صور قديمة عن العراق
أمس الساعة ٤:٣٧ م ·
لويس زنبقة ملحن اول سلام جمهوري لثورة او انقلاب 14 تموز عام 1958 مع صورة الزعيم عبد الكريم قاسم والتي اهداها له الزعيم مع كلمة تهنئة بعرس لويس وزوجته ثريا..
كان لويس يسكن في شقة مطلة على شارع الرشيد مع أمه واخته وزوجها الإنكليزي الذي قدم مع الاستعمار البريطاني عام 1914، فهام بالعراق حبا ورفض أن يغادره.كما ذكرناهم في منشورنا السابق كان لويس يعزف في تلك الشقة، ويستمع إليه ثلاثة أطفال، بينهم ابنة اخته أمل بورتر. وحين كبرت هذه وأصبحت مؤرخة معروفة في الأوساط الأكاديمية العراقية والبريطانية، خصّت خالها بكتيّب ألفته عنه، وقالت في إحدى صفحاته إنها كانت تستمع إليه مع اثنين من الأطفال، وهو يعزف ويشرح لهم، كان حديثه حالما رقيقا، وروحه شفافة ساحرة، ونغماته عذبة، يغني مع العزف بصوت قوي وعميق، ثم يحكي قصصا عن الأوبرا وسيّر مؤلفي الموسيقى العظام، فيحزن الأطفال على موزارت الذي مات ولم يشارك في جنازته أحد، ويبكون لإصابة بتهوفن بالصمم. كان لويس يمثل أمامهم أدوار كل الشخصيات، ويتفاعل معها ويغني ويرقص سابحا بيديه في الهواء، أو طارقا بقدميه على الأرض وهو يؤدي رقصة الفلامنكو بوجه متجهم يعبر عن القوة والعزيمة، وكأنّه أمام جمهور عريض وليس أمام ثلاثة أطفال وحسب.
يذهب لويس يوميا ومعه الصغار إلى حديقة الملك غازي (حديقة الأمة) وكان يكتشف فيها في كل زيارة نبتة أو زهرة جديدة أو طائرا مهاجرا، ولم يكن يتوقف عن الإشارة إلى الأطفال الذين يتبعونه بالصمت، واضعا سبابته على فمه ويهمس:
ـ تنعموا بنغمات الطبيعة وشدو البلابل وحفيف أوراق الشجر، فإنها تأتي من السماء كي تسمو بأرواحنا…
تتلمذ لويس على يد الأستاذ حنا بطرس في معهد الفنون الجميلة، وتخرَّج في فرع الترومبون وتعيّن في المعهد نفسه سنة 1954 وأصبح مدرسا لآلة الترومبون ومادة الإملاء الموسيقي. وصار يأخذ معه الصغار الثلاثة إلى هناك، ويخاطبهم في الطريق:
ـ حين نصل إلى المعهد اجلسوا في أماكنكم بهدوء وسكون لكي تتمتعوا بالموسيقى، فهي هبة لا يملكها سوى الإنسان.
ويعزف لويس الضئيل الجسم على آلة الترمبون الضخمة الفضية اللامعة، فيختفي خلفها ولا تستطيع أمل رؤيته، لكنها على أي حال تسمع عزفه الساحر، الذي يتناغم مع الضربات الرقيقة لمفاتيح البيانو التي تبدعها أنامل بياتريس أوهانيسيان العازفة العراقية الأرمنية المعروفة. وفي كل مرة يعزف فيها لويس أو يحاضر، يظهر عليه الانفعال والعصبية، ويرتجف كأنه يمر بأزمة أو بنوبة، بسبب حماسته الزائدة، ولذلك لا يثير الجمهور ولا يعجبه، لأنه ببساطة لا يفهمه، والفكرة الوحيدة التي يحملها عنه أنه رتيب وممل، فيما يعتقد لويس أن هذا الجمع من المستمعين مجموعة من الأغبياء لا يفقهون الموسيقى ولا يهتمون بها ولا يرتقون إليها، فالموسيقى قدرة إلهية سماوية لا يتمتع بها سوى البشر المميزين الأقرب إلى الله.
