يقسم إلى ثلاثة أنحاء، قشور، ولب، ولب اللب، الأول للعامة، والثاني للخاصة والثالث لخاصة الخاصة. فهم كانوا يعبرون عن آرائهم بطلاقة وبصورة مباشرة، مهما كانت هذه الآراء جريئة أو تتقاطع مع المألوف والتقاليد.
وقد جاء اختيارنا لعنوان هذه الرسالة دون غيره من عناوين محتملة، بمثابة نتيجة لفعل مدبر، ووعي وتصميم مسبقين.
وهو بالأساس جاء انتصاراً لمنهج بحث درج عليه أغلب المحققين من الباحثين العرب، المحدثين، الذين لم يرتضوا الفصل بين علم الكلام والفلسفة الإسلامية، بوصف الأول لاهوتاً والثاني فلسفة .
وتعاملوا مع الاثنين على مستوى واحد، نوعاً ودرجة، وموضوعاً وغاية، بغض النظر عن الانتصار لأيهما الأكثر عمقاً وأصالة من غيره.
وقد كان أبو القاسم الكعبي باعتقادنا جديراً بالدراسة الفلسفية المعمقة لما كان له من شأن مهم في تاريخ مدرسة الاعتزال بوصفه آخر الفلاسفة الكبار لهذه المدرسة بفرعها البغدادي، وعلى أهميته الكبرى على ما وضحنا في هذه الرسالة، إلا انه قد عانى الإهمال شبه الكامل، فلم يدرس بصورة كلية أو جزئية أو بصورة مستقلة كما حصل للنظام، والعلاف، والجبائيين، والقاضي المعتزلي وغيرهم.
ولم أعتمد في كتابة هذه الرسالة على منهج محدد، إذ أخذت بأطراف أغلب مناهج البحث المعروفة، وكلما استدعت طبيعة البحث ذلك.
فعوّلنا على المنهج التاريخي بصورة أساسية في الفصل الأول، وإن لم يخل من منهج التحليل والتركيب تماماً. أما الفصول اللاحقة، فكانت موزعة، وبصورة متداخلة بين منهج التحليل والتركيب، والمنهج التاريخي، والمنهج النقدي المقارن، وقد آثرت مقارنة آراء الكعبي مع ما يماثلها أو يتقاطع معها من داخل مدرسة المعتزلة أو خارجها، وخصوصاً مع الأشاعرة.
ولغرض توجيه تفصيلات هذه الدراسة بفصولها ومباحثها إلى وجهتها المرسومة ولغرض كسر حدة وصعوبة بعض مباحثه الجافة، وبيان عناصر الاستمداد أو الأصالة والابتكار، آثرنا الابتداء بمقدمات تمهيدية للبعض من هذه الفصول والمباحث، كل حسب حاجته لذلك.
لا أدعي لها الكمال، وإن كلفتني الجهد الجهيد والتعب الشديد، وهذا هو حال العلم بوصف إبراهيم بن سيار النظام، فإنه لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. فإذا أعطيته كلك، فأنت من إعطائه لك البعض على خطر.
وأخيراً. فلابد من القول، بأنا قد بذلنا غاية ما في وسعنا. ولم ندخر منه شيئاً في إخراج فلسفة الكعبي بمضاءات تليق بمكانتها المرموقة في تاريخ مدرسة المعتزلة وعموم الفلسفة العربية الإسلامية، فإن أحسنا، فتلك بغيتنا، وإن لم نصل إلى بغيتنا ـ لا سامح الله ـ فذلك لا عن تقصير، لأن ذلك أقصى المستطاع، والله تعالى نسأل التوفيق والسداد في الأمر أولاً وآخراً.
كما جاء في خاتمتها:
تعد فلسفة أبي القاسم الكعبي، بمثابة واسطة العقد في فلسفة عموم معتزلة بغداد، التي كان ينتصر لها أيما انتصار، خصوصاً عندما آلت إليه رئاسة تلك المدرسة بعد وفاة أستاذه أبي الحسين الخياط.
وقد أخذ أبو القاسم الكعبي على عاتقة خدمة مدرسة المعتزلة وبفرعيها البغدادي والبصري؛ فقد جمع جميع مقالاتهم ومقالات أسلافهم في كتاب المقالات، والذي أصبح العمدة في بابه لجميع كتاب المقالات من الأشعري نزولاً. وبهذا يكون الكعبي ليس مطلعاً على فلسفة هذه المدرسة وآرائها فحسب، بل محققاً لها، وربما لهذا السبب جاءت فلسفته بإضافات نوعية دفعت بفلسفة المعتزلة إلى القمة من الإبداع والعنفوان والابتكار، وكان لإطلاع الكعبي ومعرفته الموسوعية بالآراء للفرق غير الإسلامية، والتيارات الفلسفية الإسلامية التوجه والمنحى في زمنه، أثر بالغ في توجيه فلسفته وجهة فريدة، فهو وإن تأثر ببعض طروحات تلك الفلسفات إلا انه لم يسايرها في تخريجاتها، ولم يحد عن منهج مدرسته وتوجهاتها العامة.
فقد تأثر بالآراء الفلسفية فيما يخص قوله بصفة الإرادة الإلهية مثلاً. إلا انه لم يرتضِ بحثها خارج نطاق العقيدة الدينية بصورة تامة. ووازن بين ضرورات العقل ومتطلبات الدين في هذا المبحث.
