منسوجات بينالي الشارقة الـ16 تخلّد رحلات البشر والأشياء
لوحات وتركيبات وأعمال مفاهيمية ومنحوتات وعروض أدائية تستعيد رحلة الإنسان.
الاثنين 2025/02/10
ShareWhatsAppTwitterFacebook

جبل يكشف روح التعاضد (عمل لألوائي كاموماكان)
مع كل دورة يثبت بينالي الشارقة انفتاحه على عوالم الفن المعاصر بطرق مجسدة بعناية، في كل دورة تثبت الفكرة قوتها والجمالية والتقنيات تعددهما، وهذا ما يحضر في الدورة الـ16 من البينالي، والتي تولي عناية خاصة بالنسيج تماشيا مع عنوانها "رحالنا"، الذي جمع الرحلة بضمير المتكلم الجمع ترسيخا لحميمية الرحلة ضد كل أشكال التهجير القسري والاستعمار من جهة، والعنصرية ضد المهاجرين من جهة أخرى.
تتواصل فعاليات بينالي الشارقة الـ16 في مواقع مختلفة من الإمارة، سواء كانت ساحة المريجة أو المعارض الاعتيادية لمؤسسة الشارقة للفنون، أو مواقع عرض غير مألوفة، مثل مصنع كلباء للثلج أو سوق الجبيل القديم أو مواقع الحمرية أو قرية المدام المهجورة أو عيادة الذيد القديمة وغيرها.
أكثر من مئتي فنان و650 عملا فنيا يعرضها البينالي خالقا مشهدا متنوعا من الفنون بداية باللوحات والتركيبات والأعمال المفاهيمية والمنحوتات والعروض الأدائية، لكن اللافت في هذه الدورة هو أعمال النسيج.
النسيج والإنسان
النحت ليس مجرد استذكار أو تخليد، إنه تفكير، هذا ما يدفعنا إليه الفنان فويت مستعينا بكائناته الملهمة
لفتت انتباهي بشكل كبير أعمال النسيج المتنوعة التي يقدمها بينالي الشارقة الـ16، الذي يأتي هذا العام تحت عنوان “رِحالنا”، وقد أوردنا في مقال سابق بـ”العرب” مسارات اختيار هذا العنوان، لكن المؤكد أن المنسوجات المقدمة، على اختلاف أشكالها، سواء تلك التي تشكلت في لوحات أو تلك التي اتخذت تشكيلات معلقة، وحتى المنسوجات الرقمية حاضرة في اشتغال فني خارج عن المألوف.
لعل المنسوجات أكثر ما يتلاءم مع ثيمة البينالي، “الرّحال”، والتي لطالما ارتبطت عربيا بالخُرج ذاك الكيس المنسوج الذي يحمله معه الراحل، علاوة على ما يأخذه الراحل معه من نسيج حكايات وعادات ولغة وذكريات ومشاعر ومشاهد وهلم جرا من عناصر تتضافر لتكوّن نسيج هذا الشخص.
قبل أن ندخل في تأمل بعض الأعمال، لنذكر بأن الثقافة أهم ما يحمله المرء معه حيثما كان، الثقافة ربما أهم من الأرض، بلا ثقافة ولا ذاكرة ثقافية لا وجود للإنسان، ومن هنا نفهم معنا أهمية طرح ثيمة “رِحالنا” في عالم شكلته الهجرات فانقلب عليها ليحولها إلى تراجيديات وحكايات مخيفة.
حين ننظر إلى عمل الكاتبة والأكاديمية الفرنسية مايا تليت هاواد بعنوان “تنلي”، الذي نشأ بتكليف من مؤسسة الشارقة للفنون، نرى تصورات من زوايا مختلفة للصحراء، ليس جديدا النسيج الذي يمثل الشكل التقليدي لنسيج بدو الصحراء والأردية من الأسود والأبيض والأحمر والأشكال الأفقية المثلثة، لكن المختلف هنا هو جمع القطع ولصقها بشكل متراص مع بعضها البعض لتشكل مجتمع لوحة واحدة تخرج عن الإطار وحتى عن شكله.
