أ. سيد أحمد رضا
مملكة البحرين
قراءة استعراضية لـ «نُظم حيازة الأرض في بادية الإمارات» دراسةٌ أنثروبولوجية للباحث الدكتور عبد الله يتيم
العدد 57 - فضاء النشر
«نُظم حيازة الأرض في بادية الإمارات»، دراسةٌ جديدة، صدرت للباحث والأنثروبولوجي البحريني الدكتور عبد الله عبد الرحمن يتيم، وهي دراسة أنثروبولوجية، تنطلق من دراسات وأعمال حلقية إثنوغرافية أجراها الباحث في بادية الإمارات، وتحديداً بين بدو منطقة جبال الحجر الغربية المعروفة بـ (الحَيَر). وفي هذه الدراسة الصادرة في كتاب ضمن إصدارات «حولية مركز دراسات البحرين» بـ «جامعة البحرين»، يقسم المؤلف دراسته إلى تسعة أقسام، فبين المقدمة والخاتمة، يعرفُ المؤلف منطقة الدراسة، وأهلها، ونظم حياة الأرض فيها، وأنماط حيازة الأراضي واستغلالها، بالإضافة لحيازة الأرض وأنماط انتقالها، والحيازة التقليدية للأراضي، وتنظيم العمل الزراعي. كما يوثق ليوميات البساتين والحقول، والمنازعات والتسويات.
وتشكلُ هذه الدراسة، موضع اشتغال لطالما شُغل به المؤلف، وهو واحدُ من الأنثروبيولوجيين في مملكة البحرين والخليج العربي، فإلى جانب كونه باحث أكاديمي بـ «مركز دراسات البحرين/ جامعة البحرين»، عمل يتيم محاضراً لعلم الأنثروبيولوجيا والتاريخ بنفس الجامعة؛ كما يعمل حالياً زميلاً وباحثاً أول في «مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة(دراسات)»، وقد سبق لهُ العمل أستاذاً جامعياً بـ «جامعة البحرين»، و«الأكاديمية الملكية للشرطة»، وكيلاً مساعداً بـ «وزارة الإعلام»، وأميناً عاماً لـ «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، ورئيساً لتحرير «مجلة البحرين الثقافية».
وقد صدر للمؤلف مجموعة من الدراسات والاشتغالات البحثية، نذكرُ منها مؤلفاته: «الخليج العربي: دراسات أنثروبولوجية»، و«الأنثروبولوجيا الفرنسية: تاريخ المدرسة وآفاقها»، بالإضافة للعديد من الدارسات المعنية بالمجتمع الإماراتي كـ «الاقتصاد والمجتمع في بادية الإمارات: دراسة أنثروبولوجية»، و«بدو جبال الحجر الإماراتيون: دراسة أنثروبولوجية تاريخية»، وتلك الدراسات حول «البحرين، المجتمع والثقافة: دراسات أنثروبولوجية»، و«المنامة المدينة العربية: دراسة نقدية أنثروبولوجية» إلى جانب «كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الأنثروبولوجي المعاصر»، وغيرها من المؤلفات والدراسات.
أهمية الدراسة ومنطلقاتها
تنطلق دراسة يتيم المعنونة بـ «نُظم حيازة الأرض في بادية الإمارات»، من أعمالٍ حلقية إثنوغرافية، أجراها المؤلف في بادية الإمارات، إذ سبق له وأن عالج من خلال دراساته السابقة، جوانب متعددة من ثقافة ومجتمع (الحَيَر)، موضوع الدراسة، أما في دراسته الحديثة التي بين يدينا، فيتناول الباحث بمنظور أنثروبولوجي «أحد أبرز جوانب التنظيم الاجتماعي والاقتصادي في مجتمع الحير، ألا وهو نظام حيازة الأرض، نظراً لما تشكله هذه النُظم من أهمية بارزة سواء في الكشف عن معالم البنية الاجتماعية لمجتمع الحير، وللملامح العامة للتشكيلة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة، حتى سنوات قليلة، في المجتمعات الزراعية والرعوية وشبه المستقرة، خاصة المجتمعات الجبلية في الخليج العربي والجزيرة العربية».
