ما المقصود بقصيدة النثر؟
بالرجوع إلى الويسيوس برتران Bertrand Aloysius 1841-1807 ، من اعتبره النقاد بالنسبة للأدب الفرنسي، بأنه أول شاعر أبدع في هذا الجنس، نحاول تقريب مفهوم قصيدة النثر كما هو متعارف عليها في الأدب الفرنسي، من القارئ العربي من أجل الاطلاع على هذه التجربة ما دام الأدب العربي تأثر بها.
أولا لابد من التذكير أن هذا الموضوع بدأ مع الرومانسية أي في القرن التاسع عشر، حيث بدأ الاهتمام بالنثر من خلال ظهور الرواية والقصة. وفي هذا الصدد يقول الروائي فلوبير في إحدى رسائله: "النثر وليد الأمس، هذا ما يجب قوله. بينما الشعر هو شكل خاص بالآداب القديمة بامتياز. كل التوليفات البلاغية استخدمت، إلا تلك الخاصة بالنثر." هكذا لخص فلوبير فكرة الاهتمام بالنثر الذي كان يشغل بال الأدباء منذ بداية القرن التاسع عشر. ثم لابد من الإشارة إلى أن الشعر الرومانسي كان يعتبر تعبيرا يعارض الكتابات النثرية مثل الرواية والقصة، التي صنفت ككتابات بورجوازية. لكن نقب بعض الباحثين عن آثار النثر في الشعر وحاولوا فهم ذلك التفاعل بينهما. وانصب بحثهم على الشاعر والصحفي والمسرحيAloysius Bertrand الذي عاش الحركة الرومانسية التي كان يتزعمها بدون منازع الشاعر والروائي فيكتور هيجو. في تلك الفترة، ورغم الاهتمام بالنثر، كان من الصعب الخروج عن التقاليد الشعرية التي توارثها الشعراء عن ثقافتهم الهيلينية. لكن الويسيوس، بتحمسه في الإبداع استفاد من كونه صحافيا يكتب ما يسمى باليوميات، و بصفته كذلك ككاتب مسرحيات. حيث قال في إحدى مقالاته سنة 1828: "إذا كان من الضروري أن تخضع الملحمة الغنائية للشعرية فإنه من الضروري أن تخضع الملحمة الدرامية للنثر." لكنه هذا لا يعني بأنه استغنى نهائيا عن الشعر وقوانينه. لم يجرؤ وسط ضغوطات تقليدية كانت لازالت تقدس الشعر بصفته التعبير الأمثل. اكتفى ببعض التجارب من داخل الشعر فابدع في الشكل من خلال توزيع الأبيات كما كان كذلك يمتح من اليوميات ومن القصة. فنجده يستغل تقنيات القصة في الشعر والعكس صحيح أيضا.
ومع ذلك، ظل هذا الكاتب، في العتمة بعيدا عن نجم فيكتور هيجو المتألق حينها، وبتألقه غطى على هذا الشاعر الشاب الرومنسي كما كان حينها ينعت. لن يبرز كاسم إلا بعد وفاته. وخاصة من خلال كتابه: Gaspard de la nuit (جاسبار الليل)، حيث إنتبه إليه بعض الباحثين من أمثال: Helen Hart Poggenburg التي قالت ما معناه بأنه هو من هيأ الأجواء لبودلير ورامبو، ويمكن إضافة لما توصلت إليه الباحثة، اسماء شعراء آخرين مثل، مالارمي والسرياليين. لم يكن حينها الحديث عن النثر الشعري الذي لم يظهر كمصطلح إلا مع بودلير في كتابه : أسى باريس spleen de Paris ، حيث كتب "قصائد نثرية قصيرة" petits poèmes en prose. لهذا الويسيوس، الذي كان يشتغل على الشكل محاولا الجمع بين القصة والشعر من غير الابتعاد كليا عن القوانين الشعرية، كان يطلق على كتاباته تلك إسمين:
في البداية كان يسميها Bambochades (بامبوشاد). وهو إسم كان يستعمل من قبل الرسامين والفنانين على لوحات تتميز بمزيج من الواقعية والخيال، أمثال الفنان الرومنسي رومبرانت Rembrant، بعدها أطلق عليها إسم : fantaisies (خيال نزوي)، لأنه بدون شك، لم يكن يسعى إلى تسمية كتاباته بالشعر، مادام أن كتاباته كانت تجريبية، هدفها خلخلة الأشكال التقليدية للشعر. لهذا كما سبق الذكر لم يبرز نجمه إلا فيما بعد مع بودلير وآخرين أي بعد وفاته.
يعتبر اذن الويسيوس، رغم كونه لم ينل من الشهرة والاهتمام ما يستحق، أول من وضع حجر الأساس للشعر النثري.
