بطرس المعري.. مرسم وكتابان ومنفى
رائد وحش
من يرَ بطرس المعري يدركْ سريعًا أنه أمام رجل ناقص مدينةً، وأن تلك المدينة دمشق. المفارقة أنه ليس في المدن ما يشير إلى نقصانها، وليس بوسعها أن تحدّثنا عن ذلك. أما نحن البشر فنفعل ذلك بألف طريقة وطريقة.
من هذا النقصان، ومن محاولة ترميمه، أو من الصراع معه، تبدأ الدراما الفنية التي يعيش بطرس داخل تلاطم أمواجها العاتية، محاولًا الوصول إلى برٍّ ينهي تيهه الداخلي. لكن واقع الحال السوري الذاهب نحو مزيد من القسوة والحدة لا يترك منجى سوى الذاكرة، ولهذا ستبدو لوحات المعري، لا سيما في السنوات الأخيرة، شكلًا مثاليًا لذاكرة تصارع كمًّا هائلًا مما يسعى إلى محوها، كالطغيان والحرب والمنفى.. ولهذا يغدو التأكيد على حضورها نوعًا من أنواع الصراع على البقاء.
الفن والهوية
انشغلت لوحات المعري منذ وقت مبكر باستلهام الموضوعات المحلية، بحثًا عن لوحة ذات انتماء سوري. لوحة ترسم ما في الحياة والمجتمع من خلال الاقتراب من مناخات الفن الشعبي، أو استلهامه. لكنّ تسونامي المنفى الذي جرفه وعددًا هائًلا من السوريين جعل العالم الذي يعرفه يختفي. ومع بلوغ التمزق الهوياتيّ في الفضاء العام حدّه الأقصى راح يجتهد في رسم صورة لسوريا، مرةً من واقعها الحياتي، وأخرى من خيالها الرمزي، على سبيل المساهمة في إعادة إنتاج هوية منفتحة مضادة للطائفية، نابذة للتعصب، وناتجة عن تفاعل عميق بين مختلف الفئات الاجتماعية، ولها تجلياتها البيئية والثقافية والفنية الراسخة، في العمارة والقصص الشعبية والفلكلور والخرافات.
لا يفعل المعري ذلك من خلال العودة إلى الماضي وحسب، بل في العمل على اكتشاف مزاج الحاضر أيضًا، والسعي للتواصل معه بكل الطرق الممكنة، وعلى عكس الفنانين الذين تطغى عليهم سمات التجهم والصرامة، يمضي المعري إلى المرح، أو معه، في لوحات لا تخلو من حسّ الفكاهة، بل تسعى إليها بدأب، إلى درجة تبدو فيها هذه النزعة شديدة الجرأة. لا يعني هذا أنه مشغول بالكوميديا وحسب، بل إن هناك وجهًا تراجيديًّا واضحًا لعمله. لكنّ هذا الحضور المزدوج جديد، خصوصًا في الفنون البصرية.
وكم هو مدهش أن كثيرًا من رسوماته حول المأساة السورية لا تبدو مأساوية في النتيجة النهائية للعمل!
الدافع لفكاهة المعري هو خلفيته الثقافية الشعبية، فأعماله تقول إنه مشبع بمفردات الحارات وحسِّها التهكمي. وإن كان يستثمر في السخرية الشعبية، سواء في كلام الشوارع، أو مزاج الحواري، أو في الكوميديا التي يعرفها المقهى والمسرح والتلفزيون، فإنه يستثمر هذا الحسّ في الدين أيضًا، حيث نرى مسحة من المرح والسرور تكلل وجوه شخصياته، من الدراويش الذين يرسمهم بكثرة، أو كيوبيد الدمشقي، ملاك الحب المحلي الذي قام بابتكاره.
من هنا، تبدو اللوحة جزءًا من الحياة، لا إسقاطًا عليها، ومليئة بالطموح إلى التواصل، بل تفتح نفسها أمام الآخرين لأجل ذلك من خلال الكتابة التي تعزز هذه الرغبة، إضافة إلى إبرازها للمفردات المشتركة مع المتلقي: فيروز، الجامع الأموي، المسلسلات التلفزيونية الشهيرة.. إلخ.
فن المعري يبحث عن حوار مع المكان والناس والبيئة، ويُعرّف نفسه من خلال إطاره السوري، المصفّى والمنقّى بفلتر ذاكرته الحزينة، ليشكّل متنًا سوريًّا مُشتقًا من حياة دمشق بالدرجة الأولى.
