التصميم الكرافيكي سيف ذو حدين يتحكم في المجتمعات
المجتبى حسين عبود: المصمم الكرافيكي أشد الناس توغلا في معترك الحياة.
الأحد 2025/02/16
ShareWhatsAppTwitterFacebook

التصميم الكرافيكي يخضع لاشتراطات المحيط السوسيوثقافية
لا يرتبط فن التصميم الكرافيكي بمجرد الإعلان والاستهلاك إنه أبعد من ذلك بكثير، إذ يمثل منطقة تتلاقى فيها الثقافات والأزمنة والرهانات، إنه خطاب ثقافي شامل ومتفاعل بالأساس، ولذا فإن الغوص في تفاصيل هذا الفن ليس بالأمر اليسير نظرا إلى كثرة التقاطعات الفنية والفكرية والثقافية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، وهذا ما خاض فيه المصمم والباحث العراقي المجتبى حسين عبود.
تتشكل أهمية التصميم الكرافيكي انطلاقا من كونه أحد أهم الفنون البصرية والسجل الشاهد الذي يوثق أهم نشاطات ومنجزات المجتمعات التاريخية والحضارية، ويصور المشاهد الحياتية المختلفة والحقب الزمنية والأحداث التي تدور بين أفراد تلك المجتمعات برؤية واعية تحمل رسائل فكرية معينة.
كما أن المصمم الكرافيكي هو العين التي ترصد جملة الظواهر التي تحدث في عالمنا وتبحث في مسبباتها ونتائجها، وكذلك استجابات المجتمعات لها سواء أكان سلبا أم إيجابا، وما تخلقه أيضا تلك الظواهر من تحولات فكرية، وتغيرات في الأواصر الاجتماعية بين الأفراد، لذا فالتصميم الكرافيكي يستمد هويته وقوته الاتصالية والحضورية في المجتمع من معطياته الثقافية الاجتماعية التي تعد طاقة رمزية تثري الحيز الفكري لدى المصمم المنتمي إلى المجتمع، وتمنحه قوة في التعبير.
انطلاقا من هذه الرؤية لمفهوم التصميم الكرافيكي يأتي كتاب “المعطيات السوسيوثقافية.. في التصميم الكرافيكي المعاصر” للمصمم الكرافيكي والباحث العراقي المجتبى حسين عبود، الصادر عن دار خطوط وظلال.
الخطاب الكرافيكي
عناصر التصميم الكرافيكي المرئية فعالة باتجاهين متناقضين فهي محفزة ومطمئنة من جهة، ومسيئة ومستفزة من جهة أخرى
يأتي الكتاب في أربعة فصول، ضم الأول منها، مفهوم الفكر الاجتماعي في الفن وفي التصميم الكرافيكي، والثاني استعرض عدة محاور حول مفهوم الثقافة والتثاقف، وبين العلاقة الجدلية بين الثقافة، والهوية، والاتصال والمعاصرة، والثالث تطرق إلى مرجعيات المكان، أما الفصل الرابع والأخير فقد تضمن تطبيقات تحليلية، قام المؤلف بتحليل نماذج عدة منتقاة من معارض عالمية تتمحور حول بيان أهمية المعطيات السوسيوثقافية في التصميم الكرافيكي المعاصر.
يرى عبود أن التصميم الكرافيكي لم يعد مجرد عرض وترويج لأفكار ذات أهداف تجارية، أو أنه مجرد وسيلة لزيادة حجم الاستهلاك في المدى المنظور، بل أصبح يندرج ضمن خطط وإستراتيجيات تنصب بصورة أساسية على إيجاد قوالب ترسخ أنموذجا معيشيا شاملا، ونظاما أخلاقيا متكاملا، وسلما مدروسا من القيم يحقق في نهاية المطاف أهدافًا ومصالح بعيدة المدى، فالتصميم الكرافيكي يعمل على صنع مستهلك مهيأ اجتماعيا، ونفسيا، وسلوكيا لتنفيذ إستراتيجيته على صعيد المجتمع الكلي.
التصميم الكرافيكي، في رأي عبود، يرضي النزعة الاستهلاكية لدى المجتمع وفقا لذائقته وأفكاره، فهو أداة لطمأنة الحاجة الاجتماعية، لذا فإن أي خلل في مقومات الخطاب الكرافيكي والرسائل أو الوعود التي يقدمها للمجتمع، قد يضر بالنشاط الاستهلاكي لدى الأفراد ويمنحهم انطباعا سيئا حول المنظومة التجارية داخل المجتمع، مما يؤدي إلى انعدام الثقة داخل الوسط الاجتماعي. فالمصمم له دور هام في تثقيف المجتمع تجاريا وتنوير وعيه الاستهلاكي، فهو يقدم صورا متطابقة مع انتظارات المجتمع التي تخضع لاشتراطات المحيط السوسيوثقافية، حيث يقوم بربط المنتج التجاري بقيم ومعايير اجتماعية وبنمط المحيط الفكري، كما يعد فعل الشراء نمطا في التكيف، فإن تشتري شيئا معناه أن تتحدد وتندمج في تشكيل اجتماعي، ويصبح الاستهلاك على إثر ذلك قيمة ثقافية وطريقة في الاندماج الاجتماعي.