ومن هذا المنطلق، يبين المؤلف، بأن الاهتمام بدراسة نظام حيازة الأرض في المجتمعات العربية، «أخذ يتضاعف بين عدد من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد لعبت الدراسات الأنثروبولوجية على الأخص دوراً في لفت الانتباه إلى إمكانية دراسة هذا الموضوع في البيئات والمجتمعات غير الحضرية، كالمجتمعات الفلاحية والرعوية»، مؤكداً بأن الدراسات التاريخية والجغرافية، لها دورٌ في «تسليط الضوء على جوانب من هذا الموضوع في بيئات حضرية وزراعية وفي مجتمعات عربية متفرقة»، مشيراً للأنثروبولوجيين الذين درسوا نظام حيازة الأرض، وكانت لهم إسهامات كبيرة في هذا النطاق، كـ (ريتشارد أنطوان) في الأردن، و(سكوت أتران) في فلسطين، و(روبرت فرينيا) في العراق، و(عبد الله بوجرا) و(دانيال فريسكو) في اليمن، وغيرهم مِمَن درس البحرين، وعُمان، وغيرها من الأقطار.
أما الدكتور يتيم، الذي يدرس المجتمع الإماراتي، فقد قام في دراسته بدراسة «البيئة الجبلية، أي بيئة سلسلة جبال الحجر الغربي التي تخترق دولة الإمارات وسلطنة عُمان شرقاً وغرباً»، والتي تعرفُ محلياً باسم (الحَيَر)، وقد استخدم الباحث لدراسة هذه البيئة المناهج والنظريات الأنثروبولوجية لمحاولة الإلمام بجوانب عديدة وهامة من بيئة وثقافة هذا المجتمع، حيثُ شملت دراسته مختلف الجوانب المتعلقة بالخصائص البيئية، والبنية الاجتماعية، ونظام القبيلة، والنظام الاقتصادي، إلى جانب المعارف المحلية ذات العلاقة بالزراعة والرعي، ودور الدين الإسلامي في الحياة اليومية لأهل هذه المنطقة.
وعبر هذه التوليفة من الأمور التي يدرسها، يبين المؤلف بأن الأرض «لا تزال المحور الأساس للنشاط الاقتصادي الذي نهضت عليه أساليب العيش في الحير، سواء الزراعي منه أو الرعوي»، لهذا لا يتوقف المؤلف أمام تفاصيل البنية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمع الحير، بل يتعمق في المجالات الإثنوغرافية المباشرة باحثاً في الجوانب التي شكلت نظام حيازة الأرض «بصفته تراثاً ثقافياً وممارسة يومية»، متفحصاً كيف تحل الاختلافات والنزاعات، وكيف تمارس الحقوق والواجبات، وآليات منح الامتيازات، والتي عادةً ما يتم اللجوء لضبطها إلى المعارف المحلية، والتقاليد التي يلعب فيها الشيوخ، والأمراء، والولاة، والوجهاء والأعيان، بالإضافة لقضاة الشرع دوراً بارزاً.
جغرافية الحَيَر وأهلها
في مطلع دراسته، يقدم المؤلف وصفاً تفصيلياً للبيئة الطبيعية والجغرافية لمنطقة الحير، ليضع القارئ على بينةٍ تظهر له «تأثير تلك البيئة على الأنساق الثقافية والاجتماعية» لأهلها. وفي هذا السياق، يبين المؤلف، بأن «منطقة الحير في دولة الإمارات جزء من إقليم جغرافي أكبر يعرف بـ (جبال الحجر)، وهو إقليم يتكون من سلسلة جبال تبلغ مساحتها نحو 35000 كليو متر مربع، وهو يقع في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية، تمتد مرتفعات الحجر من المنحدرات الصخرية الشاهقة المطلة على مضيق هرمز، في الشمال الشرقي، إلى رأس الحدّ، في جنوب شرقي سلطنة عُمان. كما تقسم مرتفعات الجبال الأخضر -التي يصل ارتفاعها إلى أكثر من 3000 متر- تلك السلسلة الجبلية إلى قسمين رئيسيين، يسمى أحدهما بـ (الحجر الشرقي) والآخر (الحجر الغربي). وتقع أغلب سلسلة جبال الحجر الغربية منها والشرقية في سلطنة عُمان، ما عدا جزء صغير جداً فقط من جبال الحجر الغربية يمتد ضمن أراضي دولة الإمارات، ويشكل الجزء الواقع في دولة الإمارات نحو عُشر مساحة الدولة».
