الفلسفة وعلم الاجتماع
الدادائية
الدادائيةُ هي حركةٌ شِعريةٌ عبثيةٌ نشأَت في سويسرا عام ١٩١٦ أثناءَ الحربِ العالمية الأولى، وعبَّرت عن معاناةِ الشبابِ والمراهقين في ظلِّها، وأظهرت في المقابلِ فرحَهم وأملَهم عند انتهائِها، ورفعت هذه الحركةُ شعارَ: ( كلُّ شيءٍ لا شيء).
من أشهر أعلامها : مؤسِّسُها هوجو بال، وتريستان تزارا، وياناس آرب، وبريتون ...
وتتميَّزُ الدادائيةُ بارتكازِها إلى عُنصرَي السخريةِ والتحريضِ اللذَين ظهرَا في المنشورات الشعبيةِ التي كانت تُوزَّعُ على الناس آنذاك، واستمرت بضعَ سنواتٍ حتى عام ١٩٢٤ مُعلِنةً بدايةَ الحركة السُرياليّة من ورائها.
وليستِ الدادائيةُ سوى ظاهرةٍ ثوريةٍ بارزةٍ ولَّدتْها ظروفُ أورُبَّا التاريخيةُ والاجتماعيةُ وتبدُّلُ الآراءِ والمفهوماتِ وتطوُّرُها في المجالاتِ العلمية.
أصلُ التسمية:
سُمِّيَ هذا التيارُ بالدادائيةِ بمحضِ الصُّدفةِ؛ إذ استفتحَ بعضُ الفنانين المعجمَ بطريقةٍ عشوائيةٍ، فوَقعَ اختيارُهم على لفظةِ " دادا"، وبهذهِ الطريقةِ العبثيةِ أطلقوا عليها اسمَ الدادائية!
وإنَّ عَبَثيّةَ كلٍّ من تسميةِ هذا التيّارِ وظهوره تصوِّرُ عبثيةَ الحربِ التي قد تظهرُ فجأةً في بلدٍ ما؛ لِتكبرَ وتمتدَّ إلى عدةِ بلدانٍ دونَ معرفةِ كيفيةِ نشأتِها ولا موعدِ خمودِها، وهذا هو حالُ الدادائيةِ التي ما لبثَت أن أصبحت حركةً عالميةً بسرعةٍ كبيرةٍ؛ إذ انطلقَت من مدينة زيورخ في سويسرا ومن ثمَّ انتقلت إلى ألمانيا حتّى وصلت فرنسا؛ ومنها إلى بقيةِ دولِ أورُبَّا والعالم، ويعود سببُ انتشارِها السريع إلى كونِها حركةَ غضَبٍ وتدميرٍ، وإلى طبيعتِها المتمرِّدة على العقل والمناقِضةِ للمنطق، وقد تماشت مع ما سادَ العالمَ - في أعقابِ الحربِ العالميةِ - من شعورٍ بتبدُّدِ الأحلامِ وخيبةِ الآمال وحاجةِ الشبابِ إلى التعبيرِ عن غضبِهم وعن العنفِ آنذاك، فابتعدوا عن أبياتِ الشِّعرِ المُنمَّقةِ وتزيينِ القوافي، وإنّما اهتمُّوا بالتعبيرِ عن عنفٍ داخليٍّ يسكنُ أرواحهم فقط.
أسسها ومبادئها:
ليس للحركةِ الدادائيةِ قواعدُ ولا قوانينُ خلافاً لتياراتِ الشِّعرِ الأُخرى، وإنّه لَمن الصعبِ أن نحدِّدَ منهجاً أو نظريةً معيَّنةً لحركةٍ ترفُضُ كلَّ أنواعِ النظرياتِ؛ إذ لا تلتزمُ الدادائيةُ إلَّا بمبدأِ النفيِ والإلغاءِ؛ إلغاءِ الماضي ومَحوِه، وإلغاءِ كلِّ قواعدِ الفِكرِ الفلسفيّ والثقافيّ، وإلغاءِ مبدأ الكتابةِ المُنمَّقةِ، وقد أعطت مجالاً واسعاً للكتابةِ الفِطريّةِ والارتجاليّةِ دونما قاعدةٍ أو مبدأ. وكان للمرأةِ قبولٌ كبيرٌ في هذا التيار أيضاً، فعومِلَت كصديقةٍ وشريكةٍ في العمل.
تأثيرُ الدادائيةِ في الفن:
أدخلَتِ الدادائيةُ "الغَرابةَ" في مجالِ الفن، ولم تدعُ إلى الفنّ؛ بل إلى اللافنّ! إذ لم يكُن لها شأنٌ باستخدامِ الألوانِ والخطوطِ وغيرِها من العناصر الأُخرى، بل دعَت إلى الرَّسمِ والكتابةِ على الأشياءِ المصنوعةِ العاديةِ لِتحلَّ محلَّ اللوحةِ.
