صورة الأم المضطربة في أفلام زكي فطين عبدالوهاب
كتبت/ منار خالد
بداية من تجول الكاميرا في شوارع وسط البلد، مرورًا بـ إشارة حمراء تنم عن إنذار بعدم التحرك أو التقيد وعدم القدرة على أخذ فعل دون إذنها، أي: براح يعقبه قيد، ومنها إنتقالا إلى عالم أكثر انغلاقًا وتقيدًا نحو غرفة مبعثرة بها الأشياء هنا وهناك تسيطر عليها الصور بين "فطين عبدالوهاب، منير مراد، ليلى مراد" يحتلون حوائط الغرفة الأربعة بشكل أشبه بالحصار، وشريط صوت ينقل إلينا صوت ليلى مراد، والكاميرا مازالت مستمرة في الرصد وصولًا لشاشة التليفزيون والتي لا تختلف كثيرًا عما هو مُعلق على حوائط الغرفة: من صورة ليلى مراد وفيلم سينمائي لها يعرض على الشاشة، تلك الشاشة التي تعتبر بمثابة ملاذ بطل الفيلم الوحيد، ذلك العالم السحري الذي يريد أن يتخذه طريقًا كي ينجو به من ذاك الحصار، ليجد فيه أن أمه تحاصره عن طريق ذلك الوسيط لا محالة، ومنها لحالة وحدة حقيقية بنظرته لصورة "مارلين مونرو" وتتبع الكاميرا لتفاصيل جسدها الأنثوي وكأنها هي عين شخصية البطل ذاته وهو يتفحص ذلك الجسد المثير حتى يسكب الخمر على سرواله، إشارة نحو اندماجه التام معها كأنثى وعوضًا عن إثارته الجنسية، لتكون هذه المشاهد هي المرحلة التأسيسية الأولى التي تقوم بتعريف شخصية البطل "حسن"/ ممدوح عبدالعليم، في فيلم "رومانتيكا" وهو الفيلم الوحيد الذي أخرجه زكي فطين عبدالوهاب عام 1996، وهو من تأليفه أيضًا، بداية من ذلك يبرم زكي مع المتلقي عقد أنه يقدم حياته على الشاشة، ويبين حصارًا تامًا أراد توضيحه منذ البداية، تأكيدًا منه على أنه ربما توجه نحو إنتاج إبداعي مثل ذلك حتى يتحرر، كعادة أفلام السينما الذاتية، أو العمل الفني أو الأدبي الذاتي عمومًا، إذ يتوجه المبدع نحو تصوير ذاته سينمائيًا والنبش في مكنونه النفسي، فهي أعمال تسعى لتأريخ جزء من حياته، ولكن ليس ذلك هو الغرض الوحيد منها، فربما أثناء مراحل العمل واكتشاف الذات يتضح له أنه غير قادر على إظهار كل ما بداخله، أو ربما يتوجه نحوها كي يمارس حالة تطهير ذاتية، أو يقرر أن يُضيف للذات بعض الاضافات الدرامية، أو يقدمها كما عاشها أو كما عايشها وراءها إذا ساع القول ذلك، لكن من المؤكد أنها أعمال ذات بعد إنساني في المقام الأول، ذات تتعامل مع شخصها، بين قسوة أو لين وذوات فاعلة وذوات أخرى مؤثرة، تبقى هي الذات التي تدور حولها الأحداث، تتجادل مع المتلقي في تساؤلات عدة عن ذلك الربط وما به من جرأة في الكشف عن النفس، والتحدث بلسان حال المراحل أو اختيار مرحلة معينة للحديث بلسانها بين كافة مراحل عمره كافة، وغيرها من العوامل التي تؤدي لاشتباك حقيقي بين المبدع وذاته، ومن بعدها بين المبدع والمتلقي.
