#المسرح_العربي بين #الفكر النقدي الخالد وموروث الأصنام الذهنيّة
بقلم: د. ماريّا_كريستي_باخوس
تتضافر في العرض المسرحيّ المتكامل كل المستويات الإبداعيّة: النصّ الذي ينبض بفكر كاتبه وروح عصره، أداء الممثّلين الذين يُحيون النص بأصالة إحساسهم وكل مداركهم وملكاتهم عبر إحياء شخصيّاته وإحداثيّاته الدراميّة متعدّدة الأصوات/ polyphonic والمعاني/ polysemic وذلك في العصر والمكان الذي يعيشون فيهما هم كممثّلين مع مخرج العرض، واللذين غالباً ما يختلفان عن عصر ومكان الحكاية والنص وحياة المؤلّف، هذا بالإضافة إلى الفضاء المسرحي الذي ينافس ويحتضن كل شرطيّات العرض في بعديها الحسّي والرمزي وفي دورها الوظيفي حيث يتجسّد تجريد الأفكار والانفعالات والجماليّات، فتولد العبارة المسرحيّة الصالحة لاجتياز الهوّة التي تفصل الخشبة عن الجمهور، باحثة لنفسها بين جموع المشاهدين عن كيانات جديدة ومتنوّعة تلقّحها وتخصبها وتعيد تدويرها في الذهنيّات والسلوكيّات والتعابير المعاصرة. أمّا هذا النوع من العبارات الفنيّة المسرحيّة المثمرة التي تملك أيضاً القدرة على أن تنصهر في الحالة الحضاريّة وبالتالي أن تلعب دوراً فكريّاً وماديّاً يتخطّى صفتها الفنيّة، هي تلك التي اتّسمت بالخلود واعتُبرت من "الكلاسيكيّات". وذلك يعود إلى سمات معنويّة وبنيويّة وتكوينيّة معيّنة امتازت بها وأصبحت بفعلها مادّة سرمديّة تحاكي الماضي والحاضر والمستقبل. والأعمال المسرحيّة التي تحمل سمات الخلود تلك هي التي نراها تنجح في اختبار الزمن والتطهير الجدلي الذي يحكم خط فعل ذلك الزمن كما ندركه بوعينا البشري. هي تخلّد عبر الجمهور الذي شاهدها وتناقل انفعالاته تجاهها وهي تبقى كذلك في ما غيّرته من خطاب اجتماعيّ أو أفكار أو ذهنيّات أو سلوكيّات سائدة، وتخلّد أيضاً من خلال تحاليل المبدعين أنفسهم كما جرت العادة في المسرح المعاصر حيث يتمّ التوثيق العلمي للآليّات الإبداعيّة والمسوّغات الفكريّة والجماليّة التي خلقت العرض المسرحي، فتنتظم تلك الآليّات وتشكّل منهجاً ما اذا استطاع الفنّان أن يتمتّع بقدرة الإبداع الشامل الذي يجمع الفكر بالجماليّات الحسيّة بالتقنيّات العلميّة التي تفرضها شرطيّات اللعبة المسرحيّة.
