د. محمد مسعد إمام عفيفى
مصر
المسكن التقليدى بمنطقة المحس بالسوادن دراسة أنثرويولوجية
العدد 57 - ثقافة مادية
يتميز المسكن التقليدي بمنطقة المحس بالولاية الشمالية بالطابع المعماري المنبثق من البيئة الطبعية المحيطة به، حيث تعتبر خليطا من البيئة الصحراوية والبيئة النيلية، لأنها تقع على ضفاف نهر النيل ويحيط بها الجبال والمرتفعات من الجانب الآخر، وهذا ما كان له الأثر البالغ في رسم تصميمات بيئية للمسكن في تلك المنطقة .
المبحث الأول: إهتمام الأنثروبولوجيا بدراسة المسكن:
من الصعب فهم الإطار المادي «المسكن» للبيئة بعيدآ عن الخبرات الإنسانية والنظام الإجتماعي الذي يتواجد بداخله الإنسان، فالأطر أو الأنساق المادية تمثل ما هو أكثر من مجرد مجال للسلوكيات المختلفة التي تصدر عن أعضاء المجتمع، فهي تعتبر مكونات فاعلة لهذا السلوك بالإضافة إلى ذلك وما يعد أكثر أهمية أن هذه الأطر المادية تعد تعبيرات الثقافات بعينها ولقيم هذه الثقافات، وهذه التعبيرات تتخذ أشكالآ مختلفة تؤثر على نواح عديدة لهذه الأطر فيما يشمل كل من تصميمها ووظائفها والمعانى التي تنقلها(1).
ومن هنا جاء اهتمام الأنثروبولوجيا بدراسة المسكن، حيث أنه لا يتم بناء المسكن بشكل عشوائي ولكنه يتم وفق للثقافة الخاصة بالمجتمع و للتعبير عن المعاني الخاصة بتلك الثقافة .
ولذلك قد كان المسكن من الموضوعات الهامة التي كانت ومازالت محور دراسة علماء الأنثروبولوجيا، وخاصة أن المسكن يمثل أهمية كبيرة في دراسة ثقافة الشعوب بإعتبار أن المسكن هو الجانب المادي من ثقافة تلك الشعوب، ومع زيادة الاهتمام بموضوع المسكن وتطور الدراسات الأنثروبولوجية ظهر فرع جديد في هذا العلم يعرف بـ «أنثروبولوجيا العمارة» وهو اتجاة أو علم مشتق من علم الأنثروبولوجيا التطبيقية، ويتخذ دراسة العمارة الخاصة بالمجتمعات التي تكون غالبا بدائية كمدخل لدراسة الثقافة الخاصة بتلك المجتمعات، ونجد أهمية الأنثروبولوجيا بالنسبة للمسكن بإعتبارالمسكن الأداة الأهم في التعبير عن ثقافة المجتمع، ومع العلم أن الأنثروبولوجيا تعتبر دراسة الثقافة هي شغلها الشاغل والتي وضع من أجل دراستها الكثير من المجهود من أجل فهم أشمل لطبيعة البشر، وبالتالي يمكن اعتبار العمارة على علاقة وثيقة بالأنثروبولوجيا وقد طور علماء الأنثروبولوجيا الكثير من المناهج التي تم تطبيقها في الكثير من المجالات، إلى جانب ذلك فإن العمارة كمجال من الأهمية التي تغري للباحثين من المجالات المختلفة للدخول فيه لإثرائة والإستفادة منه، ويستطيع البحث الأنثروبولوجى أن يصبح أداة مساعدة للمعماري وبالأخص لإيجاد المطالب والاحتياجات الآساسية للمستخدمين الذين يتعامل معهم في التصميم، وهذا التصميم يكون وفقا للثقافة السائدة في المجتمع(2).
وقد اهتم الأنثروبولوجيون في دراستهم بالمسكن بإعتبارة محور للوظائف الاجتماعية للأفراد ويرتبط مباشرة بنظام القرابة والمصاهرة وله أثره في شبكة العلاقات الاجتماعية وخاصة علاقات القرابة، وتستفيض الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية خاصة في دراستها للمجتمعات البدائية في وصف وتصنيف النظم المختلفة في المسكن والإقامة بعد الزواج مثل نظام السكن مع أسرة الزوج ونظام السكن مع أسرة الزوجة، أو الخال ونظام حرية السكن وغيرها من الأنظمة الأخرى.
1) العوامل المؤثرة في بناء المسكن
العومل الطبيعية التي تؤثر في بناء المسكن:
تلعب البيئة دورآ هامة في تشكيل حياة الإنسان حيث يمارس الإنسان نشاطه فيها، ومن خلال هذه البيئة والتي تشتمل على العديد من المقومات مثل الأرض التي تعيش عليها، وما تحوية من موارد طبيعية هامة مثل الأنهار والأشجار، ولذلك لها دور كبير في تحديد أماكن استقرار الإنسان(3).
فنجد أن المكان يلعب دورآ هاما في إختيار إقامة مراكز العمران بصفة عامة وإقامة المسكن بصفة خاصة، سواء كان هذا العمران يأخذ الشكل الدينى المتمثل في بناء المساجد أو الريفي في بناء المنازل كما هو شائع في القرى أو يأخذ الشكل البدوى، فهو الحيز « Space» الذي يعيش في حدودة عدد من الأفراد بشكل دائم أو بشكل مؤقت يحاولون تحقيق أهدافهم من خلال معيشتهم المشتركة في هذا الحيز المكاني(4).
ومن العوامل الطبيعية المؤثرة في بناء المسكن هو المناخ، حيث نجد أن الظروف المناخية من حرارة ومطر ورطوبة وثلوج تؤثر في التجمعات الإنسانية، وبالتالي في أنماط حياتهم منذ العصور القديمة حيث لا مفر من الخضوع لاحكام الطبيعة، وبالتالي فإن عمليات التأقلم العمران مع الظروف المناخية ساعدت في خلق طابع خاص للمستقرات العمرانية للجماعة كما أثرت على الشكل العام للمسكن نفسه(5). وللتربة أثر واضح في بناء المسكن خاصة في المجتمعات الصحراوية حيث نجد استخدام مواد البناء من التربة، مثل مادة الكورشيف المؤجودة بواحة الجغبوب وإستخدامه في الحوائط والجدران، وقد ساعدت قلة الأمطار على عدم ذوبان مادة الكورشيف المستخدمة في عملية البناء، ويلاحظ أن هذه المواد المشتقة من التربة تفرض الصفات المعينة على المسكن تظهر علية بشكل عام وهي(6):
1. عدم الارتفاع بالمباني أكثر من دورين وأيضا قلة الفتحات بالواجهات الخارجية للمنزل .
