للشاعر العراقي : أديب كمال الدين..مختارات حروفية… أو الفهم المتأخر عن حينه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • للشاعر العراقي : أديب كمال الدين..مختارات حروفية… أو الفهم المتأخر عن حينه



    عبدالحفيظ بن جلولي
    كاتب جزائري

    مختارات حروفية»… أو الفهم المتأخر عن حينه
    18 - مارس - 2025م

    يشتغل الشاعر العراقي أديب كمال الدين على الحرف، لا باعتباره شكلا، ولكن كونه أداة تُنتج معنى ضمن التشكيل البانورامي للأداء الصّوتي للحروف، وهي تتسلل من اللسان لتغرق العالم في سيمفونية أجراسها، ولهذا نجده يخصّص «مختارات حروفية» الصادرة عام 2024 ليسائل الحروف في مساراتها المتعدّدة في العالم، علّها تَسِرّ إليه بشيء من مواقفها، أو توهجاتها التي لا يراها سوى العارف في مقام الكتابة العريق في مسالك القراءة.
    الإنسان كحالة شعرية:
    تأتي القصيدة من عمق الألم والحزن، الذي لا تكتنفه نبرة التعبير عن الأسى، إنّه فقط ذاك الذي تكشفه أسارير الوجه بقسمات ضاحكة، تعلن عن شيء لا يعرفه إلا من ضحك من أعالي المعنى: «البحر غرّد في دمي والبحر يقتات الحنين/مالي أراك معذّبا والموج سيّدنا الدّفين»،
    فَسِرُّ الموج هو ما يفسّر حقيقة البحر، المعنى في الحرف هو ما تدركه الوهلة الأولى المذهلة بما يتجاوز الشكل إلى العابر في الصّوت والباقي في رنين الجرس الذي لا يبوح بكل شيء، فأن يغرّد «البحر»/ «الماء» في دم الشاعر، معناه خلق فضاءين وبرزخ بينهما، يأتي البحر بملوحته ليلج حمرة الدم متطهّرا من عالم السيولة بين المناطق، يسكنه شوق المعرفة الدّفين في جوف الإنسان الذي عرف، ويحاول أن يعرف أكثر عن الموج الذي غادره البحر ليلتقيا في وجد الإنسان حرفين من أسرار القصيدة.
    تتأسّس القصيدة كملاذ في ليل الشاعر بعيدا عن نهارات الآخرين، الذين لا يناوشون الحرف في أسراره: «ما دمت قد قرّرت أن تلهو قليلا/منتصف الليل/بأن تكتب الشعر»، سؤال جوهري ينطلق من بداهة من أنّ الإنسان حالة شعرية باعتبار كينونته الروحية، يفرّ إلى العتمة كي يعرّي الروح المتخفّية، الغائبة في شكل الجسد مبشّرة بالحركة في الأوصال.
    الشعر مأدبة اللاشيء:
    تُكتب القصيدة من وحي الشعر ليلا، كي لا تستباح أسرارها لكل عابر يعرف حرفا من اللغة، اللغة ليست تلك الحروف التي يقع عليها نظر العين، إنّها طقوس الوقوف عند النهايات: «فلماذا لم تبدأ اللعبة/بإطلاق النار على رأسك»، الشعر هو تلك المأدبة التي ينتهي فيها الشاعر إلى لا شيء، ينتهي إلى فوضى الدم، الذي يعبر العالم عبر الحروب والدمار والإنسان المنهك بالفجيعة، ليعرف كيف تتشكل الحياة من اللاشيء المفضي إلى الصدى، لعبة إطلاق النار على الرأس، هي المستوى الذي يتوزع فيه الإنسان إلى دلالات الخيال والتفكير والعقل، المشار إليها مجازا في كينونة الرأس، فالقصيدة تتنزّل من علياء الحرف لتُقال على حواف ما يؤدّيه الرأس وهو ضحية صدام رزانة العقل مع فوضى الخيال.

