محمد عضيمة: شاعر سوري من اليابان
يضحك الشاعر والناقد محمد عضيمة عندما يصفه أصدقاؤه بأنه «شاعر ياباني من سورية». ومع أن هذا الوصف يبدو وكأنه مزاح، سرعان ما يتبدى كم هو دقيق عندما تخوض مع عضيمة في نقاش حول الشعر العربي الحديث. إذ لا يفتأ الرجل يحتجّ على الموروث الشعري العربي قديمه وحديثه، ويعلن الانقلاب عليه وعلى رواد الحداثة ومن بعدهم. فجميعهم، في رأيه، ينتمون لثقافة غيبية متجهمة؛ الشاعر فيها نبي والقصيدة نص مقدس، بينما هو ينادي بثقافة تحتفي باليومي والعادي، وما الشاعر سوى شخص عادي، يكتب قصيدة أبطالها الحذاء الأسود والجوارب المهترئة واليد الممتلئة بالأصابع، وأرداف الجارة البيضاء وفقاعات الصابون. لا شيء لنا عنده، وهو حر بما يكتب، كما يعلن في قصائده: «لا شيء لك عندي/ ابداً/ لا شيء/ إذا سحبت الآن لفافة تبغ بلدي/ ولم أشعلها». الشاعر محمد عضيمة الذي يعيش في اليابان، يقدم في هذه المقابلة رؤيته للثقافة العربية وشعرها مقارنة مع مسار الثقافة اليابانية التي يعايشها...
لا شيء لنا عند الشاعر والناقد محمد عضيمة، إذا نسف في أحاديثه النقدية شعرية المتنبي وأبي تمام ومحمود درويش والسياب، لا شيء لنا عنده لأن «الحرية برأيه دائما على حق». وإذ سألناه كيف تنفي الشعرية عن هؤلاء، وتقول لو تمكنا من استخلاص عشرة أبيات من شعر المتنبي فيها معنى شعري، سيخرج من قبره ليشكرنا، وكيف تنفي شعرية دوريش والسياب، لصاح مستنكراً: «أنا لا ألغي أحداً أنا كالمعارضة اللبنانية لا أطالب سوى بالمشاركة».
من الصعب فهم طروحات عضيمة خاصة وأنها تحاول التمرد على الراسخ والموروث في الثقافة، ولو كتب ديواناً كاملاً يقول فيه: إن اللسان الذي قيل فيه «لسانك حصانك إن صنته صانك» لسان فقط/والعين التي تكل من التحديق في/ ملابس النساء وفي الوجوه/عين فقط.
فهو يعترف بعدم قدرته على التخلص من الماضي: «بالكتابة استدرج نفسي إلى الحاضر وارتبط به ارتباطاً يفقدني أي تفكير بالماضي. لكن فجأة اكتشف أنني ضحية اللغة، فأبدو وريثاً وتظهر الرواسب. غالباً ما يحدث لي هذا، عندما اكذب على نفسي وأجرب الكتابة بلغة الأسلاف البلاغية التي لا اعرف كيف اغتسل منها ومن أحفادها. أدرك أنني مريض برغبة القطيعة ولا علاج لهذه الرغبة إلا بتأجيجها أكثر فأكثر».
محاولة خروج عضيمة على الماضي والشعرية العربية الكئيبة أصابته بعد سفره إلى اليابان واكتشافه ثقافة أخرى مغايرة لثقافة الغرب التي ينتمي إليها. فهو لا يشعر أنه يختلف عن الأوروبيين: «لأوروبا والعرب تاريخ من الاستعمار المتبادل والتلاقح»، لكن في اليابان البلاد اكتشفت الاختلاف. يقول «إنها بلاد لا جوار لها إلا هي. جزر حدودها مائية. مدينة طوكيو مبنية من أجل أبنائها فقط، كما تقول هي. هذا واحد من أسرار نهضتها، بالإضافة إلى القطيعة المعرفية مع الماضي والاستيقاظ المذهل على الحداثة الغربية».