ويضيف المؤلف، بأن الحير، تنتمي إلى بيئة المناطق الجافة، وبالتالي، فإن الأراضي هناك، أراضٍ قاحلة، أما الجبال، فمكسوةٌ بالأحجار السوداء الصلدة. بيد أن الحير، بها من الأراضي الخصبة، والتي تقع في الجنوب الصغير من الأراضي شبه المستوية، «فهي مترسبة في الغالب من السيول النادرة، وتتكون من الطمي والطين، وهي ذات تركيبة حبيبية».
ويلفتُ المؤلف بأن الحير -نظراً لموقعها- أثرت بقوة في ثقافة ومجتمع الإمارات عامةً، ومن ثم شكلت مجتمعاً مختلفاً عن مجتمع الصحراء، المسمى بـ (الظاهرة)، بالإضافة لاختلافها عن المجتمع الساحلي، المسمى بـ (الباطنة)، إذ تمثل الحير، مجتمعياً، وثقافياً، اختلافاً ملحوظاً عن الإقليمين الآخرين، فالحير، كما يؤكد المؤلف، مجتمع متألف من قبائل ليست من قاطني المدن، ولا من البدو الرحل المنتقلين في الصحراء، وإنما يشكل أهل هذه المنطقة، سواءً في الإمارات أو عُمان، «أقساماً من قبائل يعتمد بعضها بالكامل على الرعي الجبلي، فيما يعتمد البعض الآخر على الزراعة، أو على توليفة من تلك النشاطات الاقتصادية».
وبعد التعريف التفصيلي للبيئة الطبيعية، والجغرافية للمنطقة موضوع الدراسة، يذهبُ المؤلف نحو تعريف أهلها، مبيناً بأن «الاعتقاد السائد بين أهل الحير أن أصولهم تنحدر من القبائل العربية العريقة في اليمن. فبعض هذه القبائل، مثل قبائل الشرقيين، تعزو أصولها إلى (ملك بن فهم)، وهي من قبائل الأزد التي هاجرت إلى عُمان قبل وعند انهيار سد مأرب في القرن السادس للميلاد. كما تعزو بعض قبائل أهل الحير الأخرى، مثل قبائل الكنود، أصولها إلى قبيلة كندة المعروفة؛ وكندة هي واحدة من أكبر القبائل العربية في اليمن، حيث هاجر بعضها إلى عُمان في ذات الوقت تقريباً الذي هاجر فيه الأزد».
حيازة الأرض وتقسيمها وتصنيفها وانماط انتقالها
يقوم النظام التقليدي لحيازة الأرض وملكيتها في مجتمع الحير، على ثنائية (الرم) و(الحرم)، وهو نظام يصنف الأرض إلى نوعين، كما يبين المؤلف، فأما النظام الأول (الرم)، فيعنى بالأراضي التي تم إحياؤها بالزراعة أو بالسكن، أما (الحرم)، فهي الأراضي التي تحيط بها، وتوفر نطاق العيش اللازم والحماية المطلوبة لـ (الرم)، ووفقاً لهذا التقسيم، فإن «القبيلة أو العشيرة أو الفخذة، تمارس سيادتها، أي حيازتها للأراضي التي تقع في النطاق الجغرافي الذي منحه إياها الشيخ، أي الحاكم الذي يعود إليه حق التصرف في منح حقوق أخرى للحيازة أو الانتفاع من الأراضي التابعة للإمارة التي يمارس مهام الحكم فيها».
