
بشر بن أبي عوانة العبدي والبطولة في الحكاية الشعريّة *
قراءات ودراسات
ابراهيم مالك*
\” أضاع العرب أكثر الشعر \”
أبو عمر بن العلاء
\” اتّصل بي الصديق القديم ،لطفي زريق ،أبو زياد من قرية عيلبون
و المقيم في الناصرة ،وطلب مِنّي أن أكتب عن البطولة في مصرع
الأسد عند بشر بن أبي عوانة و ما ستقوله عن مقتل الأسد في
قصيدة للمتنبي .
وقد وجدتها فرصة سانحة لأشرح بعض وجهات نظري في الأدب
الملحمي عند العرب قبل الاسلام ، بإيجازٍ ممكنٍ ، ومفهوم البطولة
عندهم . وهذا ما آمل أن أوفّق بِهِ \” .
ابراهيم مالك**
سأحدثك ،عزيزي القارئ ،عن قصيدةٍ لشاعِرٍ عربيّ قديم ،هو بشر بن أبي عوانة العبدي ،عاش قبل ظهورِ الإسلام، وهي في نظري من جميل الشعر العربي القديم ومن قليله ، الذي تبقّى لنا ، وتتضمن بعض ملامح حكاية
البطل الأسطوري . وسأحاول أن أستجلي اوجه الشبه فيها والفارق بين مصرع الأسد فيها وبين مصرع الأسد في قصيدة مشهورة للمتنبّي .
ولكن قبل ذلك سأوجز لك بعض قناعاتي وأتناول بعدها أبعاد القصيدة ومضمونها البطولي الأسطوري وأطلعك على نصها كاملا\” . وفيما يلي بعض قناعاتي :
1 – عرف الناس ، في شبه الجزيرة العربيّة ، مثل شعوب كثيرة ، مجتمع الأمومة القديم وكانت مكّة مركزا لعبادات قديمة ومعبدا دينيّا ومركزا تجاريا وزراعيا مُتواصِلًا وَمُرْتَبِطا بالحضارات السومرية ، السورية والهِنْدِية القديمة .
ومن الثابت جغرافيا كظاهرة طبيعِيَّة أنّ شبه الجزيرة العربيّة لم تكن ارضا جافّة\” وقاحلة دائما . فقد نشأ التصحر والجفاف بفعل عوامل طبيعيّة تعرّضت لها المنطقة وأسهمت لاحِقًا في إحداث تغييرات في البنية الاجتماعيّة لسكان شبه الجزيرة وشهدت في أعقابها وربما بسببها انحسار مكانة المرأة الريادي وتراجع سلطتها الدينية والدنيوية ، وبالتالي بروز مجتمع الآباء \” الذكورة \” وهيمنة الرجل المطلقة علىالمرأة ، وما تبع ذلك من ظهور خلفية حبلى بنشأة الأساطير وحدوث مآسٍ انسانية ، كان أبرزها ظاهرة
وأد النساء لضمان سيطرة الرجل الاجتماعية وهيمنته وتفادي سُلوكِيّات اجتماعية ذُكورية وكان كذلك ظهور صراع الإخوة العنيف وبدء ظهور الملكية وظهور شرائح اجتماعية عنيفة وجشِعة . وقد لفتَ انتباهي روعة
ما نُسِبَ قولا وفكرا لأحدِ صحابة الرَّسول الحقيقيين وأحد أقربائه ، الإمامُ علي ، :
ما شبع غَنِيٌّ إلّا بِما جاع فقير فالفقر الاقتصادي والثقافي ـ العقلي لا يُمكِنُ أنْ يكونَ قدرًا مَكتوبا من الله ، بل ظاهرة اجتماعية فرضها بعض الإخوة
الشرهين الجشعين الأقوِياء . ولا شكّ في أنّ ناس الجزيرة العربية عرفوا في هذه المرحلة حِكايات وأساطير وخرافات ، مثل حكايات الغول والجن والخوارق المختلفة . ولا أستبعد أنّهم عرفوا اجناسا أدبية ـ ثقافية تذكّرنا بالأدب الملحمي عند آخرين . وقد انطلقتُ في قناعاتي مما يلي ، وسأحاول أن أكون موجزا\” :
أ – كان شمال شبه الجزيرة وشرقها متصلا\” بثلاث حضارات عرفت نشأة الأساطير والخرافات والعبادات متعدّدة الآلهة كالهند ، الصين في الشرق وبلاد ما بين النهرين – العراق القديم – وسوريّا الكبرى في الشمال .