وعضيمة «لا يحب الماضي، ويخاف منه، حتى ماضيه الشخصي يريد التخلص منه». في اليابان صحا على ثقافة الولع بالحاضر التي تمثل أسس الحداثة. يوضح عضيمة هذه الفكرة بالشرح، أنه عندما جاء عصر (ميجي) عصر الأنوار عام 1868 فتح اليابانيون أعينهم على الغرب، ودفعهم خوفهم منه إلى التماهي معه، وكانوا مهيئين لذلك. فقبل الغرب كانت اليابان منفتحة على الصين رغم ما بينهما من عداء، وكانت اللغة والثقافة الصينيتان هما الأساس في عصر (إيدو) الذي سبق عصر (ميجي). إذاً العقل الياباني لم يكن لديه مشكلة مع الثقافة الأخرى، إلى أن ابتكروا أبجدية خاصة بهم عبارة عن أبجديتين مأخوذتين من الحروف الصينية، اسمهما (هيراغانا) أو (كاتاكانا) وضعت لغة وفق نظام جديد، ما أدى الى تراجع وتلاشي التراث الثقافي الياباني القديم المكتوب باللغة الصينية. واليوم الياباني، غير المختص، غير قادر على قراءة أدب عصر (ايدو). وهكذا خلال أقل من 170 عاماً، حصلت قطيعة معرفية ووضع حجر الأساس للحداثة في حياة الياباني. ويمكن القول أن نهضة اليابان بدأت عام 1863، لذا في عام 1905 كان اليابانيون مهيئين للانتصار على الأسطول الروسي، أي أنهم في أقل من خمسين عاماً تمكنوا من بناء أسطول حديث، لم يكن ممكناً لولا استيقاظهم على الأسطول الهولندي الذي نزل على موانئهم بالقوة حين كان الأسطول الياباني عبارة عن قوارب صيد ولا يعرفون من السلاح سوى العصي في مرحلة الساموراي والحكومات العسكرية (شوغون). كما يلفت عضيمة الى سبب آخر لا يقل أهمية من أسباب النهوض السريع والاستفادة من الحداثة الغربية، وهو اهتمام السلطة في اليابان حتى قبل عصر (ميجي) ببناء الفرد بالتربية والتعليم. وعندما جاءت الحداثة الغربية، كانت الغالبية تقرأ وتكتب، وبالتالي لم تخيفها الحداثة، بل على العكس، الياباني الذي لا يؤمن إلا بالمحسوس، وجد في الحداثة الغربية القائمة على المادية تاريخه المفقود الذي يبحث عنه، فتلقفها دون عوائق، لعدم توفر ثقافة غيبية لديه تنفي الحداثة الغربية، فأخذها كما هي، قلدها وزاد عليها وأبدع. لم تصدمه الحداثة، بل جاءته على طبق من ذهب، بينما الغرب نفسه دفع أثماناً باهظة للوصول إلى هذه الحداثة، واضطر للتخلي عن كثير من معتقداته بعد أربعة قرون من الحروب الأهلية والنقد الفكري والفلسفي والديني.