ويلفتُ المؤلف إلى أنهُ، ومن الناحية التاريخية، «تعتبر جميع الأراضي في القرى والوديان والجبال في منطقة الحير ملكاً حصرياً للأحلاف القبلية الكبرى وإماراتها التي تشكلت منها دولة الإمارات العربية المتحدة. وعليه فإن لكل قبيلة أو عشيرة تنتمي إلى أي حلف أو إمارة من الإمارات الحق في ملكية وحيازة الأرض في المنطقة أو الإقليم الذي تقيم فيه، وعليه تستطيع الاحتفاظ والانتفاع بتلك الأراضي طالما أنها منضوية في الحلف القبلي الذي تشكل منه هذه الإمارة أو تلك».
ولهذه الحيازة أنماط، تشكل منظوراً يستندُ على المنظور المحلي، إذ يقوم على أسس مرجعية من الثقافة المحلية، والتي تعود بدورها إلى العقيدة الإسلامية، باعتبارها المعمود الرئيس، إذ يبين الباحث بأن الفرد، من أبناء الحير، يرى بأنهُ من الضروري أن يعيش وأسرته عيشةً حلال، حيثُ يشكل منظور الحلال والحرام ثنائية لا تفارق الفرد في حياته اليومية. ويشير المؤلف بأن هذا المنظور الثنائي، هو ذات المنظور الذي يتم النظر بموجبه إلى الأرض وحيازتها، ويلعبُ دوراً كبيراً فيه.
أما على صعيد تقسم تصنيفات الأراضي في الحير، فيبين المؤلف، بأن هناك ست فئات رئيسة تقسم على أساسها الأراضي، يفصلها كالتالي: أراضي الملك، وهي أراضي الملكية الخاصة، وتشكل 66.4 % من عدد ونسبة الأراضي في الحير، بيت المال: وهي أراضي الملكية العامة للإمارة أو الدولة، وتشكل 11.2 %. الوقف: وهو الوقف الإسلامي، حيثُ يشكل 20.4 %. المشاع: وهي الأراضي التي تترك حقوق الانتفاع بها لأهالي القرية أو البلدة التي تقع فيها الأرض، وتشكل 30.2 %. بالإضافة للمنحة: وهي الأراضي التي تمنح من حكام الإمارات للمواطنين لغرض السكن أو الاستصلاح الزراعي، وتشكل 15.2 %. فيما تشكل المرفوقة 10.6 % من نسبة الأراضي في الحير، وهي الأراضي المهملة، التي كانت محل نزاعٍ وخصومة داخل القرية، بالإضافة للأراضي التي كانت مصدراً للنزاع المحلي بين القبائل والعشائر، ولهذا فإنها تعدُ في عداد الأراضي المحرمة.
وبعد تصنيف الأراضي، والتفصيل في بيان هذا التصنيف، ينتقل المؤلف إلى دراسة أنماط انتقالها، مبيناً بأن «الحق في الحصول على الأرض سواء بهدف الملكية أو الحيازة العامة أم الإيجار أو البيدرة، غير مرتهن فقط بالنسب والإنتماء القرابي المرتبط بعلاقة الفرد بالجماعة القرابية التي ينتمي إليها وبالجد المؤسس لها، ولكن أيضاً من الممكن أن يتأتى هذا الحق أحياناً إما عن طريق علاقة القرابة القائمة على المصاهرة أو الانتماء القبلي القائم للفرد في الحلف/ الشغف القبلي».
