مسلسل "النُص" يكشف الجانب الخفي من حياة المهمشين في مصر
المؤلف أيمن عثمان لـ"العرب": أنا مؤرشف أبحث في فراغ التاريخ وكنوزه.
السبت 2025/03/15
ShareWhatsAppTwitterFacebook

"النُص".. مقتبس من مذكرات النشالين في مصر في القرن الماضي
العمل على مسلسل تاريخي أو مستوحى من فترة تاريخية بعينها يتطلب جهودا مضاعفة تتطلب الالتزام بالتفاصيل والحيثيات التاريخية، لذلك تجد صناع الدراما يستعينون بمؤرخين ومؤرشفين، ومن هؤلاء أيمن عثمان، الذي أعاد خلق عوالم المجتمع المصري القديم في كتب مقتبسة من مؤلفات لصحافيين وكتاب سابقين، من بينهم كتاب “مذكرات نشال” الذي تحول إلى مسلسل “النُص”.
القاهرة - البحث في الأرشيفات القديمة والكتب النادرة والمخطوطات، أمر ليس بسهل على أي شخص، لكن المولع بهذا العمل وحده القادر على وضع يده على التفاصيل المختفية بين قصاصات الأوراق الصفراء بفعل الزمن، والبحث عن الأسرار بين سطورها وكلماتها فوق أرفف المكتبات وأرصفة الكتب. هذا ما يفعله الكاتب المصري أيمن عثمان الذي لفت الأنظار إليه عقب عرض مسلسل “النُص” في موسم رمضان.
جذب مسلسل “النُص” المأخوذ عن كتاب “مذكرات نشّال” انتباه العديد من المشاهدين منذ بداية عرضه رمضان الحالي. وهو من بطولة الفنان أحمد أمين، وتدور أحداثه في حقبة العشرينات من القرن الماضي حول شخصية اللص التائب (عبدالعزيز النُص) الذي توقف عن النشل ويقاوم الاحتلال الإنجليزي في مصر، وكوّن فريقا من النشالين معه، انضموا إلى صفوف المقاومة الشعبية.
هناك فرق بين الباحث والأرشيفجي، الأول لديه عنوان محدد، لكن الثاني يبحث في الفراغ حتى يفاجأ بما يبهره
ذاع صيت الكاتب أيمن عثمان كباحث في التاريخ، ممتلكًا عددًا كبيرًا من الصحف والمجلات والكتب القديمة النادرة التي تمثل كنزا ثقافيا، ما جعله مرجعًا تاريخيًا لأعمال فنية، منها مسلسل “الفتوة”، و”جزيرة غمام”، وهو مسؤول عن إدارة البحث والأرشيف في القناة الوثائقية المصرية.
كشف عثمان في حوار مع “العرب” تفاصيل كثيرة كانت وراء تحقيقه لكتاب “مذكرات نشّال” وتحوله إلى عمل فني، ورحلته كمراجع تاريخي منذ أكثر من 14 عامًا.
بدأ حديثه من حكاية كتاب “مذكرات نشّال”، حيث كتب الصحافي حسني يوسف في فترة العشرينات من القرن الماضي كتاب “مذكرات فتوة” ويحكي فيه عن حياة يوسف أبوحجاج، الذي عمل فتوة منطقة اسمها الحسينية بوسط القاهرة عام 1919، ولما ذاع صيت الكتاب، ذهب النشال عبدالعزيز النُص إلى الصحافي وطلب منه كتابة سيرة حياته ليصبح مشهورًا.
وقال عثمان كنت قرأت “مذكرات نشال” منذ سنوات طويلة، ثم قرأت “مذكرات فتوة”، التي قام بتحقيقها الكاتب الصحافي الراحل صلاح عيسى وألهمتني تجربته دون أن أراه، فتعلمت منه كيفية تحقيق كتاب منشور من قبل، وأخذت من “مذكرات فتوة” نهجا خاصا، ومرشدا لتحقيق كتاب “مذكرات نشّال” التي نشرت كحلقات في مجلة اسمها “لسان الشعب”عام 1924، ثم تم تجميعها في كتاب عام 1930، وهي من الكتب النادرة، ووصلني الكتاب عن طريق أحد الأشخاص ضمن أربعة كتب نادرة من بينها الطبعة الأولى والأصلية من كتاب “مذكرات فتوة”.