ب – وكان جنوبها عرف نشأة حضارة ، آداب ودِيانات خاصة بها ، وكان مُتَّصلًا بالحضارة الهنديَّة ومُتأثِّرًا بدياناتها وَ ثقافاتِها . أما غرب شبه الجزيرة ، المطلّ على ا لبحر الأحمر، فكان متصلا بالحضارة المصرية القديمة التي
ازدهرت طويلا في وادي النيل . فلا يعقل أن ناس شبه الجزيرة لم يتواصلوا مع هذه الحضارات حضاريا وثقافيا وحتى جنسيا ـ جسَدِيًّا ولم يتأثروا بالبيئات المحيطة .
ت – وما زاد قناعتي هو ما وصلنا من نتف أخبار عن أقوام عاشوا في الجنوب والشمال واندثرت آثارهم ولم تحفظ الطبيعة الاّ القليل من آثارهم ووصفوا بأنهم \” جابوا الصخر في الواد \”، كما لم يحفظ الرواة شيئا من أخبارهم ، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وغيرهم ، وما زالت الحفريات في شرق شبه الجزيرة وجنوبها وفي الشمال أيضا حديثة العهد .
ث – تؤكّد الحياة القبليّة ، التي نعرف بعض أخبارها عشيّة ظهور الاسلام ،أنّ سكان المنطقة المعنيّة عرفوا حروبا كثيرة فيما بينهم و مع قوى خارجية .
ولا شكّ في أن هذه الحروب شكلت أرضا خصبة لظهور حِكايات البطولات وما يرافقها من قصص الأبطال الخارقة المتخيّلة وحكايات مَآسٍ وفرَحٍ تُوَلِّدُها الانتصارات والهزائم . وهذا ما قوّى الاعتقاد عند بعض الباحثين
العرب ، مثل لويس عوض، بأن قصة ، مثل الزير سالم المشهورة ، فيها الكثير من ملامح الأدب الملحمي، كما أن قصة عنترة تحوي هذه الملامح . ولا شك في أن عقلا ، تفتق عن قصٍّ مَحْكِيٍّ ، خُرافِيِّ ، كالعنكبوت الذي نسج له بيتا عند مدخل غار حراء وتصّور الحمامة وَضَعَتْ بيضًا عنده ، هو عقل متخيل ومبدع للقص وليس ابن لحظته ، إنَّما هو عقل مشبع بالتخيّل . وما يروى من قصص عن سيف بن يزن ومصرع ملك الحيرة، أذَيْنَة ، وغيرها من القصص ذات الطابع الخرافي والملحمي ، تؤكد هذه القناعة. وقد غذَّت الحروب، في أكثر من موقع في عالمنا ، الشعر الملحمي وحِكايات البطولات الشعرية وليس فقط الشعر الوجداني والغنائي الذي نعرف بعضه .
د – ما يرافق عادةً الاعتقاد بوجود آلهة متعدّدة ، وبينها آلهة نسائية ، كاللات والعزة ومناة ونائلة ، من قصص وحِكايات
\”مغامرات \” ذات طابع مأساوي وملحمي وفكاهي ساخر وغيره .