المصمم الكرافيكي يقف أمام إشكالية كبيرة وهي صعوبة تحقيق المعادلة بين الهوية الثقافية، ومنتجات التكنولوجيا المعاصرة
ومن جانب آخر فإن عملية الاستهلاك ومجرياتها من الممكن أن تتسبب بأضرار جانبية، فهي تخلف لنا كما من النفايات يربك المناخ البيئي والصحي، لذا فإن النشاط الاستهلاكي هو بحاجة إلى تقنين وتنظيم من المصمم الكرافيكي، الذي يعمل بدوره على إصلاح ذلك الجانب من خلال خطاباته الإرشادية التي تثقف على الحد من الإسراف والتبذير، وتعمل على إنماء الوعي الاقتصادي، ومن ثم فهي تؤدي إلى بناء مجتمع أكثر استدامة وصداقة للبيئة.
ويلفت إلى أن التصميم الكرافيكي يعد سيفًا ذا حدين، إذ إن عناصره المرئية فعالة باتجاهين متناقضين، فهي محفزة ومطمئنة من جهة، ومسيئة ومستفزة من جهة أخرى تبعًا لصلتها ومكانتها داخل الفكر الاجتماعي، وفي وقتنا الحاضر قد نشاهد العديد من الاستخدامات الخاطئة لبعض الألوان والرموز التي تنعدم صلتها بهوية المجتمع البصرية والفكرية، إذ يتم تداولها بطريقة اعتباطية من دون معرفة دلالاتها ومرجعياتها، مما يؤدي إلى المساس بأصالة المجتمع وتشويه مظهره الفكري أمام المجتمعات الأخرى، ومن هنا تنبثق ضرورة محو الأمية البصرية وتثقيف المجتمع على هويته البصرية ومرجعياتها الفكرية.
لذا يتوجب تأصيل الخطاب الكرافيكي الذي يعمل بدوره على خلق اتصال تراثي داخل المجتمع يسمح بتناقل القيم الفكرية بين الأجيال ويمنحها قدرا وافيا من المعرفة بشأن عادات وتقاليد أسلافها التي تتناقل أرواحها بأجساد الأشكال كي تتمكن من الحفاظ على سماتها الأصيلة من مخاطر التأثيرات الخارجية، وهذا يصب في تعزيز وتقويم الهوية المجتمعية ودعم خصوصيتها إزاء المجتمعات الأخرى، وكذلك تنمية الشعور الانتمائي لدى الأفراد وتأصيل سلوكهم الاجتماعي.
صناعة الوعي
المجتبى حسين عبود: المصمم له دور هام في تثقيف المجتمع تجاريا وتنوير وعيه
يقول عبود إن “الطبقة الاجتماعية الجاهلة أو الأمية تعد هدفا يسهل اختراقه فكريا من المصمم الكرافيكي فتتعرض بذلك عادات وتقاليد المجتمع للخطر وتدخله في حالة صراع محتدم بين قيمه الأصيلة والقيم الدخيلة التي تطرق أبوابه باستمرار، لاسيما ونحن نعيش عصر التواصل الافتراضي ووسائله المتعددة التي تعد أرضا خصبة لنشر الأفكار أو الترويج لها بحرية تامة من دون قيود زمكانية، وضوابط أخلاقية.”
ويضيف أن “الغالب الأعم في المجتمع منغمر في بحر العالم الافتراضي، يتصفح المواقع الإلكترونية لساعات طويلة في ظل غياب كبير للضابطة والوعي، مما يعرضه ذلك إلى مواجهة إعلانات (خطابات كرافيكية) مزيفة بفعل إمكانية المصمم وقدرته على التلاعب بالصور وتحريفها أو تغيير ملامحها من خلال ما أتاحته التقنية الحديثة من برامج وأدوات رقمية ذات التأثيرات السحرية التي جعلت المستحيل في الواقع ممكنا تحقيقه في العالم الرقمي، مما يوفر للمصمم الكرافيكي سهولة التلاعب بالحقائق أو الطعن بقيم اجتماعية معينة، أو الترويج لأفكار فاسدة، أو سلوك منحرف مرارا وتكرارا وبأساليب خادعة أو إيهامية مؤثرة إلى أن ينتهي الأمر بتلك الأفكار إلى الانغراس في الزوايا العميقة للاوعي الفرد، فيجد نفسه مؤمنًا بها، ومن ثم تنعكس على سلوكه، وتصبح ممارسة فعلية، مما يؤدي ذلك إلى بزوغ قيم غريبة وظواهر منحرفة داخل المجتمع لا تمت لعاداته وتقاليده بصلة فتشوه نسيجه الفكري.”