سيقرأ كل من يشاهد العمل هذا التركيب النسيجي من زاويته الخاصة، لكنه لن يغفل العمل على الجمع والتركيب بين القطع المنسوجة بتفاوت بسيط في حجمها وألوانها، أما تشكيل الخطوط من المثلثات فذاك بدوره مدعاة للتفحّص، هل هي رابطة الدم التي تجمع القطع، هل هي رابطة السلام، هل هي مستمرة مثل المستقيم أو متقاطعة تختفي لتظهر في إطار آخر، كلها قراءات ممكنة في ضوء المنسوجات المعلقة بعناية.
وتتناول الفنانة ريتو ساتار قصص الاستعمار والاستعباد بطرق مختلفة، منها النسيج الممزوج بالرسم، فتعلق منسوجاتها القماشية راسمة عليها عددا من الأيادي السمراء والسوداء وكأنها تلقي تحية وداع أو إشارة قبضة القوة والاستمرار، لطالما كانت اليد رمزا دينيا في أصابعها الخمسة، كما أن لها الرمز الحربي والعاطفي وغيره من تشكلات وفق كل ثقافة.
من ناحية أخرى اليد هي التي ترتب زاد الرحلة، وما زاد الرحلة العيني إلا انعكاس لثقافتنا وأفكارنا ومشاعرنا، لليد علاقة وثيقة بالرحلة، إنها تأخذ وتودع وترحّب، ليست اليد مجرد منطقة للإمساك واللمس، هذا ما نقرؤه مع ساتار وهي تواجه كل القمع والتغيير بالأيدي المرسومة على القماش المنسوج والمصبوغ.
قراءة أخرى للصحراء (مايا تليت هاواد)
أما منسوجات تشون شاو فتمزج بين المواد التقليدية والطرق القديمة للنسيج والطرق الرقمية الحديثة، مقدمة لمسة تتجاوز النظرة الأحادية للزمن، وتربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، في “أشكال من التواصل الاصطناعي الذي يتسم بالحميمية”.
لا تسعى شاو إلى التذكر أو إثبات جدارة الماضي أو تقييد شكل أو إحساس معين في مادتها، تدمج العناصر من رموش اصطناعية وجلد وشعر مستعار وأظافر بلاستيكية ودانتيل وخيوط، إنها تصنع عالم حواس آخر موازيا، انطلقت في تأسيسه منذ فترة جائحة كفيد – 19 التي غيرت مفهومنا للتلامس كليا. أي لمس سيمارسه الإنسان اليوم؟ هذا ما نخرج به من أعمال شاو.
المنسوجة الضخمة لألوائي كاموماكان ليس كغيرها، “كروم في الجبل” عنوانها، بألوانها الزاهية الطاغي عليها الأحمر والأصفر، المتعلقان بالكروم، والدوائر والخيوط تنتصب المنسوجة مثل جبل، وتمد خيوطها مثل عروق الجبال، إنها تكشف روح التعاضد هذا ما يطرحه التفسير الأولي المختصر للعمل، لكن في اعتقادي هي تذهب أبعد من ذلك، إذ تشيّد الفنانة جبلها الأسطوري بسفحه، وما على المتلقي إلا أن يختار الصعود لاكتشاف ما خلفه أو البقاء أمامه للنظر إلى سفح العرض مثل صدر مفتوح.
لا تترك لك كاموماكان إلا أن تتبنى نظرة شعرية، ألم ترتبط الجبال بالآلهة والخيال والشعر والأديان، ألم تنجب الحكايات حول ما تخفيه وسطها وخلفها، جبل الفنانة المنسوج بدقة ودفق عاطفي في آن واحد هو تمثيل حي وقوي للذاكرة، إنه مساحة تسترشد بها إلى الماضي حتى وهي تغادره.