ذ – وما يزيد قناعتي هو هذا الكم من القصص التوراتي الذي نجده بكثرة مدهشة في العهدين ، القديم والجديد، من التوراة والانجيل . وأعتَقِدُ أن معظم القصص التوراتية نشأ في الجزيرة ، وان كان تأثر بالقصص المصرية والسومرية – الأكدية القديمة . وأعتقد جازما ان قصيدة بشر بن أبي عوانة العبدي لم تكن وحيدة زمنها أو كما نقول فريدة عصرها، بل هي واحدة من قصائد كانت موجودة وربّما أطول منها . وأنا اميل الى الاعتقاد أن هذه القصيدة، ذات البعد الأسطوري والملامح الخرافيّة ، حُفِظَتْ لنا لأنّ ملامحها البطوليّة لا تتعارض مع الفهم البطولي للعقليّة القبلية البدويّة المنتصرة ولا تتضمّن تمجيدا للآلهة الوثنية القديمة . وقد لفت انتباهي طويلا أنّ مناهج تعليم الأدب العربي القديم في المدارس ألعربية في بلادنا وكذلك في الخارج،
لا تعير اهتماما كافيا لجميل الشعر العربي القديم ودراسته المتعمقة بمختلف جوانبه ومعانيه وإيحاءاته الجمالية، واذا ما عَلَّمت معلّقتا طَرَفة بن العَبْد وامرئ القيس، وهما بلا شكّ رائعتان في بعض أبياتها الشعرية ، فلا يتجاوز الأمر الشروح التقليدية المُنفِّرة في أحيان كثيرة . فالمنهاج الرسمي يكاد يخلو من قصائد فيها الكثير من ميزات القص الشعري ، مثل \”فتاة الخدر \” للمنخلّ اليشكري او \” المالكيّة \” التي هي جمانة الغوّاص للمسيب أو قصيدة \” وطاوي ثلاث … \” لابن الحُطَيْئة أو وحيدة الشاعر بشر بن
أبي عوانة المتبقّية لنا ومطلعها:
\” أفاطم لو شهدت ببطن خبت \” .
وهذه القصائد ، على الرغم من كونها غنائيّة ، الاّ أنّها وللحقيقة حكايات شعريّة ، محكمة السبك الفنّي ومن شأن دراستها الصحيحة تهذيب النفس والأخلاق والسمو بها وشحذ الهمم والتغلب على الصعاب ومواجهة التحديات وعدم التفريط بما هو عزيز وتقديم صورة حية وصحيحة للحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية وما فيها من قيم وأخلاق وأنماط علاقات اجتماعية .
القصيدة، التي نحن بصددها في هذه العجالة، هي للشاعر الجاهلي بشر بن ابي عوانة العبدي الذي توفّي كما يروى، سنوات قليلة قبل ظهور الاسلام في مكة ، كما يعتقد . والقصيدة مرفقة كي تطّلع عليها . فمن هو بشر بن أبي عوانة العبدي الذي تنسب اليه هذه الحكاية الشعرية الرائعة في نظري؟
يذكر فهرست شعراء العرب الذي تتضمّنه \” موسوعة الشعر العربي \” أنّه كان من شعراء الجاهلية وفرسانها وصعاليكها المعدودين ، أحبّ ابنة عم له ، ولمّا طلبها من عمّه أبى هذا وأنف بحجة أن بشرا صعلوك ، فراح بشر يكيد لعمّه ورهطه حتى ارهقهم بأذاه . فاحتال له عمه بحيلة مفادها أنّه يزوّج ابنته الاّ ممّن يسوق اليها ألف ناقة من النياق الخزاعيّة . فهبّ بشر يريد حيّ خزاعة ليأتي بالمهر الغالي ، لكن دون ذلك هول ملاقاة الأسد المسمّى ب \” ذادا \” والحيّة المسمّاة
ب \” شجاع \” وكانا يُقيمان في الطريق الى خزاعة .