ولم يتَّبعِ الدادائيُّون منهجاً مُحدَّداً للتعبيرِ عن آرائِهم، فقد لجأوا إلى كلِّ الوسائلِ التي تخطُر في بالهم، لذلك فقد عمدَ بعضُ فنانِّي هذا الاتجاهِ إلى تأليفِ لوحاتٍ من أشياءَ عاديةٍ جدّاً أثارَتِ الرأيَ العامَّ، وذلك لكونِها غيرَ مألوفةٍ في المجالِ الفني كصناديقِ الزجاجاتِ الفارغةِ (القناني) وبقايا الطعامِ وبعضِ القِطعِ المَرميَّة.
وقد أحبَّتِ الدادائيةُ العبَثَ لكونها تعرفُ أنَّ الحياةَ تتأكَّدُ في الضِّدِّ، لذا فقد أضافَ الدادائيُّ الفرنسيُّ "مارسيل دوشان" شارِبَين إلى وجه الجوكندا اللوحةِ الشهيرةِ؛ بهدفِ السخرية من صورةِ العالَمِ البرجوازية.
ويُمكِننا القولُ إنَّ هذه الحركةَ لم تهتمَّ بتنميقِ الأبياتِ وتجميلِ القوافي، وإنَّما بعنفِ المعاني والكلمات، مُحقِّقةً عنصرَي السخريةِ والتحريضِ، ومصوِّرةً الظروف النفسيةَ التي أحاطت بالمجتمعاتِ الأوروبيَّة إبّان الحرب العالميةِ الأولى
وبعدها بقليل.
وإنَّ مظاهرَها الجنونيةَ من معارضَ عجيبةٍ وحفلاتٍ غريبةٍ، ودعوتَها إلى عبثيةِ العقلِ والمنطق قد وجدَت فيهما الصُّحفُ مادّةً غزيرةً لتسليةِ قُرَّائِها الذين كانوا في أشدِّ الحاجةِ إلى ما يفرِّجُ همومَهم ومآسيهم، الأمرُ الذي ساعدَ على استمرارِ الدادائية عدة سنين.
مصادر المقال:
1- La poésie du XXe siècle: Révolutions et conquêtes
Histoire de la poésie française، Robert Sabatier
2- Encyclopaedia universalis. 7، Corpus. Dabrowska-Égypte،Paris : Encyclopaedia univers
الباحثون السوريون
الدادائية
الدادائيةُ هي حركةٌ شِعريةٌ عبثيةٌ نشأَت في سويسرا عام ١٩١٦ أثناءَ الحربِ العالمية الأولى، وعبَّرت عن معاناةِ الشبابِ والمراهقين في ظلِّها، وأظهرت في المقابلِ فرحَهم وأملَهم عند انتهائِها، ورفعت هذه الحركةُ شعارَ: ( كلُّ شيءٍ لا شيء).
من أشهر أعلامها : مؤسِّسُها هوجو بال، وتريستان تزارا، وياناس آرب، وبريتون ...
وتتميَّزُ الدادائيةُ بارتكازِها إلى عُنصرَي السخريةِ والتحريضِ اللذَين ظهرَا في المنشورات الشعبيةِ التي كانت تُوزَّعُ على الناس آنذاك، واستمرت بضعَ سنواتٍ حتى عام ١٩٢٤ مُعلِنةً بدايةَ الحركة السُرياليّة من ورائها.
وليستِ الدادائيةُ سوى ظاهرةٍ ثوريةٍ بارزةٍ ولَّدتْها ظروفُ أورُبَّا التاريخيةُ والاجتماعيةُ وتبدُّلُ الآراءِ والمفهوماتِ وتطوُّرُها في المجالاتِ العلمية.
أصلُ التسمية:
سُمِّيَ هذا التيارُ بالدادائيةِ بمحضِ الصُّدفةِ؛ إذ استفتحَ بعضُ الفنانين المعجمَ بطريقةٍ عشوائيةٍ، فوَقعَ اختيارُهم على لفظةِ " دادا"، وبهذهِ الطريقةِ العبثيةِ أطلقوا عليها اسمَ الدادائية!
