بازوليني، بيرغمان، وبونويل: شعرية سينمائية في تصوير المهمشين
واقعية صادمة تنتصر للإنسان في مواجهة الاستبداد والقيود.
الخميس 2025/02/13
ShareWhatsAppTwitterFacebook

سينما صورت تراجيديا الواقع
في كتاب "قضايا المهمشين وتصوير الهامش في السينما العالمية: تأملات في خمسين فيلمًا حول العالم" اخترت أن أهتم بتجارب العديد من المخرجين من بينهم باولو بازوليني وإنغمار بيرغمان ولويس بونويل، الذين رأيت في أعمالهم اهتماما مشتركا بتصوير واقع المهمشين، موظفين الأمكنة والشخوص لصناعة سينما واقعية شاعرية مليئة بالرموز والدلالات.
يعتبر تناول قضية المهمشين والهامش في السينما من المواضيع المعقدة جدًا، ومن بين أشهر الأفلام التي تناولت مثل هذه المواضيع في السينما العالمية هناك فيلم “ماما روما” لبيير باولو بازوليني، و”مونيكا” لانغمار بيرغمان، و”لوس الفادوس” للويس بونويل.
تمثل هذه الأفلام روافد مهمة ومحورية في تاريخ السينما لتناولها قضايا المهمشين بطرق فنية خلاقة ومبتكرة وأسلوب شعري عميق. ورغم اختلاف السياقات الثقافية والجغرافية لكل مخرج، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو تصوير واقع المهمشين في مجتمعاتهم بطرق تتسم بالواقعية والتأمل الفلسفي والأسلوب السينمائي الشعري الساحر.
ركز بازوليني في فيلم “ماما روما” على الطبقة العاملة والفئات المهمشة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، مصورا شخصية ماما روما، بائعة الهوى السابقة، وهي تمثل محاولة يائسة للهروب من دائرة الفقر والتهميش من أجل بناء مستقبل أفضل لابنها. وقد عكس من خلال هذه الشخصية الصراع بين الأحلام والطموحات الفردية والقيود الاجتماعية القاسية التي قد تعيدنا خطوات مؤلمة إلى الوراء.

أما إنغمار بيرغمان في فيلم “مونيكا” فقدم رؤية حميمة لحياة الطبقة العاملة السويدية من خلال قصة مونيكا وهاري. الفيلم صور معاناة الشابة مونيكا في بيئة اجتماعية خانقة وقاسية، حيث تصبح الرغبة في الحرية الشخصية صراعًا يوميًا ضد قيود التقاليد الاجتماعية والقيم المحافظة والهروب من الاستبداد.
وفي فيلم “لوس الفادوس” عرض لويس بونويل واقع الأطفال الفقراء في ضواحي المكسيك، مع تسليط الضوء على العنف، والإهمال الاجتماعي، والجرائم الصغيرة التي تصبح جزءا من حياتهم اليومية العادية والمألوفة. الفيلم قدم المهمشين ليس فقط كضحايا، بل أيضًا كمشاركين في دائرة من العنف الاجتماعي والاقتصادي.
أسلوب واقعي
أكثر ما يجمع بين هذه الأفلام الكلاسيكية الثلاثة هو الأسلوب الواقعي الذي اعتمده المخرجون. وظف بازوليني أسلوب الواقعية الشعرية فخلق توازنا بين تصوير الفقر بواقعية قاسية وبين إدخال عناصر رمزية وميتافيزيقية فضحت التناقض بين البراءة والفساد. استخدامه للإضاءة الطبيعية والمواقع الحقيقية جعل الفيلم أقرب إلى وثائقي إنساني.
أما بيرغمان فركز على تصوير الوجوه البشرية والجسد الأنثوي والتفاصيل الدقيقة في الأداء التمثيلي. كاميرته تتأمل معاناة مونيكا في صمت، تصور جسدها والأمكنة لخلق مناخات ميتافيزيقية وأسطورية، ما خلق تفاعلاً عاطفياً مع المشاهدين حيث أننا سنجد نظرة مباشرة من مونيكا إلينا عبر عدسة الكاميرا وكسر الحواجز بينها وبيننا. هنا الواقعية تأتي من تصوير الحياة اليومية بحميمية ودون تجميل والنجاح في التعمق بالروح الإنسانية.
