النسقية في رسوم الفنان عاصم الأمير
الأستاذ الدكتور أزهر داخل محسن
كلية الفنون الجميلة . جامعة البصرة
يشكل الأدب والفن عند عالم الإجتماع والفيلسوف الفرنسي ( هيبوليت تين 1828 _ 1893 م ) ظاهرة طبيعية تسجل سلوكيات المجتمع ، فحدد على وفقها ثلاثيته المشهورة ( البيئة أو الوسط ، الجنس أو العرق ، اللحظة التاريخية أو العصر ) بما يمكن تلقي وفهم العمل الفني ضمن سياقاته ، لأن الفن بكل معطياته لا شك يعكس بعض الحقائق ، هذا جانب يمكننا التأسيس عليه في قراءتنا لمنجز الفنان التشكيلي المهم ( عاصم الأمير 1954 م )
أما الجنبة الثانية تتعلق بما قدمه النقد الثقافي في إشتغاله على النص الأدبي والفني وإمكانية تحليليه بوصفه منهجاً نقدياً نصوصياً أو نسقياً يعنى بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليه الخطاب الثقافي رسمياً كان أو غير مؤسساتي ، وعليه تحددت مرتكزاته بتحليل النصوص على ( الوظيفة النسقية ، والدلالة النسقية كدلالة مباشرة حرفية أو دلالة إيحائية مجازية رمزية أو دلالة نسقية ثقافية ) ليؤكد لنا الناقد العربي ( عبدالله الغذامي 1946 م ) أن النقد الثقافي يتحدد وجوده من خلال التراكم المعرفي الذي يشمل البيئة والتاريخ والحضارة ، إشارة إلى ما يعنيه بالنسق بعده طابعاً جمعياً يخضع لبنية إجتماعية ( طقوس وشعائر ) فتكمن الدلالة النسقية في المضمر بوصفه نسقاً مركزياً في إطار المقاربة الثقافية المؤطرة بأنساق مهيمنة ، بينما يخفي النسق الجمالي والبلاغي في الأدب أنساقاً ثقافية مضمرة .
وعلى وفق محددات مؤسسات النقد الثقافي هناك وظيفة طرحها ( الغذامي ) دعاها الوظيفة النسقية وهي الوظيفة السابعة للخطاطة التواصلية السداسية للعالم اللغوي الروسي ( رومان ياكوبسون 1896 _ 1982 م ) ( الوظيفة الجمالية للرسالة ، والوظيفة الإنفعالية للمرسل ، والوظيفة التأثيرية للمتلقي ، والوظيفة المرجعية للمرجع ، والوظيفة الحفاظية للقناة ، والوظيفة الوصفية للغة ) وتعني تقصي النقد الثقافي للمضمر في النصوص والخطابات عبر لا وعي النص ، ومن ثم يتحدد الإشتغال بالإنتقال دلالياً من الدلالات الحرفية والتضمينية إلى الدلالات النسقية .
أروم بهذه الإحاطة إستقراء المنظومات النسقية في لوحات ( الأمير ) ومن هذه المنظومات : النسقية الإجتماعية ، النسقية السياسية ، النسقية الثقافية الفكرية ، النسقية الجمالية ، النسقية المرجعية الحضارية التي نسعى من تشخيصها .
فالنسق الإجتماعي يشكل ضاغطاً على الفنان ، لذا كانت رسوم العائلة الشعبية مع تأكيده على رسم شكل الطفل والمرأة ورمزيتهما بوصفها تشكل ذاكرة متقدة مستقدمة من بيئته الشبه ريفية ( ما بين المدينة والريف ) إرتبطت بمخيال الفنان ، فالفنان يؤكد على أن الطفل في ذات الفنان ( ذلك أن الطفل ببطولته الخارقة يعطي اللحظة الإبداعية زخماً جمالياً أكثر مما نتوقعه ، ولا يدع البياض تحت رحمة التعاليم ، أو شرائع الفن التي تخرب الذات وتلقي بالأغلال من حولها ) فتنماز أعماله بأنها واقعة تحت مظلة السهل الممتنع ، فبالرغم من عفوية الخطوط والمساحات اللونية والأشكال ، فهي تتضمن جانباً فكرياً معقداً لا يمكن تنفيذ تقنيته في وضع ألوانه على سطح اللوحة بشكل يسير ، تبث مكنة الفنان التقنية والعقلية على توظيف عقليته الظاهرة كوعي لإستخراج العفوية ( الوعي الطفولي ) بشكل يمكن تقبلها من العقل الواعي فضلاً عن العقل الطفولي ، كما تحدد ملونته منظومة نسقية مستقدمة من الألوان الشعبية المتداولة وبعفوية وإنسيابية يمكن إحالتها لرسوم طفل .
