التشكيل والصحافة... إشكالية المجاورة وقوة التأثير
جمال العتّابي
التطور الكبير الذي أحرزته الصحافة من الناحية الشكلية والجمالية...لا يرجع بطبيعة الحال إلى التقدم التقني وارتقاء وسائل الطباعة إلى مستويات عالية جداً، إنما كان للفنان التشكيلي الدور المكمل الأهم في هذا التطور، وما الإنجازات التي تحققت في مجال التصميم والإخراج الفني ما هو إلا محصلة لعمل الفنان الإبداعي.
الآلة من دون القدرة والكفاية الإنسانية التي تستطيع الإفادة من إمكاناتها، ما كان بمقدورها أن تصل بالصحافة على شكلها الراقي الحالي، نظرة واحدة إلى صحفنا منذ ما يقارب النصف قرن تكفي للتعرف على أهمية وخطورة الدور الذي قام به فنانونا التشكيليون، ومراجعة متفحصة لصحفنا ومجلاتنا خلال تلك الفترة ستبيّن لنا مدى قدرة وكفاية وفاعلية الفنان التشكيلي عندنا ونجاحه في الارتقاء بصحافتنا من الناحية الشكلية والجمالية.
الواقع أن عدداً غير قليل من الفنانين التشكيليين اتخذ من الصحافة مهنة له في العمل، وآخر كان يعتقد أن الرسوم الصحفية هي أعمال أقل في المستوى من لوحة الحامل أو التمثال، ويستخدم النقاد مصطلح " الرسم التوضيحي" للدلالة على أنه أقرب إلى السرد الأدبي منه إلى الفن التشكيلي، وان مذاقه أقرب إلى مذاق الأعمال الأدبية منه إلى تذوق الفنون التشكيلية.
هذا المفهوم الذي ظل سائداً بين النقاد والفنانين لعقود من الزمن أدّى إلى إحجام عدد من الفنانين عن العمل في الصحافة، ويفضّلون العمل في المجالات الأخرى كالتدريس أو أعمال الديكور. وربما يعود هذا الاحجام الى عدم رضا الفنان عن النتائج التي يمرّ بها العمل الفني، و مخاوفه من العمليات القسرية التي يفرضها التحرير في الشكل والتكبير والتصغير وتحديد مناطق الظل والنور أو اخضاع مساحة الرسم بمقاسات محددة تقيّد حرية الفنان وتشلّ قدراته الإبداعية، وأشد المخاوف تلك التي تقع في الأعمال المنفّذة باللون، هنا تتدخل أحبار الطباعة، وحداثة الماكنة الطباعية، والعامل الذي يمسك ويدير الآلة، هذه العوامل مجتمعة تتدخل بشكل مباشر في مستوى المطبوع فنياً: نجاحه أم إخفاقه .
هناك مسألة أخرى جوهرية تتعلق بحرية الفنان، تقييده أو إلزامه بموضوع تتطلبه سياسة المطبوع الصحفي مسبقاً، هذا الالتزام المحدد بالتعبير عن أفكار لم يبتدعها الفنان قد لا يكون مقتنعاً بها، كل هذا يحرم الرسام من أهم عنصر في الابداع، هو هويته الفنية ، فالرسام الصحفي لا يختار موضوعه إنما يوضّح بالرسم لموضوع كتبه شخص آخر، بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون الفنان أداة لآخر وهو ينشد حرية التعبير وتوفير جوانب الخلق الفني في العمل.
في حالات أخرى، تفقد الرسوم الصحفية أهميتها في اليوم التالي، أو في حالة صدور عدد ثان من المطبوع، وتتحول إلى مادة ارشيفية تتحدد بزمان ومكان معينين، وتخرج أحياناً من دائرة الاهتمام ليحل محلها العدد التالي...وهكذا...
في الوقت الذي ينظر فيه الفنان إلى الأعمال التشكيلية التي قام بها الفنانون في العصور المختلفة، والأعمال الفنية في الرسم والنحت بوصفها أعمالاً اتسعت دائرة جمهورها حتى امتدت إلى مديات أخرى من حيث المكان، وإلى أجيال عديدة متعاقبة من حيث الزمان. الفنان المشتغل في الصحافة يتأمل هذه الحقيقة وتأخذه الحيرة...فهو يرسم كل يوم، ويقدم أعماله للجمهور بانتظام، يكسب الشهرة ويعرفه الجمهور، لكن هذا مرتبط بزمن محدد ومكان محدد، وأمنية الفنان دائماً أن يكسر هذا القيد المكاني والزمني ويمتد وينتشر.