مذكرات عن المهمشين
مؤرشف مهتم بالتاريخ المنسي
أن تحقق كتابًا نادرًا تمت كتابته ونشره منذ نحو قرن وتعيد إصداره مرة أخرى ليس أمرا بسيطا، وعند عمل أيمن عثمان على كتاب “مذكرات نشّال” بحث عمّا لا يتناوله الكتاب الأصلي لحسني يوسف، وقام بجمع أرشيف معلوماتي عن النشالين أنفسهم ولغتهم في حقبة العشرينات من القرن الماضي، ووجد أن ما كتبه المؤلف هو صياغة لأحداث وقعت عن النشالين حدثت في زمنه، واختار أن يضعها في قالب روائي، لأنه يعرف حب المصريين للحكايات، والرواية أكثر الألوان الأدبية رواجا.
عندما اطلع الكاتب على المذكرات والأرشيف الصحفي في فترة العشرينات من القرن الماضي، وجد أن فن كتابة المذكرات كان ذائع الصيت ورائجا في هذه الحقبة، والكتابة عن المهمشين والمحتالين في المجتمع كانت معروفة ومستساغة ومقروءة، وصدرت وقتها مذكرات عدة مثل “مذكرات عربجي” التي كتبها الفنان سليمان نجيب عام 1921 وذيلها بتوقيع اسم مستعار هو الأسطى حنفي أبومحمود، وكتبها عقب ثورة 1919، وهناك “مذكرات بغي” و”يوميات ساقطة” و”مذكرات عاهرة” وكانت تنافس ما يكتبه السياسيون في ذاك الوقت.
الكاتب المصري أيمن عثمان لفت الأنظار إليه عقب عرض مسلسل "النُص" المأخوذ عن كتاب "مذكرات نشّال"
يتناول كتاب “مذكرات نشّال” حياة عبدالعزيز النُص، التي كتب عنها الصحافي حسني يوسف، وهي شخصية حقيقية، لكن عثمان رجح أنها من وحي خيال المؤلف.
وبعد أن نشر عثمان كتاب “مذكرات نشّال” وحقق رواجًا كبيرًا، تواصل معه المنتج المصري محمد الجبيلي وأخبره بإعجابه بمحتوى الكتاب، ويراه يصلح لقالب درامي، وتحدثا معا حول تحويله إلى مسلسل درامي من 15 حلقة، وانضم لهما بعد ذلك الفنان أحمد أمين، وتحمسا للعمل على الكتاب وتم اختيار اسم “النُص” للمسلسل وهو اسم الشخصية الرئيسية للعمل، ولقب “النُص” يُطلقه المصريون على النشّال وخفيف اليد.
وقال أيمن عثمان لـ”العرب” إنه شارك مع ورشة الكتابة لهذا العمل، وهي مكونة من شريف عبدالفتاح، وجيه صبري، عبدالرحمن جاويش، واجتمعوا في جلسات مطولة للعمل على الفكرة وتحويلها إلى عمل درامي قبل كتابة الحلقات، وشارك الجميع في كتابة المعالجة الفنية للمسلسل، ثم جاء دور عثمان لمراجعة النص تاريخيًا وزمنيًا.
ويرى عثمان أن إضافة معلومة تاريخية في الثواني الخمس الأخيرة من نهاية تتر كل حلقة من مسلسل “النُص” هي طريقة رائعة لحض المشاهدين على القراءة والبحث عن هذه المعلومة، ففي نهاية الحلقة الأولى وضع معلومة عن “نقابة النشالين” ووجد أنها من أعلى كلمات البحث على محرك البحث غوغل في مصر.