انفتاح الياباني على ثقافة جديدة ساعدته على فهم ذاته، فهو مثلا صار يجلس على الكرسي والطاولة دون أن يتخلى عن (التاتامي) وتعني السجادة التي يفترشونها للجلوس على الأرض. اليابانيون استوعبوا الدرس من خلال مؤسسات السلطة التي تولت مهمة إيصال الرسالة، حيث تم إيفاد بعثات للغرب لاستيعاب الثقافة الغربية ونقلها إلى بلادهم، ومنهم فوكو زاوا، تم ذلك بيسر لأنه ليس لدى الياباني تاريخ من الفقه يحتاج الى كانط وهيغل وسبينوزا لتفكيكه، كما جرى مع الفكر المسيحي. و«الياباني ليس لديه الفكر القروسطي الدسم»، ويؤكد عضيمة أنه بكلامه هذا لا يأتي بجديد «كل المفكرين الكبار قالوا أن اليابان لم يكن فيها فلسفة بالمعنى الغربي، أي فلسفة فيها منطق». ويعتقد أن هذا سر تقدمهم. يصر عضيمة على أن القطيعة مع الموروث الثقافي احد الظروف المهيأة للحداثة، فعندما انفتحت اليابان على الحداثة الغربية قطعت ما يصلها بالثقافة الصينية، والآن لا يوجد غير كتاب (الكوجيكي) الذي يقال عنه بأنه كتاب تراث ياباني، وهو عبارة عن مجموعة قصص وحكايات بسيطة ساذجة شكلت 90 % من قصص أفلام الكرتون، في حين انه تتم إلى اليابانية ترجمة كل الأدب الغربي. والرواية اليابانية اليوم رغم أنها مكتوبة بطريقة غربية إلا أنها بدأت تأخذ مكانها عالمياً وتكاد تأكل سوق الرواية.
وهنا لا بد من سؤال عضيمة، هل اختلاف الظروف المهيأة للنهضة تجعل العرب غير قادرين على الالتحاق بالحداثة؟
يقول: «اليابان لم تطرح أسئلة الحداثة كما نطرحها، اليابان وجدت نفسها في الحداثة بشكل طبيعي. بينما الحداثة في الثقافة العربية خلقت لنفسها قشرة من القداسة المزيفة ومارست إرهاباً حقيقياً ضد منتقديها. ويؤسفني، ان شعراء الحداثة كلهم مؤدلجون على نحو أصولي، وكل التيارات الفكرية فيها هي تيارات تقليدية رغم ادعائها عكس ذلك. ومن المفارقات أن كل الشعراء الذين تم الترويج لحداثتهم تورطوا في معارك من أجل السلطة، وعندما لم يتمكنوا من ممارسة إرهاب السلطة مارسوا القمع باسم الريادة». لا يجد عضيمة حرجا في إنكار الحداثة في الثقافة العربية، ويعلن بكل صراحة وارتياح ودون تشاؤم: «الحداثة وهم!! لا يمكن أن نشاهد الحداثة بالشعر ونواحي حياتنا الاجتماعية متخلفة»، كما لا يعتبر أنها من مسؤولية الشاعر وحده. فالرواد كانوا صادقين بنواياهم، أرادوا أن ينجزوا نصوصاً حديثة، لكن الواقع السائد حال دون ذلك. الشعر الحداثي عمره خمسة عقود أو ستة، ومع ذلك لا يُدرس في المدارس والجامعات وغير معترف به، ثم هناك واقع اللغة، وستة عشر قرناً من الخبرة الجمالية جعلت من كتابة القصيدة الحديثة صعبة جدا. قصيدة النثر مازالت تعتمد على الذهنيات، ولا يمكن تذوق شيء بذاته دون إحالته إلى شيء آخر، بطريقة ما ورائية. إذاً أين الحداثة؟
يُلمس من كلام عضيمة توقفه عند عدم تشكيل الحداثة صدمة للياباني، وإذا نظرنا إلى التغير المفصلي الذي طرأ على رؤية عضيمة ذاته للشعر بعد سفره إلى طوكيو للعمل مدرساً في إحدى جامعاتها منذ بداية التسعينات، لا بد من التوقف عند «الصدمة» التي أحدثتها الثقافة اليابانية لديه وادفعته إلى الارتداد عن الثقافة العربية، وهجاء ما تختزنه من كآبة وسوداوية. ومع كل الصراخ والسخرية والإنكار لهذا التراث، يؤكد عضيمة أنه لا يطالب بالتخلي عن كل هذا المخزون الكئيب، وإنما يطالب فقط بتلقيحه وتطعيمه برؤية جديدة. فيقول «قبل التجربة اليابانية كنتُ أكتب الشعر بالاستناد إلى مخزوني التراثي والتجريد. أزمة الشعر العربي الحديث تكمن في التجريد. لقد غيرّت اليابان رؤيتي ليس للشعر فقط وإنما للحياة».
