نوبيو مصر... التاريخ المنسي خلف صورة نمطية
سامية علام
/صحافية
الأربعاء 8 مارس 2017 م
السمار، المنازل الملونة، الملابس الزاهية، بوّاب العمارة، السفرجي. كل هذه صور نمطية محدودة تخطر للقارئ العربي عند الحديث عن أهل النوبة، أحد الأعراق الأكثر تهميشاً في مصر. قلة فقط يعرفون تاريخ النوبيون وجذورهم الضاربة في أصل أرض النيل. فهم ليسوا أناس حطّوا رحالهم في جنوب مصر وشمال السودان فقط.
نوبيو مصر
سكن نوبيو مصر في مطلع القرن العشرين في "39 قرية على امتداد 350 كيلومتراً جنوب أسوان حتى خط عرض 22 (وادي حلفا) على ضفتى النيل شرقاً وغرباً"، بحسب دراسة نشرتها صحيفة المصري اليوم، نقلاً عن لجنة المتابعة المنبثقة من الهيئات النوبية فى الإسكندرية. إلا أنهم عانوا من التهجير، فانتقلوا شمالاً لينحصروا في مناطق ضيقة ليست بخصوبة قراهم القديمة. يقول هشام جمال، أستاذ الجغرافيا في جامعة أسوان، أن أهل النوبة تهجروا على 4 مراحل أولها عام 1898 مع بداية بناء خزان أسوان حتى 1902، حيث تهجر حينها سكان 10 قرى. المرحلة الثانية جاءت في العام 1912، عند التعلية الأولى للخزان، فترك سكان 5 قرى أرضهم. أما المرحلة الثالثة فكانت في 1934، حينما نزح أهالي 7 قرى، حصلوا على تعويص هزيل. ثم جاء التهجير الأكبر والأخير عام 1964، فأُفرغت 44 قرية من أهلها، بغرض بناء السد العالي الذي شيده جمال عبدالناصر. وقد حاولت الحكومة تعويضهم، لكن التقدير كان مجحفاً لهم، بحسب جمال.
ففي حين تكلفت الحكومة المصرية تكلفة تهجير النوبيين السودانيين الذين تضرروا من البناء، واستصلحت لكل بيت منهم 15 فدان حتى من لم يمتلك أرضاً، أهدرت حق النوبيين المصريين فمن كان له 5 بيوت عوضته ببيت واحد بمساحة لاتتعدى 200 متر. يعتقد جمال أن هدف عبد الناصر الأساسي من التهجير الأخير هو صهر النوبيين داخل فئات المجتمع المصري، لشدة تمسكهم بلغتهم وتقاليدهم وخصوصيتهم، وليس إنشاء السد العالي كما يقال. فكان، بحسب جمال، يخشى أن ينفصل أهل النوبة ويؤسسوا قومية خاصة بهم.
يرغب النوبيون بالعودة إلى موطنهم الأصلي لكن الحكومة ترفض بذريعة الأمن القومي
السمار، المنازل الملونة، الملابس الزاهية، بواب العمارة.. صور نمطية محدودة تخطر للقارئ عند الحديث عن النوبة
اليوم، يعيش حوالي 5 مليون نوبي في شتات، بحسب جمال. ولا يوجد احصائيات دقيقة تؤكد أو تغالط هذا الرقم. ذهب بعضهم إلى القاهرة ومدن أخرى، فيما استقر آخرون في قرى غرب مدينة أسوان حتى غرب سهيل، وهي جزيرة نيلية جنوب أسوان، وبين قرية بلانة حتى قرية المضيق، وهم المجموعة التي هجّرها بناء السد. كما توجد قرى نوبية منفصلة في قنا والأقصر، من توابع هجرة خزان أسوان في الثلاثينات. يرغب هؤلاء السكان بالعودة إلى قراهم الأصلية، لكن الحكومة ترفض ذلك بذريعة "الأمن القومي". حتى وصل الأمر لاتهامهم بخيانة الوطن، لتلويح البعض منهم بتدويل قضيتهم.انتماء وتمسك بالجذور
يتحدث الناشط النوبي، عبد الفتاح حسن، عن التُهم التي تعرض لها أبناء عرقه في مصر، ويدافع عنهم قائلاً: "لم يستطع غازِ أبداً أن يدخل مصر من النوبة، لم يستطع المسلمون فتح النوبة بالحرب ولكن دخلها طواعية عبر التجار، ولم تفلح الحملة الفرنسية في ذلك رغم دخولها الصعيد لذا يطلقون على أنفسهم حراس البوابة الجنوبية". وكأي مجموعة تعيش في ما يشبه الشتات، يحاول النوبيون الحفاظ على تفاصيل تقاليدهم وتربية أبنائهم عليها. "هناك 44 جمعية و8 أندية نوبية تجمع النوبيين بشكل ثابت في المدن المصرية المختلفة"، يقول حسن. لأهل النوبة لغتهم الخاصة، فيها لهجات مختلفة. ففي مصر لهجتين هما الكنزية والفاديجية، بحسب جمال، فيما يتحدث أهل النوبة بالسودان ثلاث لهجات هي المحس، والسكوت، والدنقلية. ويحاول الآباء الحفاظ على هذه اللهجات وتعليمها لأبنائهم. لكنها لا تُدرس في المدارس ولا تُعتبر لغة رسمية في مصر.النوبة قديماً
اسم النوبة مشتق من كلمة "نوب" وتعني الذهب، وسميت المنطقة بذلك لأن بها أكبر مناجم الذهب في مصر بمنطقة العلاقي. ولهذه المنطقة التي حملت اسم الذهب تاريخ قديم. وقد امتدت بلاد النوبة تاريخياً، بحسب جمال، من جنوب مصر إلى جنوب نهر النيل، وانقسمت إلى ثلاث ممالك: كوش ومروي ونباتا. وضمت دول حوض النيل: أثيوبيا وتنزانيا والسودان والكونغو. "النوبة أقدم من الفراعنة"، يقول جمال. "فالثابت تاريخياً أن أول استقرار بشري على مستوى العالم بمستعمرة نبتابلاي، غرب معبد أبو سمبل، وهي مستعمرة نوبية، واكتشفت أقدم مقبرة بالتاريخ بمنطقة قسطل"، يضيف.
