رحلة جلجامش الأسطوريَّة
الثلاثاء 21 حزيران 2022
ناجح المعموري
سيظل الحوار المشترك مع صاحبة الحانة متجوهراً في الذاكرة خصوصاً بعد الفجيعة التي عرفها الملك جلجامش وعاش تفاصيلها، وعانى منها كثيراً، بعدما رأى صديقه «انكيدو» بالصورة التي ظهر عليها في النصّ وحتماً اهتم الذي كتب بتخليص النص مع المغالاة والمبالغة في وصف المشهد المخيف للغياب في طور الغروب، حيث الخريف والموت العنيف، وهزيمة البطل.
تساعدنا القراءة العميقة للعلاقة بين جلجامش وانكيدو، على التبصّر، بوجود تباين لها في المراحل المختلفة التي ميزت تلك الصداقة. لحظة الدخول مختلفة، عن السائد بعدها مباشرة لكن ما حصل فعلياً، هو نشوء لحظة صداقة شهيرة، أعادت إنتاجها ملاحم شرقية أخرى. ومكملات السرد الملحمي -عندما دخل أنكيدو للمدينة ــ امتداد للسرد الأسطوري الذي ابتدأت به الملحمة والسؤال المتبادر الآن للذهن، هو أن أنكيدو غائب عن فاتحة النص الملحمي بينما دخل أنكيدو طرقاً حيوياً في النص، واكتفت الفاتحة بالملك، ومهّدت للنص، كي تجعله مركزاً مهيمناً في السرد الملحمي. واستمر وجود انكيدو هامشاً ــ على الرغم من أفعاله ــ وكان نصيبه الندب والرثائية الشهيرة في تاريخ الآداب القديمة.
وللرثاء كظاهرة من المزاولات اليومية المعروفة عند الفقدان، لكن الملك النادب ظاهرة لم تكن معروفة من قبل، وهي حالة فريدة، ونستطيع القول بأنّها أصلاً.
تمثل رحلة جلجامش إلى سيدوري وسرد ما تعرفه هي، محاولة منه للابتعاد عن شبح الموت ومخاوف التحولات الطارئة على جسد صديقه من أجل تحقيق هذه الغاية.. يبحث ليفناس عن الوسيلة التي يستعملها الآخر ليقاوم بها العدم وينتصر في وجوده من دون أن يهمل مأساة موته الخاص وحزنه من موت الآخر، لذلك يرى الوجود المائت على أنه في الوقت نفسه وجود من أجل الموت، ووجود ضده وتشبّثاً بالحياة. صحيح أن الموت يهدد الذات في وجودها الخاص ولكنها تمتلك الوقت الكافي لإثبات وجودها بالنسبة إلى الآخر وللعثور على المعنى على الرغم من الموت، أن الذات مدعوة لكي تعترض على عنف الموت بالطيبة حيث ينبغي أن يستفيد المرء من خير الآخرين ما دام على قيد الحياة، بعبارة أخرى أن الموت يعطي معنى للوقت المتبقي للحياة لكي يكون انهمامنا بالوجود خاصة وأن المستقبل المهيمن عليه السأم من الموت لن يصبح مستقبلي لوحدي، بل الذي يشاركني فيه الآخر.
اهتمَّ ليفناس في الغيريّة بثالوث معروف لدى المهتمين بالعلاقة بين الأنا والآخر، وكشف هذا النص مختصراً مركزاً ومركزياً في فلسفة ليفناس الذي انشغل كثيراً بالآليَّة التي بإمكان الكائن أن توظفها ويعتمد عليها ليقاوم بها الاندثار والعدم وينتصر عليه، لكن ليفناس يؤكد شرط جوهري وهو أن الإنسان حتى إذا حقق فوزه، عليه أن لا يتجاهل لحظته الكامنة في فضاء الآتي/ المستقبل، كذلك أشار بضرورة أن يهتم بغياب الآخر، وعليه أن يعبر عن حزنه على ذلك، وهنا يتم لقاء ليفناس بفلسفته مع ما فعله الملك جلجامش الذي بكى غياب صديقه، ولم يهمل كلياً لحظته المتحققة في يوم ما.