وعلى ذلك المنوال سار زكي، الذي أراد أن يعرف الجمهور بنفسه عن طريق فيلم سينمائي ذلك الملجأ الوحيد الذي وجد فيه القدرة للتعبير، لذا فاعتبار زكي هو حسن، أو حسن هو مرآة زكي، تبقى الشخصية واحدة، رغم اختلاف الأسماء، وربما كان الاسم الذي اختاره أن يكون بطلًا لفيلمه هو أيضًا الاسم الذي كان يريد أن يشب عليه، ولكن محاصريه هم من اختاروا له أن يكون "زكيًا" وهو اضطر لمسايرة ذلك الوضع رُغمًا عنه.
إذ أن محاولات البحث وراء شخص زكي فطين عبد الوهاب جميعها غير مجدية للتعرف عليه بصورة أقرب إليه، بخلاف كونه سليل عائلة شهيرة بين ليلى مراد وفطين عبدالوهاب ومنير مراد وزواجه من سعاد حسني وغيرها من المعلومات المتداولة، إلا أن معرفة الشخص بذاته لا يمكن العلم بتفاصيلها إلا عن طريق مشاهدة فيلمه الذي أراد أن ينقل من خلاله جزء من سيرته فقام بتأليفه وإخراجه ومن قبله يمكن النظر لتجربة يسري نصر الله بتأليف وإخراج فيلم مرسيدس عام 1993 الذي اختار فيه "زكي فطين عبدالوهاب" أيضًا ليقوم ببطولته ومنه وجدت بعض المحاور التي اشتبكت مع فيلم زكي الوحيد رومانتيكا، والتي ربما تكون مجرد تأثر بأسلوب الكتابة والإخراج ولكن في الوقت نفسه هي محاور تلاقت بين كل من المخرجين بل وتلاقت مع زكي بذاته وما أراد إظهاره في سيرته الذاتية عن طريق السينما.
-الأم محاصرة ومحبة
فما ظهر من حصار للأم في فيلم رومانتيكا، لا يقل عمًا ظهر من ملامح الأم التي قدمت شخصيتها "يسرا" في فيلم مرسيدس الذي يبدأ بالتأسيس لحياتها قبل ظهور الابن، بتعريفها الأساس لوجوده، وتتبع ماضيها الذي أنتج نجلًا غير شرعي لها وهو "نوبي" الذي قدم دوره زكي عبدالوهاب، ومنها لصورة تلك السيدة التي يبجّلها الجميع، والتي تتواطأ لإثبات مجون ابنها حتى تستطيع السيطرة عليه، ومن بعدها علاقة مضطربة تنشأ بينها وبين الابن، إلى أن تظهر الشخصية المقابلة لها "عفيفة" وهي راقصة تقطن حيًا شعبيًا، وقدمت دورها "يسرا" أيضًا، وذلك لأسباب عدة أولها خلق ثنائية متقابلة بين (العهر/ العفة) من وجهة نظر المجتمع، بداية من اسم الراقصة العفيفة، في مقابل الأم التي تتسم بالعفة في نظر المجتمع ونجلها من نسل غير شرعي، بينما الراقصة التي قد تبدو للبعض عاهرة ولكنها مخلصة محبة بصدق لهذا الابن نفسه، ويبقى العامل المشترك بين السيدتين هو "نوبي" بذاته ذلك الرجل الذي يعلم أنهما شبيهتان حد التطابق على مستوى الشكل، ولكنه يجد في "عفيفة" ما لم يجده في أمه، أو ربما ما أراد أن يجده في أمه، لذا قدمت الممثلة بذاتها الدورين معًا لإحداث نوع من أنواع التخبط الممزوج في رغبة التعويض عمًا فقده في أمه، بالإضافة لإشارة نحو رغبته في أمه ذاتها، تلك العلاقة المُعقدة التي تتأكد في نهاية الفيلم نحو قبلة بين نوبي وعفيفة التي لا فارق بينها وبين الأم على مستوى الصورة أمام الشخصية وأمام المتلقي أيضا، لكن على الجانب الآخر في فيلم "رومانتيكا" نجد