الأشياء تتداعى".. رواية تمرد الآباء على الأبناء
وليد الاسطل..ناقد وشاعر فلسطيني
بعض الكتاب لا يحتاجون إلى محاولة تجريبية. فروايتهم الأولى تُظهر أنهم سادة أنفسهم وفنهم. يقودون بيد قوية سردا ذا مغزى. لكتاباتهم رنة نقية وواضحة، يرتكز بناؤها على أسس متينة وعميقة. ويبدو سردهم الرصين والبارع مشدودا مثل وتر القوس، مشبعا، جاهزا لدفع سهم رومانسي حاد بقوة إلى قلب أكثر القراء صلابة. هؤلاء المؤلفون هم من الشباب ولكن سردهم لا عمر له. إنهم يصلون إلى ما لم يصل إليه أحد بعد، إلى النقطة المركزية. يبلغون بسهولة محيرة ما يبلغه المعلمون القدامى المجتهدون بنضج بطيء وبجهود مضنية ومتواصلة. إنهم ظواهر نادرة: كامو في “الغريب”، توماس مان في “بودنبروكس”، تشينوا أتشيبي في “الأشياء تتداعى”.
ليست أعمال تشينوا أتشيبي معروفة بشكل جيد في عالمنا العربي، رغم كونها من بين أهم الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية في نصف القرن الماضي. “الأشياء تتداعى” هي رواية عالمية، مرثية منطقية، مصحوبة باقتصاد وكثافة لغوية. هذه الرواية، الموجزة، دون أن تظهر عارية، تقدم نفسها بشكل واضح للغاية على أنها قصة سقوط، قصة رجل، أوكونكو، ولكن أيضا قصة ثقافة، وحضارة، نيجيريا العميقة، شعب الإيغبو زمن وصول المبشرين والجنود البيض.
تقدم الرواية بأقسامها الثلاثة، التي تستأنف مخطط دانتي القديم وتعكسه، على التوالي، أوكونكو في “الفردوس” و”المطهر” و”الجحيم”. يفهم أيّ قارئ، من الأسطر القليلة الموجودة أعلاه، أن “الفردوس” هو عالم أسود تقليدي، قرى زراعية غير متغيرة متمسكة بتقليد قديم، أن “المطهر” هو عالم يتم غزوه تدريجيا، وتقويضه من الداخل، حيث يجب أن تتعايش القيم البيضاء والسوداء، لفترة أقل بشكل واضح.
دون انحياز سطحي
الجحيم” هو العالم الاستعماري، الانتصار الحتمي لحضارة على أخرى، مما يشير إلى نهاية المجتمع القديم. أوكونكو مطرود من “الجنة” في نهاية الجزء الأول وكل جهوده للعودة إليها، إصراره وشجاعته لن يكونا كافيين للعثور عليها. لا يمكن أن تبقى “جنته” سليمة في المنفى. لقد قوضها البيض. وعودة المنفيّ تخيّب آماله. لن يجد أوكونكو العالم الأصلي أبدا، بل عالما متغيرا ومضطربا وفاسدا. إن سقوط هذا المجتمع يعني سقوطه هو كذلك.
دون الكشف عن الحبكة كثيرا، أود أن أعود إلى بعض جوانب عملية في هذه الرواية.
تكمن عبقرية أتشيبي في عدم البقاء على السطح التعليمي الوعظي، الذي يبدو مبسطا للسرد التاريخي. على عكس ما قد يوحي به الملخص أعلاه، لم يكتب أتشيبي رواية أطروحة. يكمن ثراء هذه الصفحات الـ250 في تعدد وعمق التفسيرات المحتملة. إنه ليس عملا قتاليا، تم تصوره فقط من منظور الشرعية الثقافية للنضال من أجل الاستقلال. ولا يتمتع المجتمع التقليدي بأي تفوق أخلاقي على المجتمع الجديد، والعكس أيضا صحيح.