تاريخ ما أهمله التاريخ
عمل درامي متكامل
سألته “العرب” هل ساهم مسلسل “النُص” في انتشار كتاب “مذكرات نشّال”، فقال إن أيّ عمل أدبي يتم تحويله إلى دراما أو سينما يساهم في انتشار الكتاب المأخوذ عنه بلا شك، وبالنسبة إليه اتسعت الشريحة التي استهدفها كتاب “مذكرات نشّال”، لأن نوعية الكتب التي يكتبها تستقطب شريحة من القراء يحبون هذا النوع من الكتابة التاريخية، ومن المعتاد أن تتحول الرواية إلى عمل فني، لكن “مذكرات نشّال” هو الكتاب البحثي الثاني الذي يتحول إلى عمل دراما، فالأول كان كتاب “رجال ريا وسكينة” للكاتب صلاح عيسى وتحول إلى مسلسل “ريا وسكينة”، بطولة عبلة كامل وسمية الخشاب.
كان للمراجع التاريخي دور كبير في فترة العشرينات من القرن الماضي مثل حبيب جماسي، وهو صحافي مشهور وصاحب أطول سلسلة مقالات تمت كتابتها في تاريخ الصحافة المصرية على مدار 40 سنة بعنوان “تاريخ ما أهمله التاريخ”، وعمل مع يوسف وهبى وجورج أبيض.
وهناك أيضًا إدمون تويما، وهو ممثل مشهور، عمل مع الفنان نجيب الريحاني، وكانا يسافران إلى فرنسا، ويقتبسان نصوصًا فرنسية ويمصّرونها، وعندهما إتقان كبير للغة الفرنسية، ويعملان على كافة التفاصيل ولم يكن عملهما يسمى بمراجع تاريخي بالمعنى الحرفي، وتتم كتابة الأسماء على التترات أنه مشارك في الكتابة أو مترجم أو استشاري تاريخي.
"الأرشيفجي" أيمن عثمان أنفق الكثير من ماله الخاص لشراء الكتب، ليس بهدف أن يكون عنده ربح مادي من وراء ذلك، لكنه لشغفه وعشقه لهذه الهواية
وأوضح أيمن عثمان لـ”العرب” أن فكرة وجود مراجع تاريخي بدأت مع بداية السينما المصرية واستمرت حتى الخمسينات من القرن الماضي ثم اختفت في فترة الستينات، وفي فترة الألفية الجديدة ومع ظهور كُتاب مثل يسري الجندي وأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد وشادي عبدالسلام، كانوا أساتذة يعملون بدقة على أعمالهم الفنية بكافة تفاصيلها من ملابس وديكور ولغة وإكسسوارات للشخصية.
وأشار إلى أنه بدأ دور المراجع التاريخي في الظهور مرة أخرى منذ التوسع في عدد القنوات والفضائيات والمنصات، التي أدت إلى زيادة إنتاج الأعمال الفنية، وأصبح الكاتب غير متفرغ للبحث والدقة بنفسه، بل ويكون وقته ضيقا لأنه يكتب عملا أو اثنين في العام الواحد، لذا بدأ التوجه للاستعانة بالمراجع التاريخي.
كان أيمن عثمان عمل كمراجع تاريخي في مسلسل “الفتوة” بطولة ياسر جلال وعُرض عام 2020، وعن هذه التجربة قال لـ”العرب”، طلبتني الشاعرة دعاء عبدالوهاب للعمل معها ومع الكاتب هاني سرحان، بوصفي مراجعًا تاريخيًا، وكانت تجربتي الأولى واشتغلت على النص فقط، كمراجعة تاريخية للحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث ولم أحضر التصوير، لذا كانت هناك أخطاء تاريخية في العمل أثارت جدلًا.
وكشف أن تجربته الثانية كانت مع مسلسل “جزيرة غمام” بطولة أحمد أمين وعُرض عام 2022، وهي أكثر ثراء بالنسبة إليه، حيث حضر التصوير على مدار 80 يومًا، وتعلم من خطأ التجربة الأولى “الفتوة”، ولم يكتف بمراجعة النص زمنيًا، وتدور أحداثه عام 1850، بل راجع كل تفاصيله، من حيث الديكور والملابس والإكسسوارات، والموسيقى، ويتذكر أنه كان يتم تصوير أحد المشاهد وكان سيتم عزف قطعة موسيقية من فرقة “مزامير” ووجدها لا تناسب هذه الحقبة فطلب من العاملين استرجاع ذكرياتهم عن جدودهم وإيجاد معزوفة قديمة وبالفعل وجدوا الهدف.
