يلتقي التاريخ بالذاكرة الجماعية في تاريخ الرقص الثقافي في فلسطين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يلتقي التاريخ بالذاكرة الجماعية في تاريخ الرقص الثقافي في فلسطين

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	Screenshot_٢٠٢٥٠٣١٨-١٠٣٠٣٤_Chrome.jpg 
مشاهدات:	9 
الحجم:	151.0 كيلوبايت 
الهوية:	255096

    أداة تراثية ومرآة حقائق اجتماعية وسياسية: تاريخ الرقص الثقافي في فلسطين

    اياد شماسنة

    في فلسطين، حيث يلتقي التاريخ بالذاكرة الجماعية، يتجاوز الرقص كأداة تراثية غرضه الجمالي ليصبح مرآة حية للحقائق الاجتماعية والسياسية. هناك، في هذه الأرض التي لا تعرف الاستسلام، يتجسد الرقص كفن تعبيري وقوة تتحدى الزمن، قادرة على الحفاظ على التراث، بل ومقاومة تحديات الاحتلال والنزوح.
    في كتابه «إثارة الغبار: التاريخ الثقافي للرقص في فلسطين»، يقدم نيكولاس رو رؤية متعمقة لهذا الفن، حيث ينسج خيوطا تاريخية واجتماعية لرقصات فلسطين عبر العصور. تتشابك تلك الرقصات مع نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية، مستحضرة صورة ثقافية تقاوم الاندثار وتصر على البقاء.
    نيكولاس رو، الباحث ذو الباع الطويل في الرقص والدراسات الثقافية، هو أول من يكتشف العلاقة العميقة بين الرقص والسياسة في فلسطين. لم يقتصر عمله على النظرية وحسب؛ فهو مصمم رقصات وراقص ومعلم في فرق باليه دولية بأستراليا وفنلندا والفلبين. في دراسته للحصول على درجة الدكتوراه من مدرسة لندن للرقص المعاصر، توغل في الأبعاد الاجتماعية والسياسية للرقص في المجتمعات المهمشة، لينقض على تلك الفكرة التي ترى في الرقص مجرد حركة جسدية عابرة.
    من خلال تعاونه مع فرق وفنانين فلسطينيين، اكتشف رو كيف يمكن للفن أن يكون سلاحاً ثقافياً، ينهض ليصبح جدار مقاومة في وجه الزمان والمكان. في كل حركة، وفي كل رقصة، يقاوم الفن الفلسطيني محاولات الطمس والإلغاء. ومن خلال دراساته ومقالاته الأكاديمية، يواصل رو الدفاع عن الرقص كقوة ثقافية، يزداد تأثيرها في قلب مناطق الصراع.

    الرقص كهوية ثقافية

    يعدّ الرقص الفلسطيني، وبخاصة الدبكة التقليدية، أحد أبرز التعبيرات الثقافية التي تُجسد الهوية الفلسطينية بأبعادها العميقة. إنه تناغم جميل وخلاب للحركات الجسدية واستعراض للقدرة على التنسيق بين الأقدام، كما أنه مَعْلَم حي من معالم الروح الجماعية، رمز يشع بالتمسك بالجذور والأصالة رغم العواصف التي تعصف بهذا الشعب.
    تتجاوز الدبكة الفلسطينية كونها مجرد فنّ يؤدى في المناسبات؛ إنها تجسيد حيّ للوحدة في لحظات التحدي. هي، ببساطة، قصة لم تُروَ بالكلمات، بل برقصات تتشابك الأقدام وتدق الأرض بتناسق كأنما تسعى لتذكير كل قدم، وكل روح، بأن الأرض ليست مجرد مكان، بل هي معركة مستمرة ومقاومة تتجسد في كل خطوة، وفي كل حركة.
    تعود الدبكة الفلسطينية إلى طقوس الزراعة القديمة، حيث كانت الأيادي تتشابك للعمل وللتآزر في صنع الحياة. كان الناس يرقصون في الحقول لتكريم حصاد الأرض وأرباب الأرض، ليفرحوا بما أنجزوه من تعب مشترك، ويخلدوا التناغم الذي يجب أن يسود في كل عمل جماعي. في تلك اللحظات، كان الرقص يحمل في طياته أكثر من فرح الزرع؛ كان يرسل رسالة غامضة للكون والطبيعة، تؤكد أن الأرض والإنسان مرتبطان، وأن الصمود لا يتجزأ.
    لكن الرقص الفلسطيني لا يقتصر على تلك اللحظات البسيطة في الحقول، بل هو جزء من نسيج اجتماعي وثقافي أوسع. في كل زفاف، في كل مهرجان، في كل احتفال وطني، يتحول الرقص إلى لغة تجمع بين الأجيال، تخبرهم وتعيد تأكيد ذات الرسالة: نحن هنا، نحن متحدون، ولا شيء يمكن أن يمحو هويتنا. في تلك اللحظات، يكون الرقص أكثر من مجرد استعراض جمالي؛ هو فعل تواصل حي، هو نبض الأمّة المستمر.
    ورغم ما تطرحه العولمة من أشكال جديدة للرقص، تبقى الدبكة الفلسطينية وفية لجذورها. لم تمحها الحداثة، بل حافظت على طابعها الجماعي الأصيل. كل خطوة في الدبكة تحمل بين طياتها إصراراً على البقاء، على المقاومة، على الوجود. إن الرقص هنا أكثر من مجرد فن، بل هو إعلان حي عن رفض المحو ورفض التهميش. إنها رسالة أبدية، أن الشعب الفلسطيني باقٍ، صامد، ومتفرد في وجوده، مهما كانت الظروف.