يمكننا ملاحظة الهياكل الاجتماعية في حالة من العمل والفعل، فأحيانا تكون قمعية، وأحيانا متحررة، وأحيانا دافئة، وأحيانا متجمدة. يشير أتشيبي إلى الجوانب غير الأخلاقية والوحشية للأداء الاجتماعي التقليدي، كما يتطرق كذلك إلى البيئة الطبيعية ومشاكلها: القبض على رهائن، القتل القرباني، التخلي عن الأطفال، الأوبئة، الجفاف. إنها حياة القرية الأفريقية وقد أرجعت إلى مأساتها القديمة، إلى واقع غير رومانسي، تعج بالتفاصيل والأمثال و”اللون المحلي”. إنها أيضا حياة قرية سعيدة تتخللها الأفراح والاحتفالات والعادات القديمة. إنها الحياة الصاخبة للعالم القديم، قبل أن يغزو غطاء من الصمت أفريقيا القديمة. ينبغي علينا أن نعترف بأن البيض قد جلبوا معهم الطب إلى إفريقيا، وجلبوا إليها معهم الحديد والنار والموت أيضا.
تتم ملاحظة المعتقدات الاجتماعية ويتم تنظيمها بنفس العناية ونفس التوازن. تبدو قوة الآلهة ممكنة وغير مؤكدة. فتاة صغيرة تشفى بعد تدخل امرأة ساحرة. تتبع الحقيقتان بعضهما البعض دون تقديمهما صراحة كسلسلة سببية. يعالج المبشرون البيض بسهولة القرويين الذين أدانتهم الآلهة السوداء. من يصدق حين يتقاطع نموذجان ويتداخلان بكفاءة متماثلة؟
تتم ملاحظة العوالم الثلاثة من وجهة نظر أوكونكو. من الواضح أن “الجنة” هي الحضارة القديمة غير الملموسة والثابتة للسحرة والعودة الأبدية للفصول، وهي مجال من المعتقدات المتشابكة والمتماسكة. فيه لا يُشتبه في الآلهة أبدا أنها غير قادرة أو عديمة الفائدة. بينما الطقوس التي يلتزم بها الجميع هي ما يجعل المجتمع متماسكا.
وينقل لنا الروائي بدقة الأخلاق الجماعية خاصة تلك الخاصة بنقل الإرث، والمرور بين سلسلة أجيال من الحكمة ذات الجذور غير المؤكدة والبعيدة، والتي يرمز إليها تفوق القدماء، الحكماء، على المجتمع. ويحضر الأب كملك وكـ”مطهر” للأشياء التي تتداعى في أرض بلا إنسان، وفي عالم وسيط بين القديم والجديد، حيث اليقين آخذ في التلاشي والنظام القديم ينهار ويتفكك. الشرعي يصبح غير شرعي، ويستولي الشباب على المشعل القديم للحكماء والآباء ويطفئونه. فيصبح الأبناء أبناء لا أحد، وتصبح الخطوط التاريخية غير واضحة وعرش الأب مهددا، فلا شيء مؤكدا بعد الآن.
“المطهر” يمثل وقتا مفتوحا، ينتظر ما لا يمكن علاجه لتعريفه وتقييده. وأخيرا نجد “الجحيم” وهو المجتمع الجديد، سماته الجديدة، أسياده الجدد، قوانينه الجديدة، آلهته الجديدة، كلها تقوّض القيم القديمة، وتوزع لعبة جديدة. تتمزق الأقنعة الاحتفالية: وجوه الآلهة عارية، إنها تبدو الآن بشرية، بشرية جدا. ابن أوكونكو، الذي كان ينظر إليه والده على أنه كائن ضعيف، صدمته تفاهة القوانين التقليدية، فتحول إلى العقيدة البروتستانتية الجديدة، التي أصبح مبشرا متحمسا لها. لقد تمت هزيمة الأب. يسبق سقوطه الخلاص المحتمل للابن الذي يختفي من الرواية ابتداء من تحوله العقدي، والذي يخمن القارئ أنه سيتمكن بعد ذلك من الاستفادة من الصفقة الجديدة لينجح حيث فشل والده.