والقضية نفسها يمكن ان تقال عن انتصاره وتبنيه لنظرية الجوهر الفرد، فهو وإن دافع عن هذه النظرية واحتج لها، واجتهد في البرهنة على صدقها من خلال ابتكاره لكثير من الأدلة النظرية والتجريبية، إلا إننا نجده مع ذلك، لا يقر بوجود الخلاء، ذلك الصنو الملازم، والشق المكمل لهذه النظرية. ونعتقد ان احتجاجات الفلاسفة ضد وجود الخلاء، قد فعلت فعلها في إقناع الكعبي بما أفضى إلى ان يرتضيها مذهباً في تفسير الطبيعة، وإن يكيف نظرية الجوهر الفرد، بصورة توائم ما آل إليه الأمر. وهو إنكار وجود الخلاء داخل العالم.
وقد لاحظنا، ان طبيعة هذه النظرية التي لا تشبه نظيرتها اليونانية سوى في الاسم، كانت تحتمل مثل هكذا تحويرات مركزية وكبرى، ولو أجريت على نظيرتها اليونانية، لقوضتها تماماً ولأفقدتها كامل اتساقها، لكنها لم تأل إلى هذا المصير عند المعتزلة وعند أبي القاسم بصورة خاصة، والأمر يعود لسبب بسيط، وهو ان هذه النظرية عند لوقيبوس وديموقريطس نظرية مادية صرفة، بينما هي عند المعتزلة غير ذلك تماماً.
ويلاحظ ان هامش الإبداع عند المعتزلة انتهى مطافه، وحط رحاله عند علمين كبيرين من أعلامهم، ولم ترزق هذه المدرسة بمن يفوقهما بعد رحيلهما، وهما كل من أبي هاشم الجبائي من معتزلة البصرة، وأبي القاسم الكعبي من معتزلة بغداد، وإن وجدنا بعدهم أعلاماً محققين وكتبة مجيدين مثل القاضي المعتزلي وتلاميذه إلا انهم يصرحون انهم من البهاشمة أي من تلامذة أبي هاشم غير المباشرين، أي من متابعيه في فلسفته. أما ابن الأخشيد ومن تحلق معه فيعدون من تلامذة أبي القاسم الكعبي وكذلك الحال مع المعتزلة الزيديين في اليمن.
ويلاحظ ان هامش الإبداع عند المعتزلة انتهى مطافه، وحط رحاله عند علمين كبيرين من أعلامهم، ولم ترزق هذه المدرسة بمن يفوقهما بعد رحيلهما، وهما كل من أبي هاشم الجبائي من معتزلة البصرة، وأبي القاسم الكعبي من معتزلة بغداد، وإن وجدنا بعدهم أعلاماً محققين وكتبة مجيدين مثل القاضي المعتزلي وتلاميذه إلا انهم يصرحون انهم من البهاشمة أي من تلامذة أبي هاشم غير المباشرين، أي من متابعيه في فلسفته. أما ابن الأخشيد ومن تحلق معه فيعدون من تلامذة أبي القاسم الكعبي وكذلك الحال مع المعتزلة الزيديين في اليمن.
ويلاحظ أيضاً على مؤلفات تلاميذ القاضي المعتزلي، انها مطبوعة بطابع المقارنة بين آراء هذين العلمين، وخصوصاً كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين لأبي رشيد النيسابوري، والتذكرة في أحكام الجواهر والأعراض للنجراني، وكذلك بعض مؤلفات القاضي المعتزلي، الذي لا يخفي انتصاره لفلسفة أبي هاشم الجبائي مع إجلاله لجميع أسلافه من المعتزلة الذين يعدهم بمثابة آباء روحيين له.
وبناءاً على ما سبق يمكن القول ان فلسفة الكعبي تمثل جانباً من أصل جانبين يمثلان أعلى مراحل التطور الذي طبع بطابعة العصور المتأخرة لفلسفة المعتزلة.
ويتجلى هذا التطور لفلسفة أبي القاسم في انصع صورة في دائرة نظرية المعرفة، التي لا يخلو مفصل منها من رأي مبتكر له، يشابه في وجه التخريج والعرض والاحتجاج أحياناً، ما عرف من مذاهب اشتهرت على يد الفلاسفة الابستمولوجيين في بداية عصر النهضة الأوربي.
ونفس الشيء يقال على ميدان الفلسفة العملية، وأقصد الفلسفة الأخلاقية والسياسية فللكعبي مضاءات جديدة، أعلت من بنيان المعتزلة في هذا الجانب الفلسفي المهم، الذي حاول فيه ان يوازن بين الغاية الأخلاقية الخالصة التي تطمع الفلسفة لتقرير أحقيتها بالعناية لذاتها، وليس لغرض آخر، وبين الحاجة الاجتماعية لمعايير ومقاييس أخلاقية واقعية ذات طبيعة عملية، يمكن الحكم بها على ما هو حسن أو ما هو قبيح من الأفعال، أو ما هو فضيلة أو رذيلة بلغة الفلاسفة.
والتمس أبو القاسم كحال بقية المعتزلة، ان يكون الحاكم السياسي، ذات مواصفات إنسانية وأخلاقية رفيعة المستوى، ولم يشترط فيه ان تكون هذه المواصفات خارقة للعادة، وإن جدارته الحقيقية لهذا المنصب، تلتمس من ممارسة فضيلته، وهي العدالة المستندة إلى أصل العلم، الذي يعد في عرفه من أهم شروط الإمام وأولاها بالتقديم، على النسب والفضل بالدين وما شاكل من شروط.
رحم الله أبا القاسم الكعبي، فقد كان فيلسوفاً مجيداً وبارعاً حقاً.
وختاماً نسأل الله تعالى ان نكون قد وفينا بجزء يسير من أفضاله وأفضال أقرانه من المعتزلة ولما أسدوه من خدمة جليلة لتاريخ وحضارة أمتنا العربية الإسلامية المجيدة، ولما جعلونا فخورين به أمام الأمم الأخرى أيضاً.