الدادائية.. الحركة الثقافية التي شَكَّكت بكل شيء
"إن ملهى فولتير لهو بمثابة برج إيفل مدينة زيورخ"! هذا ما قاله مؤخرا أحد أساتذة تاريخ الفن المخضرمين لـ يوري شتاينَر، كبير القيمين على إحتفالات اليوبيل المئوي لولادة حركة دادا. وكانت الحركة قد إنطلقت من هذا الملهى قبل ١٠٠عام
تحتفل مدينة زيورخ هذا العام بالذكرى المائوية لنشوء الحركة الثقافية الوحيدة التي انطلقت من سويسرا لتغزو العالم برمته: دادا.
لا شك أن العمل الفني الأكثر مَبيعاً لحركة دادا (أو الحركة الدادائية) هو العُملة السويسرية الورقية من فئة 50 فرنك. وتحمل هذه الورقة النقدية صورة الفنانة السويسرية صوفي تاوبر - أرب، التي كانت مع زوجها من أشهر أتباع هذه الحركة. وفي الواقع، تمثل حركة دادا أكثر بكثير من مجرد الشعر الصوتي الخالي من الكلمات والمعاني، على شاكلة قصيدة "غاجي بيري بيمبا" الصوتية الشهيرة للمسرحي والشاعر والروائي الألماني هوغو بال، أحد أهم مؤسسي هذه الحركة. ولم تكن الدادائية مجرد شعور بالعبثية والفوضى والرفض لكل ما يكبح جموح التلقائية في الإبداع الفني فحسب، ولكنها كانت العشوائية والحَدَث وفن الملصقات وأسلوب الطباعة والعديد من المجالات الأخرى أيضاً. وقبل كل شيء، كانت التعبير عن كل ما هو غير تقليدي.
أما بداية كل شيء فكانت في زقاق ‘شبيغَلغاسّة’ (Spiegelgasse) في منطقة ‘نيدَردورف’ (Niederdorf)، أحد أجزاء البلدة القديمة في مدينة زيورخ. هنا، وفي المبنى رقم 1 بالتحديد، يمكن العثور مرة ثانية وبعد سبات طويل على كابريه فولتيررابط خارجي الذي شهد الإعلان الأول لقيام هذه الحركة.
واليوم، وبعد انقضاء 100 عام على هذا الحدث، لا يبدو هناك تغيير يُذكر في الصالة الرئيسية لـ‘مبنى دادا’ الذي حمل هذه التسمية حينذاك للمرّة الأولى. فأينما يجول البصر، يمكن مشاهدة الجدران المليئة بالصور والملصقات والسير الذاتية للدادائيين المعروفين. وفي أحد أركان الصالة، يجثم بيانو قديم، وإلى جانبه أجزاء من دمى عَرض مُهملة.
ومن هذا الموقع، وفي خضم أهوال الحرب العالمية الأولى، أسس هوغو بال وإيمي هينينغس يوم 5 فبارير 1916 - أي قبل 100 عام بالتمام - ملهاهم الليلي المتعدد الألوان والأغراض، الذي كان بمثابة إشارة الانطلاق للحركة الدادائية. مع ذلك، لم يبرز مفهوم هذا المنزع إلّا في وقت لاحق وبعد نحو شهرين.
"كانوا يقدمون العروض الفنية لبضعة أشهر، وعلى الأرجح حتى 23 يونيو، عندما ظهر هوغو بال مرتدياً زي الأسقف وهو يردد بنبرة مُشابهة لنبرة الكهنة قصائده الصوتية الأولى"، كما يقول أدريان نوتس، مدير كابري فولتير
بعد ذلك ببعض الوقت، إنتقل فنّانو وفنانات الحركة - الذين كانت غالبيتهم من المهاجرين - إلى أماكن أخرى، ليعود كابريه فولتير ثانية إلى حانة ‘مايراي’. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، عاد مُعظم الدادائيين إلى أوطانهم. أما المبنى، فقد ظل خاوياً الى حدٍ كبير منذ تسعينيات القرن الماضي بِحسب نوتس.