إن العالم الأصلي الذي يهواه أوكونكو كثيرا، والذي تمكننا ملاحظته من مستوى الأرضية السردية، في أكثر وظائفه عريا، هو مصفوفة اجتماعية مثل أيّ مصفوفة أخرى، ليست أخلاقية أكثر أو أقل من أيّ مصفوفة أخرى. ومع ذلك، فهو ينسب إليها قيمة قوية جدا، بحيث يتضح سريعا أن أيّ مكان للإقامة سيكون مستحيلا. لن يكون قادرا على العيش في عالم الخضوع الجديد المقدم له، من خلال التدخل اللطيف أو الوحشي للمبشرين.
وتمكنت الشخصيات الأكثر حكمة (أوبيريكا، الصديق المخلص، أوشيندو، العم القديم) من مواجهة الظلم والتجاوزات التي تواجههم بها عوالمهم الأصلية والنهائية. هذا ليس موقف أوكونكو، الذي ستأتي مأساته برمتها على وجه التحديد من رفضه للنهايات: إرادته المحافظة، ثم الإصلاحية، هي موقف أخلاقي رائع وفخور ومتغطرس، لكنه لا يمكنه الدفاع عنه بمفرده. فعندما يتم رفع حواجز بسرعة كبيرة عن بناء اجتماعي، فإن الرجل، مهما كان كفاحه مبررا، لا يمكنه فعل أيّ شيء.
تمرد الأب
تقدم شخصية أوكونكو بشكل خاص على أنها وصف للالتزام المفرط وغير المعقول بقيم المجتمع. هذه العضوية لها أسبابها. كرد فعل على والده الكسول وغير القادر، تبنى أوكونكو قيم المجتمع التقليدي الذي يسعى للنهوض به. ضد إهمال الأب وتراخيه. يصوغ أوكونكو فلسفة شخصية للجهد والعمل والقتال والتصميم في خدمة تراث يُنظر إليه على أنه غير قابل للتغيير. ليست أفعاله محكومة بالإرث الذي ينقله الأب، إنها محكومة بتراث خيالي، تراث أب اجتماعي، غير واقعي، بضرورة ملحة. لأنه حُرم من التنظيم الداخلي بسبب والده عديم الجدوى، يفرض أوكونكو بشكل متطرف الواجبات الاجتماعية لمجموعته. يصبح ابن الكسلان عديم الجدوى، قاضيا متطلبا ومظلما لا يرحم. إنه ليس أبا، إنه الآب.
لقد قرر أوكونكو أن تحترمه قريته وكل القرى المجاورة. إن لديه أهدافا محددة للغاية. ولنسيان عار أبيه، فإنه سيطبق قرارات جماعته دون أدنى قلق أو اكتراث، بغض النظر عما إذا كانت تبدو غير مقبولة أو لا تطاق لشعبه. أوكونكو “أحد أعمدة المجتمع”، أعمى عن التقدير الذاتي لأفعاله، مؤمن أكثر من أيّ شخص آخر بشرعيتها، وموضوعيتها وصحتها الاجتماعية. إنه يسعى بشكل مفرط من أجل إسعاد القريبين منه - نشاطه، جديته، وعمله الدؤوب - وكذلك مفرط في سعيه لتعاستهم - عناده، عنفه، الضغط الاجتماعي الذي يمارسه -.
لا ينبغي أن تضللنا هذه الصورة المظلمة، فالمؤلف لا ينزع الشرعية عن قتال أوكونكو وتمرده ضد العالم الاستعماري. سينتهي المطاف بالعم العجوز أوشندو – ممثل الحكمة الأخلاقية المنفتحة والذكية، والذي غالبا ما يشك في تجاوزات أوكونكو - أمام مواجهة التهديدات التي تثقل المجتمع التقليدي، إلى الالتحاق به. من تصدق؟ الأب أم الابن؟ قوة الإرث أم القدرة على التكيف؟ أخلاقيات القناعة أم أخلاقيات المسؤولية؟ مهما كان الأب، فإنه يركض نحو خسارته.