وفي الطريق اعترض الأسدُ بشرا\” ، فنزل بِشْرٌ عن فرسه وقدَّ الأسَدَ قدّا\” ،
ثمّ أنه كتب بدم الأسد على قميص له أبياتا ، يصف فيها ما لاقاه من بأس الأسد ، ثمّ بعث بها الى اخته فاطمة . وهذه الأبيات من أجود ما قيل في وصف ملك الغابة ، وبها اشتهر بشر ، ما يحدونا الى اثباتها كاملة تقريبا\” بالنظر الى سُمُوٍّ معناها وجزالة ألفاظها \” . وفيما يلي ننشرها كاملة :
افاطِمَ لو شهدت ببطن خبتٍ وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
اذا لرأيتِ ليثا أمّ ليثا هِزَبْرًا أغبَرًا لاقى هِزَبْرا
تبهنسَ اذ تقاعس عنه مُهري مُحاذرَة فكنتُ عَقرْتُ مُهرا
أنل قدميّ ظهر الأرض اني رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
فحين نزلت مدّ اليّ طرفا يخال الموت يلمع منه شزرا
فقلت له وقد أبدى نصالا\” محدّدة\” ووجها \” مكفهرّا
يدلّ بمخلبٍ وبحدّ نابٍ وباللحظات تحسبهنَّ جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى بمضرَبِهِ قراع الدهر أثرا
ألم يبلغك ما فعلتْ ظباهُ بكاظمة غداةَ قتلتُ عُمْرا
خرجتَ تروم للأشبال قوتا ورمتُ لِبنتِ عَمّي اليومَ مَهرا
وقلبي مثل قلبك ليس يخشى مصاولة فكيف يخاف ذعرا
ففيم تروم مثلي أن يولّي ويجعلَ في يديك النفس قسرا
نصحتك فالتمس يا ليث غيري طعامًا إن لَحْمي كانَ مُرّا
فلمّا ظنّ أ ن النصح غِشّ فخالفَني كأنّي قلتُ هجرا
خطا وخطوتُ من اسدين راما مراما كان اذ طلناه وعرا
يكفكف غيلة احدى يديه ويبسط للوثوب عليّ أخرا
هززتُ لهُ الحُسامَ فخِلْتُ أنّي شَققتُ به من الظّلماءِ فجرا
وأطلقت المهنّد من يميني فقدّ له من الأضلاع عشرا
وجدتُ له بجائشةٍ أرته بأن كذَّبتهُ ما منّتْهُ غدرا
بضربة فيصل تركته شفعا وكان كأنّه الجلمود وترا
فخرّ مضرّجا بدم كأنّي هدمت به بناء مشمخرّا
فقلت له يعزّ عليّ أنّي قتلت مماثلي جلًدا وقهرا
ولكن رمت أمرا\” لم يرمه سواك فلم اطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني مزارا لعمر أبيك قد حاولت نكرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرا يحاذِرُ أن يُعابَ فمُتّ حرا
فالقصيدة تتناول موضوعا واحدا \” – حكاية شعريّة – ، تتناوله مباشرة ودونَ مُقدَّمات وتخلص اليه . فهي تتحدّث عن حكاية حبّ وما اعترضها من تحدّيات وعقبات وصعاب وعن نهايتها السعيدة . تُبْرِزُ عنصُرَ البطولة والاستعداد للتضحية والفداء وعدم التفريط بما هو عزيز وتبرز ، بلا كبرياء فارغة ، عزّة النفس وكبريائها التي لا يساوم فيها ولا يقبل بالهزيمة، فهو انسان \” يُحاذِرُ أن يعاب ، وهو حُرّ \” . ولكنّها تتحدّث عن حبّ صادق كخلفية مادية ، أو اساس مبرّر معاش وحافز للتضحية والبطولة ، فعناصر الحكاية – القصيدة – متعدّدة : حبّ وبطولة وتضحية في مجتمع بدوي، تقليدي يمتاز بهيمنة الذكورة المطلقة . ولكن وإن تتحدَّث عن الحب ، فهي تتحدّث عنه بشفافية موحية ، تبقيه كخلفية ، فلا تذكر اية مواصفة للحبيب المعشوق ولا تتحدّث عن لواعج القلب ولا عن الوجد أو الحنين وغيرها . ونستطيع القول ان القصيدة تتّخذ الحكاية أساسا لها أو اطارا تتنفس وتتحرك فيه . قد تكون الحكاية وقعت فعلا\” وان تكن تفاصيلها المتخيّلة الجميلة المصوّرة شعرا ، مثل وصف ملاقاة الأسد ومصرعه والحديث عن ملاقاة الحية < في الحكاية المتبعة > وقتلها، قد