حسيب كيالي في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
مئوية حسيب كيالي: الكاتب السوري ساخراً من علل زمانه
آداب وفنون
محمود منير
05 أكتوبر 2021
في نصّ "صندوق العجائب" الذي تضمّنته مجموعة "حكاية بسيطة" (1972)، يكتب حسيب كيالي رسالةً إلى سيادة الوزير، تُشكّل بناء قصّته كاملة، يردّ خلالها على إنذار وجّهه المفتّش الأوّل إلى بطلها بسبب تأخّره عن العمل مدّة سبع وثلاثين دقيقة، يبدأها بساعة الحشر التي تتكرّر كلّ يوم في موقف الباص في شارعه، ثم يسرد وقائعَ يومه التي تعبّر حتى لحظتنا الراهنة عن يوميّات كلّ موظف عربي في مؤسّسة حكومية.
يُشير القاص والروائي والكاتب المسرحي السوري (1921 - 1993)، الذي تمرّ مئة سنة على مولده هذا العام، في النص ذاته إلى مخالفةٍ أفظع من التأخّر عن الدوام، وهي عمله خارج وظيفته من الرابعة إلّا ربعاً وحتى الثامنة في مكتب للطباعة على الآلة الكاتبة لقاء أجر، ممّا يقع تحت طائلة العقوبة كما تنصّ الأنظمة، لكنه يعلم أن المدير لا يجرؤ على إيقاعها به، بالنظر إلى مخالفات بالجملة يقوم بها سائر الموظّفين والمسؤولين.
يسرد كيالي كيف يفرض المفتّش العام على الموظفين دفع ثمن كأسَيْ شاي يتشاركهما مع واحد منهم كلّ يوم، ورغم مجيئه للدوام مبكّراً، إلّا أنه يقضي نهاره نائماً في مكتبه وصوتُ شخيره يتردّد في الأنحاء، ويسرد امتناع بعض الموظفين عن التعامل مع "قَهَواتي" الوزارة كونه غشّاشاً وشحيحاً ومرابياً، والتهامس حول شراكته مع جِهةٍ عليا في الوزارة كما تُثبت سوابق ماضية، بينما يستغلّ المدير سائق الوزارة لتأدية مشاغله الخاصّة ويغيب عن مكتبه للقيام بمشاغل أُخرى، ناهيك بتوزيعه غير العادل للأجور الإضافية بحسب علاقته مع كلّ موظف، مُسائلاً في ختام رسالته التحقيقَ بشأن تأخّر مسكين مثله بضع دقائق بينما يحتاج منه شهرين وأكثر ليصف واقع "صندوق العجائب" الذي يسمّى وزارة.
خرج على الواقعية الاشتراكية التي تبناها معظم مجايليه
لا تفرغ جعبة صاحب "أخبار البلد" (1954) من تفاصيل صغيرة تنسج حياة الناس اليومية، ويربط أواصرها التي تبدو غير ذات أهمية، أو أنها لا تمثّل جوهر همومهم وأزماتهم، من وجهة نظر العديد من مجايليه الذين تبنّوا الواقعية الاشتراكية منذ أربعينيات القرن الماضي، حين بدأ الراحل نشر قصصه في الصحافة؛ إذ آمن بأن أفعال هؤلاء البسطاء وأحلامهم تصوغ متن كتاباته، من دون قسرها ضمن شعارات أيديولوجية وادّعاء تعبيرها عن أحداث وتحوّلات اجتماعية كبرى.
اتّسعت نصوصه لشخوص وحكايات استلّها من زحمة الطريق الذي ربما يكون في دمشق - حيث أمضى جلّ حياته - أو حلب التي درس فيها المرحلة الثانوية، أو أية مدينة سورية زارها أو عايش أحد أبنائها. لكنّ مخزونه الأوفر سيظلّ يستمدّه من ذاكرة طفولته في مدينة إدلب، حيث كان الريف كمكان وعلاقات إنسانية وأخبار عابرة البطلَ الحاضر في معظم ما يكتب، معيداً إنتاجها بقالب ساخر يميل إلى المبالغة والتضخيم أحياناً، ويكشف في الوقت نفسه معرفته واطّلاعه المعمّقين على ثقافة الشارع ومخيّلته وانزياح منطوقه في النكتة والشتيمة والمثل الشعبي، وبراعته في توظيف ذلك كلّه في إطار النقد اللاذع للمجتمع والسياسة والثقافة ورجال الدين بجرأة غير مسبوقة في طرح مفارقات لا تزال راهنة حتى اليوم.