منهج الثورات
فنان تميز بتنوع أساليبه
نقلنا الباحث المصري إلى المرحلة التي بدأ معها شغفه في البحث عن التاريخ، والتعمق فيه، فقال لـ”العرب”: “تغيرت طريقة تفكيري تمامًا عقب ثورة يناير عام 2011، وجعلتني أتوقف عند فكرة أن التاريخ ثابت، وأن أحداثه متشابهة، وعملت على القراءة في تاريخ الثورات في مصر، مثل ثورة سعد زغلول 1919، وثورة الطلبة 1935، وثورة الطلبة 1968، وغيرها من الثورات التي وقعت على مر تاريخ مصر، وبدأت أراجع كتابات الجبرتي ومصطفى صادق الرافعي عن ثورات قديمة، ووجدت عدة حقائق تجمعها، منها فكرة اللجان الشعبية، وحماية المنازل والشوارع، وجمع التوكيلات والتفويضات، وغيرها من الأمور المشتركة.”
وتابع “بعد أن أثبتّ وجهة نظري تلك، ودخلت إلى متاهة التاريخ الذي أصبح قدري، قمت بتحويل صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي من الشأن الخاص إلى الشأن العام، أشارك فيها المتابعين القضايا المختلفة، وكتبت في السينما والحياة الاجتماعية القديمة، ورأيت أنه كلما كان الواقع مؤلما كلما تشوق الإنسان إلى الحنين للماضي (نوستالجيا)، وكان هدفي أن مصر قديمًا كانت أفضل في الفن والأخلاق والقيم.”
وفي تلك الفترة بحث عثمان عن شخصيات تشبهه في اهتماماته، والتفت إلى مجموعة من الأًصدقاء، مثل مصطفى شريف، عمر الرزاز، شهدي عطية، محمد توفيق، مصطفى عبيد، عمرو منير، أفرزتهم ثورة يناير في مصر، ويقول “مع أننا لم نكن نعرف بعضنا البعض، لكن جمعنا عشقنا للتاريخ، ولو كان لكل منا منطقته التي يغرد فيها.”
أكد أيمن أنه بحث بنفسه عن المراجع والكتب والمجلات والصحف القديمة، على مدار 14 سنة حتى أصبحت مكتبته تحتوى على 50 ألف مجلة، واحتاج إلى وحدة سكنية منفصلة عن مسكنه ليضعها فيها، وأثناء فترة بحثه وقعت تحت يديه نوادر وكنوز من الكتب، استفاد بها في مؤلفاته، وفي كتاب “وانتصرنا” تحدث عن 50 سنة مرت على انتصار مصر في حرب أكتوبر، وهو أول كتاب أرشيفي عن حرب أكتوبر، ثم رواية “مذكرات نشّال” ومؤلفات أخرى قيد النشر.
وأنفق عثمان الكثير من ماله الخاص لشراء الكتب، ليس بهدف أن يكون عنده ربح مادي من وراء ذلك، لكنه لشغفه وعشقه لهذه الهواية، وبدأت بسور الأزبكية الشهير لبيع الكتب القديمة في وسط القاهرة للبحث عن المجلات والكتب، وزار أرشيف الصحف مثل دار الهلال، دار الكتب، الأهرام، الأخبار، الجمهورية، فلم يترك أرشيفًا إلا ودخله، كما يقول، ثم خرج من حدود القاهرة إلى محافظات مصر المختلفة.