اصطحب لويس الأطفال الثلاثة إلى السينما واشترى لكل منهم صمونة (نوع من أنواع الخبز) حارة، وحين خرجوا كانت الشمس قد مالت إلى الغروب. مشى أمامهم ومشوا خلفه بسكون حتى وصل إلى محل تسجيلات في حافظ القاضي، ووقف عند عتبته وتطلع إلى الداخل، ثم سأل البائع: (هل وصلتكم اسطوانات موسيقية جديدة؟). وحين أجابه البائع سلبا بإشارة من إصبعه، لوى لويس عنقه بعدم رضا ومشى مسرعا والأطفال يهرولون خلفه، وعبر معهم إلى الجهة الأخرى من شارع الرشيد ودخل إلى (مكتبة مكنزي). بقي فيها وقتا طويلا يسحب كتابا من الرف ويقرأ بعض سطوره ثم يعيده إلى مكانه. قال للأطفال وهو يعرض عليهم بعض الصور في مجلة أجنبية:
ـ هذا بتهوفن، وهذا باخ، وهذا برامز.. سأريكم في مجلة أخرى صور موزارت وهايدن وهندل…
يؤكد العازف الموسيقي والباحث باسم حنا بطرس وجود قطع موسيقية من تأليف لويس زنبقة، ففي عام 1952 أقيمت في كركوك جلسة استماع لمقطوعة من تأليفه عزفها بنفسه على البيانو، كما عزفت له الفرقة السمفونية قطعة موسيقية أخرى من مؤلفاته.
٭ ٭ ٭
انقطع لويس عن التدريس في معهد الفنون الجميلة وغادر بغداد إلى فيينا عام 1955 لإكمال دراساته العليا في الأكاديمية الموسيقية النمساوية. وبعد ثلاث سنوات قامت في العراق (ثورة) 14 تموز/يوليو 1958، قادها الزعيم عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف وعدد آخر من الضباط. كانت لدى الزعيم رغبة عارمة في إزالة الأسماء والرموز الملكية من البلاد واستبدالها بتسميات جمهورية جديدة، من بينها النشيد الملكي الذي وضعه الضابط الإنكليزي المشرف على موسيقى الجيش الكولونيل غولدفيلد Col Goldfield كان لويس آنذاك يواصل دراسته في فيينا، ولم تمض سوى أيام على سماعه عن تلك الرغبة، اتصل بعدها بموظفي السفارة العراقية في فيينا وعرض عليهم نوتة موسيقية ومعها تسجيل صوتي كامل للسلام الوطني الجمهوري الذي قام بتأليفه، وعزفه له زملاؤه في الأكاديمية الموسيقية النمساوية، وأرفق مع ذلك كتاب إهداء للجمهورية وللزعيم عبد الكريم قاسم الذي وافق عليه على الفور، وأمر باعتماده سلاما جمهوريا بدلا من النشيد الملكي السابق.