صورة الأم مشوشة رغم وضوح ملامحها، مما يؤكد أن الأم "ليلى مراد" بذاتها، على الرغم من ذلك لم يكن لها حضور فعلي داخل الفضاء الدرامي في الوقت ذاته فهي لها حضور قوي ومؤثر رغم الغياب الجسدي، بداية من ذلك الحصار المذكور، مرورا بمكالماتها الهاتفية التي لم يظهر ولو لمرة واحدة صوتها عبرها، وفي كل مرة يظهر فيها الابن كرد فعل لكلامها، وهذا هو الوضع المؤكد الذي يرى فيه الابن ذاته دائمًا وأبدا في حضورها، لذا كانت الصورة السينمائية هي المعبر الأول عن حالته، وبما أن المخرج هو زكي نفسه فقد توجه نحو أسلوب إخراجي يعتمد على الPoint of view أي أن الكاميرا تكون في هذه الحالة هي عين البطل والفيلم كله يدور من وجهة نظره، تلك النظرة التي تعمد فيها أن يُقصي هذه الأم من الحضور سواًء على مستوى الحضور الجسدي أو حتى الصوتي، حتى يتأتى له السيطرة على الفيلم بأكمله، وإثبات حضوره الذي طالما شعر باضطرابه في وجودها.
أما عن "نوبي" وعلاقته بعفيفة في فيلم "مرسيدس"، فهي علاقة كاشفة لأبعاد الرغبة الكامنة في الأم، وما يعانيه البطل من عقدة أوديبية نحوها، حيث يستخدم مصطلح "العقدة الأوديبية" في علم النفس كما عرفه "سيجموند فرويد" بأنه وصف الحالة النفسية التي يكون فيها الطفل متعلقًا بأمه بشكل مرضي، وفسر ذلك على أنها مجموعة من الأحاسيس الموجودة في العقل الباطن للطفل تجاه أمه مما يجعله متمسكاً بها طوال الوقت ولا يستطيع التخلي عنها أبدًا، أستنادًا إلى حادثة أوديب الشهيرة كأسطورة إغريقية تحولت لمأساة جادة على يد سوفوكليس يُضرب بها المثل في علاقة الابن بأمه إذا كان فيها شيء من الرغبة أو الغيرة المفرطة أو التعلق الزائد عن الحد.
-حضوره الفعلي.. شذرات متناثرة
على الرغم من سعي البطل "حسن" في رومانتيكا على إقصاء الأم والعائلة وإثبات حضوره الفعلي عن طريق وجود الشخصية بذاتها داخل فضاء الأحداث، إلا أن ذلك لا يمنع أن شخصية "زكي عبدالوهاب" بنفسها ظهرت كشذرات مُقسمة أحلامه على شخصيات أخرى لم تكن هو، حيث اختياره للاندماج مع مجموعة "الخرتية" في الفيلم، هذه المجموعة الشابة التي تقوم بالتعرف على السائحين وعرض خدمات عليهم من مشتريات رخيصة الثمن وإقامة حفلات لهم وإرشادهم الى الأماكن الأثرية ويصل أحيانا الأمر إلى حد بيع المخدرات أيضا وكل ذلك مقابل المال، وحسن بينهم يعيش حياة الصعلكة البعيدة كل البعد عن ارستقراطية عائلته الاصلية، ولم يأتِ مشهد واحد به احتكاك مع بيئته وعائلته، ومنها نحو أحلامه التي نشاهدها مُقسمة بينه والخرتية، فهو ذلك المخرج الذي يريد أن يُنتج فيلمًا عن هؤلاء، وهم بذواتهم من يحلمون أحلامه، أولا حلم تحقيق الفيلم الذي يتوقف على وجودهم، وأحلام أخرى قسمها على شخصياتهم، بين شخصية شاب يراوده حلم الهجرة، وآخر تزوج من أمريكية وهربت بطفله خارج مصر، وبالنظر في حياة زكي عبدالوهاب بذاته، نجد أنه هو الآخر راوده حلم الهجرة بل وحققه لذا