لدى الاطلاع على واقع فنّ #المسرح في المجتمعات العربية وتحليل حقيقة نشأته (درجاني، 2018) والتوقّف عند أبرز محطّاته التارخيّة ومظاهره المأزومة، ولدى مقارنته بمسيرة تطوّر المسرح في المجتمعات التي أنتجت حضارة مسرحيّة على مستوى الكتابة والإخراج والتمثيل والجمهور، يتّضح أنه ثمّة مظاهر ناشزة تحكم واقع المسرح العربي وهي جميعها وليدة الاختلال في ميزان القوى بين ذهنيّة عبادة "الأصنام" العرفيّة من جهة والذهنيّة النقديّة من جهة أخرى حيث الغلبة للذهنيّة الأولى. وتظهر وجوه هذا الاختلال في ركاكة القيمة الإبداعيّة والفنيّة لغالبيّة الأعمال الدراميّة بشكل عام والمسرحيّة بشكل خاص وموقعها في الحياة العامّة، وتظهر كذلك في ثقافة الجمهور المتلقّي وعلاقته بما يشاهد. وتكمن كذلك أبرز أزمات المسرح العربي في عجزه عن إنتاج أدب مسرحي أصيل يحاكي هويّته بلغة إنسانيّة خالدة وشاملة صالحة لكلّ زمان ومكان تتيح لأيّ مخرج عالميّ معاصر أو مستقبليّ أن ينهل منه كما ننهل نحن من الإرث العالمي للحضارات الأخرى، هذا بالإضافة الى التغاضي عن الذهنيّة المنهجيّة لدى الغالبيّة من المخرجين في تفعيل وتطوير أدوات الإنتاج الإبداعي عند اختيار النص وتحليله وإخراجه وإدارة الممثلين والفضاء المسرحي وصولاً إلى بناء علاقة شفافة ومسؤولة مع الجمهور وصولاً الى إمكانيّة تطوير أو استنباط نظريّات ذات صدقيّة علميّة وفكريّة عالميّة تفتح الآفاق لمدارس وأساليب جديدة نكون نحن روّادها بحقّ. وأمّا ذروة الاختلال فتكمن في عدم القدرة على الإدماج العضوي للفنّ المسرحي بصيغته الجدليّة في ثقافتنا الشعبيّة والاكتفاء بأشكاله الترفيهيّة الصرفة أو الفلكوريّة أو السياسيّة المباشرة. لكن، هذا لا ينفي وجود مجموعة ليست بكبيرة من المسرحيّين العرب يبذلون جهوداً فرديّة طامحين إلى زرع ثقافة النقاش والجدل الفكري والإبداعي في مجتمعاتهم المسحوقة بفعل الجهل والفساد والاستبداد السياسي والعصبيّات القبليّة والدينيّة والعرفيّة، في حين أن هذا النوع من المجتمعات العاجزة ومسلوبة الفكر والإرادة والرغبة في الانتفاض تكون مدمنة على الترفيه الحسّي السطحي وعلى "الاستمناء" العاطفي المباشر وتكون مدمنة أيضاً على اختراع الأبطال والتماهي معهم، والأسوأ أنها تعجز عن الحياة دون اختراع الأصنام وعبادتها، فتصبح تلك المجتمعات هي الأكثر حاجة إلى المسرح كمساحة للنقاش وكفعل إبداعيّ وكتعبير أصيل عن المسائل الإشكاليّة التي تسقم المجتمع والإنسان، إلا أنها الأكثر افتقاداً له.
لم يتجاوز المسرح الحالة الطقسية ويتحوّل إلى فنّ بصيغته الإبداعيّة القادرة على الخلود، إلا بعد إدراك الإنسان لحقيقة انتمائه إلى مجتمع ومن ثم إدراكه للمتناقضات المستجدّة في نظره بين المجتمع والطبيعة وبالتالي بين حقيقة الطبيعة وبين تأويله وفهمه لها من عدسة السرديّات الاجتماعيّة السائدة والمتوارثة، اذ أن الإنسان البدائي كانت علاقته بالطبيعة علاقة حسيّة غريزيّة مباشرة وكردّة فعل لاحتياجات أو احتكاكات آنيّة (غاتشيف، 1990)، وبالتالي لم يكن يشوبها أي تناقض أو إدراك للتناقض. وإدراك التناقض هذا قد ولّد شعور الريبة وحتميّة التعامل معها عبر الوعي وليس الغريزة الصرفة. وبذلك ولدت السرديّات المقدّسة لأسباب غير عقلانيّة لكن ضروريّة للتخلّص السريع من الريبة ولتدعيم الانتماء الى هويّة جماعيّة مشتركة، ثم ولدت الحاجة الى مساءلة ونقد هذه السرديّات عندما تتضخّم سلطتها وتصبح مستبّدة وشديدة التناقض مع ميول أو حقوق الإنسان الطبيعيّة، فولدت بذلك الفلسفة للمساءلة التجريديّة وولد المسرح في صيغته الجدليّة المختلف عن المسرح الطقسي لمساءلة التجريد نفسه عبر الاختبار المباشر لفرضيّاته.
