عتاهيه
Abu al-’Atahiya - Abu al-’Atahiya
أبو العتاهية
(130ـ 210هـ/748 ـ 826م)
أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سُوَيد بن كيسان العَنزي، أصله من نصارى عين التمر، وهم النبط الساميون أشقاء العرب الذين سكنوا الأنبار في العراق، والذين كانوا يتمتعون بحظ وافر من الذكاء، ورقة الشعور، ورهافة الحس. أما ولاؤه لعنزة فيعود إلى أن كيسان جد أبيه كان قد سُبي مع جماعة من الصبيان عندما فتح خالد ابن الوليد عين التمر، فاستوهبه عياد ابن رفاعة العنزي من أبي بكرt فاعتقه، وصار ولاؤه في عنزة.
ولد أبو العتاهية في عين التمر ونشأ فيها ونبغ، وهي قرية بالقرب من الكوفة ثم انتقل إلى الكوفة لتبدأ حياته اللاهية، ويقول الشعر. ولُقّب بأبي العتاهية لأنه كان قد تَعَتَّه (جُنَّ) بجارية للمهدي عندما قدم بغداد، وحبس بسببها. وكان العتاهي محبّاً للهو متخنثاً يعاشر أهل الخلاعة. وكان يعمل مع أهله في صناعة الفخار الخضر، ولذلك كان يشعر بضعة نسبه، وهوان منزلته الاجتماعية، ويحاول التخلص منها بقوله: «أنا جرّار القوافي، وأخي جرّار التجارة».
قدم بغداد في خلافة المهدي (158ـ169هـ) الذي عرف بتعقب الزنادقة، وفيها أحب عتبة جاريته، مؤملاً الوصول إلى الشهرة والثروة والتغرير بالناس في أمر مذهبه الفكري ومعتقده الديني، عن طريق حديثه عن هذا الغرام؛ إذ كان معتقده موضع شك وغمز من قبل القدماء، وكذلك بعض المحدثين، إلا أن عتبة رفضته رفضاً قاطعاً، وكان لهذا الرفض بعض الأثر في دفعه إلى الزهد والتزهيد والوعظ.
توفي في بغداد في خلافة المأمون. وكان مع شحّه كثير المال لما أفاض عليه الخلفاء والكبراء، ومن عجيب أمره أنه بقي مع زهده شديد البخل، دائم الحرص. أما زندقته أو مانويته فاختلف الناس في أمرهما قديماً وحديثاً، فهناك من اتهمه بالزندقة، مستنداً في ذلك إلى خلاعته ومجونه وحرصه، ونزوعه المانوي أحياناً الذي ظهر بذكره الموت دون البعث والنشور، وبذلك نشر أبو العتاهية بين العامة الزهد المانوي الذي يقوم ـ ظاهريّاًـ على المسكنة والمذلة والخمول والسلبية في الحياة، وهي الأمور التي يرفضها الإسلام. وهناك من رفض هذه التهمة وأكد أن مصادر زهده وعقيدته إسلامية لاشك فيها. والحقيقة أن الزهد في طيّبات الحياة، والاكتفاء بما يقيم الأوَد، ويستر البدن، والانزواء عن صخب الحياة، والعكوف على التعبد هي المحور الأساسي لشعره الزهدي الوعظي، إذ كان العتاهي داعية إلى الزهد أكثر منه زاهداً حقيقيّاً، لأن بغداد بلد اللهو واللذات، لم تكن بيئة صالحة للزهد والزاهدين، لأن مكانهم الثغور الإسلامية المتاخمة للأعداء، وأكواخ المعدمين.
اختص العتاهي بفنين شعريين اشتهر قوله فيهما، وهما: الغزل والزهد، وما عدا ذلك من فنون فلاتعدو أن تكون أشعار مناسبات بما في ذلك المدح الذي لم يتوقف عن القول فيه، والهجاء والعتاب والرثاء… وشعره صورة صادقة لتطور مراحل حياته الوجدانية والعقلية، وما يتبع ذلك من نمو عاطفة وكسب تجربة، وتعقد رغبات، وتشابك علاقات. فقد أحب في مستهل حياته جارية نائحة على قبور الموتى، هي سُعدى، نظم لها الشعر لتنوح به، وفيه يذكر الموت والتزهيد في الدنيا، وهذا النهج الشعري إرهاص وأساس لشعر الوعظ الذي قاله فيما بعد. وفي بغداد أحب عتبة وتغزّل بها، فتميزت أشعاره فيها بالعفة والعاطفة المشبوبة، وصدق المعاناة. أما من الناحية الفنية فقد اتسمت بالليونة والضعف أحياناً، يقول ابن المعتز: «وغزله ليّن جداً، مشاكل لكلام النساء، موافق لطباعهن». فلا غريب في ألفاظه، ولا تعقيد في عباراته، بل هناك جنوح نحو البساطة الشديدة والسطحية والشعبية، والولع بالمقابلة بين حالتين متضادتين. والموسيقى التي تبوح بإيقاعه النفسي. وكان يتبجح بأنه يستطيع أن يجعل كل كلامه شعراً، سئل مرة: أتعرف العروض؟ أجاب أنا أكبر من العروض!. وله أوزان لاتدخل في العروض مع حسن نظمها.