ويبين أن “المصمم الكرافيكي هو أشد الناس توغلاً في معترك الحياة اليومية وتناقضاتها العارمة بغية الوصول إلى معرفة الظروف والسلبيات التي يشكو منها الفرد أو الجماعة، ثم بيان الموقف الصحيح الواجب اتباعه إزاء المشكلة الاجتماعية، فهو العين الفاحصة التي تبحث باستمرار عما يكتنف المجتمع من ظواهر وأحداث، كي يتمكن في ضوء ذلك من رفد المجتمع بقدر واف من المعلومات التي تنير وتثقف فكره نحو الاتجاه السليم الذي يضمن سلامة الأفراد، ويعزز تواشجهم.”
ويوضح عبود أن في الآونة الأخيرة شهد العالم برمته هجمة وبائية، عاتية وشرسة، تمثلت بفايروس فتاك لا مرئي عرف باسم “كورونا” الذي أدى انتشاره الخبيث إلى شلل وصمت مطبق في مجمل أنظمة الحياة العامة وخسائر اقتصادية واجتماعية وصحية عالمية وخيمة، مما تسبب ذلك في انتشار الفزع والرعب بين الناس، كما أن خطورة الفايروس قد فرضت نمطا وقائيا صارما أدى إلى بعثرة المجتمعات، وعزل الأفراد داخل بيوتهم لأوقات طويلة وإلزامهم بارتداء الكمامات، واصطحاب المعقمات الطبية تلافيا لخطر العدوى السريعة، وهنا كان للمصمم الكرافيكي دور هام في نشر الوعي الصحي والتثقيف نحو إخضاع السلوك الاجتماعي لاشتراطات السلامة والوقاية، وتقديم الدعم المعنوي عن طريق سلسلة من الخطابات التي تحمل لغة ممتعة ومحفزة.
ويذكر أن المصمم الكرافيكي قام بتجسيد الحياة الاجتماعية العاجزة وملامحها البائسة في ظل الانتشار الوبائي المقيت بخطابات ثقافية تحمل مفردات اجتماعية وحضارية ودينية مؤثرة، وقد اتسم الخطاب الكرافيكي في هذا الحدث بالانفتاح والعالمية كونه يحاكي ظاهرة عالمية مشتركة تتشابه انعكاساتها في مختلف أصقاع الأرض.
ويؤكد أن مسؤولية استمرارية وحماية الهوية الثقافية لدى مجتمع ما تتوقف على أفراده، والمصمم الكرافيكي على وجه الخصوص بوصفه مثقفا عضويا ذا تفكير استثنائي، ووعي مستنير بواقع مجتمعه، والناقل المباشر لهويته الثقافية بشكلها الواضح، إذ يكمن ديدنه في السعي جاهدًا لإنشاء لغة بصرية متكاملة تحوي نظما لونية ورمزية تتسق والمرجع الثقافي لمجتمعه، وتعبر عن شخصيته الفكرية، وترتبط بعاداته وتقاليده وأعرافه واعتقاداته، ومن ثم تصبح تلك اللغة هوية بصرية تحمل فلسفة خاصة انبثقت عن تراث ثقافي يشكل فارقا اعتقاديا بين مجتمع وآخر.
ويعد اللون أحد مكونات تلك اللغة البصرية فهو قضية في منتهى الأهمية لارتباطاته الرمزية ومدلولاته في حياة الشعوب. فهو جزء لا يتجزأ من ذاكرة المجتمع، كما أنه متعالق عبر التاريخ بجوانب المجتمع الثقافية والسياسية والعقائدية والتاريخية وغيرها من الجوانب المهمة التي تزخر بها الشعوب، فضلا عن أنه يعد مترجما مباشرا لحالات الإنسان النفسية وانفعالاته العاطفية في حياته المدنية، وأنه قد اكتسب معاني ودلالات من البيئة المحيطة بالإنسان، ومن ثم ترسخت في ذاكرة المجتمع وأصبحت جزءا من عاداته وتقاليده، ونظرا إلى أن الجماعات الإنسانية تختلف في خبراتها وتجاربها فقد جعلت من الدلالات اللونية اختلافا وتباينا واضحا، فكل جماعة إنسانية تخالف جماعة إنسانية أخرى في دلالات ورموز الألوان، وهذا ما نجده عبر تاريخ الحضارات.