فأين يتجلى الاختلاف بين الشعر والشعر النثري؟
ببساطة :
الشعر يتميز ب: الأبيات التي تتشكل حسب اوزان معينة وعلى إيقاع خاص بها وتنتهي بالقافية. وبطبيعة الحال تمتح اللغة أيضا من كل اشكال الأسلوب والبلاغة.
الشعر النثري : لا يحترم كل هذه القوانين، ما عدا اشتراكه مع الشعر في اشكال الأسلوب والخيال. ولا يتشكل من أبيات كما يعتقد البعض. لأن ذلك يدخل فيما سمي "بالشعر الحر".
هكذا ظهر الشعر النثري بالنسبة للأدب الفرنسي، وربما بالنسبة للأدب الغربي بشكل عام، فتأثر به شعراؤنا العرب.
لكن ما كُتب وما يُكتب الآن، هل يدخل في هذا التعريف، بما أن كل النصوص التي تدعي ذلك (كما يعتقد النقاد أيضا) ليست شعرا نثريا لأنها لا تحترم قانون النثر الذي لا يُكتب على شكل أبيات؟ هل تدخل فيما يسمى بالشعر الحر؟ أو على الإبداع النقدي أن يقوم بواجبه ولا يستكين إلى ما قرره الأولون؟ هل نبقي رغم قرون مضت على نفس التصنيفات التي تجرأ مبدعوها فنظروا لها وناضلوا ثقافيا من أجلها؟ هل توقف العقل النقدي عن وضيفته منذ أن تحدث عن الأجناس الأدبية وحصرها فيما هو معروف؟
أسئلة كثيرة تطرح، حسب نفس المنطق الذي أبدع في الشعر والنثر وابدع في النقد كذلك، وحسب هذا المنطق المحرك نتساءل أيضا، هل نظل نستهلك نفس الإنتاج النقدي ونتحدث لغة "طفولية"، تجمع بين كلمتين متناقضتين، ونقول "قصيدة النثر" ونستكين ؟
ا*+*+*+*+
- تم الاعتماد على ويكيبيديا وعلى بحث للباحث : Luc Bonenfant، (Le vers détourné: Aloysius Bertrand et la réinvention de la prose) ،
بمجلة: Romantisme 2004/1 (n° 123)
محمد العرجوني
ا30-6-2022
بالرجوع إلى الويسيوس برتران Bertrand Aloysius 1841-1807 ، من اعتبره النقاد بالنسبة للأدب الفرنسي، بأنه أول شاعر أبدع في هذا الجنس، نحاول تقريب مفهوم قصيدة النثر كما هو متعارف عليها في الأدب الفرنسي، من القارئ العربي من أجل الاطلاع على هذه التجربة ما دام الأدب العربي تأثر بها.
أولا لابد من التذكير أن هذا الموضوع بدأ مع الرومانسية أي في القرن التاسع عشر، حيث بدأ الاهتمام بالنثر من خلال ظهور الرواية والقصة. وفي هذا الصدد يقول الروائي فلوبير في إحدى رسائله: "النثر وليد الأمس، هذا ما يجب قوله. بينما الشعر هو شكل خاص بالآداب القديمة بامتياز. كل التوليفات البلاغية استخدمت، إلا تلك الخاصة بالنثر." هكذا لخص فلوبير فكرة الاهتمام بالنثر الذي كان يشغل بال الأدباء منذ بداية القرن التاسع عشر. ثم لابد من الإشارة إلى أن الشعر الرومانسي كان يعتبر تعبيرا يعارض الكتابات النثرية مثل الرواية والقصة، التي صنفت ككتابات بورجوازية. لكن نقب بعض الباحثين عن آثار النثر في الشعر وحاولوا فهم ذلك التفاعل بينهما. وانصب بحثهم على الشاعر والصحفي والمسرحيAloysius Bertrand الذي عاش الحركة الرومانسية التي كان يتزعمها بدون منازع الشاعر والروائي فيكتور هيجو. في تلك الفترة، ورغم الاهتمام بالنثر، كان من الصعب الخروج عن التقاليد الشعرية التي توارثها الشعراء عن ثقافتهم الهيلينية. لكن الويسيوس، بتحمسه في الإبداع استفاد من كونه صحافيا يكتب ما يسمى باليوميات، و بصفته كذلك ككاتب مسرحيات. حيث قال في إحدى مقالاته سنة 1828: "إذا كان من الضروري أن تخضع الملحمة الغنائية للشعرية فإنه من الضروري أن تخضع الملحمة الدرامية للنثر." لكنه هذا لا يعني بأنه استغنى نهائيا عن الشعر وقوانينه. لم يجرؤ وسط ضغوطات تقليدية كانت لازالت تقدس الشعر بصفته التعبير الأمثل. اكتفى ببعض التجارب من داخل الشعر فابدع في الشكل من خلال توزيع الأبيات كما كان كذلك يمتح من اليوميات ومن القصة. فنجده يستغل تقنيات القصة في الشعر والعكس صحيح أيضا.