تكون أضيفت اليها وجعلتها جزءا من نسيجها القصصي الأسطوري . فلمّا تسلمت فاطمة الرسالة ، تقول الحكاية ، أو قصيدة بشر ، أعطتها الى عمها فندم هذا على فعلته فخاف عليه أن تقتله الحيّة فقصده وأراد أن يثنيه عن المضي في الطريق الى غايته – حيّ خزاعة- للحصول على النياق الألف ، مهرًا لحبيبته . فقد جعلت أبيات القصيدة عمّه يدرك واثقا ومتأكدا صدق ، نزاهة ومثابرة بشر في حبّه واستعداده للتضحية بحياته في سبيل أن يبرهن حبّه ويثبت اصراره . فلمّا رأى بشر عمّه عن بعد مقتفيا أثره ، سارع ، لم يتلكأ في مبغاه ، وقبض الحيّة بيده ، ثمّ ضربها ضربة قاتلة بسيفه ، فعفا عنه عمّه وأحسن اليه وزوّجه ابنته . هذا ما تقوله الحكاية والقصيدة < الحكاية الشعريّة > ، أوردتهما لك ، عزيزي القارئ ، كما جاءتا في كتب الآداب العربيّة كي تطّلع وتحكم عليها . وما اودك عزيزي القارئ أن تلاحظ أمرين :
ألأول ، أنّ القصيدة المرفقة تختلف عما اعتاد عليه الشعراء العرب الأقدمون والذين وصلتنا اخبارهم وأشعارهم حيث يبدئون على الغالب بالنسيب والغزل وذكر الأطلال ، أطلال الأحبّة ، ومن ثمّ ينتقلون الى الوصف قبل أن يفرغوا الى غرضهم الأساسي كالفخر والمديح والهجاء .
ويجمل بك ان تلاحظ في هذا السياق أن القصيدة المرفقة تمتاز عن القصائد المعروفة كالمعلّقات وغيرها من القصائد القديمة والوسيطة مثلا\” بما يمكن أن نسمّيه بوحدة موضوع القصيدة، مثلها في ذلك مثل قصائد \”فتاة الخدر\” للمنخلّ اليشكري اوالمالكيّة للمسيب او\” وطاوي ثلاث \” للحطيئة ، ففيها نتلمّس وحدة الموضوع والغرض \” المحور الشعري \” لا في الأبيات او البيت والثاني ، اذا ما تأملت القصيدة وأحداثها ، بما في ذلك أحداث الحكاية وتفاصيلها ، سترى أنها تحتوي الكثير من عناصر الشعر الملحمي رغم قصرها . وأول هذه العناصر ما نسميه \” توالي الأزمات \” والتي يشكل مقتل الأسد والحيّة ذروة هذه الأزمات وبداية الطريق الى الحل . وهذه
الأزمات تبدأ بالعشق ذاته وما يرافقه من توتّر ولواعج قلب وموقف الأب والعشيرة والأوضاع الاجتماعيّة المُعاشة . وثاني هذه العناصر هو التحدّي والعوائق . فالأب يطلب مهرا تعجيزيا ومكلفا لابنته ، وهو يدرك أنّ الطلب شبه مستحيل وهو لا يرومُ نيله ، فهو يعرف قانعا أنّ الهدف من ذلك هو التخلّص من البطل العاشق وذلك بدفعه الى التهلكة ، فالطريق الى خزاعة حافلة بالأهوال والمخاطر ومن يسلكها لا ينجو منها ، فإمّا يقع فريسة الأسد أو تقتله الحيّة التي تتربّص بكل انسان عابر . وبالتغلّب عليهما – على العوائق – يكون المخرج ويكون الفرج والحل للأزمة التي تبلغ بذلك ما قبل الذروة . وتشكل البطولة – مصرع الاسد وقتل الحية وبالتالي تغيّر موقف الأب جذريّا – حل الأزمة – العنصر الملحمي الأساسي . والقصيدة تحتوي كذلك على مدلولات اجتماعيّة متعدّدة وتشكل تمرّدا على حالة اجتماعية تتمثّل بالتدخّل الفظ للأب في مسألة اختيار الفتاة لشريك حياتها وذلك لاعتبارات اجتماعية مثل رفض العاشق لأنه كان يعيش حياة مُصَعْلَكَةً ويعيشُ وفقيرُا . والصعلكة هي في الواقع نوع من النبل والفروسية والكرم الخلقي والشجاعة واللهو والمتعة والانتصار للضعيف والمظلوم . وقد عرفت في الجزيرة العربيّة كنمط حياة. ومن أشهر الصعاليك :
عروة بن الورد والشنفرى ومالك بن الريب وتأبّط شرّا .