فكان تقديمه داخل الفيلم بهدف رصد هذه التجربة وما بها من تهور وقرارات غير محسومة، كما أنه تزوج أيضًا بالفعل من سيدة أمريكية هربت بطفله وهو مازال بأحشائها وتوفى زكي وهو لم يعرف حتى جنس ذلك الطفل ولم يره ولو لمرة واحدة في عمره كله، لنجده داخل الفيلم يقسم أحلامه على غيره ليشاركهم فيها ويتشارك معهم وكأنهم جزء منه وهو أيضًا جزء منهم، ينتمي لهم لا لغيرهم، بل ويحقق أحلامه التي لم يستطع تحقيقها في الواقع من خلالهم، عن طريق إضافة بعض اللمسات الدرامية لذاتيه في فيلمه، ومنها نجد حلم عودة الطفل يتحقق، بل والأدهى أنه قد حدد نوعه في الفيلم كما تمناها أنثى وأسماها "ياسمين" وكتبها في السيناريو وأخرجها تأتي لوالدها ومن ثم يأتي بها والدها إلى حسن/ زكي ويتركها له، ومنها يؤكد على الاندماج ذاته نحو عدم انفصاله عن هؤلاء الخرتية، بل وتحقيقهم لاحلامه التي لم يكن قادرا على تحقيقها في واقعه.
أما عن عائلة البطل في "مرسيدس" فصورها نصرالله عائلة في ظاهرها متألقة بينما في باطنها عائلة مشينة ترتكب جرائم وبينهم علاقات غير مشروعة، ومنها يذهب البطل لحياة الصعلكة ذاتها المذكورة سلفًا، لينخرط بطبقة الراقصة عفيفة وتلك البيئة الشعبية البعيدة عن ذلك الزيف في الطبقة الثرية، التي رأى فيها نصر الله أن الابن غير شرعي بل وهجين بين أب نوبي وأم شقراء، وسار على ذلك الانقسام طوال تعريفه بالشخصية أولا على مستوى المظهر فهو قمحي البشرة شعره أشقر، يؤمن بالاشتراكية والمساواة والعدل وهو سليل عائلة لم يكن في قاموسها مثل هذه الأفكار، وتناقض يلي تناقض ليحقق شخصية بها مناطق متقابلة كان السبب الرئيسي فيها هو وجود الأم، وتظل الشخصية في تخبط مستمر حتى تقف على باب "عفيفة" لتستقر، ولكن تبقى الأزمة قائمة نحو التعلق بالأم واختيار صورة المرأة التي تشبهها بل والتقت معها ليس على مستوى الشكل فقط، بل عن طريق قلب الظاهر إلى باطن فيما بينهما والعكس، حيث سيطرة جانب العفة على شخصية الراقصة الذي طالما حلم الطفل بأن تسير أمه عليه، وعلى الرغم من التطرق نحو تلك المتناقضات إلا أن ذلك يعتبر مستوى أوليّ للتأويل، فما تبادر من عفة وعهر بين كل منهما، ما هو إلا قشرة خارجية يمكن تفسيرها لعدة تناقضات أخرى، حتى وإن كانت هي المقصودة بذاتها داخل الفيلم، ولكن يبقى التناقض الحقيقي وما به من أطراف ثنائيات متضادة في شخص المبدع المشترك بين عالم السينما وعالمه الحقيقي، حين قال زكي عبدالوهاب بنفسه في أحد اللقاءات التليفزيونية ذات يوم، أنه نشأ على وجود أمه كسيدة عادية للغاية تؤدي دورها كأم تسعى للحفاظ على عائلتها وأولادها، وفي المقابل يرى صورتها بالتلفاز تلك النجمة التي تشبه أمه ولكنها لم تكن هي، وذلك لأن ليلى مراد قد أعلنت اعتزالها قبل ولادة زكي، لذا فأمه في نظره امرأة بسيطة في مقابل تلك النجمة التي لم يعاصر نجوميتها ومجدها إلا عن طريق الأثر ومن ثم محاولاته للتخلص منه.