واعتمد بونويل على أسلوب الواقعية القاسية والصدمة، حيث واجه المشاهد بالمعاناة دون رحمة. تصويره للعنف والفقر في “لوس الفادوس” مباشر وصادم ومفجع ويهدف إلى إحداث تأثير عاطفي قوي يدفع المشاهد إلى التفكير في جذور التهميش والظلم الاجتماعي.
كذلك حضرت الأماكن في هذه الأفلام الشهيرة كمرآة للهامش، فالأماكن في “ماما روما” صورت حالة الشخصيات. شوارع روما الفقيرة والأحياء الشعبية كانت كرمز للمعاناة والتهميش والأمل في آنٍ واحد. المدينة هي الشاهد على صراع ومحاولات ماما روما للارتقاء اجتماعيًا والهروب من ماضيها المخزي، لكنها تُلاحق من القواد الذي يريد إعادتها إلى العمل ويبتزها وهكذا تتحول المدينة إلى سجنِ محبط وفضاءً للمأساة عندما يقبض على ابنها ويوضع في مركز للأمراض النفسية. سنشعر بقسوة النهاية المفجعة، يبدو الابن كأنه مصلوبًا وتظهر الفجيعة على وجه الأم وركضها لمحاولة إنقاذه ولكن قدره أن يجد هذا المصير المؤلم، هنا فجر بازوليني دلالات شعرية ميتافيزيقية صادمة بتذكيرنا بصلب المسيح ومأساة الأم، رسم هذه التراجيديا لم يكن بدافع الإيمان بالمسيح ولكن الإيمان بقداسة الألم الإنساني واستمراره وربما غياب الحل السماوي، هذا الفيلم يعد بمثابة صرخة احتجاجية ضد سياسات التهميش والنزعة الاستهلاكية والحروب التي أورثت مآسي لا حصر لها.
كذلك خلق بيرغمان من الطبيعة في “مونيكا” جنة فردوسية لعكس رغبة الشخصيات في الهروب من القيود الاجتماعية. البحر، في لحظات هروب مونيكا وهاري، يبدو وكأنه فضاءً حر وفردوس الخلود، لكنه بعد ذلك يصبح رمزاً للعزلة عندما تفشل علاقتهما وينفد الطعام، يهدم بيرغمان هذه الجنة، تتحول مونيكا الحورية الساحرة المتحررة إلى وحش يسرق الطعام وتتناوله بطريقة أفقدتها القداسة. المدينة أيضًا ظهرت كبيئة خانقة لا مفر منها.

أما الأزقة الضيقة والقذرة في فيلم “لوس الفادوس” فخلقت مسرحًا لحياة المهمشين اليومية. الأماكن هنا عكست العنف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعانيه هؤلاء الأطفال، المخرج بونويل جعل المكان جزءًا من الفيلم، حيث لا يمكن فصل الشخصيات عن بيئتها المدمرة.
الشخصيات: ضحايا أم مشاركون؟
في فيلم “ماما روما” سنجد أن ماما وابنها إيتوري ضحيتين للنظام الاجتماعي غير العادل، لكن بازوليني لا يعفيهما من المسؤولية تمامًا. إيتوري أظهر تمرده وتورطه في أعمال غير قانونية، بينما ماما روما سعت لتحقيق حلمها بطرق تثير التساؤلات حول أخلاقياتها، هذا الفيلم لا يزال يثير الجدل والأسئلة، ومنها: هل كان هناك مخرج لهذه الشخصيات؟ وهل يستطيع بعض المهمشين تغيير قدرهم؟ كان هذا الفيلم ملهمًا لعشرات الأفلام في فرنسا وأوروبا لتصوير الحكايات الصغيرة والمآسي للناس البسطاء والذين يعيشون في هوامش المدن.
من جانبه خلق بيرغمان مونيكا كشخصية معقدة تجمع بين البراءة والأنانية والرغبة في اللذة والتحرر. جعلنا نتعاطف معها دون أن نغفل عن أخطائها، ما يخلق شعوراً بالتناقض يعكس صراعها الداخلي، كما أنه أعاد عرض أسطورة جنة الخلد وحكاية حواء، لكنها حواء عصرية بوسعها أن ترفض وتتمرد وتبحث عن اللذة وتخلق قوانينها الخاصة.