    الحرف هوية مكان وبصمة صوت:

    تجربة الحرف لا تنفصل عند الشاعر عن المكان، لا باعتباره مساحة ولكن كونه تجلّيا لما يمكن أن تخزّنه تفاصيله الحيوية: «إنّها لم تكن/ غلطة قلبي الذي كان له/ أن يكون دجلة حلم/ وفرات حرف وحب وشوق». لا تتحقق شعرية الحرف رؤيويا إلا إذا حضر المكان المتواصل في كينونته عبر ما يمكن أن يكون استمرارا تاريخيا في ذاكرة العالم، فالانفصال بين الذات الشاعرة والمكان يشغله الحرف بما يؤدّي تسلسله إلى التشكيل الإسمي، «فرات حرف».
    تتعدّد الحروف وتتنوع وتكبر بقدر العالم، لتسع عنصرا في المكان/الذات، ويصبح الفرات نهرا كاملا يجري في الحرف، حركة الماء حين يكتشف الشاعر أنّها تنطلق منه ليكون خريرها هالة في صدى رنين الحرف، «إنها لم تكن/غلطة قلبي الذي كان له/ أن يكون دجلة حلم»، تواصل فيزيائي بين المكان والجسد، بل أكثر من ذلك أنّ هيئة المكان في التصوّر تتفجّر من «القلب» محل الدفق لتتوافق طبيعتا الماء والدم، ليس دم الفجيعة ولكن دم الجسد الذي منه تتشكل الذاكرة التاريخية بتفاصيلها المكانية. وللحرف علاقة بالصوت، إذ تتعرّف الذات الشاعرة على ذاتها والمكان من خلال ما يتركه الحرف من أثر، أو جرس تستأنس له تضاريس المكان، فَتُنسج هوية الأشياء من العلاقة بين الشعر والحرف الذي يخرج من النبض العميق للرّؤيا:
    «ثَمَّ نثرتُ الصّراخ في الهواء/فبكت حروفي طويلا من الألم/ولم تزل». لحظة استثنائية تلك تدرك فيها الذات تفاصيل المكان، أو الفراغ (الهواء) الذي يمتد فيه الحرف فتستقر هوية شكله، وينخرط في تسمية الأشياء أو التشكل الحروفي للمكان. تندفع الحروف في عفوية التسمية غير مدركة ألم الشعر وهو يبادر إلى تسمية العالم، لكنّها في إنصاتها للذات تتلبّس شكل حزنها، ولهذا كانت أنا المتكلم (نثرتُ) في الطليعة، كي تثبت الحضور المشترك بين قوة الذات في تكريس وجودها وقوة الحرف في تشبثه بتسمية الأشياء.