إن تمسكه بالقيم التقليدية مرضيّ، إنها حماسة، تكاد تكون تعصبا. سيستضيف اوكونكو طفلا صغيرا لمدة ثلاث سنوات، رهينة مأخوذ من قرية مجاورة، اسمه إكيمفونا. ومع ذلك، أصبح إكيمفونا أفضل صديق لابن أوكونكو الأكبر، ليصبح تقريبا أحد أفراد الأسرة بمثابة ابنه.
أخبر شيوخ القرية أوكونكو أنه تجب التضحية بهذا الطفل للآلهة لوضع حد للجفاف الرهيب. يوافق أوكونكو على إعدامه دون تردد، ويشارك فيه. إنه كبت المشاعر الحازم الذي يتوقّعه منه شيوخ القرية. يتمسك “البطل” بعالمه الاجتماعي، إنها مسألة عدم الفشل، وعدم إظهار نقاط الضعف، وتطبيق قرارات المجتمع دون تأنيب الضمير. إنه متطرف، راديكالي، ومن هنا هذه المحافظة تصبح رد فعل. بعد وفاة إيكيميفونا، يعاني أوكونكو جسديا لعدة أيام - جسديا فقط لأن جريمة القتل هذه لا تظهر في شكل ندم في وعيه الكامل - ثم ينسى. لكن ابنه لن ينسى. لا أدري لم ذكّرني هذا الموقف بقبول إبراهيم التضحية بإسماعيل؟
لكي يكون أوكونكو هو الأب، في النطاق الكامل لواجباته الاجتماعية، يجب أن يتخلّى عن كونه أبا، ويحمي نفسه قبل النظام الاجتماعي. إنه يضحي بابنه بالتبني، ويتخلى عن ابنه البيولوجي عندما يطلب المجتمع منه ذلك. إنه يتوافق مع الخيال الاجتماعي بدلا من الرسالة البيولوجية. قاتل أوكونكو والده، وحارب ابنه، لأنهما ليسا أهلا لحمل إرث المجتمع، وتجسيد الأبوة الاجتماعية الخيالية، ونقل القيم التي يلتزم بها أكثر من أيّ شيء آخر. يلتقط أتشيبي أمراض الانتقال والإرث، عندما تكون أكثر حساسية، في مجتمع في حالة انهيار كامل، وتحول كامل.
“الأشياء تتداعى”، ليست رواية تمرّد الأبناء، إنها رواية تمرّد الآباء، تمرّد مدان مسبقا، ثورة لا طائل منها، رغم كونها حتمية. من خلال ضمان نقل التراث، يحافظ أوكونكو على المعنى التاريخي لوجوده، وعلى البناء الذي تقوم عليه حياته، ضد والده عديم القيمة. يريد أن يحتفظ بصرح الوقت بين ذراعيه. إن الأشياء تتداعى، لذلك يجب علينا التمسك بها، ورفض العالم الآتي، رفض الفوضى، والانهيار. باختصار، يجب عليه أن يقاتل.
إذن، لأنه عماد المجتمع، لأنه الرجل المحافظ، سيصبح ثوريا كردة فعل على هذا التغيير الجذري.
أوكونكو، الذي ثار ضد النظام الجديد، حريصا على حماية شخصيته كضامن اجتماعي معياري، بصفته الأب الاجتماعي للجماعة، سينتهي به الأمر إلى مواجهة بديل لا يكون فيه أيّ من المسارات المقترحة شيئا جيدا. المحافظة مستحيلة، وردة الفعل محكوم عليها بالفشل. ستكون آخر خيانات الرواية هي خيانة أوكونكو، ضد كل ما كان يعتقد أنه يجسده: الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية. لم يكن هناك مخرج. يمثل الفصل الأخير تفكك العالم القديم. التخلص من الأب، من مركب الأجيال المرهق، من تجاوزاته ومزاياه. يقدم المجتمع الجديد نفسه غير منظم، في حالة خراب، إنه يفتح على عنوان وول سوينكا، الروائي النيجيري العظيم الآخر “موسم غير أخلاقي اجتماعيا”.