لوحات تحكي
تقصّ علينا لوحات المعري قصص متخليةً عن التعالي النخبوي، محتفلةً بعفوية الفن الشعبي. إنها تحويل لحكواتي المقهى الذي يخاطب الأذن لنكون أمام حكواتيّ يخاطب العين. وحين تعيد إنتاج عوالم الفنان الدمشقي أبو صبحي التيناوي فإنها تؤكد على انتمائها إلى عالم الحكاية. الموضوعات الدينية: الكنائس والمساجد والملائكة والدراويش، والأسطورية: الرجل الحصان والحصان المرأة، والفلكلورية: المقهى والحمام والعرس والرقص، والجمالية: الزخارف النباتية والهندسية.. كل هذا ليس سوى تطويع لوعي العين بما تعرفه مسبقًا، ومن ثم توريطها في المشهد.
كتابان برسومات
احتفينا قبل أيام بصدور كتاب ثان هو "رؤيا الدمشقي"، الذي يستكمل فيه اشتغاله على مزج الكتابة بالرسم. وجرى توقيع له في صالة أمارجي في مدينة هامبورغ.
مع كتابه "كيوبيد الدمشقي" أحيا المعري تقليدًا مندثرًا هو الرسومات المرافقة للنصوص. وهو تقليد ظل سائدًا في فترة طويلة مع الأعمال الأدبية، لا سيما الشعر، حتى حقبة التسعينات من القرن الفائت، ثم اختفى فجأة. طبعًا لم يكن الكتّاب هم أنفسهم أصحاب الرسومات، بل كانوا يستعينون بفنانين ليضيفوا تكوينات وتخطيطيات، ومع كتب المعري يعود التقليد للحضور عبر اجتماع الكاتب والفنان في شخص واحد.
الأمر ذاته عاد وفعله مؤخرًا مع كتابه الجديد "رؤيا الدمشقي"، إذ جمع الكتاب بين النص والرسم، بل خلط بينهما، فتحول النص إلى لوحة وتحولت اللوحة إلى نص. الواضح في الكتابين أن الهم التشكيلي أكبر من الهم الأدبي، فكثيرًا ما نرى ذلك من إبراز كلمة من خلال تكبير حجهما، أو أن ترد مقطعة أو معكوسة، ما يؤكد منطق الصورة، صورة الكلمة أكثر من معجميتها.
في "كيوبيد الدمشقي"، بدت النصوص حالمة، مسكونة بالحب لمدينة دمشق، تستحضر أغاني فيروز وأم كلثوم، وكانت هناك ظلال لنثر نزار قباني في النصوص، الأمر الذي جعلها تنساب رقيقةً وطيعةً.
أما كيوبيد فشخصية حاضرة من قبل في لوحات المعري، لكنه هنا، في الكتاب، قرر التكلم والإفصاح عن نفسه، بعد طيرانه الطويل والمديد فوق المدينة، بجناحين لا يعرفان الكلل أو الراحة. كيوبيد المعري مزيج من الدرويش والملاك. شخصية شعبية ترتدي ثيابًا فلكورية. وبين الدرويش والملاك يجمع المعري خلاصاتٍ مسيحية وإسلامية في شخصيته هذه، ولأن كيوبيد الأصل هو ملاك للحب، فها هو في صيغته الدمشقية يطلقه ليكون قصيدة حبٍّ للمدينة.
أما كتاب "رؤيا الدمشقي" فيميل إلى السرد، بل يعلن عنوانه الفرعي ذلك صراحة: "قصص الخوف ورسوماته". لا شك أن التقاطع واضح بين رؤيا اللاهوتي في الكتاب المقدس وبين أحلام وكوابيس الدمشقيّ المعاصر. عند اللاهوتي كان الخبر هو الأمل بانتصار الكنيسة المضطهدة على الشر الشيطاني، أما عند الدمشقي الذي يكتب رؤاه الصغيرة ورؤى آخرين يعرفهم، ويرسمها أيضًا، فنحن في مسار مشابه لبشر متألمين يبحثون عن خلاص.
في متن تجربة المعري البصرية جانبان يتجاوران طوال الوقت؛ التراجيديا والكوميديا، من مرح ورقة وشعرية الدراويش وأبناء الحارات، إلى مزق الأجساد وأشلائها، وسيادة الرعب ودوي الصراخ.