أما لويس بونويل فقد أظهر الأطفال في “لوس الفادوس” وصورهم كضحايا لبيئتهم الفقيرة، لكنهم أيضًا مشاركون في صناعة العنف، لقد تجنب تقديمهم كأبطال خارقين أو طاهرين أو ضحايا تقليديين، بل جعلهم نماذج معقدة تعكس تأثير الظروف الاجتماعية عليهم.
في هذه الأفلام الثلاثة سنلاحظ وجودا كثيفا للكثير من الدلالات والرموز المسيحية، خاصة في تصوير ماما روما كأم مضحية على غرار مريم العذراء. لكنه في الوقت ذاته ينتقد النفاق الاجتماعي والديني الذي يساهم في تعزيز الفقر والظلم.
كما أن بيرغمان في فيلمه “مونيكا” يميل إلى الرمزية الأسطورية والخرافات وتصوير الإيمان بالجنة، ظهر ذلك في عرض للطبيعة والهروب، حيث تصبح الحرية مقيدة بأعباء الواقع. “مونيكا” ليست قصة حب فاشلة، لكنها نقد للقيم الاجتماعية العمياء والمستبدة التي تقيد حرية الأفراد.
وكذلك بونويل فقد قدّم نقدًا تهكميًا مفجعًا في “لوس الفادوس” حيث وجه أصابع الاتهام إلى الدولة والسلطات الدينية التي تفشل في حماية المهمشين، فهو في كل أفلامه يرى أن كوارثنا والاستبداد والتهميش ناتجة من تحالف السلطة السياسية مع السلطات الدينية والبرجوازية، ثالوث مرعب يورث الفقر والبؤس والعبودية.
شعرية السينما
أود أن أختم موضوعي بالتطرق إلى شعرية تصوير المهمشين لدى هؤلاء المخرجين الثلاثة كونها عكست رؤيتهم الفريدة للسينما والمجتمع وجعلتنا نفهم أكثر حول مفهوم السينما الشعرية وشعرية السينما. أفلامهم لم تكتف بعرض الفقر والبؤس، بل تحولت شخصيات أغلب أفلامهم إلى رموز إنسانية، حملت أبعادًا أعمق عن الوجود والحرية والظلم. هذه الرؤية جعلت أفلامهم قصائد بصرية ساحرة غاصت في الذات الإنسانية وعرضت الألم الإنساني وخلدته.

بازوليني، المشبع بالفكر الماركسي والكاثوليكية، قدم في “ماما روما” شخصية مهمشة بحس شعري يوازن بين القداسة والواقعية. استخدم بكثافة اللقطات الطويلة وخلق تراكيب بصرية لتجسيد معاناة شخصياته وخاصة ماما روما، وكأنها شخصية تراجيدية تنتمي إلى ملحمة إغريقية. ظهر الجانب الشعري خاصة من خلال الطريقة التي يعرض بها الأحياء الفقيرة مثل الأماكن والبيئات القاسية المهملة وخلق منها مساحات تحمل دلالات استعارية عن الفقر والمعاناة.
المهمش أكبر من رمز في “ماما روما” حيث تفنن في خلق الأم المضحية والمقهورة، لكنها أيضًا صورة للمجتمع الإيطالي الفقير الذي يسعى للتحرر من قيوده ويكبله ماضيه. شعرية الفيلم تظهر في قدرة بازوليني على منح شخصياته التعبير عن ذاتها باستخدام أسلوب الرؤية الحرة الذاتية أو الجدل الحر الذاتي غير المباشر، الكاميرا تصور في الكثير من المشاهد من وجهة نظرهم. كما أن بازوليني يخلق من المهمشين أبطالا مأساويين يمنحهم القداسة رغم أخطائهم.
أما بيرغمان في “مونيكا” فنقل المهمشين بطريقة مختلفة، أكثر حميمية وشاعرية وجودية. مونيكا ليست فقط ضحية ظروفها الاجتماعية القاسية، بل أيضًا روح متمردة تتوق إلى الحرية وسط عالم يضغط على أحلامها ويقيدها.
استخدم بيرغمان الإضاءة الطبيعية واللقطات القريبة ليخلق البعد الداخلي للشخصيات وجعل من الوجه الإنساني مدخلاً إلى الروح. عيون مونيكا في اللقطة الشهيرة التي تحدق بالكاميرا تتحدث عن ألمها ورغبتها في التحرر وهي ردة فعل احتجاجية وتجعل منا شاهدين وليس مجرد مشاهدين.