الرؤية الجديدة لدى عضيمة أكثر ما تتمثل ليس في قصائده الخارجة عن السياق الشعري العربي، بل في تجرؤه على المضي في مشروع ديوان الشعر العربي الجديد الذي اصدر منه خمسة كتب حتى الآن. وهو أول كتاب عربي يتناول مختارات شعرية ضمن رؤية محددة، بدأت بالشعر العراقي ثم الجزيرة العربية، وبعدها بلاد الشام ـ لبنان ثم سورية، وآخرها بلاد المغرب العربي. وفي هذه المختارات يأخذ من القصيدة ما يراه «بيت القصيد» ويضعه في سياق خاص، حيث يوزع المقاطع توزيعاً جديداً بعناوين يضعها من عنده، والمقطع عادة لا يتجاوز خمسة أسطر. لأنه «لا يريد إرهاق القارئ ولا يريد أن يعطيه أكثر من لقطة جمالية لحالة شعرية واحدة»، متقصياً حسب زعمه «حالات الفرح المبثوثة في الشعر لدى أجيال جديدة». لكن إذا قرأنا كتاب الشعر العراقي مثلاً، لن نعثر فيه على لحظة فرح واحدة!! فمهما اجتهد محمد عضيمة يبقى الحزن في نخاع الثقافة العربية منذ أفول الدولة الإسلامية ودخول عصور الانحطاط. من هنا تبدو محاولات عضيمة مغامرة للتجريب. ومن الطبيعي ألا يلقى مشروعه ترحيباً من الشعراء، بل هوجم بشراسة واتهم بتقطيع أوصال الشعر. فهو وإن اعتنى باللقطة، إلا أنه أشار إلى حجم الثرثرة في الشعر المعاصر، وهو ما لا يمكن لشعرائنا تقبله، لأن هؤلاء الذين يصفهم عضيمة بالمبشرين الذين يرون ما لا يراه الغير كونهم شعراء، لا يرون الواقع الذي تحت أقدامهم. هؤلاء لن يقبلوا بانتشال كلمات من قصائدهم ورمي الباقي في سلة المهملات، والطريف أن عضيمة لا ينكر أن مشروعه ينطوي على «مغامرة لا تخلو من الجنون».
ويقول: «إننا أبناء الثقافة المنطقية اليونانية التي فيها الواحد زائد واحد يساوي اثنين، بينما بحسب بنية تفكير الياباني، يمكن أن تكون النتيجة عشرة أو مليونا أو أي شيء. نحن أبناء الثقافة اليونانية مثلنا مثل الغربيين نرى ما يفكر به الياباني انه لا منطقي، مع أن الثقافة السائدة لديه هي ثقافة الفيزيقيا، وهو لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه الخمس بالدرجة الأولى». التنقل بين وهران وباريس، ومن ثم دمشق وطوكيو، هيأ لعضيمة حرية الحركة والتجريب، وبات مقتنعاً بأنه تمكن من «أمراض الشعرية الميتافيزيقية عربية أو غربية وحدد سبل علاجها، ليس انطلاقا من رؤيا نظرية تسبق التطبيق على طريقة الأحزاب العربية، بل استناداً إلى نصوص شعرية جديدة موجودة».
للنقاد والقراء كامل الحرية في قبول أو رفض ما يطرحه محمد عضيمة، واعتبار تجربته الشعرية «قيد الإنشاء»، فكل ما في الوجود قيد الإنشاء، و«من ينكر ذلك فليرمني بحجر».
جدير بالذكر أن للشاعر العديد من الدواوين، كما أصدر سلسلة من مختارت الشعر العربي، وله ترجمات كثيرة من لغات أجنبية إلى العربية، ومن العربية إلى الفرنسية.