والمسرح في صيغته الجدليّة هو فنّ حَضَري ارتبط بالحياة المدنيّة وليس البدويّة، وهو على المستوى العالمي لم يولد ويتطوّر إلا عندما اطمأن المجتمع الى انتماء جغرافي محدّد وراح يبحث عن التطوّر عبر التحاور الحيوي بين أفراد ذلك المجتمع بغية تجديد حيويّة العلاقات والأفكار والمفاهيم المستقرّة في بقعة جغرافية واحدة، فيكون الترحال في المساحات الذهنيّة لا الجغرافيّة. وهذا يفسّر ازدهار فنون الشعر الملحمي على حساب المسرح لدى الشعوب القديمة القبليّة أي قبل ولادة مفهوم المسرح الجدليّ، حيث كانت أولى القبائل فيها كما غيرها من القبائل قد ركّزت على اختراع وتقديس الأساطير التي تشدّ عصب القبيلة المضطرّة للحركة الدائمة بحثاً عن بيئة أفضل للحياة في كلّ مرّة. فهم كانوا بحاجة إلى مادّة لاحمة وجامعة لأولئك الأفراد المحكومين بالترحال، لأنّه في غياب تلك اللحمة ما من ضمانة لعدم الفوضى أو عدم تفتّت القبيلة او عدم تعرّضها للانشقاقات المستمرّة والتقاتل فيما بينها لدى كلّ تحرّك جماعي. وما زالت هذه الحقيقة تحكم المجتمعات العربيّة، التي بالرغم من استقرارها الماديّ والجسديّ في مكان محدّد، لا زالت تسكنها الذهنيّة القبليّة، أي ذهنيّة التشبّث بالروابط المصطنعة وتقديسها وتحريم التشكيك فيها أو حتى مجرّد مناقشة تأويلاتها، مخافة فقدان الهويّة والانتماء، في حين أن المجتمعات التي استقرّت في لاوعيها الجمعي على فكرة جواز الحياة والاستمراريّة في البقاء، بمعزل عن الانتماء الى السرديّات العصبيّة المشتركة، دينية كانت عنصريّة، قوميّة أو ثقافيّة، هي التي فهمت متعة المسرح الجدلي وضرورته المصيريّة في الارتقاء الاجتماعي والإنساني. وقد يكون أبرز دليل على هذه الحالة الشاذّة في اختراع الأبطال الوهميّين والدفاع عنهم وتقديسهم بدل تربية ودعم طاقات حقيقيّة، هو ما فضحه البروفسّور طلال درجاني في مقالته الشهيرة "روّاد المسرح العربي منتحلون لا مبدعون" (درجاني، 2018)، التي كشف فيها زيف المسرح العربي ومؤسّسيه وتمسّك من خلفهم بالمغالطات التي تسبّبوا بها وبالتزوير الذي اقترفوه بحق الفن المسرحي العربي الذي لا تزال تداعياته المأزومة والكارثيّة تتفاقم حتى اللحظة الراهنة.
من المهم عدم الخلط بين صفة الخلود ومفهوم الإرث، حيث أن فعل التوريث هو فعل مصطنع ومفروض من قبل سلطة معيّنة أو بموجب قوانين مصطنعة غير تلقائيّة. فمثلاً، الأعراف والتقاليد والسرديّات المقدّسة، والمغالطات التاريخيّة يتم توريثها عنوة عبر فرضها وتحريم كل ما يناقضها وتأليه كل ما يدور في فلكها مهما كانت ممارساتها وتداعياتها خطرة أو مشوّهة. أمّا صفة الخلود فهي تعني القدرة الطبيعيّة التلقائيّة على الصمود، حتى في وجه كل المحاولات السلطويّة المصطنعة لإلغائها، بالإضافة إلى القدرة على تذليل كلّ عقبات الاتصال المتعلّقة بالبعد التاريخي أو الجغرافي أو الثقافي. إذ أن الخلود هو نتيجة طبيعيّة لفعل نابع من حقيقة عميقة تخصّ الإنسان، فعلٍ قادرٍ على أن يجعل أي كائن عاقل في أي زمان ومكان ومهما كانت سرديّاته الثقافيّة أن يقف مذهولاً ومتأمّلاً أمام هذا الفعل أكان لوحة أو لحناً، أو منحوتة، أو تصميمًا هندسيّاً أو عبارة بلاغيّة أو تساؤلاً فكريّاً أو موقفاً دراميّاً، على عكس الأمور المورّثة عنوةً ضمن مجتمع معيّن وهي ليس بوسعها ان تحاكي أي عقل آخر على مسافة زمنيّة أو جغرافيّة أو إيديولوجيّة حيث أن تلك المسافة تكشف للعقل المدرك عن بعد، زيفَ السرديّات المليئة بالمتناقضات التي تسيطر على عقل من لا يُسائلها مخافة المحرّمات المنوطة بها، في حين أن العبارة الخالدة تزداد وضوحاً وقيمة كلّما زادت مسافة التلقّي الكاشفة لحيثيّات وجوانب وأعماق قد غفل عنها الملتصقون بها.