ويمكن الاعتقاد أنّ الحكاية التي تنبئنا القصيدة المذكورة ببعض تفاصيلها أقدم من ا لقرن السادس الميلادي الوهمي ، وقد احتفظت القصيدة
بعنصرين من الخوارق الطبيعيّة وغير الطبيعية – الأسد \” داذ \” والحيّة \” شجاع \” . وكانا إلى جانب الغول الخُرافي والنسر والذئب من الخوارق التي كانت تميّز الحِكاياتِ الخرافيّة والأساطير . ويبدو أنّ هذه الحكاية هذّبت في وقت متأخر واكتسبت أكثر تأكيدا وابرازا لعناصر الخوارق المادية – الأرضية – \” عناصر بيئيّة \” كالأسد والحيّة وتخلّصًا من عناصر الخوارق الخرافية والمختلقة ذهنا – كالغول والآلهة . والخوارق في هذا السياق هي الصعوبات التي يمكن أن تعترض الطموح والسعي الى هدف محدّد . والقصيدة تعلّمنا ، كيف يجدر بنا أن نذلّل هذه الصعاب ونتغلب عليها . وأنّ من عنده الارادة المدركة والمصمِّمَة يستطيع اجتراح المعجزات . وآمل ، عزيزي القارئ ، أن تكون قد قرأت القصيدة وتوقّفّت قليلا عندها واطّلعت على ما فيها من معان ومدلولات واستجليت ما فيها من ايحاءات سامية . فالقصيدة سهلة المعنى نسبيا وان تكن لا تخلو من قليل غريب الكلام ، مثل شاجئة وتعني النفس وتبهنس التي تعني تبختر ، اي أنّ الأسد تبختر في تقدّمه الى ملاقاة بشر حين رأى تقاعس الحصان وأدرك خوفه . وتقدّم القصيدة بشكل فنّي رائع واسلوب جميل ، بل بارع الوصف صورة مصرع الأسد الذي تحفز للقاء بشر والفتك به. ومن شراسته و هيبته المخيفة تراجع الحصان جفلا وجلا وآثر الارتداد، الا أنّ بشرًا المصمّم على المضيّ في طريقه يروم مهر العروس – الحبيبة – ترجّل وقفز عن ظهر الحصان وعقره بسيفه ممتطيًا ظهر الأرض ،ثابت القدم ، وسعى غير مبال بالأخطار فتقدّم لملاقاة الأسد \” ليثا أمّ ليثا \” أو \” هزبرا اغبرا لاقى هزبرا \” . وهنا لابدّ ، عزيزي القارئ، أن ألفت انتباهك الى جماليّة الاستعارة والتشبيه في القول التصويري انّ أسدا وحشيا يصارع انسانا آدميّا يتحلى بصفة شجاعة الأسد . وحين قرأت في القصيدة أنّ بشرا أدرك أنّ الأرض أثبت في هذه المواجهة من ظهر الحصان ، تذكّرت
بطل هوميروس الأسطوري ، آخيل ، الذي عجز الطرواديون عن قتله طالما ظلّت قدماه ملتصقتين بالأرض ، فالأرض هي الجذور الراسخة
وهي أم الحياة، هي البيئة وهي معشر الصبا، هي الوطن ، ولأنّها كذلك كانت دائما رمزا ومصدرا للقوّة . وكم هو جميل هذا الحوار الذي يستهدف الأسد الوحشي وكأنّي ببشر يستمدّ منه قوّة ، فكأنه يخاطب نفسه فيؤكدّ فيه أنّ سيفه قاطع ومشهود له وأنه يفوق مضاء أنياب الأسد ومخالبه وأنّ لحمه مرّ فلن يكون طعاما سائغا لأشبال الأسد ، فمرامه، وهذا هو الأهم ، مرام سام وعظيم ، فهو يحب فتاته ومن أجلها يذلّل الصعاب ولا بد أن يمضي في طريقه للحصول على المهر. والقصيدة كما تلاحظ قصيرة وموجزة ولكنها غنيّة بإيحاءاتها ومدلولاتها ، فهي تضطرّنا الى التفكير