في ذكرى إستشهاد أيقونة العراق الذهبية
ليلى العطار تكرس لوحاتها للمرأة ولها تجربتها الفنية
علي إبراهـيم الدليمي
مع ولوج بداية صباح يوم 27/6/1993، إنطلق صاروخ، من ضمن عدة صواريخ، باتجاهات مختلفة أخرى، من طائرة أمريكية محملة بالحقد الأسود الدفين، لتدك بيت التشكيلية العراقية الراقية ليلى العطار، لتستشهد مع زوجها، وإمرأة عجوز تسكن معها، وتفقأ عين إبنتها ريم الجميلة، وعندما بزغت الشمس وسطع ضوء النهار، إنكشفت الحقيقة، وسقطت الأقنعة المزيفة، لدعاة (الدم.. قراطية) العالمية، التي أظهرت وجوهم القبيحة.. وهي الضربة الثانية، بعدما نجت العطار من الضربة الأولى عام 1991، حيث قصف بيتها الأول، لتنتقل إلى بيت شقيقتها سعاد العطار، في منطقة المنصور، لتنتهي حياتها فيه.
هكذا.. قتلت العطار، إيقونة العراق الذهبية، بدم بارد، بحجة رسمها صورة سيراميكية على أرضية في مدخل فندق الرشيد، للمجرم بوش الأب، التي أثارت سخط وحفيظة الإدارة الأمريكية، وبالتالي لتقوم بهذا الفعل الأرعن والهمجي، الذي أمر به (كلينتون) المراهق.
أود أن أوضح للتأريخ وللجميع، وبعد مرور أكثر من ربع قرن، أن الشهيدة ليلى العطار، وبحكم وظيفتي الإدارية الطويلة معها، ومتابعتي الدقيقة لتجربتها التشكيلية، بأنها لم ترسم صورة المجرم بوش أبداً، بل لم ترسم أية صورة (بورتريت) طوال حياتها الفنية، وكل ما قيل عن رسمها لهذه الصورة الساخرة، فانها عار من الصحة نهائياً، رغم أن كل فنان عراقي يفتخر برسمها، لانها تمثل صورة حقيقة بوش الإجرامية الذي بدأ بتدمير العراق، ليأتي من بعده إبنه ليكمل مشوار أبيه، ويحيل البلد إلى خربة، ماتزال باقية لحد الآن.
إن العطار، صاحبة تجربة فنية خاصة بها وشاخصة، يعرفها الجميع، وقد كتب عنها العديد من النقاد والصحفيين، تتحدث العطار عن ذلك: أتناول في كل معارضي وبشكل إعتيادي، مواضيع المرأة، لإنها شغلي الشاغل، فهي جزء مني وأنا جزء منها، وأشعر بمسؤوليتي الكبيرة حيالها، ومن خلال تجربتي العميقة وفهمي لعالمي الخاص عرفت أن (المرأة + الأرض = العطاء) وهذه ليست مسألة رياضية، بقدر ماهي بديهة واضحة، لان العطاء ينبع عادة من الأرض، والمرأة بحد ذاتها هي عطاء دائم ليس له حدود.
لقد كان فن ليلى العطار يوحي باغتراب، وبحزن عميق، الأمر الذي جعلها تتخذ من الطبيعة موضوعاً للخلاص، لكن الطبيعة لديها كانت جرداء، صحراء تمتد إلى المجهول، وكانت الأشجار جرداء، وكان الربيع قد غادرها إلى الأبد.. بل قد تبدو أعمالها كساحة حرب مهجورة بعد قتال قاس ومرير.. ووسط تلك الخرائب والصمت ثمة جسد يتجه نحو الشمس في غروبها، جسد يتلاشى أو يستسلم للكون، انها تذكرنا برومانسية معاصرة للشقاء الذي تعاني منه النفس في عزلتها الإجتماعية والنفسية والفلسفية، تلك الوحدة التي تدفع بالمتفرد إلى عزلة بلا حدود، لكنها في الواقع هي الوحدة، هي الاندماج بالكل، والتخلي – كما يفعل المتصوفة والزهاد – عن المتاع الزائد لبلوغ درجة اللا حاجة، أو المثال الذي يراود الملائكة والشعراء والعشاق العذريين، انها في هذا المسار تذكرنا بموتها، هذا العناق مع الأشجار الجرداء، مع الأرض المحترقة ومع الهواء الأسود.