العرب اللندنية
وليد الاسطل..ناقد وشاعر فلسطيني
بعض الكتاب لا يحتاجون إلى محاولة تجريبية. فروايتهم الأولى تُظهر أنهم سادة أنفسهم وفنهم. يقودون بيد قوية سردا ذا مغزى. لكتاباتهم رنة نقية وواضحة، يرتكز بناؤها على أسس متينة وعميقة. ويبدو سردهم الرصين والبارع مشدودا مثل وتر القوس، مشبعا، جاهزا لدفع سهم رومانسي حاد بقوة إلى قلب أكثر القراء صلابة. هؤلاء المؤلفون هم من الشباب ولكن سردهم لا عمر له. إنهم يصلون إلى ما لم يصل إليه أحد بعد، إلى النقطة المركزية. يبلغون بسهولة محيرة ما يبلغه المعلمون القدامى المجتهدون بنضج بطيء وبجهود مضنية ومتواصلة. إنهم ظواهر نادرة: كامو في “الغريب”، توماس مان في “بودنبروكس”، تشينوا أتشيبي في “الأشياء تتداعى”.
ليست أعمال تشينوا أتشيبي معروفة بشكل جيد في عالمنا العربي، رغم كونها من بين أهم الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية في نصف القرن الماضي. “الأشياء تتداعى” هي رواية عالمية، مرثية منطقية، مصحوبة باقتصاد وكثافة لغوية. هذه الرواية، الموجزة، دون أن تظهر عارية، تقدم نفسها بشكل واضح للغاية على أنها قصة سقوط، قصة رجل، أوكونكو، ولكن أيضا قصة ثقافة، وحضارة، نيجيريا العميقة، شعب الإيغبو زمن وصول المبشرين والجنود البيض.
تقدم الرواية بأقسامها الثلاثة، التي تستأنف مخطط دانتي القديم وتعكسه، على التوالي، أوكونكو في “الفردوس” و”المطهر” و”الجحيم”. يفهم أيّ قارئ، من الأسطر القليلة الموجودة أعلاه، أن “الفردوس” هو عالم أسود تقليدي، قرى زراعية غير متغيرة متمسكة بتقليد قديم، أن “المطهر” هو عالم يتم غزوه تدريجيا، وتقويضه من الداخل، حيث يجب أن تتعايش القيم البيضاء والسوداء، لفترة أقل بشكل واضح.
دون انحياز سطحي
الجحيم” هو العالم الاستعماري، الانتصار الحتمي لحضارة على أخرى، مما يشير إلى نهاية المجتمع القديم. أوكونكو مطرود من “الجنة” في نهاية الجزء الأول وكل جهوده للعودة إليها، إصراره وشجاعته لن يكونا كافيين للعثور عليها. لا يمكن أن تبقى “جنته” سليمة في المنفى. لقد قوضها البيض. وعودة المنفيّ تخيّب آماله. لن يجد أوكونكو العالم الأصلي أبدا، بل عالما متغيرا ومضطربا وفاسدا. إن سقوط هذا المجتمع يعني سقوطه هو كذلك.
دون الكشف عن الحبكة كثيرا، أود أن أعود إلى بعض جوانب عملية في هذه الرواية.
تكمن عبقرية أتشيبي في عدم البقاء على السطح التعليمي الوعظي، الذي يبدو مبسطا للسرد التاريخي. على عكس ما قد يوحي به الملخص أعلاه، لم يكتب أتشيبي رواية أطروحة. يكمن ثراء هذه الصفحات الـ250 في تعدد وعمق التفسيرات المحتملة. إنه ليس عملا قتاليا، تم تصوره فقط من منظور الشرعية الثقافية للنضال من أجل الاستقلال. ولا يتمتع المجتمع التقليدي بأي تفوق أخلاقي على المجتمع الجديد، والعكس أيضا صحيح.