وفي عام 2002، وبعد أن تناهى هذا الأمر إلى مسامع الفنان المفاهيمي مارك ديفورابط خارجي ، قام في 2 فبراير بإحتلال المبنى برفقة بضع عشرات من الأشخاص."لقد تم كل شيء بأسلوب حضاري، وكان الجميع بمظهر مُرَتَّب ويرتدون ملابس أنيقة"، كما يستذكر الفنان الذي يبلغ الخمسين من عمره اليوم في أحد مقاهي مدينة زيورخ. وبحسب ديفو، جاء هؤلاء حاملين معهم أجهزة الغيتار ونظموا حفلاً بهذه المناسبة.
"بعد مرور بعض الوقت، حَضَر رجال الشرطة، ولكننا أخبرناهم بأننا ورثنا هذا المبنى. وقد سرَّهم هذا الأمر وقاموا بتناول المقبلات معنا،
أيانا كالوغار، وهي فنانة من زيورخ، كانت إحدى المشاركات بعملية احتلال المبنى أيضاً. تقول هذه الأخيرة: "كانت الجدران مُغطاة بالصور والبطاقات البريدية والنصوص وخرائط العالم المُرقعة. كان المكان عبارة عن تركيب ثلاثي الأبعاد وبـزاوية 360 درجة. كنا نشعر وكأننا في عالم آخر"، كما تستذكر. وتقول الفنانة التي تبلغ السادسة والثلاثين من العمر أن إحتلال المبنى جعلها تكتشف المنفذ للدخول إلى هذه الثقافة الخاصة التي طبعت حياتها بشكل دائم. وبعد انقضاء عامين على إحتلالهم المبنى، لعبت كالوغار برفقة ديفو دوراً رئيسيا في الفيلم الوثائقي "دادا غير حياتيرابط خارجي".
دادا للجميع
ما يثير إعجاب ديفو بهذه الحركة الثقافية هو ميزتها الجماعية. "كانت حركة فنية أسسها عدد من الفنانين"، كما يقول. وبمناسبة الذكرى السنوية المئوية لولادة الدادائية، يعتزم الفنان المفاهيمي عقد حلقة دراسية حول الحركة في مقر إقامته في براغ، يبحث فيها تأثيرها على الحركات الهدّامة التي انبثقت من زيوريخ.
ومن جانبها، تنفذ كالوغار في 6 فبراير فعاليات أطلقت عليها تسمية ‘مرحلة/ مسرح فوضوي’رابط خارجي Chaostageرابط خارجي (وهو تلاعب بالكلمات مؤلف من إدماج كلمات أيام الفوضى بالألمانية ومسرح الفوضى بالإنجليزية). وكما تقول :"سوف تُعرض أشياء مُختلفة بدءاً من الموسيقى وحتى الأداء وعروض الأفلام". وبالنسبة لـ كالوغار التي تشير إلى خلو الفعاليات من أي توصيات، تمثل الدادائية "استراحة مَرِحة من كل ما يُعتبر تقليدياً".
وفي الواقع، حركة الدادائية ليست شيئاً ملموساً بالفعل. "لا يعرف حتى الدادائيين ماهي الدادائية، الوحيد الذي يعرف هو الدادا الأعلى، وهو لن يبوح بالسر لأحد"، كما كتب الدادائي يوهانس بادَر منذ عام 1919.
أمّا يوري شتاينر، القيِّم المشارك لمعرض "دادا العالميرابط خارجي" Dada Universal المقام في المتحف الوطني في زيورخ، ورئيس الجمعية التي قامت بتنظيم أحداث الإحتفال بهذه المناسبة، بالإضافة إلى موقع الذكرى السنوية المئوية لحركة الدادارابط خارجيئية، فيقول إنه إكتشف هذه الحركة أثناء مروره بـ‘مرحلة العاصفة والإندفاع’. وبالنسبة له، تمثل دادا "حتمية المرور بأشكال مُتطرفة من الإحراج بغية العثور على الذات. وخلف هذا الخوف من الفشل تكمن حرية إبداع جديدة، والتي أفضت عند الدادائيين إلى أعمال فنية عظيمة".
