أدهم إسماعيل في مئويته: الفكرة التي سبقت اللوحة
آداب وفنون
محمود منير
29 يونيو 2022
"وراء القصبان" لـ أدهم إسماعيل، زيت على قماش، 1955
في عشرينيات القرن الماضي، ومع تأسيس أول المحترفات الفنية على يد عدد من التشكيليين السوريّين الذين درسوا في الغرب أو أتيحت لهم فرصة زيارة متاحف أوروبية، من أمثال توفيق طارق (1875 – 1940)، وعبد الوهاب أبو السعود (1897 – 1951)، سادت الانطباعية كتيار رئيس لدى معظم تلك التجارب.
ومع انتشار الأفكار القومية في سورية والعالم العربي، بدأ النزوع إلى الواقعية التسجيلية لدى فنانين آخرين، ومنهم أدهم إسماعيل (أنطاكية 1922 – دمشق 1963) الذي يُحتفى هذا العام بمرور مئة عام على ميلاده، حيث تمكّن من تطوير تجربته في هذا الاتّجاه نتيجة اطّلاعه على اتجاهات حديثة متعددّة كالسوريالية والتجريدية والمستقبلية وسواها.
وُلد الفنان في عائلة مهتمة بالفكر والأدب، حيث كتَب شقيقه صدقي المقال والقصة والرواية والمسرحية والشعر، بينما اختار شقيقاه عزيز ونعيم السير على خطى أخيهم الأكبر أدهم، حيث جمع الأول بين الرسم والتدريس لسنوات طويلة، بينما عمل الثاني مخرجاً في الصحافة السورية إلى جانب تصميمه العديد من الجداريات وأعمال الفسيفساء.
تحوّل الشكل الإنساني والحيواني إلى وحدة زخرفية في لوحته
برزت خصوصية أدهم إسماعيل في جهوده الحثيثة نحو تأصيل حداثة فنية عربية قائمة على توظيف عناصر الأرابيسك والخطّ العربي والزخارف الهندسية، ساعياً إلى تحويرها في لوحته، ليتحوّل الشكل الإنساني والحيواني فيها إلى وحدة زخرفية مع تركيزه على التناغم اللوني وتنويع المساحات من أجل توليد أشكالٍ جديدة تعبّر عن الموضوعات السياسية والاجتماعية التي شكّلت هاجسه الأساسي.
ومنذ مشاركته الأولى في معرض أقامته "الجمعية العربية للفنون" في "معهد الحرية" الدمشقي عام 1942، تشكّلت نواة بحثه البصري نحو تأصيل التراث العربي وإحياء مفردات الفن في حضارات بلاد الرافدين وسورية القديمة بلغة وروح معاصرتين، وتابع خطواته في لوحات مثل "الزجل السوري" (1947) و"ألحان وعطور" (1950) و"الدبكة" (1950)، التي كرّست أسلوبه الخاص.
الصورة
(الفنان بريشة أخيه عزيز أسماعيل
أتتْ تعبيراته الفنية تمثيلاً للفكر القومي الذي آمن به، وخدمة للقضايا الاجتماعية والسياسية، كما قدّمها في لوحة "العتّال" (1951) الذي انحاز من خلالها إلى تصوير البسطاء والكادحين، وكذلك في لوحة "الفارس العربي" (1953) التي تركّز على نهوض الأمة العربية؛ أمّا لوحة "أسرة مشردة في شارع" (1950)، فقد وضعها تأثّراً بنكبة فلسطين التي تحوّلت إلى موضوع تعدّدت معالجاته لدى فنانين سوريين آخرين في تلك المرحلة.
رغم التحاق إسماعيل بـ"كلّية الفنون الجميلة" في روما عام 1952 (لم يكمل دراسته للقانون في دمشق)، إلّا أن اطّلاعه على أحدث التقنيات والمعارف في الأكاديميات الأوروبية لم يغيّر منظوره الرومانسي للفنّ، إذ يبدو أنّ احتلال الإسكندرون؛ مسقط رأسه، ومعايشته الأحداث السياسية في تلك الفترة، طبعا تجربته حتى نهايتها.
بعد عودته من إيطاليا، عيّن معلماً في إحدى مدارس درعا لثلاث سنوات واصل خلالها الرسم مع تنويع في موضوعاته التي استحوذت عليها حياة الفلاحين في حوران وأشغالهم اليومية، إلى جانب لوحات تتعلّق بهموم قومية كما "بور سعيد" (1958)، قبل أن يُنتدب للعمل في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالقاهرة 1959، أيام الوحدة مع سورية، ويرسم هناك أعمالاً مثل "الطائر يفكّ قيده" (1959) و"زلازل أغادير" (1960).
الحرّية والثورة والنضال كانت المفردات المتكرّرة في معظم ما قدّمه إسماعيل خلال حياته القصيرة التي لم تتجاوز الواحد والأربعين عاماً، وظلّت الفكرة تهيمن على تجربته وتحدّ من آفاق التجريب والتجديد لديه، إذ يشير مؤرّخ الفنّ السوري عفيف بهنسي في كتابه "الفن التشكيلي العربي" (2003) إلى أن إسماعيل "يُعتبر رائداً في مجال السعي نحو تعريب الفن، ولكنه يبدو كالباحث الذي يضع النظرية ويسعى إلى إثباتها عن طريق التجارب؛ فالفكرة عند أدهم سابقة للمحاولة، والطريقة سابقة للممارسة، لذلك فإن بلاغة الأسلوب عنده أقوى من فنّياته".
لا تنسحب هذه النقطة على تجربة أدهم إسماعيل وحده، في لحظة تاريخية كانت الأيديولوجيا تحكم الفنان السوري على حساب البُعد التِقني والفنّي، ما جعله يُخفق أحياناً في تحقيق الانسجام بين موضوع لوحته وبين بنائه لها. لم يغادر إسماعيل تلك المساحة، غير أنه قدّم محاولة أولى في سياق توطين الحداثة كامتداد لموروث حضاري عربي؛ اجتهادٌ أصاب في مكان وأخطأ في أمكنة أخرى.