لقد كانت تلك فترة ذهبية في حياة لويس زنبقة، فتحت له فيها أبواب النجاح على مصاريعها، وقدم إلى العراق يغمره شعور لذيذ بالحماسة والقوة. كان قلبه طافحا بالحب والامتنان لهذه البلاد الجميلة ولزعيمها.. لقد تيقن أن مستقبلا زاهرا ينتظره وينتظر العراق تحت قيادة الزعيم.! قال لأفراد أسرته وهو يدفع الباب ويدخل منتشيا:
ـ حلم عمري تحقق.. لقد أنجزت عملا موسيقيا خالدا.. والأهم من ذلك أني سأقابل الزعيم عبد الكريم قاسم غدا !!…
أدخل لويس على زعيم الثورة عبد الكريم قاسم بسرعة وسهولة، ووقف له الزعيم مبتسما مرحبا، حياه وأثنى على عمله الموسيقي الفذ، ومنحه مبلغ ألف دينار، كانت تعادل ثروة حقيقية آنذاك، وأمر بإدراج اسمه ضمن البعثات الدراسية خارج العراق على نفقة الدولة، ثم أهداه صورته وعليها إمضاؤه مع إهداء خاص له. ومنذ تلك اللحظات تربع الزعيم عبد الكريم قاسم في قلب لويس واحتل كيانه وتفكيره، وأخذ يلهج بذكره ليل نهار، بمناسبة ودون مناسبة، ويجن جنونه حين يسمع أحدا يتكلم عنه بسوء. وقع لويس بحب إحدى الفتيات، وصارحها بحبه، فقالت له إنها مخطوبة لشاب آخر تحبه، واقترحت عليه أن يتزوج من اختها الصغرى (ثريا) التي تشبهها، فوافق على ذلك مرددا مع نفسه: (المهم إنها عراقية). وتزوج سريعا بمباركة الأسرة التي أمّلت خيرا من هذه الزيجة، متمنية عودة ابنها إلى استقراره النفسي بعد أحداث مروعة مرت على العراق بعد أقل من سنة على قيام الثورة، وغادر مع عروسه إلى فيينا، لكن ثريا لم تستطع مواصلة الحياة في بلاد الغربة وفي الجو الانعزالي الذي فرضه لويس ذو الشخصية المتذمرة والمنفعلة على نفسه، فتركته مع آلته وكتبه وعادت إلى بغداد. وبقي هو في فيينا يعاني من ألم الوحدة والصدمة. وحاول أن يواري ذلك خلف العزف والدراسة، لكن الإحباطات توالت، وكان يصاحبها تراجع شعبية عبد الكريم قاسم إلى أدنى مستوى، فأصبح لويس فريسة للنوبات العصبية وتداعياتها، دون أن يكون هناك من يسنده ويشد إزره ويعطيه ما يستحق من الحب والرعاية والاهتمام سوى ابنة اخته أمل بورتر التي كانت تسافر إليه وتخفف من معاناته.
٭ ٭ ٭
في 8 شباط/فبراير 1963 أطاحت (ثورة) أخرى بالزعيم عبد الكريم قاسم، وتمّ قتله على يد رفاقه الذين كانوا قد شاركوه في إسقاط النظام الملكي ولم يشركهم في الحكم. وتكرر المشهد الدموي السابق والرغبة بتبديل الأسماء القديمة بأسماء (ثورية) جديدة وإلغاء العلامات والرموز الوطنية السابقة مثل العلَم العراقي، وشعار الدولة، والسلام الجمهوري. وسمع لويس وهو في فيينا أن زعماء الانقلاب الجدد أمروا بإلغاء النشيد الذي لحنه واعتماد نشيد (والله زمن يا سلاحي) للملحن المصري كمال الطويل، الذي كان قد اعتمد نشيدا وطنيا لجمهورية مصر العربية منذ عام 1960… لقد هزت هذه الأخبار لويس هزا مريعا وجعلت حالته النفسية تسوء أكثر وأكثر.
هكذا اختفى لويس وضاع أثره.. خسر موهبته وخسر نفسه جراء حشرها في مواقف سياسية في بلد ضائع لا يعرف الاستقرار، وشعب لا يضع لمثقفيه وفنانيه أي اعتبار، وهم أس الحضارة ورمزها ووجهها.
