حكايات من حلب
خان الجمرك يعتبر ساحة ترانزيت في العهد القديم ،ومركز تحديد الاسعار والعملات في العهود التالية .
بني خان الجمرك في فترة عصيبة بداية الحكم العثماني عام 1574 .
وبناه الوالي ابراهيم باشا خان زادة .
عين السلطان سليم الثاني الوالي ابراهيم باشا خان زادة بناء على توصية والدته خرم شاة زوجة السلطان سليمان القانوني .
وللسلطانة خرم شاه اسماء كثيرة حيث ولدت في اوكرانية ارثوذوكسية( روكسلانا او انستازيا ) وسبيت اثناء الحرب مع مملكة بولونيا ،لذلك كانت تعرف قيمة حلب وانطاكية من الناحية الدينية على الرغم من اعتناقها الاسلام فيما بعد ،وارادت السلطانة احياء حلب وانطاكية من جديد بعد محنة تيمورلنك التى حصلت قبل مائة وسبعين سنة اي في عام 1400 ميلادي .
ولم يتح للسلطانة ان ترى حلب عامرة خلال حياتها حيث توفيت عام 1558بعد ان مهدت الطريق لإبنها سليم الثاني لاستلام العرش ،لكن تم لها ماارادت بعد موتها .
بنى الوالي ابراهيم باشا زادة خان الجمرك في اوج الصراع بين العثمانيين والصفويين ،وكان الخان من اوائل الابنية المدنية التي بنيت في حلب بعد محنة تيمورلنك .
ولخان الجمرك هدف عسكري يوازي الهدف التجاري ،حيث ان التجارة مع الهند والصين كان لابد لها ان تمر عبر الصفويين ،وخاف العثمانيون من الجواسيس المندسين مع التجار ،لذلك بنو خان الجمرك لحجز القوافل القادمة من جهة الشرق ،فقد كانوا يرافقون القافلة ويدخلونها الى حلب ليلا ثم يحتجزون التجار والجمال وكل القافلة داخل الخان ،ويقدمون لهم جميع الخدمات ،وفي الصباح يدخل تجار حلب فيبيعون ويشترون ،وبعد اسبوع تخرج القافلة مع مرافقة عسكرية ليلا الى خارج حلب ،وبذلك لايرى التجار اي شيئ عن احوال الناس او التحصينات او المؤن او عدد الجنود والمدافع .
وهذه الطريقة مازالت متبعة في الجمارك الى يومنا هذا ،حيث ان ساحة الترانزيت موجودة في اغلب النقاط الحدودية بين الدول ،وكذلك ترفيق القافلة مع قوة من الجمرك حتى تعبر من دولة الى اخرى دون توقف.
لكن التحريج لم يمنع الجواسيس من متابعة عملهم ،حيث كانوا يأخذون المعلومات عن طريق التكلم بالالغاز مع عملاء لهم داخل المدينة ، فتظن انهم يتحدثون في التجارة ،لكنهم يرمزون بالكلام ويقصدون اشياء اخرى ،فعلى سبيل المثال :
يقول احد التجار الجواسيس للعميل داخل المدينة :
- كم جملا لديك
يرد عليه العميل :
- لدي اربعة جمال شرق المدينة وخمسة جمال غربها
ويقصد بالجمال هنا المدافع ،وبهذه الطريقة تتم عمليات التجسس.
واستمر هذا التحريج على القوافل حتى عام 1746 بعد معاهدة كردان بين العثمانيين والصفويين حيث ضمنت هذه المعاهدة حرية حركة القوافل .
وخلال فترة التحريج على القوافل استقبل الخان البعثات الانكليزية والهولندية ،لكن هذه البعثات كانت تتحرك في حلب بحرية اكبر ،إلا انهم كانوا مراقبين بشكل لطيف ودقيق من قبل العثمانيين ،ويتعاملون بحذر مع طبقة التجار الكبار فقط ولايسمح لهم بالاختلاط بالعامة .