ولفت عثمان في حديثه لـ”العرب” إلى وجود فرق بين الباحث والأرشيفجي (المؤرشف)، الأول لديه عنوان محدد يبحث تحته عن تفاصيل بعينها، لكن الثاني مثله يبحث في الفراغ، حتى يفاجأ بما يبهره، وهذا أعطى مساحة للأرشيف ليفاجئه بكنوزه.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

نجوى درديري
كاتبة مصرية
المؤلف أيمن عثمان لـ"العرب": أنا مؤرشف أبحث في فراغ التاريخ وكنوزه.
السبت 2025/03/15
ShareWhatsAppTwitterFacebook

"النُص".. مقتبس من مذكرات النشالين في مصر في القرن الماضي
العمل على مسلسل تاريخي أو مستوحى من فترة تاريخية بعينها يتطلب جهودا مضاعفة تتطلب الالتزام بالتفاصيل والحيثيات التاريخية، لذلك تجد صناع الدراما يستعينون بمؤرخين ومؤرشفين، ومن هؤلاء أيمن عثمان، الذي أعاد خلق عوالم المجتمع المصري القديم في كتب مقتبسة من مؤلفات لصحافيين وكتاب سابقين، من بينهم كتاب “مذكرات نشال” الذي تحول إلى مسلسل “النُص”.
القاهرة - البحث في الأرشيفات القديمة والكتب النادرة والمخطوطات، أمر ليس بسهل على أي شخص، لكن المولع بهذا العمل وحده القادر على وضع يده على التفاصيل المختفية بين قصاصات الأوراق الصفراء بفعل الزمن، والبحث عن الأسرار بين سطورها وكلماتها فوق أرفف المكتبات وأرصفة الكتب. هذا ما يفعله الكاتب المصري أيمن عثمان الذي لفت الأنظار إليه عقب عرض مسلسل “النُص” في موسم رمضان.
جذب مسلسل “النُص” المأخوذ عن كتاب “مذكرات نشّال” انتباه العديد من المشاهدين منذ بداية عرضه رمضان الحالي. وهو من بطولة الفنان أحمد أمين، وتدور أحداثه في حقبة العشرينات من القرن الماضي حول شخصية اللص التائب (عبدالعزيز النُص) الذي توقف عن النشل ويقاوم الاحتلال الإنجليزي في مصر، وكوّن فريقا من النشالين معه، انضموا إلى صفوف المقاومة الشعبية.
هناك فرق بين الباحث والأرشيفجي، الأول لديه عنوان محدد، لكن الثاني يبحث في الفراغ حتى يفاجأ بما يبهره
ذاع صيت الكاتب أيمن عثمان كباحث في التاريخ، ممتلكًا عددًا كبيرًا من الصحف والمجلات والكتب القديمة النادرة التي تمثل كنزا ثقافيا، ما جعله مرجعًا تاريخيًا لأعمال فنية، منها مسلسل “الفتوة”، و”جزيرة غمام”، وهو مسؤول عن إدارة البحث والأرشيف في القناة الوثائقية المصرية.
كشف عثمان في حوار مع “العرب” تفاصيل كثيرة كانت وراء تحقيقه لكتاب “مذكرات نشّال” وتحوله إلى عمل فني، ورحلته كمراجع تاريخي منذ أكثر من 14 عامًا.
بدأ حديثه من حكاية كتاب “مذكرات نشّال”، حيث كتب الصحافي حسني يوسف في فترة العشرينات من القرن الماضي كتاب “مذكرات فتوة” ويحكي فيه عن حياة يوسف أبوحجاج، الذي عمل فتوة منطقة اسمها الحسينية بوسط القاهرة عام 1919، ولما ذاع صيت الكتاب، ذهب النشال عبدالعزيز النُص إلى الصحافي وطلب منه كتابة سيرة حياته ليصبح مشهورًا.
وقال عثمان كنت قرأت “مذكرات نشال” منذ سنوات طويلة، ثم قرأت “مذكرات فتوة”، التي قام بتحقيقها الكاتب الصحافي الراحل صلاح عيسى وألهمتني تجربته دون أن أراه، فتعلمت منه كيفية تحقيق كتاب منشور من قبل، وأخذت من “مذكرات فتوة” نهجا خاصا، ومرشدا لتحقيق كتاب “مذكرات نشّال” التي نشرت كحلقات في مجلة اسمها “لسان الشعب”عام 1924، ثم تم تجميعها في كتاب عام 1930، وهي من الكتب النادرة، ووصلني الكتاب عن طريق أحد الأشخاص ضمن أربعة كتب نادرة من بينها الطبعة الأولى والأصلية من كتاب “مذكرات فتوة”.