مع سياسة الانفتاح في عهد أحمد حسن البكر وتشريع قانون عودة الكفاءات من الخارج في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1974، عاد لويس زنبقة إلى العراق وأسندت إليه إدارة الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية. وفي عام 1981 (في عهد صدام حسين) نُقل إليه خبر عن مسابقة لتلحين سلام جمهوري جديد، وتشكلت لجنة في دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الإعلام لفحص النماذج المقدمة إليها. فصرح لويس بأنه يرفض فكرة المسابقة، وأن السلام الجمهوري الذي ألفه وتم اعتماده عام 1958، لم يكن مكرَّساً لشخص عبد الكريم قاسم، بل للعراق وللعهد الجمهوري الجديد. ورفع مذكرةً بذلك إلى وزير الإعلام قال فيها إنه يجد السلام الجمهوري الذي قدمه عام 1958 يمكن اعتماده الآن ومستقبلا. ورفع الوزير المذكرة إلى ديوان الرئاسة، لكن.. صدر بعد أيام مرسوم جمهوري باعتماد نشيد (أرض الفراتين) ابتداءً من 17 يوليو 1981 وهو من كلمات الشاعر العراقي شفيق الكمالي وألحان الموسيقار اللبناني وليد غلمية. أما لويس فغادر العراق، تاركا كل شيء خلفه، لم يأخذ معه شيئا، سوى هموم طفح بها قلبه.
٭ ٭ ٭
عثرت أمل بورتر ومعها بعض الأقارب على خالها لويس في إحدى الشقق في فيينا، وجدوه في حالة نفسية سيئة للغاية، فقالت له بقسوة متوهمة إنه سيفيق من غفلته وأحلامه ويرجع إلى واقعه إذا طرقت أذنه بهذه الكلمات:
ـ إنك يا خالي عشقت زعيما يقول ولا يفعل، ولا إنجازات له سوى تغيير الأسماء ووضع حجر الأساس لمشاريع لم يُنفذ شيء منها.. لقد تردى الوضع الأمني في عهده، وازدادت الاغتيالات والفتاوى الدينية التي دعت إلى القتل وتحريم دخول الفتيات إلى المدارس! كان الزعيم يا خال دائم التخبط في مواقفه، فيؤيد الشيوعيين مرة ورجال الدين والقوميين مرة أخرى، ولا يحرك ساكنا إزاء ما يجري في البلاد من جرائم، بل يردد (عفا الله عما سلف) في وقت يحتاج فيه الأمر إلى الشدة والحزم.. هذه هي حقيقة زعيمك الذي تقدسه يا خال.
فصرخ بها لويس وهو يرتجف:
ـ أنا من اليوم لست بخالك.. لا أعرفك، ولا تعرفينني.. أنتِ تشتمين زعيمي! تهينين أعظم زعيم في الدنيا! اخرجي، اخرجي من بيتي…
قالت له أمل إنها أرادت أن تعيده إلى صوابه وتنقذه من خيالاته.. وتوسلت به، وبكت، وتراجعت عن قولها، لكن لويس لم يسامحها.. خرجت وهي تنتحب لعلمها أنّ هذه آخر مرة تراه فيها. وخرج هو بعدها من شقته، لا أحد يدري إلى أين، انقطعت أخباره عن أسرته وأقاربه وأصدقائه.. ثم بدأوا البحث عنه من جديد، لكن لم يعثروا على أي أثر له سوى قصاصة من الورق في احدى الشقق التي أقام فيها ثم غادرها بسرعة، كتب فيها بخط يده المنسق الجميل:
ـ لا تبحثوا عني.. سأختفي.. لن تجدوني أبدا..
هكذا اختفى لويس وضاع أثره.. خسر موهبته وخسر نفسه جراء حشرها في مواقف سياسية في بلد ضائع لا يعرف الاستقرار، وشعب لا يضع لمثقفيه وفنانيه أي اعتبار، وهم أس الحضارة ورمزها ووجهها. ولو إنه بقي في فيينا وانشغل بصقل موهبته الموسيقية وواصل دراسته ونشاطه وبحوثه هناك، لأصبح علما بارزا من أعلام الموسيقى العربية والعالمية، أكثر من كونه مؤلف السلام الوطني الأول في العهد الجمهوري وملحن قصيدة الجواهري (أخي جعفر) وعددا لا يعلمه أحد من القطع الموسيقية الصغيرة.. فقط.
حسين جبار إبراهيم
كاتب عراقي
************************
زيد خلف