من المفيد أن نشير هنا إلى تجربة الفنان الفرنسي ( أونوريه دومييه)* الذي ما تزال عدد من رسوماته حيّة حتى اليوم وتشاهد في بلدان عديدة من العالم، لكن علينا أن لا ننس ان "دومييه" رسم أكثر من أربعة آلاف صورة صحفية، عندما كانت الطباعة تعرف بالطباعة الحجرية، وهو إلى جانب كونه فناناً ، كان طباعاً ماهراً، ومع هذا فان ما تبقى منها قليل جداً، بمعنى أصح أن العالم لا يعرف الآن من رسوم "دومييه" إلا عدداً محدودأ، أما الباقي منها فان ارتباطه بالزمان والمكان اللذين عاش فيهما "دومييه" حرم هذه الاعمال من العالمية والانتشار .
بالرغم من هذه الحقائق، كانت الكتابة تاريخياً ذات يوم عبارة عن رسوم، وكانت الطريقة الوحيدة لتسجيل الأفكار، وحتى بعد أن تحولت الرسوم الرمزية عند الفراعنة إلى تجريدات وانفصلت الكتابة عن الرسم والحفر على الحجر، ظلّت الرسوم مجاورة للكتابة، وظل للرسام حيز خاص في الكتاب وفي كل ما يكتب سواء عل الجدران أو الأدوات.
من جانب آخر قدمت المجاورة بين التشكيل والصحافة أمثلة رائعة في العمل المشترك خلال العصر الحديث، فقد كان الفنان بيكاسو يقوم برسوم توضيحية للكتب، وهو بهذا يضع مثالاً أمام الفنانين كي لا يحجموا عن هذا الميدان. وفي العراق، اشتغل عدد كبير من الفنانين التشكيليين في الصحافة، وتصميم المطبوعات، وأسهم هؤلاء في نقل المطبوع فنياً إلى مستويات راقية في الإخراج والشكل منذ ستينات القرن الماضي، يكفي ان الفنان الخالد جواد سليم كان أول المساهمين في هذا الميدان، وتبعه آخرون، وربما ستطول قائمة أسماء الفنانين الذين انصرفوا لهذا العمل أو شاركوا فيه ـ في مناسبة أخرى سنعود لتناول هذا الموضوع بالتفصيل ـ
كما تنبغي الإشارة الى الدور الذي قام به رسامو الكاريكاتير السياسي والاجتماعي في العراق، إذ كان له الوقع الأقوى والأخطر لدى الجمهور، فاتسعت دائرة تأثير هذا اللون، وأصبح رسام الكاريكاتير مطلوباً في الصحافة.
@إشارة..............................
*اونوريه دومييه: 1808ـ 1879
رسام ومصمم مطبوعات فرنسي، أحد أشهر رسامي الكاريكاتير في عصره،
جمال العتّابي
التطور الكبير الذي أحرزته الصحافة من الناحية الشكلية والجمالية...لا يرجع بطبيعة الحال إلى التقدم التقني وارتقاء وسائل الطباعة إلى مستويات عالية جداً، إنما كان للفنان التشكيلي الدور المكمل الأهم في هذا التطور، وما الإنجازات التي تحققت في مجال التصميم والإخراج الفني ما هو إلا محصلة لعمل الفنان الإبداعي.
الآلة من دون القدرة والكفاية الإنسانية التي تستطيع الإفادة من إمكاناتها، ما كان بمقدورها أن تصل بالصحافة على شكلها الراقي الحالي، نظرة واحدة إلى صحفنا منذ ما يقارب النصف قرن تكفي للتعرف على أهمية وخطورة الدور الذي قام به فنانونا التشكيليون، ومراجعة متفحصة لصحفنا ومجلاتنا خلال تلك الفترة ستبيّن لنا مدى قدرة وكفاية وفاعلية الفنان التشكيلي عندنا ونجاحه في الارتقاء بصحافتنا من الناحية الشكلية والجمالية.
الواقع أن عدداً غير قليل من الفنانين التشكيليين اتخذ من الصحافة مهنة له في العمل، وآخر كان يعتقد أن الرسوم الصحفية هي أعمال أقل في المستوى من لوحة الحامل أو التمثال، ويستخدم النقاد مصطلح " الرسم التوضيحي" للدلالة على أنه أقرب إلى السرد الأدبي منه إلى الفن التشكيلي، وان مذاقه أقرب إلى مذاق الأعمال الأدبية منه إلى تذوق الفنون التشكيلية.
هذا المفهوم الذي ظل سائداً بين النقاد والفنانين لعقود من الزمن أدّى إلى إحجام عدد من الفنانين عن العمل في الصحافة، ويفضّلون العمل في المجالات الأخرى كالتدريس أو أعمال الديكور. وربما يعود هذا الاحجام الى عدم رضا الفنان عن النتائج التي يمرّ بها العمل الفني، و مخاوفه من العمليات القسرية التي يفرضها التحرير في الشكل والتكبير والتصغير وتحديد مناطق الظل والنور أو اخضاع مساحة الرسم بمقاسات محددة تقيّد حرية الفنان وتشلّ قدراته الإبداعية، وأشد المخاوف تلك التي تقع في الأعمال المنفّذة باللون، هنا تتدخل أحبار الطباعة، وحداثة الماكنة الطباعية، والعامل الذي يمسك ويدير الآلة، هذه العوامل مجتمعة تتدخل بشكل مباشر في مستوى المطبوع فنياً: نجاحه أم إخفاقه .