سعاد جروس: الشرق الأوسط
يضحك الشاعر والناقد محمد عضيمة عندما يصفه أصدقاؤه بأنه «شاعر ياباني من سورية». ومع أن هذا الوصف يبدو وكأنه مزاح، سرعان ما يتبدى كم هو دقيق عندما تخوض مع عضيمة في نقاش حول الشعر العربي الحديث. إذ لا يفتأ الرجل يحتجّ على الموروث الشعري العربي قديمه وحديثه، ويعلن الانقلاب عليه وعلى رواد الحداثة ومن بعدهم. فجميعهم، في رأيه، ينتمون لثقافة غيبية متجهمة؛ الشاعر فيها نبي والقصيدة نص مقدس، بينما هو ينادي بثقافة تحتفي باليومي والعادي، وما الشاعر سوى شخص عادي، يكتب قصيدة أبطالها الحذاء الأسود والجوارب المهترئة واليد الممتلئة بالأصابع، وأرداف الجارة البيضاء وفقاعات الصابون. لا شيء لنا عنده، وهو حر بما يكتب، كما يعلن في قصائده: «لا شيء لك عندي/ ابداً/ لا شيء/ إذا سحبت الآن لفافة تبغ بلدي/ ولم أشعلها». الشاعر محمد عضيمة الذي يعيش في اليابان، يقدم في هذه المقابلة رؤيته للثقافة العربية وشعرها مقارنة مع مسار الثقافة اليابانية التي يعايشها...
لا شيء لنا عند الشاعر والناقد محمد عضيمة، إذا نسف في أحاديثه النقدية شعرية المتنبي وأبي تمام ومحمود درويش والسياب، لا شيء لنا عنده لأن «الحرية برأيه دائما على حق». وإذ سألناه كيف تنفي الشعرية عن هؤلاء، وتقول لو تمكنا من استخلاص عشرة أبيات من شعر المتنبي فيها معنى شعري، سيخرج من قبره ليشكرنا، وكيف تنفي شعرية دوريش والسياب، لصاح مستنكراً: «أنا لا ألغي أحداً أنا كالمعارضة اللبنانية لا أطالب سوى بالمشاركة».
من الصعب فهم طروحات عضيمة خاصة وأنها تحاول التمرد على الراسخ والموروث في الثقافة، ولو كتب ديواناً كاملاً يقول فيه: إن اللسان الذي قيل فيه «لسانك حصانك إن صنته صانك» لسان فقط/والعين التي تكل من التحديق في/ ملابس النساء وفي الوجوه/عين فقط.
فهو يعترف بعدم قدرته على التخلص من الماضي: «بالكتابة استدرج نفسي إلى الحاضر وارتبط به ارتباطاً يفقدني أي تفكير بالماضي. لكن فجأة اكتشف أنني ضحية اللغة، فأبدو وريثاً وتظهر الرواسب. غالباً ما يحدث لي هذا، عندما اكذب على نفسي وأجرب الكتابة بلغة الأسلاف البلاغية التي لا اعرف كيف اغتسل منها ومن أحفادها. أدرك أنني مريض برغبة القطيعة ولا علاج لهذه الرغبة إلا بتأجيجها أكثر فأكثر».
محاولة خروج عضيمة على الماضي والشعرية العربية الكئيبة أصابته بعد سفره إلى اليابان واكتشافه ثقافة أخرى مغايرة لثقافة الغرب التي ينتمي إليها. فهو لا يشعر أنه يختلف عن الأوروبيين: «لأوروبا والعرب تاريخ من الاستعمار المتبادل والتلاقح»، لكن في اليابان البلاد اكتشفت الاختلاف. يقول «إنها بلاد لا جوار لها إلا هي. جزر حدودها مائية. مدينة طوكيو مبنية من أجل أبنائها فقط، كما تقول هي. هذا واحد من أسرار نهضتها، بالإضافة إلى القطيعة المعرفية مع الماضي والاستيقاظ المذهل على الحداثة الغربية».