يرسم حسيب بناءً مشهدياً للمكان الذي تدور فيه أحداث قصّته، حيث ينتقل بالقارئ من مشهد يُسهب في توصيف عناصره إلى آخر حتى تكتمل الصورة، كما في قصّة "الرياض السندسية" التي يستهلّها من لقاء يجمع الشيخ عبد الفتاح السلطي ومدير البريد منيب العطار في صيدلية سامي زين العابدين، فيركّز على حركاتهم وأصواتهم وهيئاتهم وحواراتهم التي تتطرّق إلى الانقلابات العسكرية المتلاحقة في سورية الخمسينيات، وابتعاد الشباب عن شؤون دينهم، وحرمة الرسم والفنون بحسب الشيخ، لكنّ الحدث الأبرز كان بالنسبة إليهم هو وصول حسني الزعيم إلى سدّة السلطة.
أفعال البسطاء وأحلامهم تصوغ متن كتاباته
يَمضي صاحب رواية "مكاتيب الغرام" (1958) بشخوص قصّته لاستذكار الزعيم الذي كان يستريح حين كان ضابطاً صغيراً في مكتب البريد، فينال حصّته من توبيخ منيب العطار، الذي يقرّر بعد استرجاع تلك الأيام أن يبعث إليه رسالةً يُذكّره بها، وتنطلق بعدها سخريةٌ لا حدود لها تبتدئ من عجزه عن كتابة حَرف، واستعانته بالشيخ الذي يطمئنه بأن الزعيم نفسه لا يُحسن القراءة والكتابة، وكيف أن الشيخ لم يُسعفه إلّا أحد الكتب الصفراء التي قرأها ذات يوم بعنوان "الرياض السندسية"، ليكتب صفحة ونصفاً ملؤها النفاق للرئيس الجديد. وما إن قرأ الزعيمُ "المكتوبَ حتى استدعاه إلى القصر الجمهوري، وهناك حين وصل منيب العطار رأى الحدائق تكتظّ بأمثاله من الناس، ثم صرفه سكرتيرٌ ما إن استمع لقصته، لأن اقتطاع خمس دقائق من وقت الزعيم - الذي لا يُثمّن - للقائه قد يتقرّر فيها تاريخ سورية لمئة سنة أو مئة قرن، وأن هذه الدقائق الخمس "تحتاجها البلاد كما تحتاج العين الضوء".
يحوّل كيّالي - الذي وُلد لأسرة ذات مكانة دينية ودرس الحقوق واشتغل في الإدارة الحكومية - كلّ ما يصادفه إلى طرفة، وربما كوّنت تلك الأنظمة الاجتماعية والقانونية والسياسية التي حكمت نشأته ودراسته الجامعية ووظيفته، موضعَ سخريته الأوّل، مندفعاً إلى تعرية نقائضها وزيف مظاهرها. حيث يوثّق جانباً من حياته الشخصية في كتابه "حكايات ابن العم" (1991)، فيُخاطب الآنسة منى إلياس: "أنا مثلما قال لك ابن العم خرّيج حقوق، سنة 1952 أُوفدتُ للتخصص بالحقوق الإدارية والحصول على دكتوراه فيها، ولكنّني لم أوفّق لأنني علِقت المسرح والإخراج المسرحي. كانت إقامتي في باريس مثلها مثل إقامتي في الحبس: من أخصب مراحل حياتي".
اتسعت نصوصه لشخوص وحكايات استلّها من زحمة الطريق
امتلك كيالي تدفّقاً وسلاسة في السرد، يُساعده في ذلك استخدامه للّغة المحكية والتشبيهات الدارجة بلا إقحام، والتي برزت في مسرحياته بصورة أوضح، بحيث بدت متناسبة مع طبيعة شخصياته والسياقات التي تحكم سلوكياتها العفوية والمرتجلة، غير ملتفتٍ للزخرفة البلاغية التي تفيض عن واقعٍ أدرك باكراً مكامن الجمال في بُعده الفطري. فأبو إبراهيم يحلق لجميع أهل القرية حِلاقة واحدة لا تتغيّر، وبائع الطبلة يفكّر بامتهان مهنة أُخرى بعد أن ولّى زمن الطرب، واجتماعات المسؤولين تبحث في كلّ شيء إلا المصلحة العامة.
في أعمال صاحب مسرحية "في خدمة الشعب" (1978) تتوالد الحكايات التي لا يلتقطها في كرنفال من الصخب والكلام والاستطرادات الطويلة، كأنه يقطعها من نقطة معينة ويعلم جيداً متى يبلغ بها إلى خاتمته؛ هكذا مرّ كيالي بين العابر والمألوف والمتداول، لكنه رأى فيه ما يضحك فيه على كلّ زمن أعيته طبائع البشر واعتلال ضمائرهم.