رائد وحش
من يرَ بطرس المعري يدركْ سريعًا أنه أمام رجل ناقص مدينةً، وأن تلك المدينة دمشق. المفارقة أنه ليس في المدن ما يشير إلى نقصانها، وليس بوسعها أن تحدّثنا عن ذلك. أما نحن البشر فنفعل ذلك بألف طريقة وطريقة.
من هذا النقصان، ومن محاولة ترميمه، أو من الصراع معه، تبدأ الدراما الفنية التي يعيش بطرس داخل تلاطم أمواجها العاتية، محاولًا الوصول إلى برٍّ ينهي تيهه الداخلي. لكن واقع الحال السوري الذاهب نحو مزيد من القسوة والحدة لا يترك منجى سوى الذاكرة، ولهذا ستبدو لوحات المعري، لا سيما في السنوات الأخيرة، شكلًا مثاليًا لذاكرة تصارع كمًّا هائلًا مما يسعى إلى محوها، كالطغيان والحرب والمنفى.. ولهذا يغدو التأكيد على حضورها نوعًا من أنواع الصراع على البقاء.
الفن والهوية
انشغلت لوحات المعري منذ وقت مبكر باستلهام الموضوعات المحلية، بحثًا عن لوحة ذات انتماء سوري. لوحة ترسم ما في الحياة والمجتمع من خلال الاقتراب من مناخات الفن الشعبي، أو استلهامه. لكنّ تسونامي المنفى الذي جرفه وعددًا هائًلا من السوريين جعل العالم الذي يعرفه يختفي. ومع بلوغ التمزق الهوياتيّ في الفضاء العام حدّه الأقصى راح يجتهد في رسم صورة لسوريا، مرةً من واقعها الحياتي، وأخرى من خيالها الرمزي، على سبيل المساهمة في إعادة إنتاج هوية منفتحة مضادة للطائفية، نابذة للتعصب، وناتجة عن تفاعل عميق بين مختلف الفئات الاجتماعية، ولها تجلياتها البيئية والثقافية والفنية الراسخة، في العمارة والقصص الشعبية والفلكلور والخرافات.
لا يفعل المعري ذلك من خلال العودة إلى الماضي وحسب، بل في العمل على اكتشاف مزاج الحاضر أيضًا، والسعي للتواصل معه بكل الطرق الممكنة، وعلى عكس الفنانين الذين تطغى عليهم سمات التجهم والصرامة، يمضي المعري إلى المرح، أو معه، في لوحات لا تخلو من حسّ الفكاهة، بل تسعى إليها بدأب، إلى درجة تبدو فيها هذه النزعة شديدة الجرأة. لا يعني هذا أنه مشغول بالكوميديا وحسب، بل إن هناك وجهًا تراجيديًّا واضحًا لعمله. لكنّ هذا الحضور المزدوج جديد، خصوصًا في الفنون البصرية.
وكم هو مدهش أن كثيرًا من رسوماته حول المأساة السورية لا تبدو مأساوية في النتيجة النهائية للعمل!
الدافع لفكاهة المعري هو خلفيته الثقافية الشعبية، فأعماله تقول إنه مشبع بمفردات الحارات وحسِّها التهكمي. وإن كان يستثمر في السخرية الشعبية، سواء في كلام الشوارع، أو مزاج الحواري، أو في الكوميديا التي يعرفها المقهى والمسرح والتلفزيون، فإنه يستثمر هذا الحسّ في الدين أيضًا، حيث نرى مسحة من المرح والسرور تكلل وجوه شخصياته، من الدراويش الذين يرسمهم بكثرة، أو كيوبيد الدمشقي، ملاك الحب المحلي الذي قام بابتكاره.
من هنا، تبدو اللوحة جزءًا من الحياة، لا إسقاطًا عليها، ومليئة بالطموح إلى التواصل، بل تفتح نفسها أمام الآخرين لأجل ذلك من خلال الكتابة التي تعزز هذه الرغبة، إضافة إلى إبرازها للمفردات المشتركة مع المتلقي: فيروز، الجامع الأموي، المسلسلات التلفزيونية الشهيرة.. إلخ.
فن المعري يبحث عن حوار مع المكان والناس والبيئة، ويُعرّف نفسه من خلال إطاره السوري، المصفّى والمنقّى بفلتر ذاكرته الحزينة، ليشكّل متنًا سوريًّا مُشتقًا من حياة دمشق بالدرجة الأولى.