من المهمّ كذلك التمييز بين القيمة الإبداعيّة والإنسانيّة للأعمال الفنيّة الخالدة وبين حجم جماهريّتها أو حجم امتداح الذهنيّة السائدة لها في الزمن الذي أنتجت فيه، لأن القيمة الفنيّة ومعيار الجودة وصفة العمل الشعبويّة او النخبويّة أو الإنسانيّة الخالدة لا تتعلّق إلا بعمق الأفكار والمقاربة الإبداعية وأسلوب الصياغة في إطار شرطيّات الخلق والتلقّي للفنّ الخاص بالعمل موضوع التقويم. لذا فإن قيمة العمل الفني ترتبط بقدرته على التحاور مع آليّات التلقّي لدى الجمهور بتوازن متقن، ولا ترتبط بتعريف عرفيّ يفاضل بين الأنواع على خلفيّة عرفيّة، ولا بالانتشار الجماهيري او بشبّاك التذاكر، اذ قد تحقّق الأعمال متدنية الجودة الفنية والفكريّة انتشاراً هائلاً. وتتلخّص آليات التلقّي لدى المشاهد في مستويات ثلاثة أساسيّة: المستوى الأوّل هو الحسّي وجذوره في غريزتنا البدائيّة الحيوانيّة، والمستوى الثاني هو العاطفي حيث تتكوّن ذاكرتنا العاطفيّة الذاتيّة منذ الولادة الى لحظة التلقّى غير ان ملامح هذه الذاكرة الخاصّة بكلّ إنسان تتبلور في مرحلة متقدّمة نسبيّاً عن تلك التي تتبلور فيها مستقبلاتنا الحسيّة الغريزية، وأخيراً المستوى الثالث وهو الفكري الأكثر تعقيداً والأصعب نضوجاً إلا انه الأكثر ارتباطاً بصفتنا الإنسانية كجنس عاقل. اذن، وباختصار شديد، كلّ ما يخاطب الغريزة يسهل استهلاكه واستساغته والإدمان عليه، ما يترجم عمليّاً بضخامة انتشاره وزيادة الطلب العدديّ عليه، كون آلية تلقّيه وهضمه هي سمة طبيعية غريزيّة متوفّرة في كلّ البشر وليست مهارة او سمة معقّدة الاكتساب. وبعدها بالترتيب الجماهيري تأتي الأعمال التي تستثير العاطفة وتحقّق التفريغ العاطفي أكان بالضحك او البكاء أو الغضب أو غيرها. ولكن الأصعب استهلاكاً فهي الأعمال التي تستفزّ فكر المشاهد وتزعزع استقراره السلبي في ان تجبره على الخروج من راحة استهلاكه للعمل الفني الى ديناميّة التفاعل الفكري مع هذا العمل كمولِّد حيويّ للمعاني الجديدة غير التقليدية وغير المباشرة. وهنا تظهر إشكالية دور المبدع الكاتب او المخرج أو الممثّل في تطوير آليات خلقه وبلورة لغته الفنيّة التي تجتذب المشاهد جماليّاً وعاطفيّاً للمناقشة والحوار الفكري وليس للاستهلاك والتصفيق السطحي. من هنا، فإن كلّ الأعمال الدراميّة التي تنحسر فيها آليّات الاتصال بالمستويين الحسي والعاطفي ومهما حقّقت من انتشار جماهيري أو مهما كانت نموذجيّة لجهة الجودة الحِرَفيّة العالية في الحبكة وعناصر الإبهار والبلاغة وكلّ مقوّمات فنّ الشعر، طالما أنها لا تقوم على منهجيّة جدليّة تطرح مسائل إشكاليّة تسائل المنطق المسبّب للأحداث والصراعات وانفعالات الشخصيّات في المواضيع والحكايات المقدّمة، فقد لا تتخطّى علاقة المتلقي بها الحالة الاستهلاكية الحسيّة أو العاطفيّة، ما يجعلها إمّا أداة للتخدير إذا كانت ترفيهيّة تنفيسيّة أو أداة للتدجين إذا كانت وعظيّة تسويقيّة.
