جبري (شفيق)
Jabri (Shafiq-) - Jabri (chafiq-)
جبري ( شفيق ـ)
(1898 ـ 1980)
علم من أعلام الأدب في دمشق، شاعر مجيد وباحث عميق النظرة، ولد في حي الشاغور بدمشق، ولما بلغ الخامسة أرسله والده، وكان من كبار تجار دمشق، إلى كتاتيب الحي ليتعلم القرآن وحسن الخط، وقليلاً من الحساب. وبعد سنة نقله إلى المدرسة العازارية في حي باب توما، فمكث فيها تسع سنوات حصل في نهايتها على شهادة ختام الدراسة الثانوية عام 1913. وكان الأول في صفه فأتقن الفرنسية وعلم النحو، كما درس مبادئ اللغة الإنكليزية، أما اللغة العربية وآدابها فأتقنها معتمداً على نفسه، وكان هو نفسه مدرسة قائمة بذاتها.
رافق والده في إحدى رحلاته التجارية إلى يافا، فراح يرسل من هناك بعض المقالات إلى جريدة «المهذب» في زحلة، ولما سافر إلى الإسكندرية، عثر في إحدى مكتباتها على ديوان المتنبي بشرح ناصيف اليازجي، فاشتراه وراح يلتهمه، ويبدو أنه حفظ شعر المتنبي وأولع به منذ ذلك الحين، ثم قرأ المعلقات، والشعر الجاهلي، وشعر البحتري والشريف الرضي، وحين عاد إلى دمشق عام 1918، أخذ ينشر قصائده في الصحف، فلفت إليه الأنظار.
عكف في أثناء الحرب العالمية الأولى على مطالعة آثار ابن المقفع، ابن عبد ربه وابن خلدون، والجاحظ، فقوي بيانه، وتعمقت ثقافته، وازداد علمه، ثم رجع بعد ذلك إلى الأدب الفرنسي وتعلق بأناتول فرانس، فأفادته قصصه كثيراً، وتعلم من هذا الكاتب العبقري وضوح العبارة والفكر والبعد عن الحشو والغموض.
تعلق بالوظائف الحكومية منذ نشأته، فعمل عام 1918 مراقباً للمطبوعات، ثم مترجماً في وزارة الخارجية، إلى أن انتقل عام 1920 إلى وزارة المعارف، فعين رئيساً لديوانها واستمر وهو في هذه الوظيفة ينشر المقالات والقصائد، فنشأت له قدرة على الشعر والنثر.
وفي عام 1926، انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وحين أسست كلية الآداب في الجامعة السورية عام 1928، عين أستاذاً فيها، فألقى على طلابه عدة محاضرات عن الجاحظ والمتنبي استقبلها الأدباء في الوطن العربي أحسن استقبال ثم انقطع عن الوظائف خمسة عشر عاماً، عاد بعدها عميداً لكلية الآداب، كما انتخب مقررا للجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في أثناء الوحدة بين سورية ومصر، ولما أحيل على التقاعد من عمادة كلية الآداب عام 1958 انزوى في بيته الريفي بمصيف بلودان، وانقطع إلى الكتابة والتأليف وقد أتاحت له هذه الحياة الهادئة البسيطة في بلودان مزيداً من التأمل والتفكير وراحة الأعصاب، والخلو إلى النفس، والابتعاد عن ضجيج المدينة ومشكلاتها.
امتاز شعر شفيق جبري بالنزعة الوطنية القومية فغنى أفراح بلاده وبكى لأحزانها ومآسيها فكان شاعر القومية العربية إذ التزم قضايا وطنه المصيرية دون أن يفرض عليه أحد ذلك واختار هذا اللون الشعري من تلقاء نفسه وبوحي من ضميره ودافع من وجداته الحي، وما كان ليحبس قلمه ووطنه يتلوى تحت سياط الجلادين وتتنزى جراحاته الدامية وأمته مغلوبة على أمرها، ودافعه في ذلك كله ضميره وحسه النامي وشعوره اليقظ، يضاف إلى هذا أنه بكى رفاقه الراحلين ممن كان لهم المكانة العالية سواء في الحقل الوطني أو الحقل الأدبي، ومنهم: فوزي الغزي، وخير الدين الزركلي، وغيرهما.