    التطور التاريخي

    حين كانت فلسطين تهتز في صمتها على وقع خطواتها الأولى، كان الرقص ينسج خيوطاً من الروح والجسد، يتناغم مع نبض الأرض والأرواح والأسلاف. في العصور الكنعانية، كانت الرقصة وسيلة مقدسة للتواصل مع الآلهة، لغة صامتة تروي القصص عبر الحركات، حكايات الأرض التي تراقصت في مسيرتها مع الإنسان، تلك التي تُحكى وتُعاش من خلال الأيدي والأقدام. كان الرقص بالنسبة لهم بمثابة صلاة جسدية، تصل بين السماء والأرض، وتفتح أبواباً لتلك القوى الغامضة التي تتحكم في مصائر البشر والطبيعة.
    مع مرور الزمن، واصطفاف الحضارات وتداخل الثقافات، تحول الرقص من مجرد طقس ديني إلى حكاية لا تنتهي. في ظل الحكمين العثماني والبريطاني، أصبح الرقص الفلسطيني أكثر من مجرد وسيلة تعبير؛ أصبح ساحة واسعة لتسجيل التاريخ الشفهي، إذ كانت كل حركة تعني أكثر من مجرد خطوات على الأرض. أصبح الرقص وسيلة لحفظ الذاكرة الجماعية، يسترجع الغزوات، ويحكي عن الثورات، ويسرد تجارب شعب غارق في صموده، يواصل تمرير تقاليده وأحلامه عبر الأجيال.
    ومن بين تلك الحكايات، بُعثت الدبكة، الكائن المتجسد في حركات الجماعة ووحدتها، تعبيراً حياً عن الهوية التي ترفض الانكسار. في مناسباتها الاجتماعية، كانت تروي الأجداد كما لو كانت تروي أساطيرهم، وتغني لطموحات الأجيال القادمة. رغم الزمان الذي يحاول أن يلتهمها، والاحتلالات التي تلوّث أرضها، بقيت الدبكة تنبض بحياة لا تعرف الاستسلام. كانت دائماً أكثر من مجرد رقصة؛ كانت تذكيراً بأصالة الفلسطينيين، وجسراً يربط بين الماضي والحاضر، شبحاً حياً للذاكرة التي لا تُنسى.
    في العصر الحديث، تحول الرقص الفلسطيني إلى سلاح ثقافي يستخدمه الفلسطينيون في مقاومة الاستعمار والاحتلال. لم يعد الرقص وسيلة للتسلية أو الفنّ فحسب، بل أصبح تعبيراً قوياً عن الهوية الوطنية، يرفض محاولات الاحتلال لطمس الذاكرة وتغيير التاريخ. في كل خطوة، وكل حركة، كان الراقصون يُظهرون إصرارهم على البقاء، بينما كانت أجسادهم تصدح برسالة واضحة: لا للظلم، لا للاحتلال.
    يتداخل في عروض الرقص الفلسطيني عنصر التراث مع المعاصرة، في تحدٍ صريح لمحاولات الصهر الثقافي. كل رقصة هي أكثر من مجرد أداء فني؛ إنها فعل مقاومة، وسيلة لرفض محاولات الاحتلال في إعادة تشكيل الهوية الفلسطينية وفقاً لرؤيته. وفي كل حركة، يشهد الرقص على تمسك الفلسطينيين بتقاليدهم وذاكرتهم، مؤكدين أن كفاحهم مستمر وأنهم باقون على الأرض.