وهناك شكلٌ آخر من أشكال انتقال الأراضي، ويطلق عليه «أراضي المبايعة»، وهو، كما يوضح اسمه، يتم من خلال عملية البيع والشراء، لكن المؤلف يبين بأن هذا النمط نادر الحدوث، وليس من الأنماط الشائعة والمتكررة. أما «أراضي النحلة»، فهو شكلٌ من أشكال نقل الملكية، «وهو يتم من خلال عرف يسمى محلياً بـ (النحلة)»، حيثُ توهب قطعة صغيرة جداً من الأرض، من قبل الأب، لأحد الأبناء أو البنات أثناء حياته، «فالنحلة تعكس عرفاً سائداً في ثقافة إدارة الآباء لشؤون الأسرة الداخلية»، كما يلفتُ المؤلف.
إلى جانب انظمة الحيازة وانتقال الأراضي، هناك في مجتمع الحير، نمط الحيازة التقليدية للأراضي، والتي يشرحها المؤلف في دراسته، مستعرضاً السائد منها، وموضحاً تأثير نسق المعتقدات والقيم الاجتماعية العربية والدينية ونظم الرعاية والاتباع القبلية على نظام حيازة الأراضي، إذ «تُعد السمة الرئيسية لنمط حيازة الأراضي في وادي حام على أنها أراضٍ من نوع (أراضي الملك)، كما أن ملكيتها في المجمل تعود إما لأسر كبيرة وإما لبدنات قبلية. أما على مستوى الحيازة والاستخدام اليومي لتلك الملكيات، فقد ترك بعضها للمزارعة (البيدرة)، أما البعض الآخر فقد ترك للانتفاع العام (القمة)»، وهذان النظامان، كما يبين المؤلف لهما «أهمية في الكشف عن تأثير المصاهرة والانتماء القبلي والسياسي وفاعليتهما على مستوى التنظيم القبلي المحلي».
ولكن كيف تنظم عملية حيازة الأرض، إذ لابد من وجود تنظيم، ترتكزُ عليه نظم الحيازة، وهنا يستنتج المؤلف، من خلال دراسته لمجتمع الحير، بأن التنظيم قائم على ثلاث فئات اجتماعية، الأولى هي فئة الملاك وأصحاب الأراضي (الهناغرة) وفقاً للتسمية المحلية، ويدخل الشيوخ ضمن هذه الفئة، بصفتهم الملاك الأبرز، إلى جانب أصحاب الأرض من عشائر وبدنات القبائل. أما الفئة الثانية فهم أصحاب الحيازات «الذين يقومون بممارسة الزراعة، أي البيدرة». فيما يشكل عمال المزارع والبساتين والحقول، الفئة الثالثة، وهم في الغالب عمالٌ وافدون من خارج المجتمعات المحلية أو من خارج الإمارات.
أما على صعيد أنماط الممارسات المتعلقة بالعمل الزراعي والكيفية التي تدار بموجبها الحيازات، فيبين المؤلف بشكلٍ تفصيلي، بأن (البيدرة)، وهي عقود تمارس «بما يضمن حصول أهالي القرى والبلدات على حق الأولوية في الحصول على بيدرة/ إجازة البساتين والحقول»، وتكون الأولوية في الحصول على هذه الإجازة خاضعة للإنتماء القبلي، ولكون الأفراد من أهل البلاد، أما الأولوية الثانية «فتكون لأهالي القرى المجاورة في الوادي».
وإلى جانب عقود (البيدرة)، هناك نظام (القمة)، وهو أن يتولى المزارعون «زراعة بساتينهم وحقولهم، عوضاً عن القيام برزاعتها عبر البيدرة»، ويلفت المؤلف بأنهُ ومن «بين المزارعين الذين يحصلون على هذه الحيازة بعض العائلات الكبيرة والبدنات القبلية الذين يشتركون في حيازة الأرض؛ ومن ثم يتولون بصورة جماعية زراعة بساتين النخيل وحقول التبغ والحبوب».
أما نظام (الشراكة)، فهو شكلُ ثالث يقوم على الحيازة المشتركة للأرض «التي تملكها في أغلب الحالات جماعة قرابية مشتركة»، إذ تمارس الشراكة بين بعض البدنات، والأسر الكبيرة القوية، التي تنتمي لبعض العشائر النافذة التي تملك أراضٍ بشكلٍ جماعي مشترك.
