تشكيل.. فريد شنكان بين اللوحة والترميم..تحديـث التـراث ..بلاغــة الأســـود والأبيـض.
أديب مخزوم
مع رحلة الفنان التشكيلي فريد شنكان الطويلة، في مجال انتاج وعرض اللوحة الفنية التشكيلية، نجده ينحاز وبقوة نحو اللوحة التراثية، وضمن النهج الحامل ملامح جمالية حديثة ومعاصرة، تدمج بين الزخرفة والعناصرالإنسانية والحيوانية والنباتية.
وهو يعمل لإظهار العقلنة، والتشكيل الهندسي، الذي يتوازى مع حركة الانفعالات، وذلك بالابتعاد عن الارتجال، وتقديم التكوينات الرصينة والمدروسة. واللوحة تحقق عنده اسلوبية خاصة، حتى في أقصى حالات الاختصار والايجاز، ويصل إلى درجة الإحساس بروح التراث والتشكيل الزخرفي، والجمع في نهاية المطاف بين العناصر والرموز والدلالات الذاتية في ايقاعاتها الجمالية المتنوعة.
رماديات الهجرة
ففي بعض لوحات فريد شنكان (من مواليد دمشق عام 1963 ومن الفنانين القادمين من محترفات كلية الفنون الجميلة - قسم الاتصالات البصرية عام 1986) نجد ما يشبه المربع أو المستطيل أو الدائرة، حيث يجعل حركة الزخارف والوجوه والعناصر الإنسانية والحيوانية والنباتية، تتحول الى دلالات جمالية خالصة، تتكرر وتتنوع من لوحة إلى أخرى، وقد يجعل نسيج اللوحة الخام، داخلاً في بناء اللوحة.
ولقد أنجر مجموعة لوحات تحت عنوان: رماديات الهجرة نحو الموت، وجاءت معبرة بعناصرها الانسانية والنباتية والمعمارية عن رمادية المرحلة، وأحاسيس الهلع والقلق المتأزم بعنف، ولم تأت هذه المجموعة كوصف تقريري، وانما كالتزام بقضية الإنسان السوري، بأقل مايمكن من الرموز، وبلونين أساسيين هما الأسود والأبيض للوصول الى بلاغة التعبير عن مرارة وكارثية المرحلة.
ولقد استطاع وخلال تجربة طويلة، تنقل خلالها بين إيطاليا وعدة بلدان عربية، كشف غنى حركة الزخارف العربية، وقدرتها على التواصل مع تطلعات الحداثة التشكيلية، وبذلك فهو يتطلع دائماً إلى بناء لوحة تلامس جوهر التراث، ذاهباً إلى ترجمة توجهه الجمالي خارج إطار التقليد، وبالتالي فكل شيء في لوحاته يأتي بشكل عفوي، التكوين شبه الهندسي أحياناً، والإيقاع الزخرفي والنباتي، والاسترسال العاطفي والوجداني.
إيقاعات شاقولية
وفي لوحاته ورسوماته، يعتمد تقنيات التشكيل العفوي بالزيت والأكريليك والغواش والأحبار والمواد والمساحيق المختلفة.. على القماش والورق والخشب والسطوح المستوية والمحفورة والنافرة، ويعمل ضمن إطار اظهار ايقاعات الخطوط الرفيعة في العديد من لوحاته، حتى حدود الاكتفاء بحركات خطية سريعة ومختصرة، حيث يتحول الأنف احياناً إلى حركة مستقيمة طويلة، وقد يظهر الوجه والشجرة ضمن تكوين دائري، ولهذا فهو لا يهدف الوصول الى اللوحة الخطابية بجمالياتها الاتباعية، وإنما بالارتكاز على روحها وإشاراتها وحركاتها المترسخة في الذاكرة والوجدان كبصمة لاتغيب. وهذا لايمنعه احياناً من العوده الى الواقعية، ولكن باحساس عفوي وبلمسة ماهرة وواثقة، يجسد من خلالها حركة الأطفال في أزقة المدينة القديمة.
هكذا يمارس حريته المطلقة في البحث التشكيلي والتقني والجمالي، كأن يجعل ايقاعات الحروف محصورة في مساحات شاقولية، في وقت يستطيع فيه أن يمارس حريته المطلقة في التشكيل والتلوين. وبذلك يكون الاتجاه التعبيري الانفعالي الذاتي هو الاكثر حضوراً في فضاءات التشكيل، وهو حين لايهتم بالاسلوب التقليدي أوالتسجيلي، فإنه يجعل لوحته خاصة به، وبعيدة عن التناظر الزخرفي التقليدي.
ولاشك ان الطابع الثقافي، يعمق مرتكزات بحثه التشكيلي والجمالي والتقني، فالتشكيل بالنسبة له هو مدخل لالتماس جوهر الايقاع الزخرفي, هو الاشارة الاولى التي تومئ بها رؤى جمالياته الحديثة, وهذه الرؤى الحضارية تجعل اللوحة تحمل كل تداعيات الماضي، المكتنز بصورة واشكاله ومناخه. ويمكن للمشاهد التماس جوهرالتشكيل الحديث العفوي الخاص والمميز، بمجرد ان يلقي نظرة واحدة على لوحاته.
ترميم الجدران والأسقف
ولقد درس فن الفسيفساء البيزنطي والروماني في ايطاليا عام 2000 وأنجز في «سبيلم بيرغو بيردونونة» خلال عامي 1998 - 1999، ضمن مشاريع شركة بيساتسا الإيطالية، مجموعة من الأعمال الفسيفسائية، وهو يمتلك خبرة طويلة في الزخرفة الشامية، وترميم الجدران والأسقف الدمشقية القديمة، حيث رمم العديد من البيوت، وأعاد إليها رونقها الجمالي السحري: دار المملوك في باب توما 2003، فندق القيمرية 2005، قصر باشا المعلم في تل الحجارة بحي الأمين، قصر الزعفران في حارة بولاد 2007، فندق بيت روز في باب توما 2008 وغيرها.. وهذا النمط الزخرفي الفريد والخاص بالبيوت الدمشقية القديمة يعطي الدليل على عمق تراثنا المعماري، المهدد في بعض جوانبه بالضياع والاندثار.
والمعروف أن الأجانب يدهشون بالزخرفة الشامية، أما حين يقفون أمام لوحة تشكيلية عربية حديثة، مفتوحة على تقنيات وأجواء فنون الغرب، فإنهم يقولون هذه بضاعتنا ردت إلينا.
فالملامح الزخرفية الشامية بتنويعاتها كافة، ذات دلالات سحرية لها علاقة بمنطلقات الفنون المعاصرة، التي توازن بين الطرب الإيقاعي اللوني والهندسي، وصولا إلى أعمال الفسيفساء والموزاييك الشرقي، حيث يضفي الحرفي- الفنان، عليها لمسة إبداعية بموهبته، وهذا يساهم بإظهار حيوية وعراقة البيت الشامي، ويخرج العمل من اطاره الحرفي الى النطاق الإبداعي.
وفريد شنكان فنان متنوع الاتجاهات، ومهتم أساساً بالتراثيات الدمشقية وفنونها اليدوية كخبير واستشاري استطاع تطويع التقنيات والمواد المختلفة، والجمع بين عوالم الفن التشكيلي، وفنون الديكور الداخلي، من منطلق دراسته وخبرته الطويلة في هذا المجال، وبعد إنجازه للعديد من الأعمال الفنية، داخل سورية وخارجها.