تعددت المنسوجات في بينالي الشارقة الـ16 منها المشتغل فنيا ومعرفيا ومنها المركب حرفيا، وكلها تحاول أن تعيدنا إلى مسار رحلتنا في الكون، إما أن تكون نسيجا أو لا شيء.
ممارسة فنية فكرية
شيء ما سيحدث (كالوكي نيماي)
مختلف جدا هو عمل كالوكي نيماي، بين الصبغ على الأكريليك والحياكة والكولاج يصنع مشهدية مختلفة، تماما مثلما أنشأ ماركيز الثورة في حقول الموز، أنشأ الفنان ثورته الخاصة بلا دم أو عنف، إنه يستعيد قوة التجمّع في الحقول الصفراء والمياه والسماء الزرقاء والأرض البنية، لا في لوحات تقليدية وإنما في لوحات ضخمة بلا إطار وهي تسيل وتنثني على الأرض.
تتفاءل أعمال نيماي بالغد وهي تجمع الشباب السود والسمر في قلبها بين الألوان الصفراء والزرقاء وبين الخيوط الخارجة مثل الشعر، برؤوسهم الظاهرة وملامحهم وأجسادهم المخفية، تحت طبقات أحيانا من القصاصات المكتوبة، يجد هؤلاء فضاء يجمعهم، ومن هناك يبدو أن شيئا ما سيحدث. وما هذا إلا الأمل في وجه اليأس، رحيل باللحظة إلى شيء ما مشترك.
يشتغل الممارس الإبداعي بريان مارتن على صور الأشجار الرمادية، ويرسم لها أشكالا مختلفة من الزوارق البنيّة، بكل حمولاتها التاريخية وما تعنيه من تنقل وعودة وأحمال وغيرها.
يؤمن مارتن بأن الأشجار عناصر مركزية في الثقافة بل هي معبر عن الوطن، وما مزجه الفريد بين الرسم البسيط بتلك الخطوط السكيتشية إلا استنطاق للجذوع القديمة بما يعنيه هذا من استعادة لما مضى، هنا فإن الأشجار تسافر أيضا، عكس ما يظنه السطحيون اليوم، الأشجار جزء من رحال البشر، ألم يحمل العرب معهم الأرنج إلى أوروبا؟ ألم يتحول إلى قصائد وأغان وثقافة كاملة؟ ذاك ربما أمر آخر لكن الاتفاق في الأخير هو أن الأشجار جزء من الرحلة، بلا أشجار تمد عروقها في اليابسة ما كان للبشر السفر عبر الماء والموج وتحويل وجه العالم.
المنسوجات متعددة، منها المشتغل فنيا ومعرفيا ومنها المركب وكلها تحاول أن تعيدنا إلى مسار رحلتنا في الكون
تدفعنا الممارسات الفنية المعاصرة المبنية على مشاعر متوقدة ووعي عميق إلى أقاصي القراءات، وهذا ما نجح فيه مارتن بشكل استثنائي. إنه يحفزنا على إعادة قراءة العالم من خلال أهم عناصره “الشجرة”.
كائنات خشبية
إن كانت أخشاب مارتن رسومات موحية بعيدا في الخيال عبر التشكيل المفترض، فإن أعمال موريس فويت النحتية استنطقت بدورها الأشجار في منحوتات مشتغلة بحرفية عالية.
شخصيات مركبة ينحتها فويت من جذع واحد، إنها شخصيات غريبة، لا ندري إن كانت حية فعلا أم ميتة، ولكننا نعرف أنها لا تزول في أشكال وجودها أبدا.
يحوّل فويت شخصياته وكائناته إلى رموز تستدعي حالات متعددة من الخوف والدهشة والفرح والارتباك والهدوء، إنها مضغوطة بشكل ملهم، وهي المستخرجة من جذع واحد، بشر وقردة وطيور وغيرهم، كلها في علبة الحياة الخشبية تلك، منها يخرجون إلى عالم الرمز، متحركون رغم الجمود، ناطقون رغم الصمت.