ولأن العرض المسرحي لا سبيل له إلى الخلود والاستمرار في الحياة بعد انتهاء العرض إلا في ذهن ووجدان المشاهد، ولأن الذهن البشري بطبيعة تكوينه لا يرسّخ بقوّة، وخاصّة من مشاهدات محدودة في الزمان والمكان والتكرار، إلا الأفكار التي تفتح فضاءات ذهنيّة معرفيّة جديدة لتساؤلات مستجدّة لكن عن مواضيع وإشكاليّات حيويّة تعنيه وتشغل باله، فإن العرض المسرحي الذي يقوم على مجرّد الترفيه أو الإشباع المباشر للمتلقّي ومهما حقّق هذا العرض من انتشار وشهرة وأرباح فهو عاجز عن الخلود كونه لا يشبع إلا حاجة آنيّة سرعان ما تتبدّد أو تتبدّل فتزول الفضاءات الذهنيّة التى كانت قد ارتبطت بها في لحظة التلقّي. هي تزول لأنها لم تتعرّض للتغذية والنمو والتفاعل مع فضاءات ذهنيّة أخرى مسؤولة عن أفكار ومواضيع غير التي ناقشها العرض مباشرة، حيث أن هذه التغذية العصبيّة للفضاءات الذهنيّة لا تحصل إلا عبر مراجعة الأطروحات المستجدّة بعد التعرّض الأوّل لها، والاستمرار في مراجعتها وجعلها جزءاً من فضاءات معرفيّة سابقة أكثر ترسّخاً وتأثيراً في الذهن المتلقّى (Pinker, 1998)، الأمر الذي لا يتحقّق إلا في حالة التعرّض لأفكار ومقاربات صادمة أي مريبة وعميقة وجديدة ومفاجئة بأصالتها وقوّة منطقها وجرأتها على تحطيم الأصنام الذهنيّة عبر زعزعة الأفكار الموروثة التي تحتلّ ذهن الفرد العادي المعرّض لكل السرديّات السياسية والاجتماعية والفنيّة والدينية المقدّسة، لأن التعرّض لهذه الصدمة الفكريّة والثقافيّة هي التي سوف تحوّل المتلقّي من مجرّد مستهلك سلبيّ إلى ندّ محاور ومتفاعل مع المضمون ولكن من منطلق نقديّ لا مجرّد عصبيّ.