والشعرية السينمائية في سينما بيرغمان عميقة من خلال التركيز على الحميمية اليومية والبساطة المفرطة في عرض الأحداث، ما يخلق جمالاً كئيبًا يعكس واقع الشخصيات دون زخرفة أو مبالغة، فهو يقرأ الحكاية بأساليب شعرية ويزج بنا في عوالم الخرافات والأساطير.
المهمش هنا ليس مجرد ضحية للفقر والقدر، بل شخصية تحمل صراعات داخلية بين الأحلام والإمكانات المحدودة والقيود والاعتقادات، شعرية بيرغمان تكمن في إبراز هذه التناقضات الإنسانية وصراعات الإنسان مع القدر والله. إنه يعبر عن النفس البشرية بلقطات قريبة ويمنح القداسة للجسد الأنثوي والوجه الإنساني، يخلق القداسة ثم يهدمها.
أما بونويل في “لوس الفادوس” فقدم تصويرًا صادمًا للمهمشين في الأحياء الفقيرة في المكسيك، لكنه أضاف طابعه الشعري عبر أسلوبه السريالي، السينما هنا أداة فكرية مدمرة لهدم الاستبداد السلطوي السياسي والديني والبرجوازي.
تمتزج مشاهد بونويل بالواقعية التي تكاد تقترب من الوثائقية ثم تجنح إلى السريالية، ما خلق صورة للفقر تبدو كحالة عبثية ومأساوية في آنٍ واحد. صورة سينمائية تتصف بالشعرية كونها خلقت عالمًا مختلفًا عن العالم الذي تصوره لنا الأفلام الساذجة، ما نراه في هذا الفيلم عالم مليء بالوحشية والفقر، لكنه عبر أيضًا عن روح البشر في تلك البيئات القاسية.
المهمشون في أفلام بونويل ليسوا أبطالًا مأساويين مثل بازوليني أو شخصيات حميمية مثل بيرغمان، بل هم رموز لعبثية العالم وعدم عدالته. شعرية بونويل تنبع من قدرته على تصوير هذا العبث والعنف بلمسة فنية تتجاوز المألوف وتهدم الكليشيهات.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

حميد عقبي
كاتب ومخرج سينمائي يمني
واقعية صادمة تنتصر للإنسان في مواجهة الاستبداد والقيود.
الخميس 2025/02/13
ShareWhatsAppTwitterFacebook

سينما صورت تراجيديا الواقع
في كتاب "قضايا المهمشين وتصوير الهامش في السينما العالمية: تأملات في خمسين فيلمًا حول العالم" اخترت أن أهتم بتجارب العديد من المخرجين من بينهم باولو بازوليني وإنغمار بيرغمان ولويس بونويل، الذين رأيت في أعمالهم اهتماما مشتركا بتصوير واقع المهمشين، موظفين الأمكنة والشخوص لصناعة سينما واقعية شاعرية مليئة بالرموز والدلالات.
يعتبر تناول قضية المهمشين والهامش في السينما من المواضيع المعقدة جدًا، ومن بين أشهر الأفلام التي تناولت مثل هذه المواضيع في السينما العالمية هناك فيلم “ماما روما” لبيير باولو بازوليني، و”مونيكا” لانغمار بيرغمان، و”لوس الفادوس” للويس بونويل.
تمثل هذه الأفلام روافد مهمة ومحورية في تاريخ السينما لتناولها قضايا المهمشين بطرق فنية خلاقة ومبتكرة وأسلوب شعري عميق. ورغم اختلاف السياقات الثقافية والجغرافية لكل مخرج، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو تصوير واقع المهمشين في مجتمعاتهم بطرق تتسم بالواقعية والتأمل الفلسفي والأسلوب السينمائي الشعري الساحر.
ركز بازوليني في فيلم “ماما روما” على الطبقة العاملة والفئات المهمشة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، مصورا شخصية ماما روما، بائعة الهوى السابقة، وهي تمثل محاولة يائسة للهروب من دائرة الفقر والتهميش من أجل بناء مستقبل أفضل لابنها. وقد عكس من خلال هذه الشخصية الصراع بين الأحلام والطموحات الفردية والقيود الاجتماعية القاسية التي قد تعيدنا خطوات مؤلمة إلى الوراء.