فن بلا قيود
وكما يقول المدير السابق لمركز بول كلي (الواقع في العاصمة برن)، والإختصاصي المعروف بهذه الحركة "يمكن إستشعار هذا الإندفاع في الفن حتى اليوم". وبرأيه، غيَّرَت الدادائية ما جاء بعدها من الفنون تماماً. وهو يصف ما كان يجري في كابريه فولتير الذي يسميه بـ ‘نصب الطلائعية’ بأنه :"خَلق لحظة يُلغى فيها الحد الفاصل بين سلبية الجمهور وإيجابية الفنان. من المؤكد أن هذه كانت إحدى أكثر اللحظات إثارة في الملهى". ووفق شتاينَر، مازالت الحركة الدادائية كنهج وأسلوب تفكير "مؤثرة" حتى اليوم.
من جهته يصف مدير الملهى أدريان نوتس الدادائية بأنها "أول فن مُتعدد التخصصات". وقد وَرَثَت العديد من الحركات الفنية التي ظهرت بعد دادا هذه الحركة، تتقدمها السريالية، والحركة الأممية الموقفية، وحركة الفلوكسوس الفنية، والـ‘بانك’ وجيل الـ‘بيت’، و‘فن الأداء’ في يومنا هذا "الذي تجسده مارينا ابراموفيتش"، بحسب نوتس.
أبعاد رقمية
ولا يقتصر الإحتفال باليوبيل المئوي لحركة دادا على العالم الحقيقي فحسب، ولكنه يحظى بوجود في الفضاء الإلكتروني أيضاً. والمشروعين الأضخم بهذا الخصوص هما بيانات دادارابط خارجي، Dada Data وهي تحية تفاعلية لحركة دادا بأربع لغات، تشارك فيها هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، ودادا الرقميرابط خارجي Dada Digital، وهو مشروع رقمنة يخص دار الفنون في زيوريخرابط خارجي.
وبهذا الخصوص، تكشف كاثرين هوغ، القيّمة على دار الفنون في زيورخ والمسؤولة عن المشروع الأخير بعينان يملأوهما الإعجاب عن العديد من المنشورات الأصلية للحركة التي تنتظر دورها في عملية الرقمنة.
"الجميل في الدادائية هو أنها دعوة للجميع، وهي شاملة للغاية"، كما تقول. وتشير هوغ إلى توفر دار الفنون في زيورخ على أكبر مجموعة من أعمال الحركة. وعلى الرغم من أن الأعمال البارزة للدادائية معروفة جيداً لدى الجمهور، "لكن الوثائق والمجلات التي لا حصر لها، والتي تشكل بدورها جزءاً من تعريف دادا تغفو في الأرشيف". وقد دفع هذا بدار الفنون إلى توفير هذه الأعمال الفنية التي يقارب عددها 540 عملاً الآن على شبكة الإنترنت. وتعتبر هوغ نفسها محظوظة لأن هذا المشروع أتاح لها الفرصة للعمل بشكل وثيق مع رايموند مايَّر، المختص بهذه الحركة.
على صعيد آخر، ليس بالمُستغرب أن تجتذب هذه السلسلة من الأحداث التقليدية مُنتقدي هذه الحركة إلى الساحة أيضاً. وهكذا مثلاً، كتبت ريغولا شتيمفلي المُحللة السياسية في صحيفة ‘بازلَر تسايتونغ‘ (اليومية الصادرة بالألمانية في بازل) في تعليق حول المفهوم الكامن خلف الذكرى "كان دادائيو ذلك الوقت سيضحكون حتى الموت".
لكن يوري شتاينر يرد معترضاً بأن من غير الضروري أن يكون المنبر المُنَظِّم للعديد من الفعاليات المختلفة بشكل مترابط دادائي بحد ذاته. ذلك أن الأهم "هو توفر إمكانية التفاعل التاريخي مع الحركة مرة أخرى، وتقبل هذا التراث والإشارة إليه كجزء منّا، حتى ولو لم يكن الدادائيون سويسريين بالضرورة
المجلة السويسرية