المصدر صفحة سينما العالم
كتبت/ منار خالد
بداية من تجول الكاميرا في شوارع وسط البلد، مرورًا بـ إشارة حمراء تنم عن إنذار بعدم التحرك أو التقيد وعدم القدرة على أخذ فعل دون إذنها، أي: براح يعقبه قيد، ومنها إنتقالا إلى عالم أكثر انغلاقًا وتقيدًا نحو غرفة مبعثرة بها الأشياء هنا وهناك تسيطر عليها الصور بين "فطين عبدالوهاب، منير مراد، ليلى مراد" يحتلون حوائط الغرفة الأربعة بشكل أشبه بالحصار، وشريط صوت ينقل إلينا صوت ليلى مراد، والكاميرا مازالت مستمرة في الرصد وصولًا لشاشة التليفزيون والتي لا تختلف كثيرًا عما هو مُعلق على حوائط الغرفة: من صورة ليلى مراد وفيلم سينمائي لها يعرض على الشاشة، تلك الشاشة التي تعتبر بمثابة ملاذ بطل الفيلم الوحيد، ذلك العالم السحري الذي يريد أن يتخذه طريقًا كي ينجو به من ذاك الحصار، ليجد فيه أن أمه تحاصره عن طريق ذلك الوسيط لا محالة، ومنها لحالة وحدة حقيقية بنظرته لصورة "مارلين مونرو" وتتبع الكاميرا لتفاصيل جسدها الأنثوي وكأنها هي عين شخصية البطل ذاته وهو يتفحص ذلك الجسد المثير حتى يسكب الخمر على سرواله، إشارة نحو اندماجه التام معها كأنثى وعوضًا عن إثارته الجنسية، لتكون هذه المشاهد هي المرحلة التأسيسية الأولى التي تقوم بتعريف شخصية البطل "حسن"/ ممدوح عبدالعليم، في فيلم "رومانتيكا" وهو الفيلم الوحيد الذي أخرجه زكي فطين عبدالوهاب عام 1996، وهو من تأليفه أيضًا، بداية من ذلك يبرم زكي مع المتلقي عقد أنه يقدم حياته على الشاشة، ويبين حصارًا تامًا أراد توضيحه منذ البداية، تأكيدًا منه على أنه ربما توجه نحو إنتاج إبداعي مثل ذلك حتى يتحرر، كعادة أفلام السينما الذاتية، أو العمل الفني أو الأدبي الذاتي عمومًا، إذ يتوجه المبدع نحو تصوير ذاته سينمائيًا والنبش في مكنونه النفسي، فهي أعمال تسعى لتأريخ جزء من حياته، ولكن ليس ذلك هو الغرض الوحيد منها، فربما أثناء مراحل العمل واكتشاف الذات يتضح له أنه غير قادر على إظهار كل ما بداخله، أو ربما يتوجه نحوها كي يمارس حالة تطهير ذاتية، أو يقرر أن يُضيف للذات بعض الاضافات الدرامية، أو يقدمها كما عاشها أو كما عايشها وراءها إذا ساع القول ذلك، لكن من المؤكد أنها أعمال ذات بعد إنساني في المقام الأول، ذات تتعامل مع شخصها، بين قسوة أو لين وذوات فاعلة وذوات أخرى مؤثرة، تبقى هي الذات التي تدور حولها الأحداث، تتجادل مع المتلقي في تساؤلات عدة عن ذلك الربط وما به من جرأة في الكشف عن النفس، والتحدث بلسان حال المراحل أو اختيار مرحلة معينة للحديث بلسانها بين كافة مراحل عمره كافة، وغيرها من العوامل التي تؤدي لاشتباك حقيقي بين المبدع وذاته، ومن بعدها بين المبدع والمتلقي.