الواقع السوسيوثقافي
العين الفاحصة التي تبحث باستمرار عما يكتنف المجتمع
يرى عبود أن المصمم الكرافيكي يكون أمام إشكالية كبيرة وهي صعوبة تحقيق المعادلة بين الهوية الثقافية، ومنتجات التكنولوجيا المعاصرة التي يؤدي استغلالها المفرط إلى محو شخصية المصمم الفنية والثقافية، فيفقد المصمم مبادئه الإبداعية ليحل محلها التقليد والنقل المطابق، فتغدو المنجزات التصميمية متشابهة، وهنا لا بد أن تكون المعاصرة على نحو رشيد، أي بمعنى استثمار معطيات العصر الحديثة بشكل مدروس وعقلاني، وكذلك تنمية الوعي بالثقافة الأصيلة وإعطاؤها أولوية لتصبح سمة بارزة في المنجز الكرافيكي.
المعاصرة ترتبط، وفق المصمم العراقي، بموقف المصمم إزاء الفكر الذي يعاصره من ناحية التبني أو القطيعة، أو الإسهام في الإضافة إليه بناء على ثقافته وتراثه الفكري، لذا هي ليست تبنيا وتطبيقا، وإنما اطلاع واستيعاب لتحديد الموقف المدعم بمعايير الثقافة الأصيلة، فالمعاصرة مفهوم نسبي يختلف باختلاف الثقافة، والعقائد، والقيم التي تقود المجتمع.

ويشير إلى أن أي حدث تطوري يشهده العصر يمثل هزة لثقافة المصمم التي تشحذ رؤيته وربما تغير منظوره بشأن السياقات المرئية، فتنعكس تلك الرؤية لتسبب بدورها هزة بنيوية في المنجز الكرافيكي، فتتسبب إما بتغير بسيط أو إزاحات كبيرة تؤدي إلى تقليع القواعد التصميمية المتفق عليها لتحل محلها أنماط لا مألوفة، أي بمعنى كسر مفهومية الأشياء التي اعتدنا على رؤيتها فتتولد لغة كرافيكية جديدة تستمر لمدة لا يعرف أجلها تبعًا للفائدة والوظيفة التي تؤديها، ومدى استمرارها بحل الإشكاليات التصميمية.
ومن جانب آخر قد تسير أحيانًا الأفكار المعاصرة عكس الزمان نحو الماضي، فيغدو الأخير حاضرا، وهو ما يعرف بـ”الحنين إلى الماضي” وهي حالة يصل إليها المصمم الكرافيكي حينما يكتشف ابتذال وعدم فاعلية الأساليب العصرية، أو يرى فيها انحطاطا أو مفسدة لقيم ثقافة التصميم والمجتمع المتلقي، فيتولد لديه حينها شعور بالاغتراب حيال تلك اللا مألوفية، مما يدفعه نحو عدم الاعتراف والقطيعة، والاتجاه لإحياء أساليب الماضي وإدخالها كجزء فاعل في الحاضر بعد أن تتم إعادة صياغتها وهيكلتها لتتلاءم مع تقانة الحاضر.
ويخلص عبود إلى عدد من التوصيات أولاها ضرورة دراسة المصمم الكرافيكي للماضي وما يحمله من تراث فكري وثقافي، لمعرفة منتجات الأسلاف على مستوى المادة، والفكر، واستثماره ليكون جزءًا من الحاضر، بعد أن يتم تعديله وتطويره، للحفاظ على أصالة المجتمع الفكرية والثقافية ومنحها قوة حضورية في كل زمان.
ثانيا العمل على دعم الثقافة البصرية المحلية والحفاظ على مكانتها كجزء من الثقافة الأصيلة، وتثقيف المجتمع على فلسفة الرموز والأشكال والألوان، وتصحيح المسارات الفكرية المغلوطة حول ذلك، ليكون المجتمع ملمًا بتراثه الفني، وما شهده من تغيرات وتحولات عبر الزمان، وعارفًا بالمرتكز الفكري والديني والأسطوري الذي انبعثت منه ثقافته البصرية إلى الوجود المادي. ثالثا العمل على دراسة الأنساق البصرية التي توقفت عن إثارة المجتمع، وابتكار مثيرات بصرية أخرى قابلة لإحداث تأثيرات سيكولوجية جديدة في ضوء التحولات السوسيوثقافية، ولاسيما بعد انتشار جائحة كورونا. رابعا العمل على تدعيم لغة الخطاب بمشاهد مقتبسة من الواقع السوسيوثقافي لمنحه قدرة تعبيرية هائلة، وطاقة تحفيزية باعثة على الإثارة والتفاعل.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد الحمامصي
كاتب مصري
المجتبى حسين عبود: المصمم الكرافيكي أشد الناس توغلا في معترك الحياة.