ومن أمثلة غزله قوله:
بالله يا قُرَّةَ العينين زُوريني
قبل الممات وإلا فاستزيريني
إنّي لأعجبُ من حبٍّ يقرّبني
ممن يباعدني منه ويُقصيني
أما الكثير فما أرجوه منك ولو
أطْمَعْتِني في قليل كان يكفيني
أما القسم الأكبر من شعره فهو الوعظ والتزهيد، وكان شاعره الأهم في العصر العباسي.
وقد لقي شعره هذا الإقبال والاهتمام من العامة والخاصة على حد سواء، وهو في مواعظه يعتمد على حاجة النفس الإنسانية إلى مخاطبتها بأمرين، هما: حقائق الحياة الثانية التي لاتقبل الشك، ثم مقررات الدين والأخلاق. وأهم ما يشغل أبا العتاهية في هذه الأمور هو الموت. فقد صوره أبشع صورة، ورسمه دائماً مصدر رعب وفزع، فكان يتحدث عن ظلمة القبر ووحشته وحَثْو التراب، ومما قاله فيه:
لا تأمن الموتَ في طَرْفٍ ولانَفَسٍ
إذا تستّرّت بالأبواب والحرس
واعلم بأنّ سهام الموت قاصدةٌ
لكلِّ مُدّرع منا ومُتَّرس
ترجو النجاة ولم تسلك طريقتها
إنّ السفينة لا تجري على اليَبَسِ
كان العتاهي حامل رسالة في الحياة ذات هدفين: اجتماعي وأخلاقي جوهره الوعظ والتذكير بالموت والتهذيب، والثاني فني هو التعبير عن هذه المعاني بأسلوب شعري سمح بعيد عن الغريب، يفهمه العامة فيتغنون به؛ فشعره تجربة ناجحة في الشعر المبسط الذي يقرّب المسافة بين الشعر والنثر، وهذا دليل على عبقريته.
نشر ديوانه لويس شيخو في بيروت سنة 1914م. ثم قام بتحقيقه شكري فيصل ونشره بدمشق عام 1965.
احمــد دهمـــان
ـ الأصفهاني، الأغاني (دار الكتب العلمية، بيروت 1992).
ـ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (مصر 1349هـ).
ـ محمد الدش، أبو العتاهية حياته وشعره (القاهرة 1968).
ـ ابن المعتز، طبقات الشعراء (مصر 1955).
Abu al-’Atahiya - Abu al-’Atahiya
أبو العتاهية
(130ـ 210هـ/748 ـ 826م)
أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سُوَيد بن كيسان العَنزي، أصله من نصارى عين التمر، وهم النبط الساميون أشقاء العرب الذين سكنوا الأنبار في العراق، والذين كانوا يتمتعون بحظ وافر من الذكاء، ورقة الشعور، ورهافة الحس. أما ولاؤه لعنزة فيعود إلى أن كيسان جد أبيه كان قد سُبي مع جماعة من الصبيان عندما فتح خالد ابن الوليد عين التمر، فاستوهبه عياد ابن رفاعة العنزي من أبي بكرt فاعتقه، وصار ولاؤه في عنزة.
ولد أبو العتاهية في عين التمر ونشأ فيها ونبغ، وهي قرية بالقرب من الكوفة ثم انتقل إلى الكوفة لتبدأ حياته اللاهية، ويقول الشعر. ولُقّب بأبي العتاهية لأنه كان قد تَعَتَّه (جُنَّ) بجارية للمهدي عندما قدم بغداد، وحبس بسببها. وكان العتاهي محبّاً للهو متخنثاً يعاشر أهل الخلاعة. وكان يعمل مع أهله في صناعة الفخار الخضر، ولذلك كان يشعر بضعة نسبه، وهوان منزلته الاجتماعية، ويحاول التخلص منها بقوله: «أنا جرّار القوافي، وأخي جرّار التجارة».
قدم بغداد في خلافة المهدي (158ـ169هـ) الذي عرف بتعقب الزنادقة، وفيها أحب عتبة جاريته، مؤملاً الوصول إلى الشهرة والثروة والتغرير بالناس في أمر مذهبه الفكري ومعتقده الديني، عن طريق حديثه عن هذا الغرام؛ إذ كان معتقده موضع شك وغمز من قبل القدماء، وكذلك بعض المحدثين، إلا أن عتبة رفضته رفضاً قاطعاً، وكان لهذا الرفض بعض الأثر في دفعه إلى الزهد والتزهيد والوعظ.