من أبرز خصائص الأعمال الخالدة أنها تنجح في طرح الإشكاليّات الأزليّة وفي مناقشة جوهر الأفكار، وخلود الطرح المسرحي يكمن في طرح الأسئلة وليس في تقديم الإجابات الجاهزة، لأن العرض المسرحي ليس رسالة سماويّة ومن الخطورة أن يتعامل معه الجمهور على انه نصّ مقدّس يبثّ العظات والوصايا فينصرف المشاهد الى البحث عن العبر المبرمة، بل على الجمهور ان يتعامل مع أفكار المسرحيّة ببعديها الدرامي والإخراجي، على أنها ديناميّة جدليّة لطرح واختبار القيم والجماليّات والمعتقدات والمفاهيم والسلوكيّات، كون هذه الأفكار المسرحيّة تطرح ما استطاعت اليه سبيلا من احتمالات ونقيضها. وهنا أهميّة الدخول إلى مشاهدة العرض المسرحي بليونة فكريّة وبراءة بدائية متحرّرة من الخلفيات والإسقاطات المنحازة والانحيازيّة، كي يكون المتلقّي على جهوزيّة نقديّة تتفاعل مع الجدل الحيّ فيستعدّ من خلالها لمحاورة صدقيّة المنطق بدل الاكتفاء بانتقاد مضمون الأطروحات الناتجة عن هذا المنطق. علماً أن هذا الاستعداد ليس بالبديهي بالنسبة لجمهور كالجماهير العربيّة الخاضعة لمنظومة سياسية ودينية وتربوية واجتماعية وثقافيّة وفنيّة تعمل على فرض المضامين لا على مناقشة جدواها وجدوى صدقيّة المنطق فيها، ما يؤدّي إلى فرض شكل من الصراعات المحكومة بالعصبيّات كونها تقسم المجتمع أو الدول أو الثقافات إلى جبهات متناحرة كلّ يدافع عن مضمون سرديّته بدل أن يكونوا متحاورين مهتمّين بالبحث عن فحص أحقيّة وصدقيّة الأفكار المسقطة عليهم والمنطق الذي أسّس لها. حتى ان المجتمعات العربية الحديثة ما زالت تعاني في غالبيّتها من الذهنيّة القبليّة وغاياتها العليا تنحسر في ترسيخ سرديّاتها لأنها تشعر بخطر عدم الانتماء من دونها. تماماً كما في زمن الترحال البدوي حيث كانت الأساطير المقدّسة هي الأرض الصلبة التي ينتمي إليها الإنسان في ظلّ غياب القدرة على الاستقرار في بقعة جغرافيّة ثابتة، فتصبح عصبيّة الدم، والدين والعشيرة والشعائر الطقسيّة، هي عصب اللُّحمة وهي فوق مستوى أي شبهة أو تشكيك أو مساءلة. وبذلك تكون المجتمعات العربيّة تحرّم وتجرّم فعل النقد والمناقشة الحرّة وتستبدلها بفرض الإجابات الجاهزة التي تمثّل تأويل الأقليّة النافذة بخصوص أصول الحكم والدين والشريعة وأحكام الأعراف والأخلاق والسلوك والتعبير والجماليّات، ما يجعل من الجماهير العربيّة لا تتخطّى كونها مجموعات من الأفراد القُصَّر المؤمنين بضرورة الخضوع الأزلي إلى وصيّ يرشدهم ويفكّر عنهم ولهم حتى يظهر هذا في ثقافة المشاهدة لديهم عندما يتعاملون مع أيّ عمل فنيّ على أنّه مصدرٌ للتبشير بقيمهم ومعتقداتهم وترهيب "المرتدّين" و"الشاذّين" عنها، أمّا وإذا عبّر العمل عن حاجته وحقّه في أن يسائل قدسيّة أصنامهم فيصبح في نظرهم من أعمال الشيطان ويهدر بموجبه دم الفنّان وكأن مفهوم الجدل ومفهوم الحوار البنّاء الذي يقوم عليهما المسرح أو أيّ نشاط معرفي مثمر، هما مفهومان غائبان تماماً عن المشاهد العربي. وهذا ينعكس في ثقافة فرض الرقابات المتعدّدة وثقافة التعريب المحرِّف والمزوِّر للأعمال العالميّة بحجّة الأقلمة والاقتباس ومغازلة الذوق الشعبويّ وثقافة منع الأعمال واجتزائها والتشهير بصنّاعها وصولاً إلى الافتراء والتحريض وهدر الدم. وأمّا الصيغ غير الإبداعيّة في الإنتاج الفني مثل السرقة الفنيّة والاستنساخ وأشكال الاقتباس المشوّهة للأعمال الأصيلة بهدف المغازلة الشعبويّة للمقدّسات والمحرّمات والأهواء السطحيّة للجمهور والسلطة، بهدف الانتشار والربح السريعين، فهي تشكّل النقيض العضوي والمبدئيّ لفكرة الحياة بذاتها ومن ثم فكرة الخلود قبل أن تكون إشكاليّة أخلاقيّة. هي صيغ تغلب عليها الأهداف غير الفنيّة ومنها الأهداف النرجسيّة الخاصّة بالـ"فنّان" الراغب بالشهرة السريعة أو السياسيّة القمعيّة المباشرة الخاضعة لرغبات السلطة أو الأهداف الربحيّة الماديّة الصرفة الخاضعة لسلطة رأس المال والطامعة بالإرادات السريعة والهائلة وبالانتشار العددي والواسع عبر السعي وراء ما "يطلبه الجمهور" أي ما يعزّز سرديّاته وعصبيّاته ومحرّماته وقدسيّة أصنامه، أو ما يدغدغ غرائزه المكبوتة.