في لقاء صحفي خاص معها في معرضها الشخصي الخامس الذي أقامته على قاعة الرواق سنة 1980، قالت: حينما أرسم أتناول اللوحة ككل دون تفصيل، كي أستطيع أن أوضح الفكرة التي أروم طرحها، فالأفق يعني بالنسبة لي هو الأمل الذي أتوق لتحقيقه، والترقب هو المحرك الذي يمنح الذات البشرية النمو والتجدد، والضبابية هي المناخ الذي تعيشه المرأة...
وبعد رحيلها المأساوي، كتب الأستاذ شاكر حسن آل سعيد، كلمة جاء فيها: حينما قدمت لمعرض ليلى الشخصي الأول في السبعينيات، كنت كمن يحدس أن في هاجسها الفني ما ينبئ بتضحية الفنان عبر مسيرته غير المعلنة.. لقد قرنتها بـ (شهرزاد ألف ليلة وليلة).
ولدت الشهيدة ليلى العطار في بغداد سنة 1944، وفي سنة 1955 حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة (شانكر) لرسوم الاطفال في الهند، تخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1965، شاركت مع جماعة أدم وحواء عام 1967 وكانت تلك بدايتها الاحترافية مع الفن، أقامت خمسة معارض شخصية، فضلاً عن مشاركتها في العديد من المعارض الفنية داخل العراق وخارجه، وقد حازت جائزة الشراع الذهبي في بينالي الكويت السابع سنة 1973، كما أحرزت العديد من الجوائز التقديرية الأخرى في الكويت والبحرين ومصر، وبينالي القاهرة سنة 1984، ومهرجان بغداد العالمي الأول عام 1988، عضو في كل من نقابة الفنانين، وجمعية التشكيليين العراقيين. تولت مناصب إدارية عديدة منها مديرة قاعة الرواق في نهاية السبعينيات، ثم قاعة المتحف الوطني للفن الحديث كولبنكيان، ثم مدير عام دائرة الفنون التشكيلية، حتى يوم إستشهادها، فكانت بحق زميلة أمينة، وصديقه وفية، مع الفنانين والموظفين، لم تغبن حق أحد قط، قدمت للحركة التشكيلية العراقية مالم يقدمه أي مسؤول عراقي أخر، وإذ نستذكرها اليوم، فاننا نعتذر منها، لاننا نسيناها طوال المدة المنصرمة، مثلما نسينا أغلب مبدعينا الكبار.. بسبب الفوضى والمأساة العميقة، التي خلفها لنا إبن صاحب الصورة المشؤومة.
ليلى العطار تكرس لوحاتها للمرأة ولها تجربتها الفنية
علي إبراهـيم الدليمي
مع ولوج بداية صباح يوم 27/6/1993، إنطلق صاروخ، من ضمن عدة صواريخ، باتجاهات مختلفة أخرى، من طائرة أمريكية محملة بالحقد الأسود الدفين، لتدك بيت التشكيلية العراقية الراقية ليلى العطار، لتستشهد مع زوجها، وإمرأة عجوز تسكن معها، وتفقأ عين إبنتها ريم الجميلة، وعندما بزغت الشمس وسطع ضوء النهار، إنكشفت الحقيقة، وسقطت الأقنعة المزيفة، لدعاة (الدم.. قراطية) العالمية، التي أظهرت وجوهم القبيحة.. وهي الضربة الثانية، بعدما نجت العطار من الضربة الأولى عام 1991، حيث قصف بيتها الأول، لتنتقل إلى بيت شقيقتها سعاد العطار، في منطقة المنصور، لتنتهي حياتها فيه.
هكذا.. قتلت العطار، إيقونة العراق الذهبية، بدم بارد، بحجة رسمها صورة سيراميكية على أرضية في مدخل فندق الرشيد، للمجرم بوش الأب، التي أثارت سخط وحفيظة الإدارة الأمريكية، وبالتالي لتقوم بهذا الفعل الأرعن والهمجي، الذي أمر به (كلينتون) المراهق.
أود أن أوضح للتأريخ وللجميع، وبعد مرور أكثر من ربع قرن، أن الشهيدة ليلى العطار، وبحكم وظيفتي الإدارية الطويلة معها، ومتابعتي الدقيقة لتجربتها التشكيلية، بأنها لم ترسم صورة المجرم بوش أبداً، بل لم ترسم أية صورة (بورتريت) طوال حياتها الفنية، وكل ما قيل عن رسمها لهذه الصورة الساخرة، فانها عار من الصحة نهائياً، رغم أن كل فنان عراقي يفتخر برسمها، لانها تمثل صورة حقيقة بوش الإجرامية الذي بدأ بتدمير العراق، ليأتي من بعده إبنه ليكمل مشوار أبيه، ويحيل البلد إلى خربة، ماتزال باقية لحد الآن.