توفي في بغداد في خلافة المأمون. وكان مع شحّه كثير المال لما أفاض عليه الخلفاء والكبراء، ومن عجيب أمره أنه بقي مع زهده شديد البخل، دائم الحرص. أما زندقته أو مانويته فاختلف الناس في أمرهما قديماً وحديثاً، فهناك من اتهمه بالزندقة، مستنداً في ذلك إلى خلاعته ومجونه وحرصه، ونزوعه المانوي أحياناً الذي ظهر بذكره الموت دون البعث والنشور، وبذلك نشر أبو العتاهية بين العامة الزهد المانوي الذي يقوم ـ ظاهريّاًـ على المسكنة والمذلة والخمول والسلبية في الحياة، وهي الأمور التي يرفضها الإسلام. وهناك من رفض هذه التهمة وأكد أن مصادر زهده وعقيدته إسلامية لاشك فيها. والحقيقة أن الزهد في طيّبات الحياة، والاكتفاء بما يقيم الأوَد، ويستر البدن، والانزواء عن صخب الحياة، والعكوف على التعبد هي المحور الأساسي لشعره الزهدي الوعظي، إذ كان العتاهي داعية إلى الزهد أكثر منه زاهداً حقيقيّاً، لأن بغداد بلد اللهو واللذات، لم تكن بيئة صالحة للزهد والزاهدين، لأن مكانهم الثغور الإسلامية المتاخمة للأعداء، وأكواخ المعدمين.
اختص العتاهي بفنين شعريين اشتهر قوله فيهما، وهما: الغزل والزهد، وما عدا ذلك من فنون فلاتعدو أن تكون أشعار مناسبات بما في ذلك المدح الذي لم يتوقف عن القول فيه، والهجاء والعتاب والرثاء… وشعره صورة صادقة لتطور مراحل حياته الوجدانية والعقلية، وما يتبع ذلك من نمو عاطفة وكسب تجربة، وتعقد رغبات، وتشابك علاقات. فقد أحب في مستهل حياته جارية نائحة على قبور الموتى، هي سُعدى، نظم لها الشعر لتنوح به، وفيه يذكر الموت والتزهيد في الدنيا، وهذا النهج الشعري إرهاص وأساس لشعر الوعظ الذي قاله فيما بعد. وفي بغداد أحب عتبة وتغزّل بها، فتميزت أشعاره فيها بالعفة والعاطفة المشبوبة، وصدق المعاناة. أما من الناحية الفنية فقد اتسمت بالليونة والضعف أحياناً، يقول ابن المعتز: «وغزله ليّن جداً، مشاكل لكلام النساء، موافق لطباعهن». فلا غريب في ألفاظه، ولا تعقيد في عباراته، بل هناك جنوح نحو البساطة الشديدة والسطحية والشعبية، والولع بالمقابلة بين حالتين متضادتين. والموسيقى التي تبوح بإيقاعه النفسي. وكان يتبجح بأنه يستطيع أن يجعل كل كلامه شعراً، سئل مرة: أتعرف العروض؟ أجاب أنا أكبر من العروض!. وله أوزان لاتدخل في العروض مع حسن نظمها.
ومن أمثلة غزله قوله:
بالله يا قُرَّةَ العينين زُوريني
قبل الممات وإلا فاستزيريني
إنّي لأعجبُ من حبٍّ يقرّبني
ممن يباعدني منه ويُقصيني
أما الكثير فما أرجوه منك ولو
أطْمَعْتِني في قليل كان يكفيني
أما القسم الأكبر من شعره فهو الوعظ والتزهيد، وكان شاعره الأهم في العصر العباسي.
وقد لقي شعره هذا الإقبال والاهتمام من العامة والخاصة على حد سواء، وهو في مواعظه يعتمد على حاجة النفس الإنسانية إلى مخاطبتها بأمرين، هما: حقائق الحياة الثانية التي لاتقبل الشك، ثم مقررات الدين والأخلاق. وأهم ما يشغل أبا العتاهية في هذه الأمور هو الموت. فقد صوره أبشع صورة، ورسمه دائماً مصدر رعب وفزع، فكان يتحدث عن ظلمة القبر ووحشته وحَثْو التراب، ومما قاله فيه:
لا تأمن الموتَ في طَرْفٍ ولانَفَسٍ
إذا تستّرّت بالأبواب والحرس
واعلم بأنّ سهام الموت قاصدةٌ
لكلِّ مُدّرع منا ومُتَّرس
ترجو النجاة ولم تسلك طريقتها
إنّ السفينة لا تجري على اليَبَسِ
كان العتاهي حامل رسالة في الحياة ذات هدفين: اجتماعي وأخلاقي جوهره الوعظ والتذكير بالموت والتهذيب، والثاني فني هو التعبير عن هذه المعاني بأسلوب شعري سمح بعيد عن الغريب، يفهمه العامة فيتغنون به؛ فشعره تجربة ناجحة في الشعر المبسط الذي يقرّب المسافة بين الشعر والنثر، وهذا دليل على عبقريته.
نشر ديوانه لويس شيخو في بيروت سنة 1914م. ثم قام بتحقيقه شكري فيصل ونشره بدمشق عام 1965.
احمــد دهمـــان
مراجع للاستزادة: |
ـ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (مصر 1349هـ).
ـ محمد الدش، أبو العتاهية حياته وشعره (القاهرة 1968).
ـ ابن المعتز، طبقات الشعراء (مصر 1955).