يحقّق النهج الجدلي في العرض الغاية الجوهريّة لفن المسرح، وهي إثارة النقاش حول كلّ وأيّ من المواضيع الإشكاليّة وأهمّها على الاطلاق المقدّسات وكلّ ما هو خاوٍ من القيمة الأصيلة ومثقل بالسلطة المصطنعة، إذ تترك التساؤلات المُثارة في العرض المسرحي على عاتقنا البحث عن الحقائق، وتحوّلنا الى مشاركين فاعلين ونافذين في تكوين أفكارنا الأصيلة وآرائنا الذاتيّة، في وجه أدوات وأساليب تعطيل الفكر الحرّ التي تتنوّع بين الترغيب والإغواء وبين النبذ الاجتماعي أو حتى "النخبويّ"، والتكفير الديني، والقمع السياسي والتهويل الفكري والاستهزاء الثقافي والتعتيم الإعلامي وغيرها من مظاهر رفض الأشكال البنّاءة للمناقشة واختلاف الرأي، أي رفض الفعل الإبداعي الأصيل باهظ الكلفة على سلطة أي نظام استغلاليّ.
لذا، فعلى الفرد وكذلك المجتمع أن يفهم أهميّة تعزيز الأعمال الإبداعيّة الأصيلة وخاصّة التي تعرّضه للصدمات الفكريّة، وبالتالي المعرفيّة، لأنها الوحيدة القادرة على حمله إلى التأمّل الحرّ والعميق في تفاصيل حياته وكبرى إشكالياتها وخاصّة في محرّمات مجتمعه التي لا تستمدّ سلطتها الزائفة الا من غياب حريّة التساؤل أو من الخوف من أي تساؤل قد يزعزع الركود الذهني الجمعي المُسْتَتِب بدوره بفعل الرهبة من الفراغ المؤقّت الذي تولّده الصدمة المعرفيّة قبل أي قطيعة معرفيّة، بالرغم من ضرورة هذا الفراغ، كونه إفراغاً صحيّاً بانتطار الامتلاء بالحقائق الأصيلة او على الأقل السير باتجاهها عبر التحرّر من المكتسبات غير العقلانيّة ومن سطوة التعبئة العصبيّة العمياء واستغلال محاور المال والسلطة للإنسان عبر تجريده من وعيه وتضخيم غرائزه الحيوانيّة المحصورة في قطبيّ "الخوف والحاجة" وكلاهما قائمين على النفاق والاستغلال.
لم تنتج الأنظمة القائمة على العصبيّات مسرحاً خالداً، وحتى المجتمعات المتحرّرة التي أنتجت مسرحاً خالداً لم تنتجه إلا خلال فترات النهضة حيث كان الفصل بين الدين والفكر والفنّ والسياسة متاحاً ومباحاً وان بنسب متفاوتة من حضارة الى أخرى، هذا لأن المسرح الذي يولد لتوكيد السرديّات العصبيّة والمقدّسات والمحرّمات لا لمناقشتها، قد يعجز غالباً عن أن يعني أي إنسان خارج تلك العصبيّة، فيسجن ضمنها ويختنق. كما أن كلّ نهضة مسرحيّة قد اتسّمت بالدأب لتعزيز فعاليّة الاتصال الحيويّ بين الخشبة والقواعد الشعبيّة وقد جهدت النهضة الحديثة وما بعدها والتي بدأت مع إبسن وتشيخوف على مستوى النص ثمّ الواقعيّة الفنيّة مع ستانيسلافسكي والأسلبة مع مايرخولد على مستوى الإخراج والفضاء المسرحي وإعداد الممثّل، على زجّ المشاهد في إتمام الفعل الإبداعي "حرفيّاً"، عبر السعي للارتقاء بالمتلقّي من واقعه كمجرد مستهلك سلبي للعرض الى محاور إيجابيّ له ولكلّ حيثياته، وذلك بغية استعادة وتطوير الهويّة الإبداعيّة والوظيفيّة للفنّ المسرحي، انطلاقاً من جوهر كينونته كفنّ جدليّ يقوم على الكشف بدل الإملاء، وعلى المساءلة بدل فرض الأجوبة، وعلى فضح وتعرية كلّ ما خفى او أُخفي عن مدارك الجماهير، فتكون النتيجة الانعتاق من زيف طمأنينة عبادة السرديّات والدوغما والفتيش وإطلاق عنان المبادرة الذاتية لكلّ فرد في تأدية واجبه الإنساني في المشاركة بتطوير قدرته النقديّة وجرأته على التساؤل وتقبّل الطروحات النقيضة والتعامل معها بمنطق ومسؤوليّة في رحلة البحث الأزليّة عن العدالة والسعادة والحقّ عبر مناقشة المجهول والتعامل المثمر مع الريبة.