2. صغر مساحة المباني الأفقية نتيجة لقصر أطوال مواد البناء مثل الجريد والبوص.
3. عدم وجود بروز للمساكن
العوامل الاقتصادية المؤثرة في بناء المسكن:
تسهم العوامل الاقتصادية في صياغة وتشكيل طبيعة المسكن من ناحية أخرى أن المسكن الذي ينشأ في ظل مجتمع يعتمد على الصيد يختلف عن طبيعة المسكن الذي ينشأ في ظل مجتمع يعتمد على الرعي أو يعتمد على الزراعة، وكذلك يختلف عن المسكن الذي ينشأ في مجتمع يعتمد على الصناعة أو يعتمد على التجارة.( الكردى، 2002، صـ56) ولذلك تعتبر المحددات الاقتصادية من أهم المحددات والعوامل التي تؤثر في تشكيل العمران بصورة مباشرة، أي أن النتاج البنائي له محددات اقتصادية هامة من حيث التمويل المادي لعمليات البناء والتشيد(7).
ففي المجتمع البدوي الذي يعتمد في نشاطه على الرعي وتربية الحيوان والذي يرتبط بالترحال والتنقل من مكان لآخر بحثا عن العشب والماء، إنعكس ذلك مباشرة على طبيعة وشكل المسكن، فهو غالبا ما يكون بسيطا وغير دائم مثل الخيام حيث تستقر تلك الجماعات البدوية حول الآبار أو في مناطق الواحات وتأخذ شكلآ دائريآ أو مستطيلآ حول الآبار.
ويمكن القول بأن المسكن وهو انعكاس للمستوى الاقتصادى والإجتماعى التي تعيش فيه الأسرة، حيث نجد كلما كانت الأسرة ذات مستوى إقتصادى مرتفع يظهر ذلك على المسكن من خلال مواد البناء ومحتويات المسكن، حيث نجد في المسكن الخاص بالأسرة ذات المستوى الإقتصادى المرتفع الأثاث الفاخر والأجهزة الكهربائية المختلفة وكافة الأجهزة التكنولوجية المتنوعة، وبذلك يكون المسكن هو الترجمة الحقيقة للمستوى الاقتصادى التي تكون عليه الأسرة.
العوامل الاجتماعية والثقافية المؤثرة في بناء المسكن:
تلعب المحددات الاجتماعية في إطار المجتمع دورآ كبيرآ في طريقة تنظيمهم وتوزيعهم في أشكال الإقامة، فدراسة المجتمعات المحلية الصغيرة تشير إلى أن التنظيمات التي يقوم عليها توزيع السكان داخل كل وحدة من وحداته تتبع بعدآ بنائيآ يفصل بين الزمر الإجتماعية، فليس من شك في أن القيم الإجتماعية المختلفة التي تتعلق بموطن الإقامة والسكن ومبدآ القرابة وإختلاف الجنس والسن تلعب دورآ هاما في أسس التميز بين الجماعات المختلفة وتقسيمها، بل إن توزيع المساكن داخل القسم الإقليمى الواحد كثيرآ ما يتبع مبدأ درجة القرابة بحيث أنه كلما قويت العلاقات والروابط القرابية بين الجماعات العائلية تقاربت مساكنهم أو تجاورت وعاشوا بجوار بعضهم البعض كى يكونوا في حالة تماسك اجتماعى(8). ولذك نجد أنه إذا كان المسكن وتنظيمه الداخلي يعد تعبيرآ عن ثقافة المجتمع وما تنطوي عليه من قيم وأنماط معيشية معينة وتنظيم اجتماعي معين، فإن ذلك يعني – من ناحية أخرى – ضرورة توافق بيئة المسكن مع ما تحمله هذه الثقافة من قيم اجتماعية واقتصادية .
وقد اهتم الأنثروبولوجيون في دراستهم للمسكن بإعتباره محورآ للوظائف الإجتماعية لأفراد المجتمع ويرتبط مباشرة بنظام القرابة والمصاهرة، ولذلك نجد أن في الكثير من الدراسات الأنثروبولوجية الاجتماعية مساحة واسعة من الدراسات والأبحاث اللازمة لوصف المسكن والإقامة بعد الزواج، سواء كانت الإقامة في منزل أهل العريس أو الإقامة في منزل أهل العروس أو الإقامة في منزل مؤقت أو الإقامة في منزل دائم، كل هذه المسائل قد شغلت بال الكثير من علماء الأنثروبولوجيا في دراستهم للنظم الاجتماعية والثقافية الخاصة بالمجتمعات المراد دراستها.
ويتأثر المسكن من حيث الشكل والحجم والترتيب بما يطرأ على الأسرة من تغير، سواء كان هذا التغير على مستوى حجم الأسرة نتيجة دخول أعضاء جدد، أو تنوع وتجدد احتياجات الأسرة من الوحدة المعيشية، فالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية – على سبيل المثال – قد تؤدي إلى زيادة تطلعات الأسرة واحتياجاتها فإرتفاع مستوى المعيشة وزيادة الدخل قد يترتب عليه زيادة الإقبال على شراء العديد من الأجهزة والأدوات المستخدمة في المنزل مثل الثلاجات والكمبيوتر وغيرها من الأدوات المختلفة(9).
وتشتمل المحددات الإجتماعية والثقافية من وجهة نظر «رابوبورت» على المعتقدات العقائدية والتركيب الأسري والقبلي وظروف ووسائل الحياة.
1. المعتقدات «Beliefs»:
قد كان للعامل الثقافي دور كبير في بلورة وصياغة المسكن، ويبدو أن «مارتن لوثر» لم يكن مخطئا حينما وصف المسكن بأنه هو سجل لعقائد المجتمع، فقد كانت الكثير من المراكز العمرانية حول الأصنام التي كانت تتخذ مركزا للعبادة في الأمم الوثنية القديمة، كما أصبح الكثير من المناطق التي تتخذ مكانا لإقامة الشعائر والطقوس الدينية لها شأنها في حياة الشعوب مثل مكة(10).
ويرى «رابوبورت» أن الأنساق العقائدية والدينية تشكل جانبا حيويآ من ثقافات الجماعات البدائية، وتعد دراسة تأثير هذه الأنساق على عملية تشكيل المسكن مجالآ خصبآ لاستقراء العلاقة بين ثقافة الجماعة ونتاجها البنائي، بإعتبار أن المسكن هو جزء من النتاج البنائي لتلك المجتمعات(11).
بينما يرى «جيودونى» أن المجال الثقافي بطقوسه ورموزه المعقدة والتركيب الإقتصادي للجماعات، يوضحان أن تأثير البيئة على المسكن قد يصبح سلبيآ أكثر منه إيجابيآ، بمعنى أنه يحظر استخدام بعض الأنماط أو التقنيات أو المواد في عملية بناء المسكن(12).