الأحد 2025/02/16
ShareWhatsAppTwitterFacebook

التصميم الكرافيكي يخضع لاشتراطات المحيط السوسيوثقافية
لا يرتبط فن التصميم الكرافيكي بمجرد الإعلان والاستهلاك إنه أبعد من ذلك بكثير، إذ يمثل منطقة تتلاقى فيها الثقافات والأزمنة والرهانات، إنه خطاب ثقافي شامل ومتفاعل بالأساس، ولذا فإن الغوص في تفاصيل هذا الفن ليس بالأمر اليسير نظرا إلى كثرة التقاطعات الفنية والفكرية والثقافية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، وهذا ما خاض فيه المصمم والباحث العراقي المجتبى حسين عبود.
تتشكل أهمية التصميم الكرافيكي انطلاقا من كونه أحد أهم الفنون البصرية والسجل الشاهد الذي يوثق أهم نشاطات ومنجزات المجتمعات التاريخية والحضارية، ويصور المشاهد الحياتية المختلفة والحقب الزمنية والأحداث التي تدور بين أفراد تلك المجتمعات برؤية واعية تحمل رسائل فكرية معينة.
كما أن المصمم الكرافيكي هو العين التي ترصد جملة الظواهر التي تحدث في عالمنا وتبحث في مسبباتها ونتائجها، وكذلك استجابات المجتمعات لها سواء أكان سلبا أم إيجابا، وما تخلقه أيضا تلك الظواهر من تحولات فكرية، وتغيرات في الأواصر الاجتماعية بين الأفراد، لذا فالتصميم الكرافيكي يستمد هويته وقوته الاتصالية والحضورية في المجتمع من معطياته الثقافية الاجتماعية التي تعد طاقة رمزية تثري الحيز الفكري لدى المصمم المنتمي إلى المجتمع، وتمنحه قوة في التعبير.
انطلاقا من هذه الرؤية لمفهوم التصميم الكرافيكي يأتي كتاب “المعطيات السوسيوثقافية.. في التصميم الكرافيكي المعاصر” للمصمم الكرافيكي والباحث العراقي المجتبى حسين عبود، الصادر عن دار خطوط وظلال.
الخطاب الكرافيكي
عناصر التصميم الكرافيكي المرئية فعالة باتجاهين متناقضين فهي محفزة ومطمئنة من جهة، ومسيئة ومستفزة من جهة أخرى
يأتي الكتاب في أربعة فصول، ضم الأول منها، مفهوم الفكر الاجتماعي في الفن وفي التصميم الكرافيكي، والثاني استعرض عدة محاور حول مفهوم الثقافة والتثاقف، وبين العلاقة الجدلية بين الثقافة، والهوية، والاتصال والمعاصرة، والثالث تطرق إلى مرجعيات المكان، أما الفصل الرابع والأخير فقد تضمن تطبيقات تحليلية، قام المؤلف بتحليل نماذج عدة منتقاة من معارض عالمية تتمحور حول بيان أهمية المعطيات السوسيوثقافية في التصميم الكرافيكي المعاصر.
يرى عبود أن التصميم الكرافيكي لم يعد مجرد عرض وترويج لأفكار ذات أهداف تجارية، أو أنه مجرد وسيلة لزيادة حجم الاستهلاك في المدى المنظور، بل أصبح يندرج ضمن خطط وإستراتيجيات تنصب بصورة أساسية على إيجاد قوالب ترسخ أنموذجا معيشيا شاملا، ونظاما أخلاقيا متكاملا، وسلما مدروسا من القيم يحقق في نهاية المطاف أهدافًا ومصالح بعيدة المدى، فالتصميم الكرافيكي يعمل على صنع مستهلك مهيأ اجتماعيا، ونفسيا، وسلوكيا لتنفيذ إستراتيجيته على صعيد المجتمع الكلي.
التصميم الكرافيكي، في رأي عبود، يرضي النزعة الاستهلاكية لدى المجتمع وفقا لذائقته وأفكاره، فهو أداة لطمأنة الحاجة الاجتماعية، لذا فإن أي خلل في مقومات الخطاب الكرافيكي والرسائل أو الوعود التي يقدمها للمجتمع، قد يضر بالنشاط الاستهلاكي لدى الأفراد ويمنحهم انطباعا سيئا حول المنظومة التجارية داخل المجتمع، مما يؤدي إلى انعدام الثقة داخل الوسط الاجتماعي. فالمصمم له دور هام في تثقيف المجتمع تجاريا وتنوير وعيه الاستهلاكي، فهو يقدم صورا متطابقة مع انتظارات المجتمع التي تخضع لاشتراطات المحيط السوسيوثقافية، حيث يقوم بربط المنتج التجاري بقيم ومعايير اجتماعية وبنمط المحيط الفكري، كما يعد فعل الشراء نمطا في التكيف، فإن تشتري شيئا معناه أن تتحدد وتندمج في تشكيل اجتماعي، ويصبح الاستهلاك على إثر ذلك قيمة ثقافية وطريقة في الاندماج الاجتماعي.