وقد شُيدت أهرامات مصر ومعابدها من من حجر اسمه الخرسان النوبي. وقد حكم النوبيون مصر الفرعونية في عهد الأسرة الـ18، وهي من أقوى وأشهر الأسر التي حكمت مصر، والأسرة الـ25، والتي نشأت في كوش في مدينة نباتا تحديداً. لهذا شهدت منطقة النوبة ثراءاً في الآثار التي تشد السائحين لزيارتها. ففيها معابد الدر والمحرقة وعمدا والسبوع وهي من المعابد الصغيرة. وهناك أبي سمبل الكبير والصغير، وكلابشة، الذي يعتبر أكبر المعابد المشيدة من الحجر الرملي في النوبة.
النوبي والنيل
شهد الشيخ وحيد يونس، والذي تخطى الـ75من العمر، مرحلة التهجير الأخير للنوبيين. يحكي لرصيف22 عن تعلقه الشديد بأرضه وبجذورها. يقول:"لايوجد نوبي لايعرف تاريخه، كما أنه مرتبط ارتباط وثيق بالنيل، فهو يقدسه ويحافظ عليه ويحظر عليه تلويثه". فكل من يريد أن يحتفي بمناسبة مهمة ينزل ليستحم في مياه النيل. "العروس تذهب للاستحمام في النيل مع صديقاتها فجر يوم العرس في حين يذهب العريس مع رفاقه بعد شروق الشمس لنيل البركة منه (النيل)"، يقول يونس. حت المولود، يُحمل في اليوم السابع بعد ولادته إلى النهر، ويمسح وجهه بمياهه، وتقول النساء بعض الترانيم والأغاني التي تتمنى للرضيع حياة أفضل. وتوضع مشيمة الطفل، أو خلاصه، في شاش أبيض وتلقى في مركب من ورق في النيل، مع بعض الأطعمة مثل الفواكه والبلح والأرز بلبن، فيما يعرف بطقس المشاهرة. ويعلل يونس ذلك بأن النوبيين منذ القدم اعتقدوا بأن هناك ملائكة تسكن النيل، وأخذ الفراعنة عنهم هذا الاعتقاد فظهر طقس إلقاء العروس فيه.طقوس أهل النوبة وعاداتهم
مازالت تحافط القرى التي يسكنها أهل النوبة على تفاصيل الحياة اليومية القديمة، وهو ما يحكيه حسن. فما زالت البيوت تُبني من الطوب واللبن، ولكل منزل فناء واسع يمكن البناء فيه. وعندما يتزوج الرجل والمرأة، يقوم أهل الزوجة ببناء شقة للعروسين داخل فنائهم، ويتكفل الأصدقاء بتجهيز منزل الزوجية، بينما يقتصر دور العريس والعروس على شراء ملابسهم، بحسب حسن. يظل الزوجان في فناء الأهل حتى تطمئن والدة العروسة بأن ابنتها قادرة على إدارة شؤون المنزل. وغالباً لا يبني الرجل منزله الخاص إلا بعد إنجاب أبناء. ولا تخلو القرية النوبية من الرقص والاحتفال. فتعد رقصة الأراجيد أحد أهم طقوس الاحتفال، حيث تتشكل حلقات مستطيلة من الفئات العمرية الواحدة، وتقوم كل فئة بحركات تلائمه.
رحلة في عالم المصارعة النوبية
العرق السوداني، تقليد ثقافي لم يوقف تعاطيه حظر الدين والأنظمة
الأقباط، مؤسسو السودان الحديث
كما يحتفظ النوبيين، بحسب يونس، بتبركهم بالمشايخ والأولياء فلكل قرية شيخ تذهب النساء برفقة الأطفال له طلباً للبركة والعون في أمور الزواج والإنجاب والنجاح والتوفيق في الأمور المختلف.
مشاهير من النوبة
تركت شخصيات نوبية أثراً واضحاً عبر التاريخ. فيقول أستاذ الجغرافيا،جمال، أن لقمان الحكيم، والذي ذُكرت قصته في القرآن، وذي النون المصري ونبي الله إدريس ولدوا وعاشوا في النوبة. حتى والدة النبي موسى، يوكابد، والتي لم يوجد تفسيراً لاسمها إلا بالنوبية ويعني، أم الخبز، فهي نوبية. كما تزوج رمسيس الثاني من ابنة ملك النوبة، نفرتاري، والتي أصبحت إحدى أشهر ملكات مصر الفرعونية. وقد برزت بعض الأسماء النوبية في تاريخ مصر السياسي المعاصر، فالحاج أحمد إدريس، صاحب شفرة حرب أكتوبر من النوبة، وكذلك المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع المصري السابق. ثقافياً، أنجبت النوبة الموسيقار حمزة علاء الدين والفنان محمد منير، والشاعر أحمد منيب، والأديب محمد خليل قاسم صاحب رواية الشمندورة.
ورياضياً، كان لأهل النوبة حضوراً في مصر، فرباعي المنتخب لكرة اليد حازم وأشرف وحسن وحسين عواض، هم من النوبة، بالإضافة إلى الكثير من لاعبي كرة القدم المشاهير ، كفاروق جعفر وعماد سليمان وأحمد الكأس.