المنازعات والتسويات ورجال السلطة
لا يخلو مجتمعاً من المجتمعات من وجود منازعات، وانطلاقاً من هذه المسلمة، يتطرقُ المؤلف للمنازعات والتسويات بين الأطراف المنخرطة في عمليات تنظيم حيازة الأرض في الحير، سواء كانو أفراداً أو جماعات. وفي هذا الإطار، يتناول المؤلف الكيفية التي بموجبها يمارس مجتمع الحير السلطة والضبط الاجتماعي «لضمان استمرارية نظمه الاجتماعية وتأدية أدوارها ووظائفها بصورة طبيعية»،
ويسجل يتيم في دراسته، مجموعة من الملاحظات المتصلة بحل المنازعات والتسويات، والتي يبين من خلالها الفارق الذي تختلف فيه الإمارات عن المجتمعات المجاورة لها في الخليج العربي، إذ يوضح بأن عُمان، واليمن، والسعودية، كانت محكومة بنظم دينية (ثيوقراطية)، كالإباضية في عُمان، والزيدية في اليمن، والوهابية في السعودية، وكانت هذه المنظومة الدينية، تشكل جزءاً من الحياة اليومية، ومن بنى السلطة، كما يلاحظ المؤلف، بل شكلت كذلك جزءاً من الممارسة الدينية والاجتماعية، فيما «تاريخ البنى الاجتماعية في الإمارات لم يخضع للمسار، أو المسارات، التي مرت بها بنى تلك المجتمعات؛ بل على العكس مما سبق يلاحظ أن (الإمارة)، بوصفها نمطاً مبكراً للنظام السياسي في الإمارات، قد منح نُخبها الحاكمة، المتمثلة في الشيخ والأمراء، دوراً أكبر وسلطة أعظم مقارنة بالبلدان المجاورة، ونتيجة ذلك حظي رجال الدين في الإمارات بدور سياسي أقل أهمية».
من هذا المنطلق، ينطلق الباحث في تبيان الوسائط التي تتم عبرها تسوية المنازعات، والوصول إلى تسويات، وأول هذه الوسائط (الشرع)، وهو مسمىً يطلقهُ أهل الحير على قضاتهم الإسلاميين، حيثُ يطلق على القاضي كلمة (شيخ)، أثناء محادثته، فيما يستخدم لفظ (شرع) للقاضي وللمحكمة الشرعية.
ويستمد الشرع سلطته وشرعيته من القرآن والسنة النبوية، و«تُعد مشاركة الشرع في الحياة اليومية لأهل الحير أمراً مهماً جداً»، ويحظى رجالهُ بسلطةٍ قوية، ومؤثرة، حيثُ يصدرون الفتاوى، ويوجدون الحلول للعديد من النزاعات على الأراضي، بالإضافة إلى الخلافات الزوجية. وقد استعرض المؤلف، عبر دراسته، مجموعة من النماذج البارزة من القضاة، معرفاً بهم، وبأدوارهم، كما استعرض بتفصيلٍ أدوار المحاكم، وتصنيفها، وبعضهاً من المجريات الحادثة فيها، كيوميات سجلها المؤلف أثناء اشتغالهُ الميداني في الحير، متفحصاً عبر هذه اليوميات، أشكالا من التنازع التي يتم اللجزء فيها إلى الشرع.
وفي ختام دراسته، فإن الدكتور عبد الله يتيم، استطاع أن يظهر «الدور الذي من الممكن أن تلعبه المناهج الأنثروبولوجية الخاصة بالعمل الحلقي الإثنوغرافي في الكشف عن أوجه مهمة من التنظيم الاجتماعي لمجتمع وثقافة الحير»، والذي خصهُ الدكتور يتيم، في التفصيل بدراسة نُظم حيازة الأراضي في هذه المنطقة الجبلية بالإمارات العربية المتحدة.