وإنَّ عَبَثيّةَ كلٍّ من تسميةِ هذا التيّارِ وظهوره تصوِّرُ عبثيةَ الحربِ التي قد تظهرُ فجأةً في بلدٍ ما؛ لِتكبرَ وتمتدَّ إلى عدةِ بلدانٍ دونَ معرفةِ كيفيةِ نشأتِها ولا موعدِ خمودِها، وهذا هو حالُ الدادائيةِ التي ما لبثَت أن أصبحت حركةً عالميةً بسرعةٍ كبيرةٍ؛ إذ انطلقَت من مدينة زيورخ في سويسرا ومن ثمَّ انتقلت إلى ألمانيا حتّى وصلت فرنسا؛ ومنها إلى بقيةِ دولِ أورُبَّا والعالم، ويعود سببُ انتشارِها السريع إلى كونِها حركةَ غضَبٍ وتدميرٍ، وإلى طبيعتِها المتمرِّدة على العقل والمناقِضةِ للمنطق، وقد تماشت مع ما سادَ العالمَ - في أعقابِ الحربِ العالميةِ - من شعورٍ بتبدُّدِ الأحلامِ وخيبةِ الآمال وحاجةِ الشبابِ إلى التعبيرِ عن غضبِهم وعن العنفِ آنذاك، فابتعدوا عن أبياتِ الشِّعرِ المُنمَّقةِ وتزيينِ القوافي، وإنّما اهتمُّوا بالتعبيرِ عن عنفٍ داخليٍّ يسكنُ أرواحهم فقط.
أسسها ومبادئها:
ليس للحركةِ الدادائيةِ قواعدُ ولا قوانينُ خلافاً لتياراتِ الشِّعرِ الأُخرى، وإنّه لَمن الصعبِ أن نحدِّدَ منهجاً أو نظريةً معيَّنةً لحركةٍ ترفُضُ كلَّ أنواعِ النظرياتِ؛ إذ لا تلتزمُ الدادائيةُ إلَّا بمبدأِ النفيِ والإلغاءِ؛ إلغاءِ الماضي ومَحوِه، وإلغاءِ كلِّ قواعدِ الفِكرِ الفلسفيّ والثقافيّ، وإلغاءِ مبدأ الكتابةِ المُنمَّقةِ، وقد أعطت مجالاً واسعاً للكتابةِ الفِطريّةِ والارتجاليّةِ دونما قاعدةٍ أو مبدأ. وكان للمرأةِ قبولٌ كبيرٌ في هذا التيار أيضاً، فعومِلَت كصديقةٍ وشريكةٍ في العمل.
تأثيرُ الدادائيةِ في الفن:
أدخلَتِ الدادائيةُ "الغَرابةَ" في مجالِ الفن، ولم تدعُ إلى الفنّ؛ بل إلى اللافنّ! إذ لم يكُن لها شأنٌ باستخدامِ الألوانِ والخطوطِ وغيرِها من العناصر الأُخرى، بل دعَت إلى الرَّسمِ والكتابةِ على الأشياءِ المصنوعةِ العاديةِ لِتحلَّ محلَّ اللوحةِ.
ولم يتَّبعِ الدادائيُّون منهجاً مُحدَّداً للتعبيرِ عن آرائِهم، فقد لجأوا إلى كلِّ الوسائلِ التي تخطُر في بالهم، لذلك فقد عمدَ بعضُ فنانِّي هذا الاتجاهِ إلى تأليفِ لوحاتٍ من أشياءَ عاديةٍ جدّاً أثارَتِ الرأيَ العامَّ، وذلك لكونِها غيرَ مألوفةٍ في المجالِ الفني كصناديقِ الزجاجاتِ الفارغةِ (القناني) وبقايا الطعامِ وبعضِ القِطعِ المَرميَّة.
وقد أحبَّتِ الدادائيةُ العبَثَ لكونها تعرفُ أنَّ الحياةَ تتأكَّدُ في الضِّدِّ، لذا فقد أضافَ الدادائيُّ الفرنسيُّ "مارسيل دوشان" شارِبَين إلى وجه الجوكندا اللوحةِ الشهيرةِ؛ بهدفِ السخرية من صورةِ العالَمِ البرجوازية.
ويُمكِننا القولُ إنَّ هذه الحركةَ لم تهتمَّ بتنميقِ الأبياتِ وتجميلِ القوافي، وإنَّما بعنفِ المعاني والكلمات، مُحقِّقةً عنصرَي السخريةِ والتحريضِ، ومصوِّرةً الظروف النفسيةَ التي أحاطت بالمجتمعاتِ الأوروبيَّة إبّان الحرب العالميةِ الأولى
وبعدها بقليل.
وإنَّ مظاهرَها الجنونيةَ من معارضَ عجيبةٍ وحفلاتٍ غريبةٍ، ودعوتَها إلى عبثيةِ العقلِ والمنطق قد وجدَت فيهما الصُّحفُ مادّةً غزيرةً لتسليةِ قُرَّائِها الذين كانوا في أشدِّ الحاجةِ إلى ما يفرِّجُ همومَهم ومآسيهم، الأمرُ الذي ساعدَ على استمرارِ الدادائية عدة سنين.
مصادر المقال:
1- La poésie du XXe siècle: Révolutions et conquêtes
Histoire de la poésie française، Robert Sabatier
2- Encyclopaedia universalis. 7، Corpus. Dabrowska-Égypte،Paris : Encyclopaedia univers
الباحثون السوريون