يمكننا ملاحظة الهياكل الاجتماعية في حالة من العمل والفعل، فأحيانا تكون قمعية، وأحيانا متحررة، وأحيانا دافئة، وأحيانا متجمدة. يشير أتشيبي إلى الجوانب غير الأخلاقية والوحشية للأداء الاجتماعي التقليدي، كما يتطرق كذلك إلى البيئة الطبيعية ومشاكلها: القبض على رهائن، القتل القرباني، التخلي عن الأطفال، الأوبئة، الجفاف. إنها حياة القرية الأفريقية وقد أرجعت إلى مأساتها القديمة، إلى واقع غير رومانسي، تعج بالتفاصيل والأمثال و”اللون المحلي”. إنها أيضا حياة قرية سعيدة تتخللها الأفراح والاحتفالات والعادات القديمة. إنها الحياة الصاخبة للعالم القديم، قبل أن يغزو غطاء من الصمت أفريقيا القديمة. ينبغي علينا أن نعترف بأن البيض قد جلبوا معهم الطب إلى إفريقيا، وجلبوا إليها معهم الحديد والنار والموت أيضا.
تتم ملاحظة المعتقدات الاجتماعية ويتم تنظيمها بنفس العناية ونفس التوازن. تبدو قوة الآلهة ممكنة وغير مؤكدة. فتاة صغيرة تشفى بعد تدخل امرأة ساحرة. تتبع الحقيقتان بعضهما البعض دون تقديمهما صراحة كسلسلة سببية. يعالج المبشرون البيض بسهولة القرويين الذين أدانتهم الآلهة السوداء. من يصدق حين يتقاطع نموذجان ويتداخلان بكفاءة متماثلة؟
تتم ملاحظة العوالم الثلاثة من وجهة نظر أوكونكو. من الواضح أن “الجنة” هي الحضارة القديمة غير الملموسة والثابتة للسحرة والعودة الأبدية للفصول، وهي مجال من المعتقدات المتشابكة والمتماسكة. فيه لا يُشتبه في الآلهة أبدا أنها غير قادرة أو عديمة الفائدة. بينما الطقوس التي يلتزم بها الجميع هي ما يجعل المجتمع متماسكا.
وينقل لنا الروائي بدقة الأخلاق الجماعية خاصة تلك الخاصة بنقل الإرث، والمرور بين سلسلة أجيال من الحكمة ذات الجذور غير المؤكدة والبعيدة، والتي يرمز إليها تفوق القدماء، الحكماء، على المجتمع. ويحضر الأب كملك وكـ”مطهر” للأشياء التي تتداعى في أرض بلا إنسان، وفي عالم وسيط بين القديم والجديد، حيث اليقين آخذ في التلاشي والنظام القديم ينهار ويتفكك. الشرعي يصبح غير شرعي، ويستولي الشباب على المشعل القديم للحكماء والآباء ويطفئونه. فيصبح الأبناء أبناء لا أحد، وتصبح الخطوط التاريخية غير واضحة وعرش الأب مهددا، فلا شيء مؤكدا بعد الآن.
“المطهر” يمثل وقتا مفتوحا، ينتظر ما لا يمكن علاجه لتعريفه وتقييده. وأخيرا نجد “الجحيم” وهو المجتمع الجديد، سماته الجديدة، أسياده الجدد، قوانينه الجديدة، آلهته الجديدة، كلها تقوّض القيم القديمة، وتوزع لعبة جديدة. تتمزق الأقنعة الاحتفالية: وجوه الآلهة عارية، إنها تبدو الآن بشرية، بشرية جدا. ابن أوكونكو، الذي كان ينظر إليه والده على أنه كائن ضعيف، صدمته تفاهة القوانين التقليدية، فتحول إلى العقيدة البروتستانتية الجديدة، التي أصبح مبشرا متحمسا لها. لقد تمت هزيمة الأب. يسبق سقوطه الخلاص المحتمل للابن الذي يختفي من الرواية ابتداء من تحوله العقدي، والذي يخمن القارئ أنه سيتمكن بعد ذلك من الاستفادة من الصفقة الجديدة لينجح حيث فشل والده.