واما عن تحديد اسعار البضائع فقد كان يتم بطريقة معقدة من الاتصالات ،بعضها عن طريق اشارات المرآة في برج القلعة الذي يرسل الاشارات الى جبل الزاوية ،ومن جبل الزاوية الى عدة نقاط حتى اسكندرون ،فيعلم التجار عدد السفن التي ترسو في اسكندرون مباشرة والبضائع القادمة .
كذلك كانت الاخبار تأتي من جهة الشرق عن طريق الحمام الزاجل الذي يربط حلب مع قلعة جعبر ومسكنة ،وتصل اخبار البضائع القادمة الى خان الجمرك بالتو واللحظة ويتم تحديد اسعارها مثل بورصة (وول ستريت) تماما .
خان الجمرك في القرن التاسع عشر
توقف التراسل بالمرآة بين حلب واسكندرون في عهد خورشيد باشا ،واقتصر على الرسائل العسكرية فقط ،وذلك لمنع التمرد والتنسيق بين المدن خلال ثورة حلب عام 1818 ,بينما نشطت تلك المراسلات بين القلعة التي حوصرت من قبل العامة وبين تلة ابو الوفا ،حيث تحصن خورشيد باشا في تكية ابو الوفا ،وكانت تصله اخبار المدينة الثائرة عن طريق المرآة واصوات المدافع المتفق عليها مع القلعة .
مر خان الجمرك بعد تلك الاحداث بفترة ركود استمرت حتى دخول التلغراف الى حلب نهاية القرن التاسع عشر وكان مركز التلغراف في مكان النجدة الحالي نهاية التلل ،فعاود نشاطه ليكون مركز البورصة في الشرق .
خان الجمرك في القرن العشرين
مع دخول الهاتف ( الترانك ) الى المدينة في الثلاثينات نشط خان الجمرك ،لكنه فقد عالميته واقتصر على ان يكون مركز البورصة في سوريا فقط ،وذلك بسبب سايكس بيكو التي جعلت من حلب مدينة حدودية هامشية بالنسبة لباقي انحاء العالم ولم تعد مركز العالم القديم .
ولعل سايكس بيكو كانت من اهم الاسباب التي جعلت ميناء مسكنة ( بالس ) يتوقف نهائيا بعد بناء الجسر المعلق في دير الزور والجسر القديم في الرقة ،فجعلت الملاحة والنقل التجاري مستحيلا ( انظر الى المنشورات السابقة ).
تحول خان الجمرك من مركز للوكالات الاجنبية التجارية ( بريطانيا وهولندا ) الى مركز للوكالات بين حلب وباقي المحافظات وضعف التداول ،وكان لكل محافظة وكيل مفضل يتعامل معها ،وسنذكر في ذيل المنشور حادثة مع احد هؤلاء الوكلاء مع محافظة الحسكة تعطينا فكرة عن تحول الخان في القرن العشرين .
استمر الحديث بالالغاز والترميز بين التجار ،ولكن هذه المرة ليس لأسباب عسكرية وانما لأسباب اقتصادية ،حيث ان القوانين تمنع الناس من التداول بالعملات الاجنبية ،لذلك يلجأ المضطر الى خان الجمرك للحصول على القطع الاجنبي بهدف السفر الى الحج او العمرة او الدراسة في الخارج او السياحة ،ويتعامل التجار في هذا السوق بالدولار سرا ويرمزون له برموز بقيت في خان الجمرك منذ زمن الحروب القديمة .
يدخل رجل الى السوق بحاجة الى دولار فيقول للتاجر :
- احتاج الى نخب اول
الدولار يسمى نخب اول ،بينما الريال يسمى مبروم .
والدولار والريال السعودي هما العملتان الاكثر طلبا وخاصة في فترة الحج .
وفي خان الجمرك يمكنك رؤية كميات من الاموال لاتراها إلا في الافلام المصرية ،موضوعة بأكياس سوداء مثل تلك المخصصة للقمامة ،ويطلق عليها التجار اسما غريبا وهو ( وسخ ايدين ) تعبيرا منهم عن ان المال هو قذارة في هذه الحياة ،وأن سمعة التاجر وامانته هي من الباقيات الصالحات .