هناك مسألة أخرى جوهرية تتعلق بحرية الفنان، تقييده أو إلزامه بموضوع تتطلبه سياسة المطبوع الصحفي مسبقاً، هذا الالتزام المحدد بالتعبير عن أفكار لم يبتدعها الفنان قد لا يكون مقتنعاً بها، كل هذا يحرم الرسام من أهم عنصر في الابداع، هو هويته الفنية ، فالرسام الصحفي لا يختار موضوعه إنما يوضّح بالرسم لموضوع كتبه شخص آخر، بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون الفنان أداة لآخر وهو ينشد حرية التعبير وتوفير جوانب الخلق الفني في العمل.
في حالات أخرى، تفقد الرسوم الصحفية أهميتها في اليوم التالي، أو في حالة صدور عدد ثان من المطبوع، وتتحول إلى مادة ارشيفية تتحدد بزمان ومكان معينين، وتخرج أحياناً من دائرة الاهتمام ليحل محلها العدد التالي...وهكذا...
في الوقت الذي ينظر فيه الفنان إلى الأعمال التشكيلية التي قام بها الفنانون في العصور المختلفة، والأعمال الفنية في الرسم والنحت بوصفها أعمالاً اتسعت دائرة جمهورها حتى امتدت إلى مديات أخرى من حيث المكان، وإلى أجيال عديدة متعاقبة من حيث الزمان. الفنان المشتغل في الصحافة يتأمل هذه الحقيقة وتأخذه الحيرة...فهو يرسم كل يوم، ويقدم أعماله للجمهور بانتظام، يكسب الشهرة ويعرفه الجمهور، لكن هذا مرتبط بزمن محدد ومكان محدد، وأمنية الفنان دائماً أن يكسر هذا القيد المكاني والزمني ويمتد وينتشر.
من المفيد أن نشير هنا إلى تجربة الفنان الفرنسي ( أونوريه دومييه)* الذي ما تزال عدد من رسوماته حيّة حتى اليوم وتشاهد في بلدان عديدة من العالم، لكن علينا أن لا ننس ان "دومييه" رسم أكثر من أربعة آلاف صورة صحفية، عندما كانت الطباعة تعرف بالطباعة الحجرية، وهو إلى جانب كونه فناناً ، كان طباعاً ماهراً، ومع هذا فان ما تبقى منها قليل جداً، بمعنى أصح أن العالم لا يعرف الآن من رسوم "دومييه" إلا عدداً محدودأ، أما الباقي منها فان ارتباطه بالزمان والمكان اللذين عاش فيهما "دومييه" حرم هذه الاعمال من العالمية والانتشار .
بالرغم من هذه الحقائق، كانت الكتابة تاريخياً ذات يوم عبارة عن رسوم، وكانت الطريقة الوحيدة لتسجيل الأفكار، وحتى بعد أن تحولت الرسوم الرمزية عند الفراعنة إلى تجريدات وانفصلت الكتابة عن الرسم والحفر على الحجر، ظلّت الرسوم مجاورة للكتابة، وظل للرسام حيز خاص في الكتاب وفي كل ما يكتب سواء عل الجدران أو الأدوات.
من جانب آخر قدمت المجاورة بين التشكيل والصحافة أمثلة رائعة في العمل المشترك خلال العصر الحديث، فقد كان الفنان بيكاسو يقوم برسوم توضيحية للكتب، وهو بهذا يضع مثالاً أمام الفنانين كي لا يحجموا عن هذا الميدان. وفي العراق، اشتغل عدد كبير من الفنانين التشكيليين في الصحافة، وتصميم المطبوعات، وأسهم هؤلاء في نقل المطبوع فنياً إلى مستويات راقية في الإخراج والشكل منذ ستينات القرن الماضي، يكفي ان الفنان الخالد جواد سليم كان أول المساهمين في هذا الميدان، وتبعه آخرون، وربما ستطول قائمة أسماء الفنانين الذين انصرفوا لهذا العمل أو شاركوا فيه ـ في مناسبة أخرى سنعود لتناول هذا الموضوع بالتفصيل ـ
كما تنبغي الإشارة الى الدور الذي قام به رسامو الكاريكاتير السياسي والاجتماعي في العراق، إذ كان له الوقع الأقوى والأخطر لدى الجمهور، فاتسعت دائرة تأثير هذا اللون، وأصبح رسام الكاريكاتير مطلوباً في الصحافة.
@إشارة..............................
*اونوريه دومييه: 1808ـ 1879
رسام ومصمم مطبوعات فرنسي، أحد أشهر رسامي الكاريكاتير في عصره،