إن العالم الأصلي الذي يهواه أوكونكو كثيرا، والذي تمكننا ملاحظته من مستوى الأرضية السردية، في أكثر وظائفه عريا، هو مصفوفة اجتماعية مثل أيّ مصفوفة أخرى، ليست أخلاقية أكثر أو أقل من أيّ مصفوفة أخرى. ومع ذلك، فهو ينسب إليها قيمة قوية جدا، بحيث يتضح سريعا أن أيّ مكان للإقامة سيكون مستحيلا. لن يكون قادرا على العيش في عالم الخضوع الجديد المقدم له، من خلال التدخل اللطيف أو الوحشي للمبشرين.
وتمكنت الشخصيات الأكثر حكمة (أوبيريكا، الصديق المخلص، أوشيندو، العم القديم) من مواجهة الظلم والتجاوزات التي تواجههم بها عوالمهم الأصلية والنهائية. هذا ليس موقف أوكونكو، الذي ستأتي مأساته برمتها على وجه التحديد من رفضه للنهايات: إرادته المحافظة، ثم الإصلاحية، هي موقف أخلاقي رائع وفخور ومتغطرس، لكنه لا يمكنه الدفاع عنه بمفرده. فعندما يتم رفع حواجز بسرعة كبيرة عن بناء اجتماعي، فإن الرجل، مهما كان كفاحه مبررا، لا يمكنه فعل أيّ شيء.
تمرد الأب
تقدم شخصية أوكونكو بشكل خاص على أنها وصف للالتزام المفرط وغير المعقول بقيم المجتمع. هذه العضوية لها أسبابها. كرد فعل على والده الكسول وغير القادر، تبنى أوكونكو قيم المجتمع التقليدي الذي يسعى للنهوض به. ضد إهمال الأب وتراخيه. يصوغ أوكونكو فلسفة شخصية للجهد والعمل والقتال والتصميم في خدمة تراث يُنظر إليه على أنه غير قابل للتغيير. ليست أفعاله محكومة بالإرث الذي ينقله الأب، إنها محكومة بتراث خيالي، تراث أب اجتماعي، غير واقعي، بضرورة ملحة. لأنه حُرم من التنظيم الداخلي بسبب والده عديم الجدوى، يفرض أوكونكو بشكل متطرف الواجبات الاجتماعية لمجموعته. يصبح ابن الكسلان عديم الجدوى، قاضيا متطلبا ومظلما لا يرحم. إنه ليس أبا، إنه الآب.
لقد قرر أوكونكو أن تحترمه قريته وكل القرى المجاورة. إن لديه أهدافا محددة للغاية. ولنسيان عار أبيه، فإنه سيطبق قرارات جماعته دون أدنى قلق أو اكتراث، بغض النظر عما إذا كانت تبدو غير مقبولة أو لا تطاق لشعبه. أوكونكو “أحد أعمدة المجتمع”، أعمى عن التقدير الذاتي لأفعاله، مؤمن أكثر من أيّ شخص آخر بشرعيتها، وموضوعيتها وصحتها الاجتماعية. إنه يسعى بشكل مفرط من أجل إسعاد القريبين منه - نشاطه، جديته، وعمله الدؤوب - وكذلك مفرط في سعيه لتعاستهم - عناده، عنفه، الضغط الاجتماعي الذي يمارسه -.
لا ينبغي أن تضللنا هذه الصورة المظلمة، فالمؤلف لا ينزع الشرعية عن قتال أوكونكو وتمرده ضد العالم الاستعماري. سينتهي المطاف بالعم العجوز أوشندو – ممثل الحكمة الأخلاقية المنفتحة والذكية، والذي غالبا ما يشك في تجاوزات أوكونكو - أمام مواجهة التهديدات التي تثقل المجتمع التقليدي، إلى الالتحاق به. من تصدق؟ الأب أم الابن؟ قوة الإرث أم القدرة على التكيف؟ أخلاقيات القناعة أم أخلاقيات المسؤولية؟ مهما كان الأب، فإنه يركض نحو خسارته.