    الرقص الفلسطيني في المنفى والشتات

    في الشتات، يحافظ الرقص على الحياة في هوية الفلسطينيين، وهو جسر يمتد بين الأجيال والحضارات. لا يُكتفى بالاحتفاظ بالتراث من خلاله، بل يصبح وسيلة لتوثيق الذكريات، لترسيخ القيم الثقافية وتعزيز الشعور بالانتماء، رغم التشرد والتهجير. في كل عرض، ليس هناك مجرد استعراض، بل ساحة للحفاظ على الذاكرة الوطنية، حيث يظل الرقص الفلسطيني شاهداً حياً على صمود شعب يرفض أن يُمحى من الوجود.
    لقد حملت المجتمعات الفلسطينية تقاليد الرقص عبر الأجيال لتكون معبرة عن هويتهم الوطنية والثقافية، وسيلة لإبقاء الروابط مع الوطن حية. وفي الشتات، لم يعد الرقص مجرد إحياء للذاكرة الشعبية والوطنية، بل هو جسر يصل بين الماضي والحاضر، رسالة تنقل إلى العالم عمق الهوية الفلسطينية وتفردها. كما أن هذه العروض تُشعر الفلسطينيين في الشتات بأنهم ما يزالون جزءا من مجتمع واحد، مما يعزز التضامن بين النازحين ويُقوي شعورهم بالانتماء. وفيها، يعبر الرقص عن الأمل، عن صمود شعب يواجه التحديات ويؤكد أن ثقافته وتطلعاته ستظل حية ومستمرة في كل مكان.

    التحديات والحفاظ على ثقافة الرقص الفلسطيني

    إن الحفاظ على الرقص الفلسطيني يواجه تحديات هائلة، أبرزها فقدان المعرفة التقليدية نتيجة النزوح والعولمة. تزايد الهجرة والنزوح أدى إلى فصل الأجيال الشابة عن مصادرها الثقافية الأصيلة، في حين تساهم العولمة في غمر الثقافات المحلية بتأثيرات خارجية قد تهدد الهوية الثقافية وتحد من انتشارها. في هذا السياق، يصبح توثيق هذه التقاليد وتعليمها للأجيال الجديدة أمراً بالغ الأهمية لضمان استمراريتها وتطورها في المستقبل.
    لقد لعبت المنظمات والمهرجانات المخصصة للفنون الفلسطينية دوراً محورياً في إعادة إحياء الاهتمام بالرقص الفلسطيني بين الشباب. ومن خلال تنظيم ورش العمل والعروض والمناسبات الثقافية، تساهم هذه المبادرات في تعزيز الوعي بأهمية الرقص كجزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية الفلسطينية. كما تبرز هذه الأنشطة طابع الرقص الفلسطيني الحي والديناميكي، الذي يتجاوز كونه إرثاً تاريخياً ليصبح ممارسة معاصرة تعبر عن واقع المجتمع وتحدياته، مما يضمن له البقاء والازدهار في مواجهة العولمة والتغيرات الاجتماعية.
    ان كتاب «إثارة الغبار» يقدم فكرة مهمة عن جوهر الرقص الفلسطيني ببراعة وعمق، حيث يتحول إلى فعل جماعي نابض بالحياة يكسر الصمت ويستعيد المساحات المفقودة. من خلال حركاته وأدائه، أصبح الرقص وسيلة فلسطينية للتعبير عن المرونة والاحتفال بالثقافة، وللمطالبة بالاعتراف والوجود. هو اتصال عميق بالماضي وبيان للأمل في المستقبل، يثير الغبار ويظل ثابتاً، مؤكداً على وجود لا يلين في عالم متنازع عليه
يعمل...