أما إنغمار بيرغمان في فيلم “مونيكا” فقدم رؤية حميمة لحياة الطبقة العاملة السويدية من خلال قصة مونيكا وهاري. الفيلم صور معاناة الشابة مونيكا في بيئة اجتماعية خانقة وقاسية، حيث تصبح الرغبة في الحرية الشخصية صراعًا يوميًا ضد قيود التقاليد الاجتماعية والقيم المحافظة والهروب من الاستبداد.
وفي فيلم “لوس الفادوس” عرض لويس بونويل واقع الأطفال الفقراء في ضواحي المكسيك، مع تسليط الضوء على العنف، والإهمال الاجتماعي، والجرائم الصغيرة التي تصبح جزءا من حياتهم اليومية العادية والمألوفة. الفيلم قدم المهمشين ليس فقط كضحايا، بل أيضًا كمشاركين في دائرة من العنف الاجتماعي والاقتصادي.
أسلوب واقعي
أكثر ما يجمع بين هذه الأفلام الكلاسيكية الثلاثة هو الأسلوب الواقعي الذي اعتمده المخرجون. وظف بازوليني أسلوب الواقعية الشعرية فخلق توازنا بين تصوير الفقر بواقعية قاسية وبين إدخال عناصر رمزية وميتافيزيقية فضحت التناقض بين البراءة والفساد. استخدامه للإضاءة الطبيعية والمواقع الحقيقية جعل الفيلم أقرب إلى وثائقي إنساني.
أما بيرغمان فركز على تصوير الوجوه البشرية والجسد الأنثوي والتفاصيل الدقيقة في الأداء التمثيلي. كاميرته تتأمل معاناة مونيكا في صمت، تصور جسدها والأمكنة لخلق مناخات ميتافيزيقية وأسطورية، ما خلق تفاعلاً عاطفياً مع المشاهدين حيث أننا سنجد نظرة مباشرة من مونيكا إلينا عبر عدسة الكاميرا وكسر الحواجز بينها وبيننا. هنا الواقعية تأتي من تصوير الحياة اليومية بحميمية ودون تجميل والنجاح في التعمق بالروح الإنسانية.
واعتمد بونويل على أسلوب الواقعية القاسية والصدمة، حيث واجه المشاهد بالمعاناة دون رحمة. تصويره للعنف والفقر في “لوس الفادوس” مباشر وصادم ومفجع ويهدف إلى إحداث تأثير عاطفي قوي يدفع المشاهد إلى التفكير في جذور التهميش والظلم الاجتماعي.
كذلك حضرت الأماكن في هذه الأفلام الشهيرة كمرآة للهامش، فالأماكن في “ماما روما” صورت حالة الشخصيات. شوارع روما الفقيرة والأحياء الشعبية كانت كرمز للمعاناة والتهميش والأمل في آنٍ واحد. المدينة هي الشاهد على صراع ومحاولات ماما روما للارتقاء اجتماعيًا والهروب من ماضيها المخزي، لكنها تُلاحق من القواد الذي يريد إعادتها إلى العمل ويبتزها وهكذا تتحول المدينة إلى سجنِ محبط وفضاءً للمأساة عندما يقبض على ابنها ويوضع في مركز للأمراض النفسية. سنشعر بقسوة النهاية المفجعة، يبدو الابن كأنه مصلوبًا وتظهر الفجيعة على وجه الأم وركضها لمحاولة إنقاذه ولكن قدره أن يجد هذا المصير المؤلم، هنا فجر بازوليني دلالات شعرية ميتافيزيقية صادمة بتذكيرنا بصلب المسيح ومأساة الأم، رسم هذه التراجيديا لم يكن بدافع الإيمان بالمسيح ولكن الإيمان بقداسة الألم الإنساني واستمراره وربما غياب الحل السماوي، هذا الفيلم يعد بمثابة صرخة احتجاجية ضد سياسات التهميش والنزعة الاستهلاكية والحروب التي أورثت مآسي لا حصر لها.
كذلك خلق بيرغمان من الطبيعة في “مونيكا” جنة فردوسية لعكس رغبة الشخصيات في الهروب من القيود الاجتماعية. البحر، في لحظات هروب مونيكا وهاري، يبدو وكأنه فضاءً حر وفردوس الخلود، لكنه بعد ذلك يصبح رمزاً للعزلة عندما تفشل علاقتهما وينفد الطعام، يهدم بيرغمان هذه الجنة، تتحول مونيكا الحورية الساحرة المتحررة إلى وحش يسرق الطعام وتتناوله بطريقة أفقدتها القداسة. المدينة أيضًا ظهرت كبيئة خانقة لا مفر منها.