في روية وامعان كي نستجلي مدلولاتها ونتصوّر ما تعنيه . وهذا كما أعتقد من جمالية الشعر ومن شروطه ، كما أنّ ايقاعاتها جميلة . وما أودّ أن أنبه اليه هو أنّ مظاهر البطولة الموسومة بالشجاعة في أسمى تجلّياتها كانت مرتبطة منذ القدم بالأسد . كأن توصف شجاعة انسان بأنه شجاع كالأسد . وقد ورد ذكر الأسد في ديوان الأساطير السومرية ، الأكدية والأشورية وغيرهم في عراق ما بين النهرين مرتبطا بالشجاعة والفتك والشراسة . واعتبر قتل الحيات واصطيادها من مستلزمات الشجاعة ومظاهرها . ومن الحيوانات وصف الذئب بالتوقد النبه والجرأة والسرعة. وهذا ما نجده عند امر القيس في المعلّقة \” سيدُ الغضا \” وعند الفرزدق – أطلس عسّال – وغيرهما . ونجد رمز
الذئب في روايات جاك لندن ، القصصي الأمريكي، وفي الأعمال الأدبية للشاعر والروائي الألماني ، هيرمن هسّه .
وقد لفت انتباهي التصوير الجميل للصراع مع الأسد والتصوير البديع لمصرعه في قصيدة بشر بن ابي عوانة الى مصرع الأسد وتصوير
هذا المصرع شعرا في قصيدة أخرى للشاعر الاسلامي المعروف أحمد أبي الطيّب المتنبي والتي مطلعها \” وردٌ اذا ورد البحيرة شاربا \”. والورد من أسماء الأسد . وقد قالها المتنبي في مدح والي طبريا بدر بن عمّار. والقصيدة ، التي تجدها في ديوان المتنبي، تكشف عن قدرة قوية
في تصوير مصرع الأسد ،الذي لسبب ما وصدفة ، اعترض طريق الوالي وانقضّ على كفل حصانه ، الاّ ان بدرا ، كما تقول الرواية ، ضربه
بسوطه وقتله . ولا أكتمك سرا أنني حين قرأت قصيدة المتنبي ، وهو في عرف الكثيرين من كبار الشعراء ، لم اجد فيها جماليّةً كتلك ا لتي وجدتها في
قصيدة بشر بن أبي عوانة . وإن يكن كثير من النقاد العرب وغير العرب يرون فيها أجمل ما كتبه المتنبي في أثناء اقامته عند الوالي بدر بن عمار ، الا أنّ \” فلسفتي \” الجمالية، اذا صح مثل هذا الافتراض ، ترى في الجمال الفنّي أمرا يتجاوز الطباق والجناس والاستعارة والتشابيه البلاغية المختلفة وجزالة
اللفظ وغيرها من مقاييس الجمال التقليدية . فشعر المديح ، مديح الملوك والولاة وأي مديح شخصيّ ، لا يحرك مشاعري بتاتا ولا أرى فيه أي جمال فني حقيقي . واذا كانت القصيدة الجميلة ، في نظري ، تحرك مشاعري الخبيئة وتجعلني أرقص طربا وأهتزّ متأثرا ، فان شعر المديح والهجاء المذكور يثير فيّ نفورًا . قصيدة المتنبّي ، التي قال عنها العميد الراحل الدكتور طه حسين ،انها تنطق بروحه. هذا صحيح ولكن اية روح ، هذا هو السؤال . فأنا لا أرى فيها روح البطولة الهادفة والحقيقية ا لتي اجدها عند بشر بن أبي عوانة . فبداية لم اجد في قصيدة المتنبي محفّزًا ولا مبررا لفعل البطولة ، فالبطولة كمصدر للإلهام تستدعي تحدّيا يذكر وذا قيمة فنيّة ومعنويّة عامّة ، فلم يكن مثل هذا التّحدّي قائما او ماثلا ، وهو ما لم اجده عند المتنبي ، لم يكن ثمّة ما يحفّز على \” أن يجود المرء بجائشة \” أن يجود بالنفس في سبيله \” ، مثلما هو في حال العشق القاهر وتحدّي ا لتقاليد وعسف الأب وظلم العشيرة . لم يكن ثمّة شيء سام يدافع عنه الأمير ، وان كنتُ أعرف جلل الأمر اذا ما تعرّضت الحياة الى الخطر . هذا اذا صحّت الرواية التي شكّلت خلفيّة هذه القصيدة ومسبّب الهامها . وانّ ما ينقصُ