2. التركيب الأسري أو القبلي «Installation of prisoners or tribal»:
إن التركيب الأسري والقبلي من العوامل التي تؤثر بصورة واضحة على عملية التشكيل العمراني للمجتمعات التقليدية، فتدرج العلاقة بين أفراد الجماعة له تأثيره المباشر على عملية تشكيل المنزل واختيار موقعه، وهو ما نلمسه عند المقارنة بين العديد من الجماعات المختلفة في الهيكل الاجتماعى أو حتى المقارنة بين منزلين متجاورين في نفس الجماعة، نتيجة اختلاف التركيب الأسري أو القبلي والأمثلة كثيرة على ذلك خاصة في المجتمعات الإفريقية حيث نجد أن الأسرة الممتدة تعتبر أحد السمات المميزة للمجتمعات الإفريقية التقليدية وتعتبر الروابط الأسرية بين أفراد العائلة من الروابط التي يحرص عليها الأفراد ضمن مجموعة من التقاليد الصارمة والمتوارثة عبر الأجيال، فنجد تأثير العائلة الممتدة على تشكيل الموقع العام للقرية، فنجد قبيلة «موسوجوم» Mousgoum بشمال الكاميرون والموقع العام للقبيلة يأخذ الشكل الدائري حيث تشكل المنازل الحدود الخارجية، ويوجد في مركز الشكل الدائري منزل رب الأسرة وتلتفت حوله منازل الزوجات وأبنائهن(13).
تعتبر العلاقة الوثيقة بين المسكن والتركيب الأسري من أهم المحددات التي تؤثر في شكل وبناء المسكن لدى كافة المجتمعات الإنسانية بأشكالها المختلفة، حيث نجد أن شكل الأسرة وعددها يلعب دورآ هاما في شكل المسكن فمثلآ الأسرة النووية لا تحتاج إلى منزل ذي حجم كبير ويكيفيها مسكن صغير بمعنى أنه ليس من الضرورى إنشاء منزل من أكثر من طابق أو إقامة المسكن على مساحة واسعة من الأرض، أما على مستوى الأسرة الممتدة تطلب إقامة منزل يحتوى كافة أفراد الأسرة وتلبية الاحتياجات المختلفة للآفراد من زواج في نفس المنزل، وربما تأخذ العلاقة القوية بين المسكن والتركيب الأسري شكلآ أخر وهو بناء كافة منازل العائلة الواحدة بجوار بعضها البعض لكى يكونوا قوة على أى شخص غريب، فبالتالى تجد المنازل تقام بأشكال معينة وبطرق معينة، مما يعكس في النهاية العلاقة القوية بين المسكن والعلاقات القرابية والتنظيم الاجتماعي لتلك الجماعات.
الوظيفة الثقافية والاجتماعية للمسكن :
تبدأ الوظيفة الثقافية للمسكن من لحظة ولادة الإنسان مرورآ بكل مراحل حياته وتقلباتها والممارسات التي يقوم بها حتى وفاته، ولذلك نجد أن هذه المساكن والمنازل تشكل تجمعات عمرانية ترتبط إلى حد بعيد بخصائص ساكنيها الذهنية والسلوكية، إذ يدل البناء الفيزيقى عن مجموع العادات والتقاليد السائدة في مجتمع تلك التجمعات(14)، ومن وظائف المسكن أيضاً الوظيفة الإنتاجية، ففي بعض المجتمعات التقليدية كثيرآ ما كان المسكن يستخدم في القيام ببعض الحرف البسيطة مثل الغزل وصناعة السلال وصناعة الخبز ومنتجات الألبان، بل إن بعض المجتمعات الحديثة في جنوب شرق آسيا وغيرها تستخدم في إنتاج وتجميع أحدث أنواع التكنولوجيا والبرمجيات. ومن وظائف المسكن أنه يعكس المكانة الاجتماعية والاقتصادية لشاغليه، فنحن لا نشيد مساكنا لمجرد المأوى فقد أصبح المسكن بما يشتمل عليه من الموقع والمساحة والتسهيلات والآثاث يعكس المكانة والوضع الاجتماعى والاقتصادى حيث تجمع الآراء على أن المسكن يعتبر إحدى مفردات مستوى المعيشة شأنه شأن الغذاء والكساء تماما على الرغم من المكونات الأخرى في تحديد هذا المستوى.
تأثير الثقافة على المسكن :
إن نمط المسكن يتأثر كثيرآ بثقافة سكانه، لأن كل ثقافة تترجم سلوك جماعتها والذي ينعكس من خلال عملية التطبع الاجتماعى على مظهر المسكن، لأن قواعد السلوك تعتبر معايير ثقافية للأفراد الذين ينتمون إلى ثقافة معينة، حيث يشعرون بقوة بالانتماء للمعايير والقواعد الخاصة بتلك الثقافة، وإن عدم المقدرة على التعايش مع المعايير ينتج عنه رد فعل سلبية للمجتمع(15).
وقد وصف «مارتن لوثر» المسكن بأنه سجل لعقائد المجتمع وأيضا وصفها «فيكتور هوجر» بأنه هو المرآة التي تنعكس عليها ثقافات الشعوب ونهضتها وتطورها، بمعنى أن المسكن هو صورة المجتمع وهو التاريخ الصحيح الذي لا يخدع ولا يكذب(16).
ولذلك تعتبر الثقافة بأبعادها المادية وغير المادية من أهم عناصر تشكيل المسكن بصفة خاصة والنتاج البنائي ككل بصفة عامة، فالثقافة من أهم عناصر صياغة المسكن فهي التي تعطى لكل مكان هويته وطابعه الخاص والمميز(17). ولما كانت العمارة ترتبط ارتباطآ وثيقآ بالثقافة والإيديولوجيا والتكنولوجيا، فإن تصميم المسكن الذي يعيش فيه الإنسان يعكس الحاجات والضغوط التي تفرضها الظروف البيئية المحيطة به، كما يعكس مفهوم العائلة والحياة الاجتماعية والتعبير عن العادات والتقاليد والمعتقدات السائدة بشكل عام
ويمكن القول بأن هناك ثلاثة مستويات للثقافة توضح تأثير الثقافة على المسكن وهما مستوى المعارف والعلوم، ومستوى العادات والتقاليد، ومستوى المعتقدات :
مستوى العلوم والمعارف :
يمكن معرفة مستوى العلوم والمعارف في الثقافة إلى التكنولوجيا، مما لاشك فيه أن هذا المستوى له تأثير كبير على المسكن لأنه يساهم في تحديد تقنية البناء والمواد المستخدمة في عملية البناء وأيضا يتحكم مستوى العلوم والمعارف في أسلوب الإنشاء فكل هذه العناصر تتحكم فيها التكنولوجيا المتاحة(18).