وعلى ذلك المنوال سار زكي، الذي أراد أن يعرف الجمهور بنفسه عن طريق فيلم سينمائي ذلك الملجأ الوحيد الذي وجد فيه القدرة للتعبير، لذا فاعتبار زكي هو حسن، أو حسن هو مرآة زكي، تبقى الشخصية واحدة، رغم اختلاف الأسماء، وربما كان الاسم الذي اختاره أن يكون بطلًا لفيلمه هو أيضًا الاسم الذي كان يريد أن يشب عليه، ولكن محاصريه هم من اختاروا له أن يكون "زكيًا" وهو اضطر لمسايرة ذلك الوضع رُغمًا عنه.
إذ أن محاولات البحث وراء شخص زكي فطين عبد الوهاب جميعها غير مجدية للتعرف عليه بصورة أقرب إليه، بخلاف كونه سليل عائلة شهيرة بين ليلى مراد وفطين عبدالوهاب ومنير مراد وزواجه من سعاد حسني وغيرها من المعلومات المتداولة، إلا أن معرفة الشخص بذاته لا يمكن العلم بتفاصيلها إلا عن طريق مشاهدة فيلمه الذي أراد أن ينقل من خلاله جزء من سيرته فقام بتأليفه وإخراجه ومن قبله يمكن النظر لتجربة يسري نصر الله بتأليف وإخراج فيلم مرسيدس عام 1993 الذي اختار فيه "زكي فطين عبدالوهاب" أيضًا ليقوم ببطولته ومنه وجدت بعض المحاور التي اشتبكت مع فيلم زكي الوحيد رومانتيكا، والتي ربما تكون مجرد تأثر بأسلوب الكتابة والإخراج ولكن في الوقت نفسه هي محاور تلاقت بين كل من المخرجين بل وتلاقت مع زكي بذاته وما أراد إظهاره في سيرته الذاتية عن طريق السينما.
-الأم محاصرة ومحبة
فما ظهر من حصار للأم في فيلم رومانتيكا، لا يقل عمًا ظهر من ملامح الأم التي قدمت شخصيتها "يسرا" في فيلم مرسيدس الذي يبدأ بالتأسيس لحياتها قبل ظهور الابن، بتعريفها الأساس لوجوده، وتتبع ماضيها الذي أنتج نجلًا غير شرعي لها وهو "نوبي" الذي قدم دوره زكي عبدالوهاب، ومنها لصورة تلك السيدة التي يبجّلها الجميع، والتي تتواطأ لإثبات مجون ابنها حتى تستطيع السيطرة عليه، ومن بعدها علاقة مضطربة تنشأ بينها وبين الابن، إلى أن تظهر الشخصية المقابلة لها "عفيفة" وهي راقصة تقطن حيًا شعبيًا، وقدمت دورها "يسرا" أيضًا، وذلك لأسباب عدة أولها خلق ثنائية متقابلة بين (العهر/ العفة) من وجهة نظر المجتمع، بداية من اسم الراقصة العفيفة، في مقابل الأم التي تتسم بالعفة في نظر المجتمع ونجلها من نسل غير شرعي، بينما الراقصة التي قد تبدو للبعض عاهرة ولكنها مخلصة محبة بصدق لهذا الابن نفسه، ويبقى العامل المشترك بين السيدتين هو "نوبي" بذاته ذلك الرجل الذي يعلم أنهما شبيهتان حد التطابق على مستوى الشكل، ولكنه يجد في "عفيفة" ما لم يجده في أمه، أو ربما ما أراد أن يجده في أمه، لذا قدمت الممثلة بذاتها الدورين معًا لإحداث نوع من أنواع التخبط الممزوج في رغبة التعويض عمًا فقده في أمه، بالإضافة لإشارة نحو رغبته في أمه ذاتها، تلك العلاقة المُعقدة التي تتأكد في نهاية الفيلم نحو قبلة بين نوبي وعفيفة التي لا فارق بينها وبين الأم على مستوى الصورة أمام الشخصية وأمام المتلقي أيضا، لكن على الجانب الآخر في فيلم "رومانتيكا" نجد صورة الأم مشوشة رغم وضوح ملامحها، مما يؤكد أن الأم "ليلى مراد" بذاتها، على الرغم من ذلك لم يكن لها حضور فعلي داخل الفضاء الدرامي في الوقت ذاته فهي لها حضور قوي ومؤثر رغم الغياب الجسدي، بداية من ذلك الحصار المذكور، مرورا بمكالماتها الهاتفية التي لم يظهر ولو لمرة واحدة صوتها عبرها، وفي كل مرة يظهر فيها الابن كرد فعل لكلامها، وهذا هو الوضع المؤكد الذي يرى فيه الابن ذاته دائمًا وأبدا في حضورها، لذا كانت الصورة السينمائية هي المعبر الأول عن حالته، وبما أن المخرج هو زكي نفسه فقد توجه نحو أسلوب إخراجي يعتمد على الPoint of view أي أن الكاميرا تكون في هذه الحالة هي عين البطل والفيلم كله يدور من وجهة نظره، تلك النظرة التي تعمد فيها أن يُقصي هذه الأم من الحضور سواًء على مستوى الحضور الجسدي أو حتى الصوتي، حتى يتأتى له السيطرة على الفيلم بأكمله، وإثبات حضوره الذي طالما شعر باضطرابه في وجودها.