أما الأزقة الضيقة والقذرة في فيلم “لوس الفادوس” فخلقت مسرحًا لحياة المهمشين اليومية. الأماكن هنا عكست العنف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعانيه هؤلاء الأطفال، المخرج بونويل جعل المكان جزءًا من الفيلم، حيث لا يمكن فصل الشخصيات عن بيئتها المدمرة.
الشخصيات: ضحايا أم مشاركون؟
في فيلم “ماما روما” سنجد أن ماما وابنها إيتوري ضحيتين للنظام الاجتماعي غير العادل، لكن بازوليني لا يعفيهما من المسؤولية تمامًا. إيتوري أظهر تمرده وتورطه في أعمال غير قانونية، بينما ماما روما سعت لتحقيق حلمها بطرق تثير التساؤلات حول أخلاقياتها، هذا الفيلم لا يزال يثير الجدل والأسئلة، ومنها: هل كان هناك مخرج لهذه الشخصيات؟ وهل يستطيع بعض المهمشين تغيير قدرهم؟ كان هذا الفيلم ملهمًا لعشرات الأفلام في فرنسا وأوروبا لتصوير الحكايات الصغيرة والمآسي للناس البسطاء والذين يعيشون في هوامش المدن.
من جانبه خلق بيرغمان مونيكا كشخصية معقدة تجمع بين البراءة والأنانية والرغبة في اللذة والتحرر. جعلنا نتعاطف معها دون أن نغفل عن أخطائها، ما يخلق شعوراً بالتناقض يعكس صراعها الداخلي، كما أنه أعاد عرض أسطورة جنة الخلد وحكاية حواء، لكنها حواء عصرية بوسعها أن ترفض وتتمرد وتبحث عن اللذة وتخلق قوانينها الخاصة.
أما لويس بونويل فقد أظهر الأطفال في “لوس الفادوس” وصورهم كضحايا لبيئتهم الفقيرة، لكنهم أيضًا مشاركون في صناعة العنف، لقد تجنب تقديمهم كأبطال خارقين أو طاهرين أو ضحايا تقليديين، بل جعلهم نماذج معقدة تعكس تأثير الظروف الاجتماعية عليهم.
في هذه الأفلام الثلاثة سنلاحظ وجودا كثيفا للكثير من الدلالات والرموز المسيحية، خاصة في تصوير ماما روما كأم مضحية على غرار مريم العذراء. لكنه في الوقت ذاته ينتقد النفاق الاجتماعي والديني الذي يساهم في تعزيز الفقر والظلم.
كما أن بيرغمان في فيلمه “مونيكا” يميل إلى الرمزية الأسطورية والخرافات وتصوير الإيمان بالجنة، ظهر ذلك في عرض للطبيعة والهروب، حيث تصبح الحرية مقيدة بأعباء الواقع. “مونيكا” ليست قصة حب فاشلة، لكنها نقد للقيم الاجتماعية العمياء والمستبدة التي تقيد حرية الأفراد.
وكذلك بونويل فقد قدّم نقدًا تهكميًا مفجعًا في “لوس الفادوس” حيث وجه أصابع الاتهام إلى الدولة والسلطات الدينية التي تفشل في حماية المهمشين، فهو في كل أفلامه يرى أن كوارثنا والاستبداد والتهميش ناتجة من تحالف السلطة السياسية مع السلطات الدينية والبرجوازية، ثالوث مرعب يورث الفقر والبؤس والعبودية.
شعرية السينما
أود أن أختم موضوعي بالتطرق إلى شعرية تصوير المهمشين لدى هؤلاء المخرجين الثلاثة كونها عكست رؤيتهم الفريدة للسينما والمجتمع وجعلتنا نفهم أكثر حول مفهوم السينما الشعرية وشعرية السينما. أفلامهم لم تكتف بعرض الفقر والبؤس، بل تحولت شخصيات أغلب أفلامهم إلى رموز إنسانية، حملت أبعادًا أعمق عن الوجود والحرية والظلم. هذه الرؤية جعلت أفلامهم قصائد بصرية ساحرة غاصت في الذات الإنسانية وعرضت الألم الإنساني وخلدته.