ويعبر حسن فتحى عن ذلك بقوله « إن الناحية التقنية في المسكن إلى جانب لزومها لضمان سلامة إنشاء المسكن بجانب التعبير الفني عن المسكن عن طريقة شكله الخارجي كل هذه أشياء هامة يجب على المعماري أن يضعها في اعتباره عند بناء المسكن(19).
مستوى العادات والتقاليد :
تنعكس العادات والتقاليد على المسكن حيث تتبلور على شكل طرز وأعراف بنائية تمت صياغتها عبر الزمن، فمثلا قد تفرض العادات والتقاليد درجة معينه من الخصوصية تتبلور هذه الخصوصية في المسكن على شكل معالجات خاصة للمداخل والفتحات، ويصير هذا عرفآ مستخدما عند بناء المسكن يستمر لأجيال ويحقق نوعآ من التواصل والتجانس بين كافة المساكن الموجودة في المجتمع، ويكون مرجع التشابه بين المساكن هو وحدة العادات والتقاليد والأعراف الحالة (20).
فالعادات والتقاليد هي الجانب المعنوي من الثقافة وثأثير هذا الجانب على المسكن يكون واضحا أكثر في المجتمعات ذات العلاقات القرابية القوية، والمناطق التي تأخذ طابعا متميزا منها المناطق التي تتمتع بالانعزال مثل المجتمعات الصحراوية حيث أن العادات والتقاليد تفرض إقامة المسكن بشكل معين وبطريقة معينة، وهذا ما هو واضح في المجتمعات النوبية حيث المنازل المميزة والمختلفة عن باقي المنازل في المجتمعات الأخرى.
مستوى المعتقدات :
المعتقدات والدين والأسطورة تعطي أبعادآ رمزية معنوية للعمران بصفة عامة وللمسكن بصفه خاصة، هذه الأبعاد تنعكس على التشكيل العمراني من خلال استخدام عناصر معمارية لها دلالات رمزية، والرمز هو الشيء الذي تنظر إليه الجماعة على أنه يستدعى شيئآ لإحتوائه على قيم تشبيهية ذات قيمة أو معنى لديهم(21).
والمعتقدات ترتبط بالمسكن منذ اختيار موقع البناء، فلا يستطيع الشخص أن يبني مسكنا له في مكان تدور حوله المعتقدات والحكايات والأساطير تجنبآ للقوى فوق الطبيعية من وجهة نظر أعضاء المجتمع فيكون هناك شىء من الخوف عند بناء المسكن في هذه المنطقة، وترتبط أيضا الطقوس والمعتقدات عن بناء المسكن حيث نجد عند البدء في عملية البناء العديد من الطقوس والممارسات التي تؤدي في ذلك الوقت . بإلإضافة إلى ذلك فإن المعتقدات الخاصة بالمسكن ذاته كثيرة حيث نجد في بعض المعتقدات الريفية على سبيل المثال بعضا من الناس يقومون بتعليق بعض الأشياء على الباب الرئيسي للمسكن منعآ للحسد، وفي المساكن الحديثة يقوم صاحب المسكن بتعليق آيات قرأنية.
المبحث الثانى: المسكن التقليدى بمنطقة المحس
1) وصف عام للمسكن التقليدى :
تصميم المسكن التقليدي كانت البيوت التقليدية في المحس ذات مساحات متقاربة، حيث يتراوح مساحة المنزل المحسي400 متر مربع تقريباً، وخرائطها تكاد تكون واحدة، حيث كان البيت النوبي بمدخل واحد يتجه عادة إلى النيل رمز الحياة عند النوبيين، وأحياناً يتجه البيت إلى الجنوب ونادراً ما تجد بيتاً نوبياً يتجه نحو الشمال، أما الخريطة العامة نجد فيها فناء «حوش» في وسط المنزل بينما الغرف تقع وتنتشر على أطراف المنزل، وكان وضع بعض المرافق وكأنه شيء متفق عليه بين الناس، فنجد المطبخ دائماً في الناحية الشمالية من المنزل مع غرفة تسمى «ديوشا هاسل» عند مدخل الباب، ويجد غرفة تسمى «دهريس» يفتح فيها غرفة طويلة للضيوف تسمى « مندرة»، وهذا الجزء من المنزل مخصص للأعراس، وهناك غرفة العريس والتي يطلق عليها «دوانى هاسل»، ومجلس طويل بينهم فسحة صغيرة غير معروشة، بالإضافة إلى غرفتين في المنزل.
وهناك ملحقات خاصة بالحيوانات والطيور المنزلية، هذا إلى جانب المرافق الصحية التي لم تكن عامة وإنما لجأ اليها الناس مؤخراً.
لقد كان طبيعياً أن تبنى المساكن النوبية من الطين، ولم يكن من عادة أهل البلد معرفتهم بطرق البناء ولكنهم كانوا يستعينون بأفراد متخصصين في البناء من مناطق الشايقية والمناصير، حيث كانت المرحلة التي تلي عملية البناء هي التعريش وهذا الدور كان يقوم به الرجال والصبيان، وكانوا يستخدمون النخيل في هذه العملية حيث كان يستخدم سعف النخيل والجذع في تسقيف المنزل النوبى نتيجة لتوافرها في البيئة المحلية المحيطة بهم، وفي بعض الأحيان قد تم استخدام حصائر مصنوعة من سيقان القمح والتي يطلق عليها باللغة النوبية «شلنتى»، وتأتى المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التشتيب وهذا المرحلة هي من اختصاص النساء حيث يستخدمن طين البحر « الطمى» وخلطه بأنواع من الرمال الناعمة مستخدمات أيديهن فقط دون الإستعانة بأي أدوات في ذلك، وكان من عادتهن فرش أرضية المنزل بعد التلييس بنوع خاص من الرمال الحمراء التي تأتي من الصحراء القريبة منهم، ويجددون الأرضية بالرمال الأحمر كل فترة من المنزل خاصة في المناسبات مثل احتفالات الزواج.
بالنسبة للجدران فإن أهم ما كن يقمن به هو تزيين مداخل المنازل بالنقوش والزخارف والأشكال المختلفة، وقد تطور هذا الفن الذي بدأ بسيطاً على أيدي المرأة النوبية حيث أخذ أشكالاً متنوعة، حيث كانت البدايات تقتصر على جانبي المدخل الرئيسي للمنزل، وكانت طبيعة هذه الزخارف تتمثل في أشكال هندسية بسيطة أو هلال ونجمة أو رايات وقباب ترسم بالطلاء الأبيض ثم دخل استعمال الأطباق الصينية المصنوعة من الخزف في عملية الزخرفة وقد انصب الاهتمام على أعلى المدخل الرئيسية إضافة إلى جوانبه، وكانت أعداد تلك الأطباق وفقاً للحالة المادية لصاحب المنزل، ثم امتدت الزينة للمزيرة والمساطب وفي تطور هندسي ارتبط بالحالة الاقتصادية للنوبيين دخل استعمال الطلاء بالألوان المختلفة وكانت أكثر المناطق اهتماما بالزخرف هو المدخل الرئيسى والمزيرة، ثم بعد ذلك أصبح المنزل كله يتم زخرفته.