    ما علاقة الشعر بالحرف ومن ثمة بالمكان؟
    يندمج الشاعر في تفاصيل ميلاد قصيدة جديدة: «قلت: قصيدة جديدة»، تأتي الجملة الشعرية وكأنّها تقع في سياق التذكر، يتلقف التلقي تداعيات الإنتاجية الإبداعية ليحاول فهم العلاقة بين الشاعر والقصيدة، انفصال تام بينهما ذلك الذي يجيء بالقصيدة محمّلة بأوجاع قائلها: «ثمّ أخذ يضربها بأخمص المسدّس/ على رأسها»، تتأسس القصيدة كمُدَانٍ. إدانة الشعر تجعله في مقام الهروب. يُحدث الشعر انتقالاته المريرة عبر مستويات المعنى، وفي كل حالة ينتفض ضد سكون العالم، فتهوي الأشياء ضاغطة على حروفه، تنبع منها أشكال المعنى والمرارات التي دوّنها الشعراء على الجدران الباردة المتستّرة بدفء العالم: «حتى نزفت القصيدة حروفا كثيرة/ونقاطا أكثر/دون أن تعترف بسرّها ومعناها»، تفقد القصيدة هويتها إذا لم تستطع أن تسمّي حروفها التي لا بد لها من نقاط، ومن مستوى الحرف إلى مستوى النقطة تتجلى القصيدة منغلقة على سر لا ينكشف ربما حتى لقائلها، لأنّ المسافة بين الذات والكلام جد قصيرة تؤثر على ملامح الجلاء، وتلك هي منطقة اللاوضوح، أو ما نسمّيه الغموض الفني. في صقيع الغربة تنكتب القصيدة مرغمة على البوح بالحنين، أو بالخوف، وإلا ما الذي يجعلها تتسلل ما وراء الشاعر مُدْمَغَةً بالجرح؟ تضغط الغربة على الشعر محاولة إزاحته من مسافات التعبير عن الذات والعالم لحظةَ عطبٍ يصيب القصيدة، عطب قد يعيق وصول المعنى إلى أفق التلقي، لكن تتحمل الشعرية المنضوية تحت هالات «الحرف» ألم «الضرب» وتواصل نزولها من مخملية الشعر وفخامة المنبر إلى ظل الشارع وأزقته الضيّقة، مسافة النزول تجعل الشعر فهما متأخرا عن حينه، لا يتوافق ولحظة رصد الأشياء في العالم، يتأخر عنها باعتباره لحظة منسجمة مع متخفي الأشياء. الشعر إعلان عن ما يتخلّف عن الظاهر، فهم مؤجّل.

    اللاهوية فصل الغموض:
    يتوهّج الحرف في جلال العتمة، الليل متنزّل المعنى في «الحرف»، وكذلك تخلو الأشياء إلى ذاتها فتكشف غموضها وتتستر بأسرارها، إلى منتهاها يكتمل مسار المعنى فتنخلع خرق الصوفي ليتجلى الحرف صغيرا كما ميلاد الطفولة: «وفي الليل قم فارقص/حتى مطلع الفجر/رقصة الطائر الذبيح». تنفصل الكلمات عن شكل القصيدة، فيبدو الشّعر بلا هوية. اللاهوية لا تمس جوهره لأنّها هي بالذات الجوهر المتصل بطبيعته. حين يرقص الشاعر في جوقة الحروف تتلألأ النقاط في لا نهايات النص، وتنشأ الخلوة متناغمة مع زحمة الكلمات المتدافعة نحو أضواء العالم، تنام الأشياء ويستفيق الوعي بالعزلة (الليل) والغناء الأبدي لحركة الشعر المبثوث في الأشكال المتداولة بين المبنى والمعنى، ولا معنى دون مبنى، وقتئذ تنهض الدلالة من موات العناصر الآفلة إلى الانقضاء، وتبرز القصيدة كأنّها الحي يخرج من الميّت.
    لا تنقطع الدلالة حروفيا في التواصل بين التوثب الصّوفي والتجلي كموقف لإعلان الحضور المختلف، أو الغامض في العالم: «أوقفني في موقف الكلام/وقال: إنك لتتكلم بكلام غريب/فلا تفهم ولا يستجاب لك». لا يمكن أن نفهم الحرف دون انضوائه تحت لواء النّسيج الحروفي، لكنّه يظل محتفظا بالصوت ورنين الدلالة في خروجه من الباطن، الحرف وحيدا لا يعني أنّه بلا معنى، شكل الحرف جوهر معناه، لكن الحرف موقف من اللغة، ولا تتشكل اللغة إلا في نطاق الجملة التي تسمي العالم على أطراف المعنى لِتَعَدُّدِ الدلالة وتَوَتُّر التأويل، الحرف مبدأ التأويل، لكنّه ليس هو، إلا إذا عمّرت جوانبه الكلمات التي تسمّي وتعبّر وتتجاوز إلى «الكلام» المتناسق في فوضى الجملة والتسمية، الشعر لا يسمّي العالم في نطاق أشيائه، الشعر صدمة العالم حين يتعرّف (العالم) إلى غراباته في «الفهم المتأخر عن حينه».

    كاتب جزائري
يعمل...