أما عن "نوبي" وعلاقته بعفيفة في فيلم "مرسيدس"، فهي علاقة كاشفة لأبعاد الرغبة الكامنة في الأم، وما يعانيه البطل من عقدة أوديبية نحوها، حيث يستخدم مصطلح "العقدة الأوديبية" في علم النفس كما عرفه "سيجموند فرويد" بأنه وصف الحالة النفسية التي يكون فيها الطفل متعلقًا بأمه بشكل مرضي، وفسر ذلك على أنها مجموعة من الأحاسيس الموجودة في العقل الباطن للطفل تجاه أمه مما يجعله متمسكاً بها طوال الوقت ولا يستطيع التخلي عنها أبدًا، أستنادًا إلى حادثة أوديب الشهيرة كأسطورة إغريقية تحولت لمأساة جادة على يد سوفوكليس يُضرب بها المثل في علاقة الابن بأمه إذا كان فيها شيء من الرغبة أو الغيرة المفرطة أو التعلق الزائد عن الحد.
-حضوره الفعلي.. شذرات متناثرة
على الرغم من سعي البطل "حسن" في رومانتيكا على إقصاء الأم والعائلة وإثبات حضوره الفعلي عن طريق وجود الشخصية بذاتها داخل فضاء الأحداث، إلا أن ذلك لا يمنع أن شخصية "زكي عبدالوهاب" بنفسها ظهرت كشذرات مُقسمة أحلامه على شخصيات أخرى لم تكن هو، حيث اختياره للاندماج مع مجموعة "الخرتية" في الفيلم، هذه المجموعة الشابة التي تقوم بالتعرف على السائحين وعرض خدمات عليهم من مشتريات رخيصة الثمن وإقامة حفلات لهم وإرشادهم الى الأماكن الأثرية ويصل أحيانا الأمر إلى حد بيع المخدرات أيضا وكل ذلك مقابل المال، وحسن بينهم يعيش حياة الصعلكة البعيدة كل البعد عن ارستقراطية عائلته الاصلية، ولم يأتِ مشهد واحد به احتكاك مع بيئته وعائلته، ومنها نحو أحلامه التي نشاهدها مُقسمة بينه والخرتية، فهو ذلك المخرج الذي يريد أن يُنتج فيلمًا عن هؤلاء، وهم بذواتهم من يحلمون أحلامه، أولا حلم تحقيق الفيلم الذي يتوقف على وجودهم، وأحلام أخرى قسمها على شخصياتهم، بين شخصية شاب يراوده حلم الهجرة، وآخر تزوج من أمريكية وهربت بطفله خارج مصر، وبالنظر في حياة زكي عبدالوهاب بذاته، نجد أنه هو الآخر راوده حلم الهجرة بل وحققه لذا فكان تقديمه داخل الفيلم بهدف رصد هذه التجربة وما بها من تهور وقرارات غير محسومة، كما أنه تزوج أيضًا بالفعل من سيدة أمريكية هربت بطفله وهو مازال بأحشائها وتوفى زكي وهو لم يعرف حتى جنس ذلك الطفل ولم يره ولو لمرة واحدة في عمره كله، لنجده داخل الفيلم يقسم أحلامه على غيره ليشاركهم فيها ويتشارك معهم وكأنهم جزء منه وهو أيضًا جزء منهم، ينتمي لهم لا لغيرهم، بل ويحقق أحلامه التي لم يستطع تحقيقها في الواقع من خلالهم، عن