والجدير بالذكر أن فوق أعتاب الحجرات والباب الرئيسى الخارجى، يضعون مجموعة من الصحون مرصوصة بشكل هندسى رائع، وفوق العتب وتحته يضعون حجارة كبيرة، وكانت الأبواب مصنوعة من سيقان النخل المربوطة بالحبال والسيور من جلد البقر، وخلف الباب يبنون حائطاً صغيراً كساتر لما داخل الحجرة، وفي جدران المنزل يكون هناك منافذ صغيرة لتجديد الهواء داخل الغرف، ويقومون بحفر أوتاد من الحجر والخشب لتعليق أشيائهم مثل الملابس والبطاطين، والحجرة الداخلية عبارة عن مخزن خاص بسيدة البيت حيث تربي فيه الطيور كما أنها تعد فيها الأطعمة التقليدية مثل «الكسرة».
وفي حوش المنزل يحتفظون بعدد من «القسيبات التي تستخدم في تخزين الكميات الكبيرة من الحبوب مثل القمح والذرة وأيضاً يخزن فيها التمر»، ونجد أن أغلب ممتلكات المنزل النوبي خاص بالمرأة النوبية مثل البروش والطباقة والفرو والصحون والقدح الخشبي والصاج والقسيبات والأواني الفخارية والرحاية، أما ممتلكات الرجال في أدوات الزراعة مثل الساقية والأدوات المستخدمة في الزراعة مثل الطوريه.
2) زينة المسكن النوبي:
المواد المستخدمة في تزيين المسكن النوبي في المحس :
تعتبر المواد التي يستخدمها أفراد المجتمع النوبي مواد طبيعية، حيث يتم الاستعانة بالمواد والعناصر البيئية الموجودة في المجتمع النوبي مثل الطين الذي يستخرج من نهر النيل بالإضافة إلى الزينة المتعلقة بالحيوانات مثل التمساح والأسد والطباق المصنوعة من سعف النخيل المتوافر في البيئة النوبية بشكل كبير.
ومن المواد المستخدمة في الزينة الصدف والصحون الصينية حيث يستخدم الصدف في تزيين حوائط وواجهات المنزل النوبي منذ القدم، وتلصق على الحوائط وعلى البوابات الرئيسية أو تستعمل كإطار محيط لبعض الصور التي كانت ترسم على الحائط، وكانت تستخدم في السابق بكثرة خاصة في منطقة دبيرة بوادي حلفا في عشرينات القرن الماضي، وهناك أصداف فيلية أو أصداف الغجر التي تجلب من البحر الأحمر وبعد ذلك حلت الصحون محل الأصداف لأنها أكبر حجماً وأكثر بياضاً من الأصداف، وكانت طريقة تعليق الصحون الصينية على الواجهات وعددها على المنزل يعبر عن الكرم التي يتميز به صاحب البيت، وبالتالي نجد أن صاحب المنزل كلما زادت عدد الصحون على واجهة المنزل كلما كان صاحب البيت كريماً.
وهناك زخارف خاصة بالأبواب فقد تكون الزينة على الأجزاء العملية من الباب مثل « الأقفال « وكانت قمة الباب تحظى باهتمام حيث كانت توضع عليها الصحون والصدف وأحياناً رأس تمساح، والأبواب الداخلية كانت تزخرف قمتها بالنقوش ذات الخطوط المتوازية والمثلثات التي تشبه الزخارف التي كانت على الأقداح الخشبية، وكانت عتبات المنزل من الحجر المنحوت الذي ينتمي للجحر النوبي المستخرج من البيئة المحلية.
وتتكون الواجهات من أشكال تجريدية رسمت بطريقة تقليدية عبارة عن رموز جالبة للخير أو مانعة للشر، ومن المناظر الغالبة على الواجهات الشكل البيضاوي المقبب يحفه علمان وفوقه الهلال أو النجمة أو ثلاثة نجوم، وكانت النساء يقمن بهذه الأعمال في مناسبات الزواج مستخدمة في ذلك الرمل الأحمر، والشكل المقبب كان يدل على قبور الأولياء وأضرحتهم ويأتي ذلك اعتقادا من النساء في بركات الأولياء فتمثيل الضريح على الحائط يمثل نوعا من التواصل وبالتالي يعفي من زيارة القبور أو زيارة أحد الأولياء بالمنطقة للتبرك من أهم الأشياء التي يقوم بها العريس أو العروسة لجلب الخير ودفع الشر وكف العين واتقاء شر المشاهرة وضمان النسل للأسرة. ومن العناصر المستخدمة في الجدران الأعلام، حيث كانت ترسم على الجدران والواجهات وتلون بالرملة الحمراء.
ومن الأشكال الهندسية المستخدمة أيضاً الدوائر وهي أكثر الأشكال استعمالاً لتكملة اللوحة الفنية لزينة البيت النوبي، ونجد أن أغلبها كان ملوناً وتنوعت أشكالها حيث يظهر في وسطها صليب أو تأخذ شكل دوائر داخل بعضها أو تشبه الساقية، ونجد أن وجود الصليب يدل على تأثر النوبيين بالمسيحية والتي انتشرت في فترات من تاريخ المجتمع النوبي، أما وجود الساقية يدل على القيمة العالية التي تتمتع بها الساقية داخل المجتمع النوبي حيث يعتقد النوبيون أن الساقية المستخدمة في الزراعة هي أساس بناء الحضارة النوبية في هذه المنطقة لأنها هي التي ساعدت الإنسان النوبي على قيام الزراعة وبالتالي تكون حضارة نوبية عريقة.
ونجد أيضاً الأشجار من أشهر الزخارف والأشكال التي تمثل الناحية العقائدية وأشهرها النخيل، حيث كانوا يستخدمون الجريد في الرسومات والأشجار المزهرة ذات الأوراق العريقة، ونجد هنا أن النخيل في المجتمع النوبي له دلالالته الثقافية حيث وجوده يدل على الخير.
واستخدام أشكال الحيوانات مثل صور الأسد يحمل سيفاً وحيوانات أخرى مصورة مثل الكلاب والجمال والتماسيح فكل هذه الحيوانات تدل على رمز القوة، والعقارب وجدت أيضاً في المنزل النوبي مرسومة وملونة باللون الأزرق معتقدين في ذلك أنها تمنع دخول العقارب الأخرى للمنزل.