مذكرات عن المهمشين

أن تحقق كتابًا نادرًا تمت كتابته ونشره منذ نحو قرن وتعيد إصداره مرة أخرى ليس أمرا بسيطا، وعند عمل أيمن عثمان على كتاب “مذكرات نشّال” بحث عمّا لا يتناوله الكتاب الأصلي لحسني يوسف، وقام بجمع أرشيف معلوماتي عن النشالين أنفسهم ولغتهم في حقبة العشرينات من القرن الماضي، ووجد أن ما كتبه المؤلف هو صياغة لأحداث وقعت عن النشالين حدثت في زمنه، واختار أن يضعها في قالب روائي، لأنه يعرف حب المصريين للحكايات، والرواية أكثر الألوان الأدبية رواجا.
عندما اطلع الكاتب على المذكرات والأرشيف الصحفي في فترة العشرينات من القرن الماضي، وجد أن فن كتابة المذكرات كان ذائع الصيت ورائجا في هذه الحقبة، والكتابة عن المهمشين والمحتالين في المجتمع كانت معروفة ومستساغة ومقروءة، وصدرت وقتها مذكرات عدة مثل “مذكرات عربجي” التي كتبها الفنان سليمان نجيب عام 1921 وذيلها بتوقيع اسم مستعار هو الأسطى حنفي أبومحمود، وكتبها عقب ثورة 1919، وهناك “مذكرات بغي” و”يوميات ساقطة” و”مذكرات عاهرة” وكانت تنافس ما يكتبه السياسيون في ذاك الوقت.

يتناول كتاب “مذكرات نشّال” حياة عبدالعزيز النُص، التي كتب عنها الصحافي حسني يوسف، وهي شخصية حقيقية، لكن عثمان رجح أنها من وحي خيال المؤلف.
وبعد أن نشر عثمان كتاب “مذكرات نشّال” وحقق رواجًا كبيرًا، تواصل معه المنتج المصري محمد الجبيلي وأخبره بإعجابه بمحتوى الكتاب، ويراه يصلح لقالب درامي، وتحدثا معا حول تحويله إلى مسلسل درامي من 15 حلقة، وانضم لهما بعد ذلك الفنان أحمد أمين، وتحمسا للعمل على الكتاب وتم اختيار اسم “النُص” للمسلسل وهو اسم الشخصية الرئيسية للعمل، ولقب “النُص” يُطلقه المصريون على النشّال وخفيف اليد.
وقال أيمن عثمان لـ”العرب” إنه شارك مع ورشة الكتابة لهذا العمل، وهي مكونة من شريف عبدالفتاح، وجيه صبري، عبدالرحمن جاويش، واجتمعوا في جلسات مطولة للعمل على الفكرة وتحويلها إلى عمل درامي قبل كتابة الحلقات، وشارك الجميع في كتابة المعالجة الفنية للمسلسل، ثم جاء دور عثمان لمراجعة النص تاريخيًا وزمنيًا.
ويرى عثمان أن إضافة معلومة تاريخية في الثواني الخمس الأخيرة من نهاية تتر كل حلقة من مسلسل “النُص” هي طريقة رائعة لحض المشاهدين على القراءة والبحث عن هذه المعلومة، ففي نهاية الحلقة الأولى وضع معلومة عن “نقابة النشالين” ووجد أنها من أعلى كلمات البحث على محرك البحث غوغل في مصر.