وشكلت النسقية السياسية في أعماله بعدها نقداً ثقافياً يعضد البعد الجمالي بشكل واضح ، إذ يشخص الإشكالات المجتمعية والسياسية في ظل منظومة سياسية غير سوية ( فوضوية ) أحالت المجتمع إلى أنساق ليست منتظمة في السلوك القيمي والإقتصادي ، لذا لم يسع الفنان إلى الجانب الجمالي كقضية مركزية عنده ، بل عده جانباً ثانوياً ، فالعمل يسلط الضوء على ما يتعكز عليه المجتمع في المطالبة بحقوقه بشكل كبير عبر ممارسات خطابية ثقافية وعلامات فاعلة في الحراك الشعبي التشريني ( التوك توك ، العلم العراقي ) بتضايف مع رموز أخرى ليست بذي علاقة مع تظاهرات تشرين ، لكنها رموز متداولة في المجتمع العراقي بوصفها رموزاً ثقافية ، ووجودها مع رموز التظاهرات التشرينية يرحل رمزيتها السياقية إلى التعاضد مع تشرين لتعزيز وجودها ، كما عمد إلى تضايف السطح البصري لنصوص كتابية تعبوية تشرينية ( نازل آخذ حقي ، نريد وطن ) وكلها نصوص دلالية لحراك تشرين 2019 م في ساحة التحرير ، يخاطب فيها الحالة الوجدانية للمتلقي لتعزيز روح الثورية التعبوية والمطالبة بحريته وحقوقه بشكل لا يقبل المهادنة ، كما تأسست إشتغالاته لأعماله تحث إطار الحبكة والسرد الدرامي كتوصيف لحالة مجتمعية بوصفها حدث ما إشتغل عليه ( الأمير ) ليؤكد بعده الثقافي النقدي في طرح منظومته الجمالية والفكرية لأنه لن يكتف بتقديم لوحته كنشاط ترفي ، إنما يعرضها ليؤسس لوجود وكيان مجتمع يجد الفنان نفسه عنصراً فاعلاً فيه .
كما تمثلت النسقية الثقافية الفكرية أن الفنان يعتمد النتاج الفكري والجمالي بجانب الرمزي والدلالي على مقاربات الوعي بمنظومة اللا وعي فبانت إشتغالاته على التغريب والتداخل والإزاحات الجمالية والتقنية في الخط واللون والشكل والفضاء ، وهي طروحات تستكمل رؤيتها مجتمعياً لأنها نتاج مجتمعي ، لكنها تجارب تكتمل فكرياً وشعورياً طالما تندمج في البنية الثقافية للمجتمع ، وهذا ما يراه الفنان في كتاباته النقدية والتحليلية المتعددة ( أن الفن عملية إسقاط شعوري وتجلي ذاتي يختلط فيه الوعي باللا وعي ، الحدس بالعقل ، العقل بالعاطفة ، هذه المقولات التي مثلت العناصر الجوهرية لبنية الذات )
في حين تأطرت النسقية المرجعية الحضارية العراقية القديمة والإسلامية في منجز الفنان ( الأمير ) لا بوصفه وظف الشكل العراقي القديم أو الرمز بشكل مباشر كما غيره من الرسامين ، إنما كان التوظيف الفكري والتقني هو الحاضر ، فقد صورت سطوحه البصرية الأسلوبية الإسلامية في التأكيد على الزخرفية الهندسية والنباتية والخطوط والأشكال المتكررة فضلاً إمتلاء السطح من دون ترك مساحة للفضاء ، وهذا من أحد تقنيات الفنون الإسلامية والتي إتسعت وإمتدت في السلوك الشعبي لتعد فيما بعد موروثاً شعبياً تداولياً .