القائم بعملية الزينة للمسكن النوبي في المحس:
كان يقوم بزخرفة المنزل في النوبة السودانية فنانون متخصصون وكان أسلوب النحت في الطين الذي كان يستخدمه هؤلاء الفنانون هو أسلوب معروف في إفريقيا مثل غانا وشمال نيجيريا، ونجد أن البيئة هي التي سمحت للحرفيين البسطاء بالتطور إلى فنانين محترفين، وهو ميل السكان المحليين نحو الفن الذي سيقودهم إلى أن يدفعوا أجوراً للمحترفين، ولدى النوبيين أصحاب المنازل ذوق فني متطور لا يشاركهم فيه غيرهم من الشعب السوداني.
وكثيراً ما كان أعضاء الأسرة النوبية السودانية فنانين في زخرفة منازلهم، وقد وجد أيضاً بجانب الفن الذي صنعه المزخرفون المحترفون فناً صنعه أعضاء الأسر النوبية والتي كان للمرأة دور كبير في ذلك الفن.
حيث كانت المرأة التي قامت برسومات الحائط قد شعرت بأن هذا من الواجبات التي يجب القيام بها داخل الأسرة، حيث نجد أن المرأة النوبية هي التي تقوم بتجهيز غرفة العريس من حيث زينة الجدران وآثاث الغرفة، ومن أهم الرسومات التي تقوم بها النساء هو رسم الأسماك على جدران الحائط، ويرى الباحث أن رسم المرأة للسمك يرجع لقيمة المرأة العالية داخل المجتمع النوبي، وأهمية السمك لأنه يرتبط بالنهر وطقوسه وممارساته المختلفة في كافة جوانب الحياة الثقافية للنوبيين.
ونجد تقسيما للعمل بالنسبة لزخرفة وتزيين المنزل النوبي، حيث نجد الرجال هم الذين يقومون بشراء المواد المستخدمة في الزينة مثل الألوان والتي تشترى من السوق، أما النساء والأطفال هم الذين يقومون بالرسم والزخرفة، ولكن كانوا في الماضي يرسمون بالألوان المستخرجة من الأرض النوبية مثل الجير الذي يستخرج من باطن التلال و يقوم بهذه الوظيفة الأطفال والنساء، حيث كان يتم اكتشاف الألوان حيث تأكل الأرض ويجرى جمع هذه الألوان في أكياس تحمل على ظهر جمل أو حمار وتتم تنقيتها بعملية الغسل ثم تستخدم بعد ذلك في الرسم والزخرفة.
3) الدلالات الثقافية والاجتماعية للمسكن النوبي في المحس :
لقد استمد النوبيون مصادر الإلهام للزخارف التي توضع على حوائط منازلهم من أشياء حقيقية، وكان لكل زخرفة من الزخارف الجدارية معنى ورمز لطقوس شعائرية معينة، وقد تطورت هذه الزخارف الحقيقية وأصبحت رموزا ونقشا بارزة وحلت النقوش البارزة محل الأشياء الحقيقة التي كانت تعلق على الحوائط ومن أمثلة ذلك:-
سعف النخيل :
يعتبر سعف النخيل من المواد الأساسية التي ساهمت في تزيين البيئة المحلية الداخلية للبيت النوبي، واستخدمت في صناعة العديد من العناصر المستخدمة في الحياة اليومية عند النوبيين ومن هذه العناصر على سبيل المثال « البرش « بأنواعه المختلفة مثل برش العريس والعروسة التي لها أهمية كبيرة وتشكل بأشكال زخرفية وهي مصنوعة من شرائط مضفورة من سعف الدوم ومصبوغة بألوان مختلفة تتم خياطتها معاً بحيث يبلغ طولها ستة أقدام، أما أطرافها فتخيط بغرز متعرجة بارزة، وكانوا يحتفظون بهذا البرش في مناطق النوبة كذكرى لشعائر وطقوس الزفاف التي تمت، وبالتالي يحتفظ بها عن طريق تعلقها بشكل أفقي على طول الحائط أو تلف اسطواني على الأسقف داخل المنزل.
الطبق :
هناك نوع آخر من الوحدات الزخرفية الحقيقة في المنزل النوبي وهي الطبق ويسمى في شمال السودان باللغة النوبية «البرتال» وفي غرب السودان «العُمرة» وله علاقة قوية بشعائر الزواج، وهو مكون من أطباق مستديرة مسطحة من السعف وهناك شكل زخرفي آخر له علاقة بشعائر مكون من أطباق مستديرة مسطحة تعلق على الحوائط تسمى «طباقة» وكان الاعتقاد في تلك الأطباق هو أنها تحمي أصحاب المنزل من العين الشريرة والتي ممكن أن تصيب أحد أفراده.
قرون الحيوانات :
كان السبب الأبرز في استخدام قرون الحيوانات في مداخل البوابات من الجانب العلوي لها هو قلة الحيوانات في منطقة النوبة لذلك يجدونها نادرة، وكانت القرون المستعملة لبعض الحيوانات وهي (قرون الغزلان – قرون الثور – قرون الخرفان – قرون ذكر الماعز « التيس»)، ونجد أن الاعتقاد السائد داخل المجتمع النوبي في استخدام قرون هذه الحيوانات وتعليقها في مداخل وبوابات المنزل النوبي يتمثل في صد العيون الشريرة عن أصحاب المنزل.
والجدير بالذكر أن هذه القرون وجدت على مقابر فرعونية وكنائس مسيحية مثل كنسية الصحابة، وهذا يدل على مدى التأثير الواضح لكل من الحضارة الفرعونية والعصر المسيحي على الثقافة النوبية المادية والتي تمثلت هنا في الزخارف المعمارية للمنزل النوبي.
وأيضاً كان هناك أشياء أخرى تعلق داخل وخارج المنزل النوبي مثل التماسيح المحنطة وأجنحة الطيور الكبيرة ثم نتيجة للتغيرات التي طرأت على المجتمع النوبي والتأثيرات الثقافية المختلفة والعوامل الاقتصادية نجد أنه ظهرت الأطباق الصينة على جدران المنازل النوبية المختلفة في مناطق متعددة.