وعضيمة «لا يحب الماضي، ويخاف منه، حتى ماضيه الشخصي يريد التخلص منه». في اليابان صحا على ثقافة الولع بالحاضر التي تمثل أسس الحداثة. يوضح عضيمة هذه الفكرة بالشرح، أنه عندما جاء عصر (ميجي) عصر الأنوار عام 1868 فتح اليابانيون أعينهم على الغرب، ودفعهم خوفهم منه إلى التماهي معه، وكانوا مهيئين لذلك. فقبل الغرب كانت اليابان منفتحة على الصين رغم ما بينهما من عداء، وكانت اللغة والثقافة الصينيتان هما الأساس في عصر (إيدو) الذي سبق عصر (ميجي). إذاً العقل الياباني لم يكن لديه مشكلة مع الثقافة الأخرى، إلى أن ابتكروا أبجدية خاصة بهم عبارة عن أبجديتين مأخوذتين من الحروف الصينية، اسمهما (هيراغانا) أو (كاتاكانا) وضعت لغة وفق نظام جديد، ما أدى الى تراجع وتلاشي التراث الثقافي الياباني القديم المكتوب باللغة الصينية. واليوم الياباني، غير المختص، غير قادر على قراءة أدب عصر (ايدو). وهكذا خلال أقل من 170 عاماً، حصلت قطيعة معرفية ووضع حجر الأساس للحداثة في حياة الياباني. ويمكن القول أن نهضة اليابان بدأت عام 1863، لذا في عام 1905 كان اليابانيون مهيئين للانتصار على الأسطول الروسي، أي أنهم في أقل من خمسين عاماً تمكنوا من بناء أسطول حديث، لم يكن ممكناً لولا استيقاظهم على الأسطول الهولندي الذي نزل على موانئهم بالقوة حين كان الأسطول الياباني عبارة عن قوارب صيد ولا يعرفون من السلاح سوى العصي في مرحلة الساموراي والحكومات العسكرية (شوغون). كما يلفت عضيمة الى سبب آخر لا يقل أهمية من أسباب النهوض السريع والاستفادة من الحداثة الغربية، وهو اهتمام السلطة في اليابان حتى قبل عصر (ميجي) ببناء الفرد بالتربية والتعليم. وعندما جاءت الحداثة الغربية، كانت الغالبية تقرأ وتكتب، وبالتالي لم تخيفها الحداثة، بل على العكس، الياباني الذي لا يؤمن إلا بالمحسوس، وجد في الحداثة الغربية القائمة على المادية تاريخه المفقود الذي يبحث عنه، فتلقفها دون عوائق، لعدم توفر ثقافة غيبية لديه تنفي الحداثة الغربية، فأخذها كما هي، قلدها وزاد عليها وأبدع. لم تصدمه الحداثة، بل جاءته على طبق من ذهب، بينما الغرب نفسه دفع أثماناً باهظة للوصول إلى هذه الحداثة، واضطر للتخلي عن كثير من معتقداته بعد أربعة قرون من الحروب الأهلية والنقد الفكري والفلسفي والديني.