لوحات تحكي
تقصّ علينا لوحات المعري قصص متخليةً عن التعالي النخبوي، محتفلةً بعفوية الفن الشعبي. إنها تحويل لحكواتي المقهى الذي يخاطب الأذن لنكون أمام حكواتيّ يخاطب العين. وحين تعيد إنتاج عوالم الفنان الدمشقي أبو صبحي التيناوي فإنها تؤكد على انتمائها إلى عالم الحكاية. الموضوعات الدينية: الكنائس والمساجد والملائكة والدراويش، والأسطورية: الرجل الحصان والحصان المرأة، والفلكلورية: المقهى والحمام والعرس والرقص، والجمالية: الزخارف النباتية والهندسية.. كل هذا ليس سوى تطويع لوعي العين بما تعرفه مسبقًا، ومن ثم توريطها في المشهد.
كتابان برسومات
احتفينا قبل أيام بصدور كتاب ثان هو "رؤيا الدمشقي"، الذي يستكمل فيه اشتغاله على مزج الكتابة بالرسم. وجرى توقيع له في صالة أمارجي في مدينة هامبورغ.
مع كتابه "كيوبيد الدمشقي" أحيا المعري تقليدًا مندثرًا هو الرسومات المرافقة للنصوص. وهو تقليد ظل سائدًا في فترة طويلة مع الأعمال الأدبية، لا سيما الشعر، حتى حقبة التسعينات من القرن الفائت، ثم اختفى فجأة. طبعًا لم يكن الكتّاب هم أنفسهم أصحاب الرسومات، بل كانوا يستعينون بفنانين ليضيفوا تكوينات وتخطيطيات، ومع كتب المعري يعود التقليد للحضور عبر اجتماع الكاتب والفنان في شخص واحد.
الأمر ذاته عاد وفعله مؤخرًا مع كتابه الجديد "رؤيا الدمشقي"، إذ جمع الكتاب بين النص والرسم، بل خلط بينهما، فتحول النص إلى لوحة وتحولت اللوحة إلى نص. الواضح في الكتابين أن الهم التشكيلي أكبر من الهم الأدبي، فكثيرًا ما نرى ذلك من إبراز كلمة من خلال تكبير حجهما، أو أن ترد مقطعة أو معكوسة، ما يؤكد منطق الصورة، صورة الكلمة أكثر من معجميتها.
في "كيوبيد الدمشقي"، بدت النصوص حالمة، مسكونة بالحب لمدينة دمشق، تستحضر أغاني فيروز وأم كلثوم، وكانت هناك ظلال لنثر نزار قباني في النصوص، الأمر الذي جعلها تنساب رقيقةً وطيعةً.
أما كيوبيد فشخصية حاضرة من قبل في لوحات المعري، لكنه هنا، في الكتاب، قرر التكلم والإفصاح عن نفسه، بعد طيرانه الطويل والمديد فوق المدينة، بجناحين لا يعرفان الكلل أو الراحة. كيوبيد المعري مزيج من الدرويش والملاك. شخصية شعبية ترتدي ثيابًا فلكورية. وبين الدرويش والملاك يجمع المعري خلاصاتٍ مسيحية وإسلامية في شخصيته هذه، ولأن كيوبيد الأصل هو ملاك للحب، فها هو في صيغته الدمشقية يطلقه ليكون قصيدة حبٍّ للمدينة.
أما كتاب "رؤيا الدمشقي" فيميل إلى السرد، بل يعلن عنوانه الفرعي ذلك صراحة: "قصص الخوف ورسوماته". لا شك أن التقاطع واضح بين رؤيا اللاهوتي في الكتاب المقدس وبين أحلام وكوابيس الدمشقيّ المعاصر. عند اللاهوتي كان الخبر هو الأمل بانتصار الكنيسة المضطهدة على الشر الشيطاني، أما عند الدمشقي الذي يكتب رؤاه الصغيرة ورؤى آخرين يعرفهم، ويرسمها أيضًا، فنحن في مسار مشابه لبشر متألمين يبحثون عن خلاص.
في متن تجربة المعري البصرية جانبان يتجاوران طوال الوقت؛ التراجيديا والكوميديا، من مرح ورقة وشعرية الدراويش وأبناء الحارات، إلى مزق الأجساد وأشلائها، وسيادة الرعب ودوي الصراخ.