?️?️ مراجعة رواية "دانشمند" للروائي الموريتاني "أحمد فال الدين". بقلم: حسين قاطرجي.
القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2025.
أحبّ الأدب الصوفيّ لانّه ينقلنا إلى عالمٍ من التأمّل والصفاء، حيث يصبح القلبُ هو القائد والحبّ هو البوصلة. هذا النوع من الأدب يدعونا للغوص في أنفسنا لاكتشاف الحقائق الكامنة فيها.
تتناول الرواية سيرة شخصيّة أثّرت بعمقٍ في الطابع الفكري للعالم الإسلامي. هو العالم المتبحّر "أبي حامد الغزالي" الذي كان دائم الانغماس في دراسة الفقه والدّين منذ طفولته، ومع مرور الوقت، بدأ الإمام "الغزالي" يشتهر بذكائه وفطنته. انتقل إلى نيسابور حيث درس تحت إشراف العلماء البارزين في ذلك العصر، مثل الإمام "الجويني". هناك، طوّر "الغزالي" مهاراته في الفقه والفلسفة والمجادلة. كانت هذه الفترة نقطة تحوّلٍ في حياته جعلته يُعيد تقييم فهمه للحقيقة والمعرفة.
بينما كان "الغزالي" يسعى للمعرفة، كان يعاني أيضاً من أزمةٍ روحيةٍ عميقة. كان دائم التساؤل عن الحقيقة وما إذا كانت المعرفة التي يحصل عليها تُقربه حقًا إلى الله. قادته هذه الأزمة العميقة إلى الانسحاب من نشاطاته الأكاديمية والتوجه نحو الصوفية، حيث وجد السلام الداخلي الذي كان يبحث عنه طويلاً.
الإمام "الغزالي" لم يكن فقط مفكراً أو عالماً، بل كان روحاً باحثةً تُلهم المحيطين به على التفكير والتأمل الأعمق في الوجود والعلاقة مع الخالق. أعماله، مثل "إحياء علوم الدين"، لم تكن مجرد مجموعة من التعاليم بل كانت انعكاساً لرحلته الروحية والداخليّة، رحلة تبحث عن الحب الإلهي والمعرفة الحقيقية.
☆ وضعت على الرواية مآخذ عدّة، منها:
- لأنّني أقرأ أدباً روائيّاً، فأنا لا أنتظر أن يستعرض الكاتب حياة "الغزالي"، ولا أبحث عن سردٍ تاريخيٍّ كان يمكنني أن أتناوله من كتب التاريخ؛ بل أنتظر من الكاتب أن يتخطّى بنا حواجز الممكن ويُسقط شيئاً من الرواية على واقعنا، أنتظر منه إضفاء الحيوية على مشاهد ومواقف تلامس قلوبنا وعقولنا، والواقع أجده نجحَ في هذه الناحية مرة، وخاب مرّات..
- أكثر ما استوقفني حشرُ مفرداتٍ فارسيّةٍ في متن النص (وكذا عنوان الرواية)، أرى هذا التصرّف باهتاً ولم يُضفي إلى الرواية غير تشتّت القارئ وضياع تركيزه، قد يبرّر لنا "فال الدين" إقحامه الفارسيّة بأنها ابنة البيئة التي عاش فيها الإمام الغزالي، وهو -بظنّي- تبريرٌ غير مقبول. نعم، قد تظهر لغة الشخصيّات الفارسيّة في بعض الأعمال الأدبية كأداةٍ لتجسيد واقعية البيئة والسياق الذي تدور فيه الأحداث. ومع ذلك، يجد الكاتب العربي نفسه في موقف يتطلب التوازن بين نقل المشهد الثقافي والصوت الأصيل الذي يعبر عن تجربته الذاتية واللغة التي نشأ بها. إن استخدام اللغة الفارسيّة يمكن أن يعزز البعد الواقعي للعمل الأدبي، ولكن قد يحدث انفصال عن الجذور الثقافية للكاتب. وخاصةً بأنّه يعتزّ بأصوله الشنقيطيّة!