لم يعد النحت مجرد استذكار أو تخليد، إنه تفكير، هذا ما يدفعنا إليه الفنان فويت مستعينا بكائناته الملهمة.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي
لوحات وتركيبات وأعمال مفاهيمية ومنحوتات وعروض أدائية تستعيد رحلة الإنسان.
الاثنين 2025/02/10
ShareWhatsAppTwitterFacebook

جبل يكشف روح التعاضد (عمل لألوائي كاموماكان)
مع كل دورة يثبت بينالي الشارقة انفتاحه على عوالم الفن المعاصر بطرق مجسدة بعناية، في كل دورة تثبت الفكرة قوتها والجمالية والتقنيات تعددهما، وهذا ما يحضر في الدورة الـ16 من البينالي، والتي تولي عناية خاصة بالنسيج تماشيا مع عنوانها "رحالنا"، الذي جمع الرحلة بضمير المتكلم الجمع ترسيخا لحميمية الرحلة ضد كل أشكال التهجير القسري والاستعمار من جهة، والعنصرية ضد المهاجرين من جهة أخرى.
تتواصل فعاليات بينالي الشارقة الـ16 في مواقع مختلفة من الإمارة، سواء كانت ساحة المريجة أو المعارض الاعتيادية لمؤسسة الشارقة للفنون، أو مواقع عرض غير مألوفة، مثل مصنع كلباء للثلج أو سوق الجبيل القديم أو مواقع الحمرية أو قرية المدام المهجورة أو عيادة الذيد القديمة وغيرها.
أكثر من مئتي فنان و650 عملا فنيا يعرضها البينالي خالقا مشهدا متنوعا من الفنون بداية باللوحات والتركيبات والأعمال المفاهيمية والمنحوتات والعروض الأدائية، لكن اللافت في هذه الدورة هو أعمال النسيج.
النسيج والإنسان

لفتت انتباهي بشكل كبير أعمال النسيج المتنوعة التي يقدمها بينالي الشارقة الـ16، الذي يأتي هذا العام تحت عنوان “رِحالنا”، وقد أوردنا في مقال سابق بـ”العرب” مسارات اختيار هذا العنوان، لكن المؤكد أن المنسوجات المقدمة، على اختلاف أشكالها، سواء تلك التي تشكلت في لوحات أو تلك التي اتخذت تشكيلات معلقة، وحتى المنسوجات الرقمية حاضرة في اشتغال فني خارج عن المألوف.
لعل المنسوجات أكثر ما يتلاءم مع ثيمة البينالي، “الرّحال”، والتي لطالما ارتبطت عربيا بالخُرج ذاك الكيس المنسوج الذي يحمله معه الراحل، علاوة على ما يأخذه الراحل معه من نسيج حكايات وعادات ولغة وذكريات ومشاعر ومشاهد وهلم جرا من عناصر تتضافر لتكوّن نسيج هذا الشخص.
قبل أن ندخل في تأمل بعض الأعمال، لنذكر بأن الثقافة أهم ما يحمله المرء معه حيثما كان، الثقافة ربما أهم من الأرض، بلا ثقافة ولا ذاكرة ثقافية لا وجود للإنسان، ومن هنا نفهم معنا أهمية طرح ثيمة “رِحالنا” في عالم شكلته الهجرات فانقلب عليها ليحولها إلى تراجيديات وحكايات مخيفة.
حين ننظر إلى عمل الكاتبة والأكاديمية الفرنسية مايا تليت هاواد بعنوان “تنلي”، الذي نشأ بتكليف من مؤسسة الشارقة للفنون، نرى تصورات من زوايا مختلفة للصحراء، ليس جديدا النسيج الذي يمثل الشكل التقليدي لنسيج بدو الصحراء والأردية من الأسود والأبيض والأحمر والأشكال الأفقية المثلثة، لكن المختلف هنا هو جمع القطع ولصقها بشكل متراص مع بعضها البعض لتشكل مجتمع لوحة واحدة تخرج عن الإطار وحتى عن شكله.