طريق إضافة بعض اللمسات الدرامية لذاتيه في فيلمه، ومنها نجد حلم عودة الطفل يتحقق، بل والأدهى أنه قد حدد نوعه في الفيلم كما تمناها أنثى وأسماها "ياسمين" وكتبها في السيناريو وأخرجها تأتي لوالدها ومن ثم يأتي بها والدها إلى حسن/ زكي ويتركها له، ومنها يؤكد على الاندماج ذاته نحو عدم انفصاله عن هؤلاء الخرتية، بل وتحقيقهم لاحلامه التي لم يكن قادرا على تحقيقها في واقعه.
أما عن عائلة البطل في "مرسيدس" فصورها نصرالله عائلة في ظاهرها متألقة بينما في باطنها عائلة مشينة ترتكب جرائم وبينهم علاقات غير مشروعة، ومنها يذهب البطل لحياة الصعلكة ذاتها المذكورة سلفًا، لينخرط بطبقة الراقصة عفيفة وتلك البيئة الشعبية البعيدة عن ذلك الزيف في الطبقة الثرية، التي رأى فيها نصر الله أن الابن غير شرعي بل وهجين بين أب نوبي وأم شقراء، وسار على ذلك الانقسام طوال تعريفه بالشخصية أولا على مستوى المظهر فهو قمحي البشرة شعره أشقر، يؤمن بالاشتراكية والمساواة والعدل وهو سليل عائلة لم يكن في قاموسها مثل هذه الأفكار، وتناقض يلي تناقض ليحقق شخصية بها مناطق متقابلة كان السبب الرئيسي فيها هو وجود الأم، وتظل الشخصية في تخبط مستمر حتى تقف على باب "عفيفة" لتستقر، ولكن تبقى الأزمة قائمة نحو التعلق بالأم واختيار صورة المرأة التي تشبهها بل والتقت معها ليس على مستوى الشكل فقط، بل عن طريق قلب الظاهر إلى باطن فيما بينهما والعكس، حيث سيطرة جانب العفة على شخصية الراقصة الذي طالما حلم الطفل بأن تسير أمه عليه، وعلى الرغم من التطرق نحو تلك المتناقضات إلا أن ذلك يعتبر مستوى أوليّ للتأويل، فما تبادر من عفة وعهر بين كل منهما، ما هو إلا قشرة خارجية يمكن تفسيرها لعدة تناقضات أخرى، حتى وإن كانت هي المقصودة بذاتها داخل الفيلم، ولكن يبقى التناقض الحقيقي وما به من أطراف ثنائيات متضادة في شخص المبدع المشترك بين عالم السينما وعالمه الحقيقي، حين قال زكي عبدالوهاب بنفسه في أحد اللقاءات التليفزيونية ذات يوم، أنه نشأ على وجود أمه كسيدة عادية للغاية تؤدي دورها كأم تسعى للحفاظ على عائلتها وأولادها، وفي المقابل يرى صورتها بالتلفاز تلك النجمة التي تشبه أمه ولكنها لم تكن هي، وذلك لأن ليلى مراد قد أعلنت اعتزالها قبل ولادة زكي، لذا فأمه في نظره امرأة بسيطة في مقابل تلك النجمة التي لم يعاصر نجوميتها ومجدها إلا عن طريق الأثر ومن ثم محاولاته للتخلص منه.
المصدر صفحة سينما العالم