المصمم الكرافيكي يقف أمام إشكالية كبيرة وهي صعوبة تحقيق المعادلة بين الهوية الثقافية، ومنتجات التكنولوجيا المعاصرة
ومن جانب آخر فإن عملية الاستهلاك ومجرياتها من الممكن أن تتسبب بأضرار جانبية، فهي تخلف لنا كما من النفايات يربك المناخ البيئي والصحي، لذا فإن النشاط الاستهلاكي هو بحاجة إلى تقنين وتنظيم من المصمم الكرافيكي، الذي يعمل بدوره على إصلاح ذلك الجانب من خلال خطاباته الإرشادية التي تثقف على الحد من الإسراف والتبذير، وتعمل على إنماء الوعي الاقتصادي، ومن ثم فهي تؤدي إلى بناء مجتمع أكثر استدامة وصداقة للبيئة.
ويلفت إلى أن التصميم الكرافيكي يعد سيفًا ذا حدين، إذ إن عناصره المرئية فعالة باتجاهين متناقضين، فهي محفزة ومطمئنة من جهة، ومسيئة ومستفزة من جهة أخرى تبعًا لصلتها ومكانتها داخل الفكر الاجتماعي، وفي وقتنا الحاضر قد نشاهد العديد من الاستخدامات الخاطئة لبعض الألوان والرموز التي تنعدم صلتها بهوية المجتمع البصرية والفكرية، إذ يتم تداولها بطريقة اعتباطية من دون معرفة دلالاتها ومرجعياتها، مما يؤدي إلى المساس بأصالة المجتمع وتشويه مظهره الفكري أمام المجتمعات الأخرى، ومن هنا تنبثق ضرورة محو الأمية البصرية وتثقيف المجتمع على هويته البصرية ومرجعياتها الفكرية.
لذا يتوجب تأصيل الخطاب الكرافيكي الذي يعمل بدوره على خلق اتصال تراثي داخل المجتمع يسمح بتناقل القيم الفكرية بين الأجيال ويمنحها قدرا وافيا من المعرفة بشأن عادات وتقاليد أسلافها التي تتناقل أرواحها بأجساد الأشكال كي تتمكن من الحفاظ على سماتها الأصيلة من مخاطر التأثيرات الخارجية، وهذا يصب في تعزيز وتقويم الهوية المجتمعية ودعم خصوصيتها إزاء المجتمعات الأخرى، وكذلك تنمية الشعور الانتمائي لدى الأفراد وتأصيل سلوكهم الاجتماعي.
صناعة الوعي

يقول عبود إن “الطبقة الاجتماعية الجاهلة أو الأمية تعد هدفا يسهل اختراقه فكريا من المصمم الكرافيكي فتتعرض بذلك عادات وتقاليد المجتمع للخطر وتدخله في حالة صراع محتدم بين قيمه الأصيلة والقيم الدخيلة التي تطرق أبوابه باستمرار، لاسيما ونحن نعيش عصر التواصل الافتراضي ووسائله المتعددة التي تعد أرضا خصبة لنشر الأفكار أو الترويج لها بحرية تامة من دون قيود زمكانية، وضوابط أخلاقية.”
ويضيف أن “الغالب الأعم في المجتمع منغمر في بحر العالم الافتراضي، يتصفح المواقع الإلكترونية لساعات طويلة في ظل غياب كبير للضابطة والوعي، مما يعرضه ذلك إلى مواجهة إعلانات (خطابات كرافيكية) مزيفة بفعل إمكانية المصمم وقدرته على التلاعب بالصور وتحريفها أو تغيير ملامحها من خلال ما أتاحته التقنية الحديثة من برامج وأدوات رقمية ذات التأثيرات السحرية التي جعلت المستحيل في الواقع ممكنا تحقيقه في العالم الرقمي، مما يوفر للمصمم الكرافيكي سهولة التلاعب بالحقائق أو الطعن بقيم اجتماعية معينة، أو الترويج لأفكار فاسدة، أو سلوك منحرف مرارا وتكرارا وبأساليب خادعة أو إيهامية مؤثرة إلى أن ينتهي الأمر بتلك الأفكار إلى الانغراس في الزوايا العميقة للاوعي الفرد، فيجد نفسه مؤمنًا بها، ومن ثم تنعكس على سلوكه، وتصبح ممارسة فعلية، مما يؤدي ذلك إلى بزوغ قيم غريبة وظواهر منحرفة داخل المجتمع لا تمت لعاداته وتقاليده بصلة فتشوه نسيجه الفكري.”