سيقرأ كل من يشاهد العمل هذا التركيب النسيجي من زاويته الخاصة، لكنه لن يغفل العمل على الجمع والتركيب بين القطع المنسوجة بتفاوت بسيط في حجمها وألوانها، أما تشكيل الخطوط من المثلثات فذاك بدوره مدعاة للتفحّص، هل هي رابطة الدم التي تجمع القطع، هل هي رابطة السلام، هل هي مستمرة مثل المستقيم أو متقاطعة تختفي لتظهر في إطار آخر، كلها قراءات ممكنة في ضوء المنسوجات المعلقة بعناية.
وتتناول الفنانة ريتو ساتار قصص الاستعمار والاستعباد بطرق مختلفة، منها النسيج الممزوج بالرسم، فتعلق منسوجاتها القماشية راسمة عليها عددا من الأيادي السمراء والسوداء وكأنها تلقي تحية وداع أو إشارة قبضة القوة والاستمرار، لطالما كانت اليد رمزا دينيا في أصابعها الخمسة، كما أن لها الرمز الحربي والعاطفي وغيره من تشكلات وفق كل ثقافة.
من ناحية أخرى اليد هي التي ترتب زاد الرحلة، وما زاد الرحلة العيني إلا انعكاس لثقافتنا وأفكارنا ومشاعرنا، لليد علاقة وثيقة بالرحلة، إنها تأخذ وتودع وترحّب، ليست اليد مجرد منطقة للإمساك واللمس، هذا ما نقرؤه مع ساتار وهي تواجه كل القمع والتغيير بالأيدي المرسومة على القماش المنسوج والمصبوغ.

أما منسوجات تشون شاو فتمزج بين المواد التقليدية والطرق القديمة للنسيج والطرق الرقمية الحديثة، مقدمة لمسة تتجاوز النظرة الأحادية للزمن، وتربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، في “أشكال من التواصل الاصطناعي الذي يتسم بالحميمية”.
لا تسعى شاو إلى التذكر أو إثبات جدارة الماضي أو تقييد شكل أو إحساس معين في مادتها، تدمج العناصر من رموش اصطناعية وجلد وشعر مستعار وأظافر بلاستيكية ودانتيل وخيوط، إنها تصنع عالم حواس آخر موازيا، انطلقت في تأسيسه منذ فترة جائحة كفيد – 19 التي غيرت مفهومنا للتلامس كليا. أي لمس سيمارسه الإنسان اليوم؟ هذا ما نخرج به من أعمال شاو.
المنسوجة الضخمة لألوائي كاموماكان ليس كغيرها، “كروم في الجبل” عنوانها، بألوانها الزاهية الطاغي عليها الأحمر والأصفر، المتعلقان بالكروم، والدوائر والخيوط تنتصب المنسوجة مثل جبل، وتمد خيوطها مثل عروق الجبال، إنها تكشف روح التعاضد هذا ما يطرحه التفسير الأولي المختصر للعمل، لكن في اعتقادي هي تذهب أبعد من ذلك، إذ تشيّد الفنانة جبلها الأسطوري بسفحه، وما على المتلقي إلا أن يختار الصعود لاكتشاف ما خلفه أو البقاء أمامه للنظر إلى سفح العرض مثل صدر مفتوح.
لا تترك لك كاموماكان إلا أن تتبنى نظرة شعرية، ألم ترتبط الجبال بالآلهة والخيال والشعر والأديان، ألم تنجب الحكايات حول ما تخفيه وسطها وخلفها، جبل الفنانة المنسوج بدقة ودفق عاطفي في آن واحد هو تمثيل حي وقوي للذاكرة، إنه مساحة تسترشد بها إلى الماضي حتى وهي تغادره.
تعددت المنسوجات في بينالي الشارقة الـ16 منها المشتغل فنيا ومعرفيا ومنها المركب حرفيا، وكلها تحاول أن تعيدنا إلى مسار رحلتنا في الكون، إما أن تكون نسيجا أو لا شيء.