إنَّ الموت يطارد الأنا/ التي تعرف نفسها، وتعلن دائماً عن دورها في الفضاء الاجتماعي، عن علاقة مع الآخر، لأن الذات في فلسفة ليفناس غير ذات قيمة انطولوجية بعيداً عن الآخر، الذي يعول عليه في رسم اعترافات الأنا التي عليها أن لا تتجاهل رعب الغياب «ويلاحظ انطباق هذه النظرية على جلجامش» كما هو واضح. وتدفع فلسفة ليفناس عميقاً وراء المشترك بين الآنا/ والآخر. ولا يمكنها التفكير بمعزل عن بعضهما البعض، ولا تنجح محاولات أي منهما لتجاهل الموت وحضوره، لأنه ــ الموت ــ ملحوظ في وجه الآخر، وجلد الآخر. بمعنى أن ليفناس جعل من الموت حضوراً مشتركاً ومفروضاً على الثنائي الحياتي، رجل مع رجل، رجل مع امرأة وهذا ما سنتحدث عنه أيضاً، وتمركز الموت في فكر ليفناس وصار وسيطاً بين الله والمرأة. انشغل كاتب النص برحلة جلجامش، لأنها تتجه نحو المجهول والعتمة من أجل الوصول للنور. إنه ــ بتوظيف أفكار هيغل ــ الذات في صراعهما مع الحياة وجدلها مع تكوناتها المستمرة. ومثل هذه الذات/ الأنا الجلجامشية، لا تعلن فشلها، بعد الرحلات المتعددة، لأنه يعود منتصراً، مدعوماً بالإلهي والمقدس، ويعاود بعد استراحة مؤقتة للدخول بمغامرة ثانية. لكنه ــ جلجامش ــ واجه، أو ــ الذات ــ محنة الموت، والغياب، الملاحق له بعد تحققه بالطريقة التي صارت، دخل جلجامش بعد فوزه بالصراع مع الثور السحري/ الطوطم الخاص بالآلهة أنانا/ عشتار في محنة صعبة وخطرة، البحث عن حلم انطولوجي، حتى لا تصل للمصير الذي آل إليه انكيدو، وفعلاً تشابه جلجامش مع البطل الهيغلي، من حيث نتائج تجربته المريرة مع المشهد المأساوي الذي تبدّى فيه انكيدو. لذا كانت رحلته من أجل خلوده، وهي محاولة لترتيب حياته بشكل جديد، ومختلف. لكنه لم يحقق حلمه الذي أراد، بل واجه امتحاناً من نوع آخر، عند نزوله للاغتسال بالبئر.
الأنا/ الذات الجلجامشية عنيدة، ونرجسية واضحة والنصوص الدالة على ذلك عديدة ومتوفرة، تصل إليها، حتى القراءة السريعة. والإشارات تكررت حول الأنا/ الذات في النص، من أجل بناء تكوناته الجديدة التي يريد أن الذات الهيغلية قصة خيالية ذات قدرات لا نهائية، مسافر رومانيتكي لا تتعلم إلا مما يجري، وهو بحكم قدراته اللانهائية على ترميم نفسه لا يتحطم إلى حد يتعذر معه الإصلاح أبداً.
وباستفادة من فلسفة ليفناس أود الإشارة إلى أن رحلة جلجامش ومغامرته باتجاه اوتو ــ نابشتم وليدة الخاص بالعلاقة مع الحياة وهيمنة الأمل والارتباط بالمستقبل، إذ يجعلان معاً من الموت حدثاً ليس معروفاً وإنما مفهوماً ويرتبط بقوة مع الحب الشديد الذي يعوض الموت «أن ما نسميه حب هو الفعل الذي يتأثر بموت الآخر أكثر من الذات، إنه نتيجة حب الآخر بقوة، وليس الضيق من الموت الذي ينتظر الذات» أن الموت هو الخطر الذي آلى الموت، هو حضور الموت في تجربة الغير، وكما يقول ليفناس: إننا نلتقي بالموت في وجه الآخر.
واختصر ليفناس كثيراً من الآراء بقوله الكشاف عن دور الأنا/ الذات في العالم، حيث يكون الانتماء له، وبشكل عميق، وعلى الأنا أن يندمج في الحياة/ العالم، وتجنيد كل ما يملك من طاقات لخدمة ويجب أن ينحصر التفكير بالزمن لا كانحطاط للديمومة، بل كعلاقة مع الآخر المطلق الذي يظل غير مفهوم.
أنكيدو هو الذي منح جلجامش فرصاً جديدة في أوروك كملك لها وزوده بطاقات أخرى أشار لها النص ودفع به نحو محطة مغايرة للتي كان فيها. وانشغاله بالرحلة إضاءة معرفيَّة لما يتكون عليه هذا البطل، الذي عاد منتصراً كالعادة، لكن الأفعى سرقة عشبة الخلود. إنه بطل يقع بمأساة الفشل والخيبة والعودة مندحراً، بل عاد مكللاً بالفوز، لكن ما أرادته الآلهة له، لم يستطع أتو ــ نابشتم أن يخلخله. إنه بطل مختلف عن البطل الهيغلي في استمرار الأمل/ ومعاينة المستقبل، ولم يواجه نوعاً من العدم والإحباط. وهنا حصل تجديد معرفي في أفكار، ومعارف الملك ووضع خطوته قوية باتجاه الآخر. الذي سيجده أيضاً. لأن جلجامش بعد تجربته مع أنكيدو، لا يقوى الحياة والتمتع بها، بلا صديق. وإذا كانت المرحلة الأوركية التي أشارت لها فاتحة النص الملحمي، هي استدعت خلق أنكيدو، فإن المرحلة الأخيرة المتشكلة من مجموع انتصاراته في غابة الأرز والصراع مع الثور السحري، والرحلة إلى أتو ــ نابشتم، كلها بالضرورة تفرض نمطها الثقافي/ الديني/ السياسي، الجديد، وحتماً هي قادرة على ايجاد صديق لجلجامش، وهو آخر، لأنّ جلجامش لا يستطيع أن يكون إلا عبر الآخر، ولا يقدر على التمتع بحياته إلا بوجود الآخر، وهذا يعني بأنّه تعرف على نفسه منذ البداية وحتى النهاية. قال جلجامش كل ما في داخله من مواقف حياتية صريحة وواضحة بعد اغتيال انكيدو، واعتقد بانه أول اغتيال في تاريخ العالم. يكفي كلامه الكاشف عن صراحته وجديته لحظة التعبير عن موقفه مع الفجيعة ومثلما قال ليفناس «الواحد يعرض نفسه على الآخر مثل الجلد الذي يعرض نفسه للذي يجرحه».