ومع ذلك، ظل هذا الكاتب، في العتمة بعيدا عن نجم فيكتور هيجو المتألق حينها، وبتألقه غطى على هذا الشاعر الشاب الرومنسي كما كان حينها ينعت. لن يبرز كاسم إلا بعد وفاته. وخاصة من خلال كتابه: Gaspard de la nuit (جاسبار الليل)، حيث إنتبه إليه بعض الباحثين من أمثال: Helen Hart Poggenburg التي قالت ما معناه بأنه هو من هيأ الأجواء لبودلير ورامبو، ويمكن إضافة لما توصلت إليه الباحثة، اسماء شعراء آخرين مثل، مالارمي والسرياليين. لم يكن حينها الحديث عن النثر الشعري الذي لم يظهر كمصطلح إلا مع بودلير في كتابه : أسى باريس spleen de Paris ، حيث كتب "قصائد نثرية قصيرة" petits poèmes en prose. لهذا الويسيوس، الذي كان يشتغل على الشكل محاولا الجمع بين القصة والشعر من غير الابتعاد كليا عن القوانين الشعرية، كان يطلق على كتاباته تلك إسمين:
في البداية كان يسميها Bambochades (بامبوشاد). وهو إسم كان يستعمل من قبل الرسامين والفنانين على لوحات تتميز بمزيج من الواقعية والخيال، أمثال الفنان الرومنسي رومبرانت Rembrant، بعدها أطلق عليها إسم : fantaisies (خيال نزوي)، لأنه بدون شك، لم يكن يسعى إلى تسمية كتاباته بالشعر، مادام أن كتاباته كانت تجريبية، هدفها خلخلة الأشكال التقليدية للشعر. لهذا كما سبق الذكر لم يبرز نجمه إلا فيما بعد مع بودلير وآخرين أي بعد وفاته.
يعتبر اذن الويسيوس، رغم كونه لم ينل من الشهرة والاهتمام ما يستحق، أول من وضع حجر الأساس للشعر النثري.
فأين يتجلى الاختلاف بين الشعر والشعر النثري؟
ببساطة :
الشعر يتميز ب: الأبيات التي تتشكل حسب اوزان معينة وعلى إيقاع خاص بها وتنتهي بالقافية. وبطبيعة الحال تمتح اللغة أيضا من كل اشكال الأسلوب والبلاغة.
الشعر النثري : لا يحترم كل هذه القوانين، ما عدا اشتراكه مع الشعر في اشكال الأسلوب والخيال. ولا يتشكل من أبيات كما يعتقد البعض. لأن ذلك يدخل فيما سمي "بالشعر الحر".
هكذا ظهر الشعر النثري بالنسبة للأدب الفرنسي، وربما بالنسبة للأدب الغربي بشكل عام، فتأثر به شعراؤنا العرب.
لكن ما كُتب وما يُكتب الآن، هل يدخل في هذا التعريف، بما أن كل النصوص التي تدعي ذلك (كما يعتقد النقاد أيضا) ليست شعرا نثريا لأنها لا تحترم قانون النثر الذي لا يُكتب على شكل أبيات؟ هل تدخل فيما يسمى بالشعر الحر؟ أو على الإبداع النقدي أن يقوم بواجبه ولا يستكين إلى ما قرره الأولون؟ هل نبقي رغم قرون مضت على نفس التصنيفات التي تجرأ مبدعوها فنظروا لها وناضلوا ثقافيا من أجلها؟ هل توقف العقل النقدي عن وضيفته منذ أن تحدث عن الأجناس الأدبية وحصرها فيما هو معروف؟
أسئلة كثيرة تطرح، حسب نفس المنطق الذي أبدع في الشعر والنثر وابدع في النقد كذلك، وحسب هذا المنطق المحرك نتساءل أيضا، هل نظل نستهلك نفس الإنتاج النقدي ونتحدث لغة "طفولية"، تجمع بين كلمتين متناقضتين، ونقول "قصيدة النثر" ونستكين ؟
ا*+*+*+*+
- تم الاعتماد على ويكيبيديا وعلى بحث للباحث : Luc Bonenfant، (Le vers détourné: Aloysius Bertrand et la réinvention de la prose) ،
بمجلة: Romantisme 2004/1 (n° 123)
محمد العرجوني
ا30-6-2022