ويبين أن “المصمم الكرافيكي هو أشد الناس توغلاً في معترك الحياة اليومية وتناقضاتها العارمة بغية الوصول إلى معرفة الظروف والسلبيات التي يشكو منها الفرد أو الجماعة، ثم بيان الموقف الصحيح الواجب اتباعه إزاء المشكلة الاجتماعية، فهو العين الفاحصة التي تبحث باستمرار عما يكتنف المجتمع من ظواهر وأحداث، كي يتمكن في ضوء ذلك من رفد المجتمع بقدر واف من المعلومات التي تنير وتثقف فكره نحو الاتجاه السليم الذي يضمن سلامة الأفراد، ويعزز تواشجهم.”
ويوضح عبود أن في الآونة الأخيرة شهد العالم برمته هجمة وبائية، عاتية وشرسة، تمثلت بفايروس فتاك لا مرئي عرف باسم “كورونا” الذي أدى انتشاره الخبيث إلى شلل وصمت مطبق في مجمل أنظمة الحياة العامة وخسائر اقتصادية واجتماعية وصحية عالمية وخيمة، مما تسبب ذلك في انتشار الفزع والرعب بين الناس، كما أن خطورة الفايروس قد فرضت نمطا وقائيا صارما أدى إلى بعثرة المجتمعات، وعزل الأفراد داخل بيوتهم لأوقات طويلة وإلزامهم بارتداء الكمامات، واصطحاب المعقمات الطبية تلافيا لخطر العدوى السريعة، وهنا كان للمصمم الكرافيكي دور هام في نشر الوعي الصحي والتثقيف نحو إخضاع السلوك الاجتماعي لاشتراطات السلامة والوقاية، وتقديم الدعم المعنوي عن طريق سلسلة من الخطابات التي تحمل لغة ممتعة ومحفزة.
التصميم الكرافيكي لم يعد مجرد عرض وترويج لأفكار ذات أهداف تجارية إنه أعمق من مجرد وسيلة لزيادة حجم الاستهلاك
ويذكر أن المصمم الكرافيكي قام بتجسيد الحياة الاجتماعية العاجزة وملامحها البائسة في ظل الانتشار الوبائي المقيت بخطابات ثقافية تحمل مفردات اجتماعية وحضارية ودينية مؤثرة، وقد اتسم الخطاب الكرافيكي في هذا الحدث بالانفتاح والعالمية كونه يحاكي ظاهرة عالمية مشتركة تتشابه انعكاساتها في مختلف أصقاع الأرض.
ويؤكد أن مسؤولية استمرارية وحماية الهوية الثقافية لدى مجتمع ما تتوقف على أفراده، والمصمم الكرافيكي على وجه الخصوص بوصفه مثقفا عضويا ذا تفكير استثنائي، ووعي مستنير بواقع مجتمعه، والناقل المباشر لهويته الثقافية بشكلها الواضح، إذ يكمن ديدنه في السعي جاهدًا لإنشاء لغة بصرية متكاملة تحوي نظما لونية ورمزية تتسق والمرجع الثقافي لمجتمعه، وتعبر عن شخصيته الفكرية، وترتبط بعاداته وتقاليده وأعرافه واعتقاداته، ومن ثم تصبح تلك اللغة هوية بصرية تحمل فلسفة خاصة انبثقت عن تراث ثقافي يشكل فارقا اعتقاديا بين مجتمع وآخر.
ويعد اللون أحد مكونات تلك اللغة البصرية فهو قضية في منتهى الأهمية لارتباطاته الرمزية ومدلولاته في حياة الشعوب. فهو جزء لا يتجزأ من ذاكرة المجتمع، كما أنه متعالق عبر التاريخ بجوانب المجتمع الثقافية والسياسية والعقائدية والتاريخية وغيرها من الجوانب المهمة التي تزخر بها الشعوب، فضلا عن أنه يعد مترجما مباشرا لحالات الإنسان النفسية وانفعالاته العاطفية في حياته المدنية، وأنه قد اكتسب معاني ودلالات من البيئة المحيطة بالإنسان، ومن ثم ترسخت في ذاكرة المجتمع وأصبحت جزءا من عاداته وتقاليده، ونظرا إلى أن الجماعات الإنسانية تختلف في خبراتها وتجاربها فقد جعلت من الدلالات اللونية اختلافا وتباينا واضحا، فكل جماعة إنسانية تخالف جماعة إنسانية أخرى في دلالات ورموز الألوان، وهذا ما نجده عبر تاريخ الحضارات.