الأحجار الكريمة والزجاج الملون :
هناك أشياء أخرى بالإضافة إلى الزخارف مثلاً نجد أن العريس كان يعلق ملابسه التي ارتداها في الزفاف على جدران المنزل، بالإضافة لمجموعة الأدوات التي تستخدم في طقوس الزفاف مثل العصا والسكين والخرز والأساور التي كانت ترتديها العروس وأيضاً يرتدي العريس قلادة يطلق عليه باللغة النوبية «جيرتي» وهي كلمة تعني بالنوبية زينة العريس والعروسة وهي عبارة عن أربع قطع من الفضة وسيور حمراء وخضراء، أما قلادة العروس فهي أقل في مكوناتها مما لدى العريس حيث عبارة عن خرز من الكهرمان والزجاج الأحمر ومن النادر الحصول عليه في مكان واحد، وتتكون أسورة العروس من العاج التي يتم تشكيله بالمخرطة ويمكن الحصول عليه من مدينة أم دورمان السودانية.
الفخار النوبي :
كان الفخار النوبي يزخرف المنزل وكان ملونا باللون البرتقالي والأصفر وتضاف إليها زخارف الطيور والأسماك والعقارب والغزلان ذات القرون، ويوجد نوع آخر من الزينة وهو يأخذ شكلا مثلثا ، وقد لوحظ في الفخار النوبي في الحفريات الأثرية أن الشكل الخاص الجميل بالفخار النوبي كان في العصور الوسطى يتميز باللون البرتقالي وهذا يدل على التفاؤل في الحياة كما أكد الإخباري.
والجدير بالذكر أن الأشياء التي تعلق على جدران المنزل النوبي توضع في مكان بارز يعتقد أنها تبعد وتمنع العين الشريرة، ولم تتعارض هذه المفاهيم مع دخول الدين الإسلامي لمنطقة النوبة
وبالتالي يمكن القول بأن الدلالات الثقافية والاجتماعية للأشياء التي تعلق على جدران المنزل تتلخص في النقاط التالية وهي:
أ- تستعمل في مراسم الزفاف النوبي، ثم ترتب على الجدران الداخلية لكي تظل باقية طوال فترة الحياة الزوجية للأفراد المعنيين.
ب- تعلق لإبعادها من النمل الأبيض والذي ينتشر في المنطقة نتيجة للظروف المناخية للبيئة التي توجد بها بلاد النوبة.
جـ- تعلق لطرد الأرواح الشريرة أو صد ورد العين والحسد التي قد تصيب أفراد العائلة التي تسكن داخل المنزل.
د- تستعمل كزخارف خاصة لغرف الرجال.
ه- تستعمل بصورة خاصة لتزيين الأبواب في مداخل المنزل.
4) المعاني الثقافية للمتعلقات المستخدمة في زينة المنزل النوبي في المحس:
الرموز الموجودة على جدران المنزل النوبي لها علاقة ودلالات رمزية بالتراث الثقافي لمنطقة النوبة بشمال السودان، ونجد أن من الرموز المميزة هي القباب وصور الحيوانات ويمكن عرضها كالتالي:
1. الثعلب:
يسهل ولادة الطفل.
2. الحيوانات ذات القرون :
القرن يحمي الحيوان من المعتدي أو من الحيوانات المفترسة، وبالتالي نجد أن الاعتقاد السائد الخاص بتعليق قرون الحيوانات أنها تحمى أفراد العائلة التي تسكن المنزل من العين الشريرة والحسد.
3. الحمام:
يدل الحمام على اعتقاد سائد لدى النوبيين يتمثل في أنه يحمى المنزل وعلاقته قوية بالصليب النوبي المسيحي.
4. التمساح:
في الاعتقاد النوبي يؤثر في خصوبة المرأة لأنه يطرد الأرواح الشريرة من المنزل.
5. الثعابين:
الاعتقاد السائد أن أرواح أجدادهم وأرواحهم تجسدت في الثعابين، ولها وظيفة في المجتمع حيث يعتقدون بأنها تقوم بحماية وحراسة كنوزهم التاريخية والأثرية التي تركها لهم أجدادهم على مر العصور السابقة للحضارة النوبية.
6. الضباع:
من الملاحظ أن كل الضباع التي تعلق بالمنزل النوبي من الإناث، وهي تحمل روحا شريرة للنساء ولكن شعر الضباع يستخدم في علاج العقم لدى النساء، ولكن يؤكد الإخباري أن الضباع اختفت في عام 1946 من زينة المنزل النوبي نتيجة للهجرة التي تعرض لها النوبيون نتيجة خزان أسوان.
7. الأسد:
ظهر الأسد الذي يمسك بالسيف وأصبح أكثر شيوعاً من الحيوانات الأخرى، وهذا له دلالة ثقافية هامة في التراث النوبي تتمثل في الثقافة العربية «أسد الله» وهذا دليل على تأثير الإسلام في الثقافة النوبية، وأيضاً وضع الأسد على المنزل النوبي لحماية سكانه من الحيوانات المفترسة والعين الشريرة وهو رمز للقوة والبسالة.
8. الهلال:
من الرموز المقصود بها إبعاد العين الشريرة، ويعتبر الهلال من التأثيرات الإسلامية التي تأثرت بها الحضارة النوبية على كافة المستويات والعمارة النوبية على وجه الخصوص.
9. كف اليد:
من الرموز التي تتعلق بالحماية من الحسد والعين الشريرة، وتوضع على أبواب المنازل مبسوطة الأصابع، وفي أحوال كثيرة تلطخ اليد بالدم ثم تطبع أثارها على المداخل أو الأشياء الجديدة مثل شراء سيارة، والجدير بالذكر أن الاعتقاد بالحسد والعين الشريرة هو اعتقاد سائد عن كافة النوبيين.
10. الصحون وأطباق الطعام :
تدل على وفرة الخير والخبز داخل المنزل، وأن أصحاب المنزل يتصفون بالكرم.
11. السيف:
يرمز للبطولة، حيث يرسم السيف في يد الأبطال والفرسان فكان يرسم في اليد أسد كمدلول للتخلص والابتعاد عن الأمراض، وكتهديد للخيانة، ودليل للمنتصر وأيضاً أنه حكمة.
12. النخلة:
تدل النخلة في زخارف المنزل النوبي على الإنتاج الوفرة، وهي رمز لتجدد حيث نجد أن النخلة تتجدد كل عام بأوراقها وقشورها وتعطي إنتاجا وفيرا من التمر وبالتالي تدل على الخير.
5) التأثيرات الدينية المختلفة على المسكن النوبي في المحس :
تأثير الحضارة الفرعونية :
مما لاشك فيه أن هناك أثرا كبيرا للحضارة الفرعونية على العمارة النوبية والزخارف النوبية، ونجد ذلك واضحاً في نمط بناء البيت النوبي وجوانبه المختلفة مثل البوابة النوبية والجدران، فهذه النقوش والزخارف النوبية قد استعيرت من الحضارة الفرعونية، والتي كانت تعتمد على تمجيد الإله أو الملك، فقد احتل ملوك الفراعنة بلاد النوبة حتى الشلال الثاني منذ ألفي سنة قبل الميلاد وقامت دولة كوش بعدها مملكة مروى، وأصبحت مركزا ومزيجا من الحضارة النوبية والحضارة الفرعونية، ويمكن القول بأن تركيب البيت النوبي مأخوذ عن نمط المنازل الفرعونية والمدخل هو واحد لا يتغير، حيث نجده مشابهاً لمداخل البوابات الفرعونية التي تظهر براعة الفراعنة في التصميم من قصور وغيرها .