تاريخ ما أهمله التاريخ

سألته “العرب” هل ساهم مسلسل “النُص” في انتشار كتاب “مذكرات نشّال”، فقال إن أيّ عمل أدبي يتم تحويله إلى دراما أو سينما يساهم في انتشار الكتاب المأخوذ عنه بلا شك، وبالنسبة إليه اتسعت الشريحة التي استهدفها كتاب “مذكرات نشّال”، لأن نوعية الكتب التي يكتبها تستقطب شريحة من القراء يحبون هذا النوع من الكتابة التاريخية، ومن المعتاد أن تتحول الرواية إلى عمل فني، لكن “مذكرات نشّال” هو الكتاب البحثي الثاني الذي يتحول إلى عمل دراما، فالأول كان كتاب “رجال ريا وسكينة” للكاتب صلاح عيسى وتحول إلى مسلسل “ريا وسكينة”، بطولة عبلة كامل وسمية الخشاب.
كان للمراجع التاريخي دور كبير في فترة العشرينات من القرن الماضي مثل حبيب جماسي، وهو صحافي مشهور وصاحب أطول سلسلة مقالات تمت كتابتها في تاريخ الصحافة المصرية على مدار 40 سنة بعنوان “تاريخ ما أهمله التاريخ”، وعمل مع يوسف وهبى وجورج أبيض.
وهناك أيضًا إدمون تويما، وهو ممثل مشهور، عمل مع الفنان نجيب الريحاني، وكانا يسافران إلى فرنسا، ويقتبسان نصوصًا فرنسية ويمصّرونها، وعندهما إتقان كبير للغة الفرنسية، ويعملان على كافة التفاصيل ولم يكن عملهما يسمى بمراجع تاريخي بالمعنى الحرفي، وتتم كتابة الأسماء على التترات أنه مشارك في الكتابة أو مترجم أو استشاري تاريخي.
"الأرشيفجي" أيمن عثمان أنفق الكثير من ماله الخاص لشراء الكتب، ليس بهدف أن يكون عنده ربح مادي من وراء ذلك، لكنه لشغفه وعشقه لهذه الهواية
وأوضح أيمن عثمان لـ”العرب” أن فكرة وجود مراجع تاريخي بدأت مع بداية السينما المصرية واستمرت حتى الخمسينات من القرن الماضي ثم اختفت في فترة الستينات، وفي فترة الألفية الجديدة ومع ظهور كُتاب مثل يسري الجندي وأسامة أنور عكاشة ووحيد حامد وشادي عبدالسلام، كانوا أساتذة يعملون بدقة على أعمالهم الفنية بكافة تفاصيلها من ملابس وديكور ولغة وإكسسوارات للشخصية.
وأشار إلى أنه بدأ دور المراجع التاريخي في الظهور مرة أخرى منذ التوسع في عدد القنوات والفضائيات والمنصات، التي أدت إلى زيادة إنتاج الأعمال الفنية، وأصبح الكاتب غير متفرغ للبحث والدقة بنفسه، بل ويكون وقته ضيقا لأنه يكتب عملا أو اثنين في العام الواحد، لذا بدأ التوجه للاستعانة بالمراجع التاريخي.
كان أيمن عثمان عمل كمراجع تاريخي في مسلسل “الفتوة” بطولة ياسر جلال وعُرض عام 2020، وعن هذه التجربة قال لـ”العرب”، طلبتني الشاعرة دعاء عبدالوهاب للعمل معها ومع الكاتب هاني سرحان، بوصفي مراجعًا تاريخيًا، وكانت تجربتي الأولى واشتغلت على النص فقط، كمراجعة تاريخية للحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث ولم أحضر التصوير، لذا كانت هناك أخطاء تاريخية في العمل أثارت جدلًا.
وكشف أن تجربته الثانية كانت مع مسلسل “جزيرة غمام” بطولة أحمد أمين وعُرض عام 2022، وهي أكثر ثراء بالنسبة إليه، حيث حضر التصوير على مدار 80 يومًا، وتعلم من خطأ التجربة الأولى “الفتوة”، ولم يكتف بمراجعة النص زمنيًا، وتدور أحداثه عام 1850، بل راجع كل تفاصيله، من حيث الديكور والملابس والإكسسوارات، والموسيقى، ويتذكر أنه كان يتم تصوير أحد المشاهد وكان سيتم عزف قطعة موسيقية من فرقة “مزامير” ووجدها لا تناسب هذه الحقبة فطلب من العاملين استرجاع ذكرياتهم عن جدودهم وإيجاد معزوفة قديمة وبالفعل وجدوا الهدف.