ولم يقتصر اهتمام شفيق جبري على دائرة وطنه الصغير سورية بل تعدى ذلك إلى الأقطار العربية الأخرى ليكون شعره الغناء في أفراح العروبة، والعزاء في أحزانها، فرثى الزعيم المصري سعد زغلول، كما كان يعبر عن فرحه العارم لانتصار الثورات العربية ويهتز طرباً لها. ولشدّ ما اعتصر الأسى قلبه يوم تقاعس العرب عن نصرة فلسطين، إضافة إلى العديد من مواقفه الوطنية التي يحفظها له التاريخ.
من شعره قوله من قصيدة وطنية:
كانت الشام قبل يوم تعزى
فأراها بعد الجلاء تهنا
وكأن الجلاء أضحى صداه
نغمة في فم الزمان ولحنا
ما نعمنا بالملك عفواً ولكن
بعد سود من الليالي نعمنا
إنما العرب وحدة والتفاف
كل غصن يلف في الروض غصنا
قضى شفيق جبري عمراً مديداً في البحث والدراسة والتأليف، قضى وخلف تراثاً ذا قيمة أدبية كبيرة في ميدان الأدب عامة والشعر خاصة، من ذلك «المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس» و«الجاحظ معلم العقل والأدب» وهذان الكتابان كان لهما كبير الأثر في الدراسات الأدبية الحديثة، وقد ألقى جبري على هذين المعلمين العظيمين أضواء جديدة أنارت الطريق للباحثين، ومن مؤلفاته كذلك «أنا والشعر» و«أنا والنثر» وفيهما يغوص إلى أعماق نفسه، يتحدث بصدق عن تجربته الأدبية من خلال هذين الفنين، ومن ذلك أيضا «دراسة الأغاني» الذي كان، وما يزال عوناً لمؤرخي الأدب في دراساتهم وبحوثهم، ثم كتابه «أرض السحر» وتقوم فكرة الكتاب على وصف رحلتين قام بهما شفيق جبري إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد صدر له بعد وفاته كتاب «أفكاري» ويقع في خمسة أجزاء، وهي تشمل ما كان قد نشره في مجلة المجمع العلمي العربي، ومجلة الثقافة المصرية.
أما الجانب اللغوي من حياة شفيق جبري الطويلة والخصبة فلا يقل أهمية عن الجانب الأدبي الذي عرفه الناس، فلقد بحث في طبيعة اللغة العربية، ورأى فيها كائناً حياً ينمو ويلد ويعيش، فتخضع لما تخضع له الكائنات الحية من قوانين الطبيعة كالنشوء والارتقاء وتنازع البقاء، وبحث أيضاً في بعض ظواهرها فتوصل إلى أن العربية في تطور مستمر، وتختص بخصائص تجعلها تمتاز من بين اللغات الأخرى لما فيها من سعة ومرونة يمكن أن نفيد منها في إغنائها وصقلها، كما نظر في لغة العامة، ورأى أن قدراً كبيراً منها صالح لأن يستعمله المثقفون في كلامهم لأنه كلام فصيح صحيح، فيه بساطة وسهولة وبلاغة.
أما رأيه في التجديد الأدبي، فهو رأي المحافظ المعتدل الذي يكره التطرف والتعصب الأعمى لأدب العرب. (لا غلو في المحافظة، ولا غلو في التجديد، هذه هي حياة اللغة).
ومن مؤلفاته التي لم تطبع «على صخور صقلية»، و«دراسة عن أمير الشعراء أحمد شوقي»، ومحاضرات في جامعة الكويت: «يوميات الأيام».
توفى شفيق جبري في دمشق في أواخر كانون الثاني عن عمر يناهز الثانية والثمانين وشيع في موكب مهيب إلى مثواه الأخير.