قصيدة المتنبّي هي هذه الايحاءات والدلالات الجمالية في هذا الحوار الذي نشهده في قصيدة بشر على شكل حركات تفزيعيّة \” من فزع \” قد يأتي
بها الأسد في مصاولته وتأهبه للفتك ببشر، من مثل :
يدل بمخلب وبحد نابٍ وباللحظات تحسبهنَّ جمرا
أو
\” فقلت له وقد أبدى نصالا محدّدة وَوجَهًا مُكفهرّا
أو على شكل حوار على لسان بشر في القصيدة ، من مثل :
وقلبي مثل قلبك ، ليس يخشى مصاولة فكيف يخاف ذعْرا
أو خرجتَ ترومُ للأشبالِ قوتًا ورُمْتُ لبنتِ عمّي اليومَ مَهْرًا
نصحتك فالتمِسْ يا ليْثُ غيري طعاما انّ لحمي كان مرّا
أو فقلت له : يعزّ عليّ أنّي قتلت مُماثِلي جَلَدًا و قهرا
وكأنّي ببشر يُحاوِلُ إيجاد بعض العزاء للأسَدِ حين يقول في نهاية القصيدة :فلا تجزعْ فقد لاقيتَ حُرًّا يُحاذِرُ أنْ يُعابَ فمُتّ حُرا وأظنّ أنّ المتنبي مهما بلغ به الخيال في قصيدته المذكورة من تحليق فيتصور أنّ الأسد الميت يتكلّم بعد موته فيطلع ابن \” عمّه \” على ما اصابه فيَفرُّ ذليلا متحاشيا المواجهة ، فانّ كل هذا التخيّل لا يخرج عن اطار المدح المذكور . واذا كان ثمّة من تحليق خيال ففي فضاء يعج بالتلون والرياء والاستفادة المصلحية الضيقة – التكسب بالشعر وهو ما أرفضه وأنفر منه . أمّا بشر فقد رأى في شجاعة الأسد شجاعة صادقة ومماثلة لشجاعته ، وأنّ كلا منهما يقاتِلُ ذبّا عن مبتغاه ومرامه . وكشف بشر في هذه القصيدة القصيرة نسبيا عن انسانية لا نجدها عند المتنبي . وتتجلى هذه الانسانية الخلقية في رؤية بشر لمماثلة الأسد وندّيته له وفي عدم الشماتة بالأسد عند مصرعه والتشفّي به وفي هذا الحوار \” فقلتُ له :
يعزّ عليّ أني \”
وكان نصحه ألاّ يعترض طريقه والقول ان ميتته مشرّفة . وقد يعتقد البعض انّي أذهب بعيدا ، اذ أعرب عن القناعة بضرورة أن نعيد النظر في مفاهيم النقد الجمالي الفني في كل ما يتعلق بموقفنا التقييمي للشعر الذي يعتمد مديح الملوك والولاة ولكل مسالة التكسّب بالشعر خاصَّةً وبالأدب عامَّة ويعتمد المباهاة بما ليس في المرء ( الانسان ) أو الجماعة وكم يحسن بنا لو أننا نعيد النظر في الكثير من موروثنا الشعري ،لا أن نتنكر له ، بل أن نضعه تحت مجهر نقدي ورؤية فنية مغايرة لما ألفناه حتى الآن. ففي ذلك نفع كبير لسلوكياتنا المعاشة وواقعنا الحياتيّ الرّاهن .
*المقال سأنشره قريبًا في كتاب عن مقالات مختارةٍ لي ، هي ، كما أراها ، وجهات نظر أدبية فكرية .
**ابراهيم مالك كاتب فلسطيني جزائري الأصول .