إن تمسكه بالقيم التقليدية مرضيّ، إنها حماسة، تكاد تكون تعصبا. سيستضيف اوكونكو طفلا صغيرا لمدة ثلاث سنوات، رهينة مأخوذ من قرية مجاورة، اسمه إكيمفونا. ومع ذلك، أصبح إكيمفونا أفضل صديق لابن أوكونكو الأكبر، ليصبح تقريبا أحد أفراد الأسرة بمثابة ابنه.
أخبر شيوخ القرية أوكونكو أنه تجب التضحية بهذا الطفل للآلهة لوضع حد للجفاف الرهيب. يوافق أوكونكو على إعدامه دون تردد، ويشارك فيه. إنه كبت المشاعر الحازم الذي يتوقّعه منه شيوخ القرية. يتمسك “البطل” بعالمه الاجتماعي، إنها مسألة عدم الفشل، وعدم إظهار نقاط الضعف، وتطبيق قرارات المجتمع دون تأنيب الضمير. إنه متطرف، راديكالي، ومن هنا هذه المحافظة تصبح رد فعل. بعد وفاة إيكيميفونا، يعاني أوكونكو جسديا لعدة أيام - جسديا فقط لأن جريمة القتل هذه لا تظهر في شكل ندم في وعيه الكامل - ثم ينسى. لكن ابنه لن ينسى. لا أدري لم ذكّرني هذا الموقف بقبول إبراهيم التضحية بإسماعيل؟
لكي يكون أوكونكو هو الأب، في النطاق الكامل لواجباته الاجتماعية، يجب أن يتخلّى عن كونه أبا، ويحمي نفسه قبل النظام الاجتماعي. إنه يضحي بابنه بالتبني، ويتخلى عن ابنه البيولوجي عندما يطلب المجتمع منه ذلك. إنه يتوافق مع الخيال الاجتماعي بدلا من الرسالة البيولوجية. قاتل أوكونكو والده، وحارب ابنه، لأنهما ليسا أهلا لحمل إرث المجتمع، وتجسيد الأبوة الاجتماعية الخيالية، ونقل القيم التي يلتزم بها أكثر من أيّ شيء آخر. يلتقط أتشيبي أمراض الانتقال والإرث، عندما تكون أكثر حساسية، في مجتمع في حالة انهيار كامل، وتحول كامل.
“الأشياء تتداعى”، ليست رواية تمرّد الأبناء، إنها رواية تمرّد الآباء، تمرّد مدان مسبقا، ثورة لا طائل منها، رغم كونها حتمية. من خلال ضمان نقل التراث، يحافظ أوكونكو على المعنى التاريخي لوجوده، وعلى البناء الذي تقوم عليه حياته، ضد والده عديم القيمة. يريد أن يحتفظ بصرح الوقت بين ذراعيه. إن الأشياء تتداعى، لذلك يجب علينا التمسك بها، ورفض العالم الآتي، رفض الفوضى، والانهيار. باختصار، يجب عليه أن يقاتل.
إذن، لأنه عماد المجتمع، لأنه الرجل المحافظ، سيصبح ثوريا كردة فعل على هذا التغيير الجذري.
أوكونكو، الذي ثار ضد النظام الجديد، حريصا على حماية شخصيته كضامن اجتماعي معياري، بصفته الأب الاجتماعي للجماعة، سينتهي به الأمر إلى مواجهة بديل لا يكون فيه أيّ من المسارات المقترحة شيئا جيدا. المحافظة مستحيلة، وردة الفعل محكوم عليها بالفشل. ستكون آخر خيانات الرواية هي خيانة أوكونكو، ضد كل ما كان يعتقد أنه يجسده: الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية. لم يكن هناك مخرج. يمثل الفصل الأخير تفكك العالم القديم. التخلص من الأب، من مركب الأجيال المرهق، من تجاوزاته ومزاياه. يقدم المجتمع الجديد نفسه غير منظم، في حالة خراب، إنه يفتح على عنوان وول سوينكا، الروائي النيجيري العظيم الآخر “موسم غير أخلاقي اجتماعيا”.
العرب اللندنية