والدليل الأكثر وضوحاً للتأثيرات المختلفة الواضحة للحضارة الفرعونية على النوبيين وعماراتهم يتجلى في الزخارف والرسومات التي تأخذ شكل قرون الحيوانات سواء كانت المرسومة أو الحقيقية الموضوعة على بوابات المنازل النوبية، حيث تذكرنا بقرون الإله أمون في صورة الكبش النوبي، وأما الحيوانات الأخرى المستعملة في زينة المنزل النوبي من أسود وتماسيح وضباع وقطط فكلها صورة لحيوانات كانت مقدسة عند الفراعنة ورثها الكوشيون ثم المرويون.
التأثير المسيحى :
تحولت بلاد النوبة في القرن السادس الميلادي إلى المسيحية، ومن ثم أصبحت كل النقوش الكنسية والجنائزية تكتب باللغة اليونانية أو النوبية أو القبطية، ولم يستعمل اللغة المروية، وقد أظهرت المسوح الأثرية الحديثة أن أحد أسباب ذلك ربما يعود إلى أن معظم بلاد النوبة كانت تحت الاحتلال في العصور الفرعونية حتى حوالى 800ق.م ولم يكن بها سكان في الفترة المروية، وربما يرجع ذلك إلى انخفاض منسوب النيل الذي أدى إلى إعاقة الزراعة في تلك الفترة، وكانت الكنيسه النوبية فرعاً للكنيسة القبطية في القاهرة ولم يكن للكنيسة النوبية اتصال كبير بأي مركز مسيحي في مكان آخر داخل القارة الإفريقية، ويؤكد ذلك اللوحات التي تم العثور عليها مؤخراً داخل الكنيسة والتي عثرت عليها البعثة البولندية في فرس إحدى المناطق النوبية، أن الزخارف على البوابات التي تعود إلى القرون الوسطى تتشابه بصورة مدهشة ببعض الزخارف التي نجدها اليوم.
الهوامش :
1. عبد الله محمد فودة (1991) البيئة والعمارة " دراسة للمعانى البيئية الثقافية " . رسالة ماجستير( غير منشورة) . كلية الهندسة ، جامعة القاهرة . صـ8
2. حسن عبد العزيز المويلحى (2005) العمارة بين الثقافة والتنمية . رسالة ماجستير ( غير منشورة) . كلية الهندسة ، جامعة القاهرة صـ69
3. أحمد أبو زيد (1982) البناء الإجتماعى مدخل لدراسة المجتمع " المفهومات " . ط8 :الجزء الأول صـ9
4. عمرو محمد الظواهرى (2000) وحدات التنمية المرتبطة بالجماعة والمكان . رسالة دكتوراه (غير منشورة ). كلية الهندسة ، جامعة القاهرة، صـ15
5. وجيه ، داليا (1997) الطبيعة كمحدد إنائى وتصميمى فى المناطق الحضرية . رسالة ماجستير (غير منشورة ). كلية الهندسة ، جامعة القاهرة، صـ 13
6. صلاح أحمد محمد الكرمانى (2011) دور المياة الجوفية فى التنمية بواحتى سيوة والجغبوب . رسالة دكتوراه ( غير منشورة ). قسم الجغرافيا ، معهد البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة القاهرة، صـ38
7. محمود عبد الفضيل (1988) التشكيلات الإجتماعية والتكوينات الطبقية فى الوطن العربى . القاهرة : مركز دراسات الوحدة العربية ،صـ 17
8. أحمد مصطفى شاهين (2003) الوظائف الإجتماعية للمسكن فى مدينة بنغازى. رسالة دكتوراه (غير منشورة) . قسم الأنثروبولوجيا ، معهد البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة القاهرة. صـ 160
9. شويخ ، رؤى عدنان (2011) أثر الثقافة المعمارية على المسكن التقليدى بالحى العربى فى تونس العاصمة . رسالة دكتوراه (غير منشورة ). قسم الأنثروبولوجيا ، معهد البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة القاهرة ، صـ 117
10. أحمد مصطفى شاهين (2003) الوظائف الإجتماعية للمسكن فى مدينة بنغازى ، مرجع سبق ذكرة ، صـ156
11. أشرف كامل بطرس (1998) الثقافة والنتاج البنائى . رسالة دكتوراه (غير منشورة ). كلية الهندسة ، جامعة القاهرة . صـ 6
12. أشرف كامل بطرس (1998) الثقافة والنتاج البنائى ، مرجع سبق ذكرة صـ 7
13. نادية أحمد محمد حسبو (2006)العمارة والفولكلور . رسالة ماجستير (غير منشورة ) . كلية الهندسة ، جامعة القاهرة . صـ 108
14. عبد الرحمن برقوق (2007) الضبط الإجتماعى كوسيلة للحفاظ على البيئة فى المحيط العمرانى . الجزائر: مجلة العلوم الإنسانية ، جامعة محمد خضير بسكرة ، الجزائر، العدد 12. صـ 121
15. رانيا محمد على طه (2010) التأثير المتبادل بين الواقع العمرانى والهوية الثقافية الإجتماعية للسكان . رسالة ماجستير . كلية الدراسات العليا ، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين. صـ 37
16. توفيق أحمد عبد الجواد (1989) مصر العمارة فى القرن العشرين . القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية. صـ 3
17. مروة حسن عثمان (2003) مفهوم الهوية فى العمارة والعمران . رسالة ماجستير (غير منشورة ).كلية الهندسة ، جامعة القاهرة . صـ 116
18. رغد مفيد محمد (1996) ثقافة المجتمعات وعمران المناطق ذات القيمة التراثية . رسالة ماجستير (غير منشورة) . كلية الهندسة ، جامعة القاهرة. صـ 28
19. عبد الباقى إبراهيم (1987) المعماريون العرب "حسن فتحى ". القاهرة : مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية صـ 120
20. ريهام إبراهيم ممتاز (2003) الأبعاد الثقافية لجماليات التشكيل العمرانى . رسالة ماجستير(غير منشورة). كلية الهندسة ، جامعة القاهرة. صـ 17
21. على محمد عبد الصاوى (1994) ديناميات العمران البشرى . رسالة دكتوراه (غير منشورة) . كلية الهندسة ، جامعة القاهرة . صـ 150
الصور:
- من الكاتب.