إن العطار، صاحبة تجربة فنية خاصة بها وشاخصة، يعرفها الجميع، وقد كتب عنها العديد من النقاد والصحفيين، تتحدث العطار عن ذلك: أتناول في كل معارضي وبشكل إعتيادي، مواضيع المرأة، لإنها شغلي الشاغل، فهي جزء مني وأنا جزء منها، وأشعر بمسؤوليتي الكبيرة حيالها، ومن خلال تجربتي العميقة وفهمي لعالمي الخاص عرفت أن (المرأة + الأرض = العطاء) وهذه ليست مسألة رياضية، بقدر ماهي بديهة واضحة، لان العطاء ينبع عادة من الأرض، والمرأة بحد ذاتها هي عطاء دائم ليس له حدود.
لقد كان فن ليلى العطار يوحي باغتراب، وبحزن عميق، الأمر الذي جعلها تتخذ من الطبيعة موضوعاً للخلاص، لكن الطبيعة لديها كانت جرداء، صحراء تمتد إلى المجهول، وكانت الأشجار جرداء، وكان الربيع قد غادرها إلى الأبد.. بل قد تبدو أعمالها كساحة حرب مهجورة بعد قتال قاس ومرير.. ووسط تلك الخرائب والصمت ثمة جسد يتجه نحو الشمس في غروبها، جسد يتلاشى أو يستسلم للكون، انها تذكرنا برومانسية معاصرة للشقاء الذي تعاني منه النفس في عزلتها الإجتماعية والنفسية والفلسفية، تلك الوحدة التي تدفع بالمتفرد إلى عزلة بلا حدود، لكنها في الواقع هي الوحدة، هي الاندماج بالكل، والتخلي – كما يفعل المتصوفة والزهاد – عن المتاع الزائد لبلوغ درجة اللا حاجة، أو المثال الذي يراود الملائكة والشعراء والعشاق العذريين، انها في هذا المسار تذكرنا بموتها، هذا العناق مع الأشجار الجرداء، مع الأرض المحترقة ومع الهواء الأسود.
في لقاء صحفي خاص معها في معرضها الشخصي الخامس الذي أقامته على قاعة الرواق سنة 1980، قالت: حينما أرسم أتناول اللوحة ككل دون تفصيل، كي أستطيع أن أوضح الفكرة التي أروم طرحها، فالأفق يعني بالنسبة لي هو الأمل الذي أتوق لتحقيقه، والترقب هو المحرك الذي يمنح الذات البشرية النمو والتجدد، والضبابية هي المناخ الذي تعيشه المرأة...
وبعد رحيلها المأساوي، كتب الأستاذ شاكر حسن آل سعيد، كلمة جاء فيها: حينما قدمت لمعرض ليلى الشخصي الأول في السبعينيات، كنت كمن يحدس أن في هاجسها الفني ما ينبئ بتضحية الفنان عبر مسيرته غير المعلنة.. لقد قرنتها بـ (شهرزاد ألف ليلة وليلة).
ولدت الشهيدة ليلى العطار في بغداد سنة 1944، وفي سنة 1955 حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة (شانكر) لرسوم الاطفال في الهند، تخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1965، شاركت مع جماعة أدم وحواء عام 1967 وكانت تلك بدايتها الاحترافية مع الفن، أقامت خمسة معارض شخصية، فضلاً عن مشاركتها في العديد من المعارض الفنية داخل العراق وخارجه، وقد حازت جائزة الشراع الذهبي في بينالي الكويت السابع سنة 1973، كما أحرزت العديد من الجوائز التقديرية الأخرى في الكويت والبحرين ومصر، وبينالي القاهرة سنة 1984، ومهرجان بغداد العالمي الأول عام 1988، عضو في كل من نقابة الفنانين، وجمعية التشكيليين العراقيين. تولت مناصب إدارية عديدة منها مديرة قاعة الرواق في نهاية السبعينيات، ثم قاعة المتحف الوطني للفن الحديث كولبنكيان، ثم مدير عام دائرة الفنون التشكيلية، حتى يوم إستشهادها، فكانت بحق زميلة أمينة، وصديقه وفية، مع الفنانين والموظفين، لم تغبن حق أحد قط، قدمت للحركة التشكيلية العراقية مالم يقدمه أي مسؤول عراقي أخر، وإذ نستذكرها اليوم، فاننا نعتذر منها، لاننا نسيناها طوال المدة المنصرمة، مثلما نسينا أغلب مبدعينا الكبار.. بسبب الفوضى والمأساة العميقة، التي خلفها لنا إبن صاحب الصورة المشؤومة.