مدحة عكاش
ـ عبد الله بن سليم الرشيد، شفيق جبري (مكبة التوبة، الرياض 1994).
ـ عبد الفتاح المصري، شفيق جبري باحثاً لغوياً ورحالة (الطبعة الأولى 2000).
ـ شكري فيصل، علي عقله عرسان، عمر الدقاق، مجلة الثقافة عدد خاص عن شفيق جبري، كانون الثاني وشباط 1989م
Jabri (Shafiq-) - Jabri (chafiq-)
جبري ( شفيق ـ)
(1898 ـ 1980)
علم من أعلام الأدب في دمشق، شاعر مجيد وباحث عميق النظرة، ولد في حي الشاغور بدمشق، ولما بلغ الخامسة أرسله والده، وكان من كبار تجار دمشق، إلى كتاتيب الحي ليتعلم القرآن وحسن الخط، وقليلاً من الحساب. وبعد سنة نقله إلى المدرسة العازارية في حي باب توما، فمكث فيها تسع سنوات حصل في نهايتها على شهادة ختام الدراسة الثانوية عام 1913. وكان الأول في صفه فأتقن الفرنسية وعلم النحو، كما درس مبادئ اللغة الإنكليزية، أما اللغة العربية وآدابها فأتقنها معتمداً على نفسه، وكان هو نفسه مدرسة قائمة بذاتها.
عكف في أثناء الحرب العالمية الأولى على مطالعة آثار ابن المقفع، ابن عبد ربه وابن خلدون، والجاحظ، فقوي بيانه، وتعمقت ثقافته، وازداد علمه، ثم رجع بعد ذلك إلى الأدب الفرنسي وتعلق بأناتول فرانس، فأفادته قصصه كثيراً، وتعلم من هذا الكاتب العبقري وضوح العبارة والفكر والبعد عن الحشو والغموض.
تعلق بالوظائف الحكومية منذ نشأته، فعمل عام 1918 مراقباً للمطبوعات، ثم مترجماً في وزارة الخارجية، إلى أن انتقل عام 1920 إلى وزارة المعارف، فعين رئيساً لديوانها واستمر وهو في هذه الوظيفة ينشر المقالات والقصائد، فنشأت له قدرة على الشعر والنثر.
وفي عام 1926، انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وحين أسست كلية الآداب في الجامعة السورية عام 1928، عين أستاذاً فيها، فألقى على طلابه عدة محاضرات عن الجاحظ والمتنبي استقبلها الأدباء في الوطن العربي أحسن استقبال ثم انقطع عن الوظائف خمسة عشر عاماً، عاد بعدها عميداً لكلية الآداب، كما انتخب مقررا للجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في أثناء الوحدة بين سورية ومصر، ولما أحيل على التقاعد من عمادة كلية الآداب عام 1958 انزوى في بيته الريفي بمصيف بلودان، وانقطع إلى الكتابة والتأليف وقد أتاحت له هذه الحياة الهادئة البسيطة في بلودان مزيداً من التأمل والتفكير وراحة الأعصاب، والخلو إلى النفس، والابتعاد عن ضجيج المدينة ومشكلاتها.
امتاز شعر شفيق جبري بالنزعة الوطنية القومية فغنى أفراح بلاده وبكى لأحزانها ومآسيها فكان شاعر القومية العربية إذ التزم قضايا وطنه المصيرية دون أن يفرض عليه أحد ذلك واختار هذا اللون الشعري من تلقاء نفسه وبوحي من ضميره ودافع من وجداته الحي، وما كان ليحبس قلمه ووطنه يتلوى تحت سياط الجلادين وتتنزى جراحاته الدامية وأمته مغلوبة على أمرها، ودافعه في ذلك كله ضميره وحسه النامي وشعوره اليقظ، يضاف إلى هذا أنه بكى رفاقه الراحلين ممن كان لهم المكانة العالية سواء في الحقل الوطني أو الحقل الأدبي، ومنهم: فوزي الغزي، وخير الدين الزركلي، وغيرهما.