انفتاح الياباني على ثقافة جديدة ساعدته على فهم ذاته، فهو مثلا صار يجلس على الكرسي والطاولة دون أن يتخلى عن (التاتامي) وتعني السجادة التي يفترشونها للجلوس على الأرض. اليابانيون استوعبوا الدرس من خلال مؤسسات السلطة التي تولت مهمة إيصال الرسالة، حيث تم إيفاد بعثات للغرب لاستيعاب الثقافة الغربية ونقلها إلى بلادهم، ومنهم فوكو زاوا، تم ذلك بيسر لأنه ليس لدى الياباني تاريخ من الفقه يحتاج الى كانط وهيغل وسبينوزا لتفكيكه، كما جرى مع الفكر المسيحي. و«الياباني ليس لديه الفكر القروسطي الدسم»، ويؤكد عضيمة أنه بكلامه هذا لا يأتي بجديد «كل المفكرين الكبار قالوا أن اليابان لم يكن فيها فلسفة بالمعنى الغربي، أي فلسفة فيها منطق». ويعتقد أن هذا سر تقدمهم. يصر عضيمة على أن القطيعة مع الموروث الثقافي احد الظروف المهيأة للحداثة، فعندما انفتحت اليابان على الحداثة الغربية قطعت ما يصلها بالثقافة الصينية، والآن لا يوجد غير كتاب (الكوجيكي) الذي يقال عنه بأنه كتاب تراث ياباني، وهو عبارة عن مجموعة قصص وحكايات بسيطة ساذجة شكلت 90 % من قصص أفلام الكرتون، في حين انه تتم إلى اليابانية ترجمة كل الأدب الغربي. والرواية اليابانية اليوم رغم أنها مكتوبة بطريقة غربية إلا أنها بدأت تأخذ مكانها عالمياً وتكاد تأكل سوق الرواية.
وهنا لا بد من سؤال عضيمة، هل اختلاف الظروف المهيأة للنهضة تجعل العرب غير قادرين على الالتحاق بالحداثة؟
يقول: «اليابان لم تطرح أسئلة الحداثة كما نطرحها، اليابان وجدت نفسها في الحداثة بشكل طبيعي. بينما الحداثة في الثقافة العربية خلقت لنفسها قشرة من القداسة المزيفة ومارست إرهاباً حقيقياً ضد منتقديها. ويؤسفني، ان شعراء الحداثة كلهم مؤدلجون على نحو أصولي، وكل التيارات الفكرية فيها هي تيارات تقليدية رغم ادعائها عكس ذلك. ومن المفارقات أن كل الشعراء الذين تم الترويج لحداثتهم تورطوا في معارك من أجل السلطة، وعندما لم يتمكنوا من ممارسة إرهاب السلطة مارسوا القمع باسم الريادة». لا يجد عضيمة حرجا في إنكار الحداثة في الثقافة العربية، ويعلن بكل صراحة وارتياح ودون تشاؤم: «الحداثة وهم!! لا يمكن أن نشاهد الحداثة بالشعر ونواحي حياتنا الاجتماعية متخلفة»، كما لا يعتبر أنها من مسؤولية الشاعر وحده. فالرواد كانوا صادقين بنواياهم، أرادوا أن ينجزوا نصوصاً حديثة، لكن الواقع السائد حال دون ذلك. الشعر الحداثي عمره خمسة عقود أو ستة، ومع ذلك لا يُدرس في المدارس والجامعات وغير معترف به، ثم هناك واقع اللغة، وستة عشر قرناً من الخبرة الجمالية جعلت من كتابة القصيدة الحديثة صعبة جدا. قصيدة النثر مازالت تعتمد على الذهنيات، ولا يمكن تذوق شيء بذاته دون إحالته إلى شيء آخر، بطريقة ما ورائية. إذاً أين الحداثة؟
يُلمس من كلام عضيمة توقفه عند عدم تشكيل الحداثة صدمة للياباني، وإذا نظرنا إلى التغير المفصلي الذي طرأ على رؤية عضيمة ذاته للشعر بعد سفره إلى طوكيو للعمل مدرساً في إحدى جامعاتها منذ بداية التسعينات، لا بد من التوقف عند «الصدمة» التي أحدثتها الثقافة اليابانية لديه وادفعته إلى الارتداد عن الثقافة العربية، وهجاء ما تختزنه من كآبة وسوداوية. ومع كل الصراخ والسخرية والإنكار لهذا التراث، يؤكد عضيمة أنه لا يطالب بالتخلي عن كل هذا المخزون الكئيب، وإنما يطالب فقط بتلقيحه وتطعيمه برؤية جديدة. فيقول «قبل التجربة اليابانية كنتُ أكتب الشعر بالاستناد إلى مخزوني التراثي والتجريد. أزمة الشعر العربي الحديث تكمن في التجريد. لقد غيرّت اليابان رؤيتي ليس للشعر فقط وإنما للحياة».