منهج الثورات

نقلنا الباحث المصري إلى المرحلة التي بدأ معها شغفه في البحث عن التاريخ، والتعمق فيه، فقال لـ”العرب”: “تغيرت طريقة تفكيري تمامًا عقب ثورة يناير عام 2011، وجعلتني أتوقف عند فكرة أن التاريخ ثابت، وأن أحداثه متشابهة، وعملت على القراءة في تاريخ الثورات في مصر، مثل ثورة سعد زغلول 1919، وثورة الطلبة 1935، وثورة الطلبة 1968، وغيرها من الثورات التي وقعت على مر تاريخ مصر، وبدأت أراجع كتابات الجبرتي ومصطفى صادق الرافعي عن ثورات قديمة، ووجدت عدة حقائق تجمعها، منها فكرة اللجان الشعبية، وحماية المنازل والشوارع، وجمع التوكيلات والتفويضات، وغيرها من الأمور المشتركة.”
وتابع “بعد أن أثبتّ وجهة نظري تلك، ودخلت إلى متاهة التاريخ الذي أصبح قدري، قمت بتحويل صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي من الشأن الخاص إلى الشأن العام، أشارك فيها المتابعين القضايا المختلفة، وكتبت في السينما والحياة الاجتماعية القديمة، ورأيت أنه كلما كان الواقع مؤلما كلما تشوق الإنسان إلى الحنين للماضي (نوستالجيا)، وكان هدفي أن مصر قديمًا كانت أفضل في الفن والأخلاق والقيم.”
وفي تلك الفترة بحث عثمان عن شخصيات تشبهه في اهتماماته، والتفت إلى مجموعة من الأًصدقاء، مثل مصطفى شريف، عمر الرزاز، شهدي عطية، محمد توفيق، مصطفى عبيد، عمرو منير، أفرزتهم ثورة يناير في مصر، ويقول “مع أننا لم نكن نعرف بعضنا البعض، لكن جمعنا عشقنا للتاريخ، ولو كان لكل منا منطقته التي يغرد فيها.”
أكد أيمن أنه بحث بنفسه عن المراجع والكتب والمجلات والصحف القديمة، على مدار 14 سنة حتى أصبحت مكتبته تحتوى على 50 ألف مجلة، واحتاج إلى وحدة سكنية منفصلة عن مسكنه ليضعها فيها، وأثناء فترة بحثه وقعت تحت يديه نوادر وكنوز من الكتب، استفاد بها في مؤلفاته، وفي كتاب “وانتصرنا” تحدث عن 50 سنة مرت على انتصار مصر في حرب أكتوبر، وهو أول كتاب أرشيفي عن حرب أكتوبر، ثم رواية “مذكرات نشّال” ومؤلفات أخرى قيد النشر.
وأنفق عثمان الكثير من ماله الخاص لشراء الكتب، ليس بهدف أن يكون عنده ربح مادي من وراء ذلك، لكنه لشغفه وعشقه لهذه الهواية، وبدأت بسور الأزبكية الشهير لبيع الكتب القديمة في وسط القاهرة للبحث عن المجلات والكتب، وزار أرشيف الصحف مثل دار الهلال، دار الكتب، الأهرام، الأخبار، الجمهورية، فلم يترك أرشيفًا إلا ودخله، كما يقول، ثم خرج من حدود القاهرة إلى محافظات مصر المختلفة.
ولفت عثمان في حديثه لـ”العرب” إلى وجود فرق بين الباحث والأرشيفجي (المؤرشف)، الأول لديه عنوان محدد يبحث تحته عن تفاصيل بعينها، لكن الثاني مثله يبحث في الفراغ، حتى يفاجأ بما يبهره، وهذا أعطى مساحة للأرشيف ليفاجئه بكنوزه.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

نجوى درديري
كاتبة مصرية