الواقع السوسيوثقافي

يرى عبود أن المصمم الكرافيكي يكون أمام إشكالية كبيرة وهي صعوبة تحقيق المعادلة بين الهوية الثقافية، ومنتجات التكنولوجيا المعاصرة التي يؤدي استغلالها المفرط إلى محو شخصية المصمم الفنية والثقافية، فيفقد المصمم مبادئه الإبداعية ليحل محلها التقليد والنقل المطابق، فتغدو المنجزات التصميمية متشابهة، وهنا لا بد أن تكون المعاصرة على نحو رشيد، أي بمعنى استثمار معطيات العصر الحديثة بشكل مدروس وعقلاني، وكذلك تنمية الوعي بالثقافة الأصيلة وإعطاؤها أولوية لتصبح سمة بارزة في المنجز الكرافيكي.
المعاصرة ترتبط، وفق المصمم العراقي، بموقف المصمم إزاء الفكر الذي يعاصره من ناحية التبني أو القطيعة، أو الإسهام في الإضافة إليه بناء على ثقافته وتراثه الفكري، لذا هي ليست تبنيا وتطبيقا، وإنما اطلاع واستيعاب لتحديد الموقف المدعم بمعايير الثقافة الأصيلة، فالمعاصرة مفهوم نسبي يختلف باختلاف الثقافة، والعقائد، والقيم التي تقود المجتمع.

ويشير إلى أن أي حدث تطوري يشهده العصر يمثل هزة لثقافة المصمم التي تشحذ رؤيته وربما تغير منظوره بشأن السياقات المرئية، فتنعكس تلك الرؤية لتسبب بدورها هزة بنيوية في المنجز الكرافيكي، فتتسبب إما بتغير بسيط أو إزاحات كبيرة تؤدي إلى تقليع القواعد التصميمية المتفق عليها لتحل محلها أنماط لا مألوفة، أي بمعنى كسر مفهومية الأشياء التي اعتدنا على رؤيتها فتتولد لغة كرافيكية جديدة تستمر لمدة لا يعرف أجلها تبعًا للفائدة والوظيفة التي تؤديها، ومدى استمرارها بحل الإشكاليات التصميمية.
ومن جانب آخر قد تسير أحيانًا الأفكار المعاصرة عكس الزمان نحو الماضي، فيغدو الأخير حاضرا، وهو ما يعرف بـ”الحنين إلى الماضي” وهي حالة يصل إليها المصمم الكرافيكي حينما يكتشف ابتذال وعدم فاعلية الأساليب العصرية، أو يرى فيها انحطاطا أو مفسدة لقيم ثقافة التصميم والمجتمع المتلقي، فيتولد لديه حينها شعور بالاغتراب حيال تلك اللا مألوفية، مما يدفعه نحو عدم الاعتراف والقطيعة، والاتجاه لإحياء أساليب الماضي وإدخالها كجزء فاعل في الحاضر بعد أن تتم إعادة صياغتها وهيكلتها لتتلاءم مع تقانة الحاضر.
ويخلص عبود إلى عدد من التوصيات أولاها ضرورة دراسة المصمم الكرافيكي للماضي وما يحمله من تراث فكري وثقافي، لمعرفة منتجات الأسلاف على مستوى المادة، والفكر، واستثماره ليكون جزءًا من الحاضر، بعد أن يتم تعديله وتطويره، للحفاظ على أصالة المجتمع الفكرية والثقافية ومنحها قوة حضورية في كل زمان.
ثانيا العمل على دعم الثقافة البصرية المحلية والحفاظ على مكانتها كجزء من الثقافة الأصيلة، وتثقيف المجتمع على فلسفة الرموز والأشكال والألوان، وتصحيح المسارات الفكرية المغلوطة حول ذلك، ليكون المجتمع ملمًا بتراثه الفني، وما شهده من تغيرات وتحولات عبر الزمان، وعارفًا بالمرتكز الفكري والديني والأسطوري الذي انبعثت منه ثقافته البصرية إلى الوجود المادي. ثالثا العمل على دراسة الأنساق البصرية التي توقفت عن إثارة المجتمع، وابتكار مثيرات بصرية أخرى قابلة لإحداث تأثيرات سيكولوجية جديدة في ضوء التحولات السوسيوثقافية، ولاسيما بعد انتشار جائحة كورونا. رابعا العمل على تدعيم لغة الخطاب بمشاهد مقتبسة من الواقع السوسيوثقافي لمنحه قدرة تعبيرية هائلة، وطاقة تحفيزية باعثة على الإثارة والتفاعل.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد الحمامصي
كاتب مصري