والعجيب ان من ينقل هذه الاموال بين المحلات هم اجراء يافعين لايلفتون النظر يتصفون بالأمانة والحنكة منذ نعومة اظفارهم .
لكن هذه الصفات الرائعة لتجار خان الكمرك تلاشت بعد محنة الكلاس وامينو عام 1995 , حيث تبخرت سمعة التاجر الحلبي الحسنة وغابت الثقة بين الناس وكثر الكذب والنصب .
ويروي المرحوم الوالد( جمعة الاحمد ) حادثة حصلت مع صديقه احمد ملا وهو تاجر مرموق لديه محل في الطابق العلوي من الخان وينحدر من مدينة المالكية في ريف الحسكة ويمتلك آل الملا عدة محلات في خان الجمرك كوكلاء تجاريين بين حلب والارياف :
( في عام 1979 جاء تاجر غير معروف الى محل احمد ملا وعرض عليه كمية آلاف الامتار من قماش الستائر الرخيص الذي يصلح للأرياف ،وكان سعره رخيص جدا ،فأصاب احمد ملا من هذه الصفقة ربحا كبيرا،حيث نفقت بسرعة وكان يبيعها كاش
لكن قلبه لم يكن مرتاحا للمصدر ،لان شعار التجار في حلب هو ( الرخص بخوف )،فقرر التحري عن مصدر البضاعة فأخذ مسطرة وذهب الى العرقوب ،فقالوا له انها بضاعة الحاج فلان وهو اشهر صناعي في حلب في هذا المجال ،فذهب الى معمل الحاج فلان وقابل الحجي الكبير وطلب منه شراء كمية من قماش البرادي .
لكن الحاج فلان اجابه انه لايبيع هذه الاقمشة في سوريا اطلاقا ،بل هي عقد مع الاتحاد السوفيتي ،وتذهب مباشرة من المعمل في العرقوب الى ميناء اللاذقية ،ولم يحصل انه باع اي كمية في حلب ،ثم إن السعر الذي اشترى به احمد ملا هذه البضاعة هو اقل من ثمن الكلفة .
وبينما هما في حيرة من امرهما دخل المحاسب الذي يعمل عند الحاج فلان ،فعرفه احمد ملا ،لأنه هو التاجر المزيف الذي باعه البضاعة ،وتم كشف المحاسب. واعترف انه كان يسرق بعضا من البضاعة ويحملها في سيارات بيكاب على اساس انها بضاعة تالفة ( سأط ) ويسجلها تالفة في الدفتر .
في اليوم التالي كان احمد ملا يحمل كيسا كبيرا من المال ويضعه على طاولة الحاج فلان ،لكن الحاج فلان لم يأخذ منه سوى نصف المال ،وحمل مع احمد ملا نصف الخسارة.
وقبل ان ينصرف احمد ملا توسط عند الحاج فلان لكي يسامح المحاسب ،فقد كان احمد ملا ذا قلب رحيم ،وقال له :
- ارجو منك ان تعفو عن المحاسب فلاتشتكي عليه ،لديه اولاد وعائلة ،و الرحمة تأتي فوق العدل .
اجابه :
- سأعفو عن سرقاته ولكنني سأكتفي بطرده من العمل . )
هكذا كانت العلاقة بين الصناعي والتاجر ،وبين رب العمل والعامل ،لكن هذه العلاقات تغيرت كثيرا بعد محنة الكلاس وامينو .
هذه بعض من حكايات خان الجمرك ،لأن جميع حكاياته لا تتسع لها اضخم المجلدات ،واما عن الزخارف والنقوش والمقرنصات في خان الجمرك فسنترك الحديث عنها لغيرنا ،لأن صفحتنا تعتني بالإنسان والعلاقات الانسانية المفقودة ، فالحجارة هي بضاعة رخيصة موجودة في كل زمان ومكان .
عدنان جمعة الاحمد
Abdellatif Akremi مع Jalal Shekho