ولم يقتصر اهتمام شفيق جبري على دائرة وطنه الصغير سورية بل تعدى ذلك إلى الأقطار العربية الأخرى ليكون شعره الغناء في أفراح العروبة، والعزاء في أحزانها، فرثى الزعيم المصري سعد زغلول، كما كان يعبر عن فرحه العارم لانتصار الثورات العربية ويهتز طرباً لها. ولشدّ ما اعتصر الأسى قلبه يوم تقاعس العرب عن نصرة فلسطين، إضافة إلى العديد من مواقفه الوطنية التي يحفظها له التاريخ.
من شعره قوله من قصيدة وطنية:
كانت الشام قبل يوم تعزى
فأراها بعد الجلاء تهنا
وكأن الجلاء أضحى صداه
نغمة في فم الزمان ولحنا
ما نعمنا بالملك عفواً ولكن
بعد سود من الليالي نعمنا
إنما العرب وحدة والتفاف
كل غصن يلف في الروض غصنا
قضى شفيق جبري عمراً مديداً في البحث والدراسة والتأليف، قضى وخلف تراثاً ذا قيمة أدبية كبيرة في ميدان الأدب عامة والشعر خاصة، من ذلك «المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس» و«الجاحظ معلم العقل والأدب» وهذان الكتابان كان لهما كبير الأثر في الدراسات الأدبية الحديثة، وقد ألقى جبري على هذين المعلمين العظيمين أضواء جديدة أنارت الطريق للباحثين، ومن مؤلفاته كذلك «أنا والشعر» و«أنا والنثر» وفيهما يغوص إلى أعماق نفسه، يتحدث بصدق عن تجربته الأدبية من خلال هذين الفنين، ومن ذلك أيضا «دراسة الأغاني» الذي كان، وما يزال عوناً لمؤرخي الأدب في دراساتهم وبحوثهم، ثم كتابه «أرض السحر» وتقوم فكرة الكتاب على وصف رحلتين قام بهما شفيق جبري إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد صدر له بعد وفاته كتاب «أفكاري» ويقع في خمسة أجزاء، وهي تشمل ما كان قد نشره في مجلة المجمع العلمي العربي، ومجلة الثقافة المصرية.
أما الجانب اللغوي من حياة شفيق جبري الطويلة والخصبة فلا يقل أهمية عن الجانب الأدبي الذي عرفه الناس، فلقد بحث في طبيعة اللغة العربية، ورأى فيها كائناً حياً ينمو ويلد ويعيش، فتخضع لما تخضع له الكائنات الحية من قوانين الطبيعة كالنشوء والارتقاء وتنازع البقاء، وبحث أيضاً في بعض ظواهرها فتوصل إلى أن العربية في تطور مستمر، وتختص بخصائص تجعلها تمتاز من بين اللغات الأخرى لما فيها من سعة ومرونة يمكن أن نفيد منها في إغنائها وصقلها، كما نظر في لغة العامة، ورأى أن قدراً كبيراً منها صالح لأن يستعمله المثقفون في كلامهم لأنه كلام فصيح صحيح، فيه بساطة وسهولة وبلاغة.
أما رأيه في التجديد الأدبي، فهو رأي المحافظ المعتدل الذي يكره التطرف والتعصب الأعمى لأدب العرب. (لا غلو في المحافظة، ولا غلو في التجديد، هذه هي حياة اللغة).
ومن مؤلفاته التي لم تطبع «على صخور صقلية»، و«دراسة عن أمير الشعراء أحمد شوقي»، ومحاضرات في جامعة الكويت: «يوميات الأيام».
توفى شفيق جبري في دمشق في أواخر كانون الثاني عن عمر يناهز الثانية والثمانين وشيع في موكب مهيب إلى مثواه الأخير.
مدحة عكاش
مراجع للاستزادة: |
ـ عبد الفتاح المصري، شفيق جبري باحثاً لغوياً ورحالة (الطبعة الأولى 2000).
ـ شكري فيصل، علي عقله عرسان، عمر الدقاق، مجلة الثقافة عدد خاص عن شفيق جبري، كانون الثاني وشباط 1989م