أما النسقية الجمالية فقد مثلت ضرباً من اللعب الواعي ، فبينما تتجلى قوة الإبتكار وقوة التشخيص في لعب الطفل بالأشياء عندما يعيد ترتيب المواد وتوزيعها ، فهي نسقية متداخلة مع معظم النسقيات الأخرى وبشكل نسبي ما بين التنامي والتراجع من عمل إلى آخر ، فقد لجأ من خلال خطوط ومساحات لونية عابثة في التصور الأول للتلقي تحددت منها أشكال حياتية ( السمكة ، المشحوف ، الناي ، الفالة ، النبتة ، وجوه أطفال ، القمر ، المحاق ، الهلال ، الشمس ) وهي بلا شك مرموزات لا يمكن تحجيمها في مساحة معينة ، لأنها مرموزات عابرة لحدود الجغرافية والتاريخ مع بعض التغاير من مجتمع إلى آخر فإنها رموز تداولية تعبر على ثقافات مختلفة ، ومع كل العفوية لا يمكن إختباء الجانب الجمالي في أعمال الفنان ، فالروحية التي تتسم بها الأعمال ذات معطى جمالي لبث رسالة مزدوجة ( فكرية وجمالية ) في آن واحد مع الوجود العبثي ( الكيفي ) في تأسيس عمله منذ البداية وحتى لحظة التوقيع وعرضه للتلقي ، كما يتأسس توجهه النقدي بالتزامن مع إشتغالاته في لوحة الرسم ، فتظهر أعماله مبنية على وفق نسقية جدلية متكشفة عن مرجعياته في الموروث القديم وبشكل أكثر فاعلية في الموروث المحلي ، حتى لتتبين للمتلقي منظومته الإستعارية الصورية والشكلية والكتابية فيها تكثيف بصري تداولي فبدت أسلوبيته بارزة من خلال التأكيد على بساطة المتعة الجمالية التي تشد المتلقي بمرجعياتها الإشارية والأسلوبية لتحقق نوعاً من التأمل الذي يعزز من تعبيرية الذات كنزعة تتجه لتهشيم وتفكيك الوحدات في اللوحة الفنية ، فالفنان ( الأمير ) يظهر نمطاً مغايراً من الأيقونات والإستعارات الرمزية والدلالية بمظاهر تعبيرية تمكنه من بناء الموضوعة عبر فهم علاقات الوحدات فيما بينها من خلال التوازن والمقاربة الجمالية الشكلية وتغيير المفردات والخامات لتحفيز الذاكرة والبحث في دوافع التجديد إثارة المتلقي ، فأعماله تلامس الواقع التراثي المتداول وبحكم الشكل الذي يكون الظاهر المؤدي إلى الجذب للمتلقي فهو يشكل عملية تبادلية مع المعنى ، في حين يتحول الشكل إلى حامل للمعنى ( دال ) كما في الرمزية .
وبعمومها شكلت النسقية منظومة ضاغطة في لوحات الفنان ( الأمير ) بكل تنوعاته حتى لا يمكن قراءة لوحة له من دون وجودها بشكل ظاهر ومخفي ، فتناوبت النسقية في إشتغالات الفنان بحسب الظرف الإجتماعي والسياسي الضاغط ، ويعد أكثرها ضغوطاً في لوحاته ما ترشح عن إحتجاجات تشرين ، وتمثلت العلامة الأكثر إشتغالاً وحضوراً في لوحاته مفردة ( التك تك ) وأخذ النص الكتابي في لوحات الفنان شكلاً مباشراً لتوصيف لا يحتمل الترميز ولعل جملة ( نازل آخذ حقي ، ونريد وطن ) أكثرها فاعلية في الفعل الإحتجاجي الذي وظفه الفنان ، وعد البناء المعماري الشعبي ( الكوخ ) شكلاً يعاضد الأشكال الأخرى كالسمكة والصياد والزورق في أهوار العراق المسماة ( بلم أو شختورة ) لغرض سياسي إجتماعي في ذات الوقت ، كما عدت المفردات ( القمر ، الهلال ، الضوء ، الوجوه المدورة ) كلها أيقونات تداولية عراقية بذات الوقت فيها تداول خارج الحدود الجغرافية لغرض بث رسالة كونية عبر منجزه الجمالي ، ومنه يمكن توصيف منجز ( الأمير ) بأنها مثلت معادلاً موضوعياً لحالة وحراك مجتمعي واقعي والسعي لإحالته إلى بعده الثقافي النقدي على وفق منظومات تتنافي مع المؤسسة يرفضها المجتمع .
معارض ...صفحة الفن والنقد التشكيلي
المعرض السابع والعشرون
الفنان د. عاصم الامير