الرؤية الجديدة لدى عضيمة أكثر ما تتمثل ليس في قصائده الخارجة عن السياق الشعري العربي، بل في تجرؤه على المضي في مشروع ديوان الشعر العربي الجديد الذي اصدر منه خمسة كتب حتى الآن. وهو أول كتاب عربي يتناول مختارات شعرية ضمن رؤية محددة، بدأت بالشعر العراقي ثم الجزيرة العربية، وبعدها بلاد الشام ـ لبنان ثم سورية، وآخرها بلاد المغرب العربي. وفي هذه المختارات يأخذ من القصيدة ما يراه «بيت القصيد» ويضعه في سياق خاص، حيث يوزع المقاطع توزيعاً جديداً بعناوين يضعها من عنده، والمقطع عادة لا يتجاوز خمسة أسطر. لأنه «لا يريد إرهاق القارئ ولا يريد أن يعطيه أكثر من لقطة جمالية لحالة شعرية واحدة»، متقصياً حسب زعمه «حالات الفرح المبثوثة في الشعر لدى أجيال جديدة». لكن إذا قرأنا كتاب الشعر العراقي مثلاً، لن نعثر فيه على لحظة فرح واحدة!! فمهما اجتهد محمد عضيمة يبقى الحزن في نخاع الثقافة العربية منذ أفول الدولة الإسلامية ودخول عصور الانحطاط. من هنا تبدو محاولات عضيمة مغامرة للتجريب. ومن الطبيعي ألا يلقى مشروعه ترحيباً من الشعراء، بل هوجم بشراسة واتهم بتقطيع أوصال الشعر. فهو وإن اعتنى باللقطة، إلا أنه أشار إلى حجم الثرثرة في الشعر المعاصر، وهو ما لا يمكن لشعرائنا تقبله، لأن هؤلاء الذين يصفهم عضيمة بالمبشرين الذين يرون ما لا يراه الغير كونهم شعراء، لا يرون الواقع الذي تحت أقدامهم. هؤلاء لن يقبلوا بانتشال كلمات من قصائدهم ورمي الباقي في سلة المهملات، والطريف أن عضيمة لا ينكر أن مشروعه ينطوي على «مغامرة لا تخلو من الجنون».
ويقول: «إننا أبناء الثقافة المنطقية اليونانية التي فيها الواحد زائد واحد يساوي اثنين، بينما بحسب بنية تفكير الياباني، يمكن أن تكون النتيجة عشرة أو مليونا أو أي شيء. نحن أبناء الثقافة اليونانية مثلنا مثل الغربيين نرى ما يفكر به الياباني انه لا منطقي، مع أن الثقافة السائدة لديه هي ثقافة الفيزيقيا، وهو لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه الخمس بالدرجة الأولى». التنقل بين وهران وباريس، ومن ثم دمشق وطوكيو، هيأ لعضيمة حرية الحركة والتجريب، وبات مقتنعاً بأنه تمكن من «أمراض الشعرية الميتافيزيقية عربية أو غربية وحدد سبل علاجها، ليس انطلاقا من رؤيا نظرية تسبق التطبيق على طريقة الأحزاب العربية، بل استناداً إلى نصوص شعرية جديدة موجودة».
للنقاد والقراء كامل الحرية في قبول أو رفض ما يطرحه محمد عضيمة، واعتبار تجربته الشعرية «قيد الإنشاء»، فكل ما في الوجود قيد الإنشاء، و«من ينكر ذلك فليرمني بحجر».
جدير بالذكر أن للشاعر العديد من الدواوين، كما أصدر سلسلة من مختارت الشعر العربي، وله ترجمات كثيرة من لغات أجنبية إلى العربية، ومن العربية إلى الفرنسية.
سعاد جروس: الشرق الأوسط