بازوليني، المشبع بالفكر الماركسي والكاثوليكية، قدم في “ماما روما” شخصية مهمشة بحس شعري يوازن بين القداسة والواقعية. استخدم بكثافة اللقطات الطويلة وخلق تراكيب بصرية لتجسيد معاناة شخصياته وخاصة ماما روما، وكأنها شخصية تراجيدية تنتمي إلى ملحمة إغريقية. ظهر الجانب الشعري خاصة من خلال الطريقة التي يعرض بها الأحياء الفقيرة مثل الأماكن والبيئات القاسية المهملة وخلق منها مساحات تحمل دلالات استعارية عن الفقر والمعاناة.
المهمش أكبر من رمز في “ماما روما” حيث تفنن في خلق الأم المضحية والمقهورة، لكنها أيضًا صورة للمجتمع الإيطالي الفقير الذي يسعى للتحرر من قيوده ويكبله ماضيه. شعرية الفيلم تظهر في قدرة بازوليني على منح شخصياته التعبير عن ذاتها باستخدام أسلوب الرؤية الحرة الذاتية أو الجدل الحر الذاتي غير المباشر، الكاميرا تصور في الكثير من المشاهد من وجهة نظرهم. كما أن بازوليني يخلق من المهمشين أبطالا مأساويين يمنحهم القداسة رغم أخطائهم.
أما بيرغمان في “مونيكا” فنقل المهمشين بطريقة مختلفة، أكثر حميمية وشاعرية وجودية. مونيكا ليست فقط ضحية ظروفها الاجتماعية القاسية، بل أيضًا روح متمردة تتوق إلى الحرية وسط عالم يضغط على أحلامها ويقيدها.
استخدم بيرغمان الإضاءة الطبيعية واللقطات القريبة ليخلق البعد الداخلي للشخصيات وجعل من الوجه الإنساني مدخلاً إلى الروح. عيون مونيكا في اللقطة الشهيرة التي تحدق بالكاميرا تتحدث عن ألمها ورغبتها في التحرر وهي ردة فعل احتجاجية وتجعل منا شاهدين وليس مجرد مشاهدين.
والشعرية السينمائية في سينما بيرغمان عميقة من خلال التركيز على الحميمية اليومية والبساطة المفرطة في عرض الأحداث، ما يخلق جمالاً كئيبًا يعكس واقع الشخصيات دون زخرفة أو مبالغة، فهو يقرأ الحكاية بأساليب شعرية ويزج بنا في عوالم الخرافات والأساطير.
المهمش هنا ليس مجرد ضحية للفقر والقدر، بل شخصية تحمل صراعات داخلية بين الأحلام والإمكانات المحدودة والقيود والاعتقادات، شعرية بيرغمان تكمن في إبراز هذه التناقضات الإنسانية وصراعات الإنسان مع القدر والله. إنه يعبر عن النفس البشرية بلقطات قريبة ويمنح القداسة للجسد الأنثوي والوجه الإنساني، يخلق القداسة ثم يهدمها.
تمثل هذه الأفلام روافد مهمة ومحورية في تاريخ السينما لتناولها قضايا المهمشين بطرق فنية خلاقة ومبتكرة وأسلوب شعري عميق
أما بونويل في “لوس الفادوس” فقدم تصويرًا صادمًا للمهمشين في الأحياء الفقيرة في المكسيك، لكنه أضاف طابعه الشعري عبر أسلوبه السريالي، السينما هنا أداة فكرية مدمرة لهدم الاستبداد السلطوي السياسي والديني والبرجوازي.
تمتزج مشاهد بونويل بالواقعية التي تكاد تقترب من الوثائقية ثم تجنح إلى السريالية، ما خلق صورة للفقر تبدو كحالة عبثية ومأساوية في آنٍ واحد. صورة سينمائية تتصف بالشعرية كونها خلقت عالمًا مختلفًا عن العالم الذي تصوره لنا الأفلام الساذجة، ما نراه في هذا الفيلم عالم مليء بالوحشية والفقر، لكنه عبر أيضًا عن روح البشر في تلك البيئات القاسية.
المهمشون في أفلام بونويل ليسوا أبطالًا مأساويين مثل بازوليني أو شخصيات حميمية مثل بيرغمان، بل هم رموز لعبثية العالم وعدم عدالته. شعرية بونويل تنبع من قدرته على تصوير هذا العبث والعنف بلمسة فنية تتجاوز المألوف وتهدم الكليشيهات.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

حميد عقبي
كاتب ومخرج سينمائي يمني