إن المسرح كأيّ فعل حرّ وصادق هو يولد من صُلب الآلام الإنسانيّة والأزمات الكبرى لكنّه لا يقوى على الانتعاش والازدهار إلا في زمن النهضات وهو غالباً ما يكون رائداً في التأسيس لها بالتكامل مع الفنون الأخرى والفلسفة والعلوم. ولأن كلّ نهضة هي تقوم على حوار السياسة مع الدين مع الفكر مع الفنّ، أي على عدم استحواذ أحد تلك العناصر على الأخرى، وهو الأمر الذي لم يتحقّق قط في المجتمعات العربيّة إذ أن ذلك الانفصال بين تلك النواحي الأربع لم يتمّ حقّاً إلاً في حدودٍ ضيّقة حتى في عزّ أمجاد الحضارة العربيّة، فقد نجح العرب في ذروة حضارتهم في تطوير العلوم والفلسفة وبعض فنون الشعر والفنون الأدائيّة لكنّهم لم يقربوا قط المسرح في صيغته الجدليّة الإبداعيّة القادرة على مناقشة مقدّساتهم في العلن وبحضور جماهيريّ. وأّمّا اليوم، وبعدما سادت ذهنيّة "بورصة" الإنسان القائمة على قيمته المادّية وعلى جدول تسعير خصائصه او مهاراته او مكانته وقيمتها بالسيولة النقديّة المباشرة، فتصبح أي قيمة أخرى غير قابلة للتسييل النقدي السريع لا مكان لها في سوق التداول الحديث، قد نكون كمجتمع عربيّ بحاجة في ظل كل هذا الواقع الى فنّ المسرح الجدلي أكثر من أي وقت مضى لصون قدرتنا على الاتصال الحيّ فيما بيننا، الاتصال العابر للأطر والحواجر والتصنيفات والتسعيرات، وأيضاً صون قدرتنا على الإحساس بلحظة الخلق الحاضرة وصون حقّنا بالمتعة المتكاملة حسيّاً وعاطفيّاً وفكريّاً، وحقّنا بالتعبير والتساؤل والمناقشة والنقد، والأهم من كلّ ذلك، حقّنا في اختبار اللحظات الأزليّة التي لا تقدّر بثمن، تلك اللحظات التي نشهد فيها على خلق الإنسان الحيّ للجمال البليغ المختلف عن خلقه له عبر الآلة أو الذكاء الاصطناعيّ، فنتذوّق أفكاره ومعانيه الحيّة والغضّة المولودة للتوّ، حيث أملنا في الانعتاق والتحرّر والخلاص من سلطة المعاني المقولبة ولعنة أصنامها المتحجّرة والمهترئة.
Bibliography
Pinker, S. (1998). How The Mind Works. London: Penguin Books.
غاتشيف, غ. (1990) الوعي والفن. (Trans) د .ن. نيوف، الكويت : عالم المعرفة.
درجاني, ط. (2018) رواد "المسرح العربي منتحلون لا مبدعون": مارون النقاش، أبو خليل القباني، محمد عثمان جلال ويعقوب صنّوع الطريق.151 -141 .
__منشورة في مجلّة #نقد21- (العدد7. حزيران/يونيو2022)