إنّ التزام الكاتب باللغة العربية يعكس أيضاً احتراماً للجمهور القارئ الذي قد يشارك الكاتب في خلفيته الثقافية واللغوية. الكتابة بلغة مألوفة للقارئ تتيح له الوصول إلى المعنى الأعمق للنص، بما يعزز التواصل الفعّال والتفاعل مع الأفكار التي يطرحها الكاتب. وفي الوقت ذاته، يحافظ الكاتب على الهوية الثقافية واللغوية التي تتمثل في كتاباته، ما يعزز الثقة في الذات والانتماء للأصول.
- الرواية خطيّة بامتياز، لانجد فيها صعوداً او هبوطاً في الأحداث، وهذا يعني انعدام الحبكة، السرد الخطي في الرواية يعني تقديم الأحداث بترتيبها الزمني الطبيعي، دون أن تكون هناك قفزات أو مفاجآت تطغى على السياق العام. مثل هذه الروايات تتجنّب استثارة القارئ بمفاجآت غير متوقعة أو نظمٍ درامية معقدة. بدلاً من ذلك، تركز على التفاصيل الدقيقة في الحياة، وربما تعمّد الكاتب هذا النهج ليقدّم قراءة متأمّلة ومتفكّرة يركّز فيها على الجوانب النفسيّة والعاطفية للشخصيات. والإبداع في مثل هذه الروايات يكمن في براعة الكاتب في استناد الأحداث إلى قوتها الداخلية ودلالاتها العميقة؛ لكنها قد تسبّب إملال القارئ وخاصةً في حجمها الكبير (636 صفحة).
أعجبني استخدم الكاتب لغةً رصينةً صقيلة، كانت عالية في فصول وعادية تقليدية في مكان، (صفحات الرواية الأولى أعلى مافيها على صعيد اللغة) .
ومجمل القول: "دانشمند" رواية روحيّة عميقة، قد لا تُحدث الدهشة، لكنها ترمز للبحث الدؤوب عن المعرفة والحكمة، وتُعدّ حياة بطلها دليلاً على أن الطريق إلى الله مليءٌ بالتحدّيات.
ومهما كُتب عنه، فسيبقى "الغزالي" جزءاً من النسيج الفكري والروحي للإسلام حتى اليوم. وستظلّ سيرته شهادةً على القوة الروحيّة الكامنة في البحث عن الحقيقة.
• دانَشمَند
• أحمد فال الدين
• دار مسكلياني. 2023
• الطبعة الأولى. 636 صفحة.
القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2025.
أحبّ الأدب الصوفيّ لانّه ينقلنا إلى عالمٍ من التأمّل والصفاء، حيث يصبح القلبُ هو القائد والحبّ هو البوصلة. هذا النوع من الأدب يدعونا للغوص في أنفسنا لاكتشاف الحقائق الكامنة فيها.
تتناول الرواية سيرة شخصيّة أثّرت بعمقٍ في الطابع الفكري للعالم الإسلامي. هو العالم المتبحّر "أبي حامد الغزالي" الذي كان دائم الانغماس في دراسة الفقه والدّين منذ طفولته، ومع مرور الوقت، بدأ الإمام "الغزالي" يشتهر بذكائه وفطنته. انتقل إلى نيسابور حيث درس تحت إشراف العلماء البارزين في ذلك العصر، مثل الإمام "الجويني". هناك، طوّر "الغزالي" مهاراته في الفقه والفلسفة والمجادلة. كانت هذه الفترة نقطة تحوّلٍ في حياته جعلته يُعيد تقييم فهمه للحقيقة والمعرفة.
بينما كان "الغزالي" يسعى للمعرفة، كان يعاني أيضاً من أزمةٍ روحيةٍ عميقة. كان دائم التساؤل عن الحقيقة وما إذا كانت المعرفة التي يحصل عليها تُقربه حقًا إلى الله. قادته هذه الأزمة العميقة إلى الانسحاب من نشاطاته الأكاديمية والتوجه نحو الصوفية، حيث وجد السلام الداخلي الذي كان يبحث عنه طويلاً.
الإمام "الغزالي" لم يكن فقط مفكراً أو عالماً، بل كان روحاً باحثةً تُلهم المحيطين به على التفكير والتأمل الأعمق في الوجود والعلاقة مع الخالق. أعماله، مثل "إحياء علوم الدين"، لم تكن مجرد مجموعة من التعاليم بل كانت انعكاساً لرحلته الروحية والداخليّة، رحلة تبحث عن الحب الإلهي والمعرفة الحقيقية.
☆ وضعت على الرواية مآخذ عدّة، منها:
- لأنّني أقرأ أدباً روائيّاً، فأنا لا أنتظر أن يستعرض الكاتب حياة "الغزالي"، ولا أبحث عن سردٍ تاريخيٍّ كان يمكنني أن أتناوله من كتب التاريخ؛ بل أنتظر من الكاتب أن يتخطّى بنا حواجز الممكن ويُسقط شيئاً من الرواية على واقعنا، أنتظر منه إضفاء الحيوية على مشاهد ومواقف تلامس قلوبنا وعقولنا، والواقع أجده نجحَ في هذه الناحية مرة، وخاب مرّات..
- أكثر ما استوقفني حشرُ مفرداتٍ فارسيّةٍ في متن النص (وكذا عنوان الرواية)، أرى هذا التصرّف باهتاً ولم يُضفي إلى الرواية غير تشتّت القارئ وضياع تركيزه، قد يبرّر لنا "فال الدين" إقحامه الفارسيّة بأنها ابنة البيئة التي عاش فيها الإمام الغزالي، وهو -بظنّي- تبريرٌ غير مقبول. نعم، قد تظهر لغة الشخصيّات الفارسيّة في بعض الأعمال الأدبية كأداةٍ لتجسيد واقعية البيئة والسياق الذي تدور فيه الأحداث. ومع ذلك، يجد الكاتب العربي نفسه في موقف يتطلب التوازن بين نقل المشهد الثقافي والصوت الأصيل الذي يعبر عن تجربته الذاتية واللغة التي نشأ بها. إن استخدام اللغة الفارسيّة يمكن أن يعزز البعد الواقعي للعمل الأدبي، ولكن قد يحدث انفصال عن الجذور الثقافية للكاتب. وخاصةً بأنّه يعتزّ بأصوله الشنقيطيّة!
إنّ التزام الكاتب باللغة العربية يعكس أيضاً احتراماً للجمهور القارئ الذي قد يشارك الكاتب في خلفيته الثقافية واللغوية. الكتابة بلغة مألوفة للقارئ تتيح له الوصول إلى المعنى الأعمق للنص، بما يعزز التواصل الفعّال والتفاعل مع الأفكار التي يطرحها الكاتب. وفي الوقت ذاته، يحافظ الكاتب على الهوية الثقافية واللغوية التي تتمثل في كتاباته، ما يعزز الثقة في الذات والانتماء للأصول.
- الرواية خطيّة بامتياز، لانجد فيها صعوداً او هبوطاً في الأحداث، وهذا يعني انعدام الحبكة، السرد الخطي في الرواية يعني تقديم الأحداث بترتيبها الزمني الطبيعي، دون أن تكون هناك قفزات أو مفاجآت تطغى على السياق العام. مثل هذه الروايات تتجنّب استثارة القارئ بمفاجآت غير متوقعة أو نظمٍ درامية معقدة. بدلاً من ذلك، تركز على التفاصيل الدقيقة في الحياة، وربما تعمّد الكاتب هذا النهج ليقدّم قراءة متأمّلة ومتفكّرة يركّز فيها على الجوانب النفسيّة والعاطفية للشخصيات. والإبداع في مثل هذه الروايات يكمن في براعة الكاتب في استناد الأحداث إلى قوتها الداخلية ودلالاتها العميقة؛ لكنها قد تسبّب إملال القارئ وخاصةً في حجمها الكبير (636 صفحة).
أعجبني استخدم الكاتب لغةً رصينةً صقيلة، كانت عالية في فصول وعادية تقليدية في مكان، (صفحات الرواية الأولى أعلى مافيها على صعيد اللغة) .
ومجمل القول: "دانشمند" رواية روحيّة عميقة، قد لا تُحدث الدهشة، لكنها ترمز للبحث الدؤوب عن المعرفة والحكمة، وتُعدّ حياة بطلها دليلاً على أن الطريق إلى الله مليءٌ بالتحدّيات.
ومهما كُتب عنه، فسيبقى "الغزالي" جزءاً من النسيج الفكري والروحي للإسلام حتى اليوم. وستظلّ سيرته شهادةً على القوة الروحيّة الكامنة في البحث عن الحقيقة.
• دانَشمَند
• أحمد فال الدين
• دار مسكلياني. 2023
• الطبعة الأولى. 636 صفحة.