ممارسة فنية فكرية

مختلف جدا هو عمل كالوكي نيماي، بين الصبغ على الأكريليك والحياكة والكولاج يصنع مشهدية مختلفة، تماما مثلما أنشأ ماركيز الثورة في حقول الموز، أنشأ الفنان ثورته الخاصة بلا دم أو عنف، إنه يستعيد قوة التجمّع في الحقول الصفراء والمياه والسماء الزرقاء والأرض البنية، لا في لوحات تقليدية وإنما في لوحات ضخمة بلا إطار وهي تسيل وتنثني على الأرض.
تتفاءل أعمال نيماي بالغد وهي تجمع الشباب السود والسمر في قلبها بين الألوان الصفراء والزرقاء وبين الخيوط الخارجة مثل الشعر، برؤوسهم الظاهرة وملامحهم وأجسادهم المخفية، تحت طبقات أحيانا من القصاصات المكتوبة، يجد هؤلاء فضاء يجمعهم، ومن هناك يبدو أن شيئا ما سيحدث. وما هذا إلا الأمل في وجه اليأس، رحيل باللحظة إلى شيء ما مشترك.
يشتغل الممارس الإبداعي بريان مارتن على صور الأشجار الرمادية، ويرسم لها أشكالا مختلفة من الزوارق البنيّة، بكل حمولاتها التاريخية وما تعنيه من تنقل وعودة وأحمال وغيرها.
يؤمن مارتن بأن الأشجار عناصر مركزية في الثقافة بل هي معبر عن الوطن، وما مزجه الفريد بين الرسم البسيط بتلك الخطوط السكيتشية إلا استنطاق للجذوع القديمة بما يعنيه هذا من استعادة لما مضى، هنا فإن الأشجار تسافر أيضا، عكس ما يظنه السطحيون اليوم، الأشجار جزء من رحال البشر، ألم يحمل العرب معهم الأرنج إلى أوروبا؟ ألم يتحول إلى قصائد وأغان وثقافة كاملة؟ ذاك ربما أمر آخر لكن الاتفاق في الأخير هو أن الأشجار جزء من الرحلة، بلا أشجار تمد عروقها في اليابسة ما كان للبشر السفر عبر الماء والموج وتحويل وجه العالم.
المنسوجات متعددة، منها المشتغل فنيا ومعرفيا ومنها المركب وكلها تحاول أن تعيدنا إلى مسار رحلتنا في الكون
تدفعنا الممارسات الفنية المعاصرة المبنية على مشاعر متوقدة ووعي عميق إلى أقاصي القراءات، وهذا ما نجح فيه مارتن بشكل استثنائي. إنه يحفزنا على إعادة قراءة العالم من خلال أهم عناصره “الشجرة”.
كائنات خشبية
إن كانت أخشاب مارتن رسومات موحية بعيدا في الخيال عبر التشكيل المفترض، فإن أعمال موريس فويت النحتية استنطقت بدورها الأشجار في منحوتات مشتغلة بحرفية عالية.
شخصيات مركبة ينحتها فويت من جذع واحد، إنها شخصيات غريبة، لا ندري إن كانت حية فعلا أم ميتة، ولكننا نعرف أنها لا تزول في أشكال وجودها أبدا.
يحوّل فويت شخصياته وكائناته إلى رموز تستدعي حالات متعددة من الخوف والدهشة والفرح والارتباك والهدوء، إنها مضغوطة بشكل ملهم، وهي المستخرجة من جذع واحد، بشر وقردة وطيور وغيرهم، كلها في علبة الحياة الخشبية تلك، منها يخرجون إلى عالم الرمز، متحركون رغم الجمود، ناطقون رغم الصمت.
لم يعد النحت مجرد استذكار أو تخليد، إنه تفكير، هذا ما يدفعنا إليه الفنان فويت مستعينا بكائناته الملهمة.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي