حكيم (توفيق)
Al-Hakim (Tawfiq-) - Al-Hakim (Taoufiq-)
الحكيم (توفيق -)
(1902-1987)
يعد توفيق الحكيم من أهم كتاب المسرح العربي، إلى جانب إسهاماته في ميدان الرواية والقصة والدراسات. ولد في مدينة الإسكندرية في أسرة متوسطة، وكان والده يعمل في سلك القضاء متنقلاً بين القرى والبلدات والمدن إلى أن استقر قاضياً في القاهرة عام 1912، حيث تابع الحكيم تعليمه حتى الثانوية، فمدرسة الحقوق التي تخرج فيها عام 1924. ولكي يبعده والده عن أجواء الفن والأدب التي انغمس فيها الحكيم، أرسله في عام1925 إلى باريس لتحضير الدكتوراه في القانون لكن ما لفت انتباه الحكيم في باريس هو ما أراد والده إبعاده عنه، أي الفن والأدب، فكتب هناك بغزارة، وفي شتى الأجناس الأدبية، ثم عاد إلى الوطن من دون شهادة في عام 1927، ليعمل محققاً في الإسكندرية والأرياف النائية. وفي عام 1936 نشر أولى رواياته الطويلة «يوميات نائب في الأرياف» التي عرض فيها تجربته الذاتية في تلك السنوات في الريف الفقير الذي سبق أن قال عنه في «عودة الروح» (1933) التي تشبه السيرة الذاتية: «إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلاً، ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله... إن الحكمة العليا في دمه ولايعلم... والقوة في نفسه ولا يعلم». وقد كره الحكيم سخف القضاء البرجوازي وتعالي الفئات الحاكمة، وأعجب بحياة الفلاحين المتواضعة، وتألم للحرمان والبؤس الذي يعيشون فيه، ووصف القرية بقوله: «القرية دولة مصغرة».
لقد شغل الحكيم مناصب كثيرة وكبيرة مختلفة، إذ عمل في وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وكان مديراً عاماً لدار الكتب، وعضواً متفرغاً بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم، ومندوباً في اليونسكو، وعضواً في مجمع اللغة العربية. كما حاز على عدة أوسمة وجوائز، منها وسام النيل وهو أعلى وسام في مصر، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1961، وهو متزوج وله ابن وابنة.
نظم الحكيم في شبابه الكثير من القصائد المعادية للاستعمار البريطاني، وهو أول من أدخل إلى الأدب العربي أشكالاً جديدة في الرواية، مثل رواية اليوميات ورواية الرسائل والرواية الحوارية، إلى جانب القصص القصيرة والطويلة، الاجتماعية الانتقادية والفكاهية والفلسفية والخيالية، مثل «عصفور من الشرق» (1938) و«سجن العمر» (1964) و«زهرة العمر» 1943، كما وضع كثيراً من الدراسات الأدبية والمسرحية، مثل «التعادلية - مذهبي في الحياة والفن» (1955) و«قالبنا المسرحي» (1967)، واشتغل في الصحافة اليومية في جريدة «أخبار اليوم» ثم في «الأهرام»، لكن اهتمامه الأساسي انصب على المسرح.
بدأ الحكيم الكتابة للمسرح عقب الحرب العالمية الأولى، إذ يعود تاريخ مسرحيته الأولى «الضيف الثقيل» إلى عام 1918، وقد هاجم فيها الاستعمار البريطاني لمصر، وألف فرقة صغيرة لتمثيلها كانت نواة لفرقة «مسرح توفيق الحكيم» التي كانت تُعدّ من المسارح الطليعية في مصر. وفي عام 1924 كتب مسرحية «المرأة الجديدة» حول مشكلة تحرر المرأة العربية. تبع ذلك مجموعة من الهزليات القصيرة وبعض المسرحيات التي اكتسبت شهرة وأثارت جدلاً واسعاً، مثل «أهل الكهف» (1933) و«شهرزاد» (1934) والمسرحية التاريخية التسجيلية «محمد» (1936). وحتى عام النكسة 1967 كان الحكيم قد كتب ما ينوف عن 60 مسرحية أصلية واقتبس 24 مسرحية من التراث المسرحي العالمي.
يرى الحكيم في كتابه «قالبنا المسرحي» ضرورة إدخال الحكواتي والمداح التقليدي على المسرحيات العالمية كي ينمِّي التذوق المسرحي عند المتفرج العربي ويعرِّفه على أفضل المسرحيات وأهمها، وأطلق على ذلك تسمية «المسرح من أجل الشعب». ومن جهوده المهمة بغية تطوير المسرح العربي أنه طرح إيجاد ما أسماه «اللغة الوسطى» التي تنطلق من الفصحى بكل كنوزها مع تبسيط النحو والصرف وإدخال التعابير الدارجة والعامية الراقية.
يمتاز مسرح الحكيم بتنوع كبير من حيث الموضوعات والأشكال الفنية، ومن الطبيعي أن يتفاوت مستوى مسرحياته فنياً، مع العلم بأن معظمها قد وجد طريقه إلى خشبات المسارح المصرية والعربية والعالمية، على الرغم من صفة «الذهنية» (للقراءة وليس للتمثيل) التي ألصقها بعض النقاد بمسرحه. ففي إحدى مسرحياته المبكرة القصيرة بعنوان «الزمار» يدور الحدث في مشفى ريفي مهمل، لا يهتم فيه أحد بالنزلاء، في حين يقتل الأطباء الوقت وهم يلعبون لعبة الطاولة بينما يتبادلون فيما بينهم أحاديث سطحية فارغة. أما مسرحية «براكسا أو مشكلة الحكم» (1939) المقتبسة عن أريستوفانس[ر] ففيها إسقاط موارب على أوضاع مصر في ظل حكم الملك فاروق. وفي مسرحية «نهر الجنون» ذات الأجواء التراثية هناك سمات رمزية واضحة وتجسيد لمقولة الحكيم بأن العيش بين المجانين لم يعد ممكناً إلا إذا صار الإنسان مجنوناً مثلهم.
ويمكن تقسيم نتاج الحكيم المسرحي عامة إلى مجموعتين تبدوان متناقضتين، وهما مجموعة المسرح الاجتماعي التي عالج في مسرحياتها موضوعات وقضايا ذات أهمية راهنة تمس المواطن في حياته اليومية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ثم مجموعة المسرح الفلسفي التي تتجلى فيها تأثيرات هنريك إبس[ر] وموريس مترلينك[ر] وجورج برنارد شو[ر]، وتؤكد موضوعاتها مفاهيم مجردة وقضايا أبدية كالإنسان والقدر، والحياة والموت، والجمال الدنيوي والجمال الإلهي، والزمن والأبدية. وقد استمد الكاتب حكاياتها من الميثولوجيا القديمة اليونانية والشرقية، ففي مسرحية «أهل الكهف» التي ترجمت إلى كثير من اللغات وجلبت لمؤلفها الشهرة عالمياً تناول الحكيم أسطورة هندية قديمة هي «الفتية السبعة النائمون» التي ورد ذكرها في القرآن (سورة الكهف)، وعبر من خلالها عن علاقة الفرد بمسألة الزمن والموت، وفي عام 1960 كتب الحكيم مسرحية «السلطان الحائر» التي أسقط أحداثها على مرحلة حكم المماليك في مصر، وعالج فيها إشكالية تطبيق الحاكم للسلطة، بالقانون أم بالعنف؟ بالخير أم بالشر؟ أما قضية الإنسان والفن فقد عالجها الحكيم في مسرحية «بيغماليون» (1942) مستخدماً أسطورة النحات القبرصي الذي تدلّه في حب تمثاله الذي يمثل نموذج الجمال الأنثوي، فرجا الربة فينوس أن تبعث فيه الحياة، ففعلت مماحكة لأبولو الحكيم رب الشعر وحامي الفن. لكن بيغماليون يدخل في معاناة قاسية نتيجة الصراع بين الجمال الخالد والحياة الفانية. وبتتابع واقعي للأحاسيس والأفكار والتصرفات يثبت الحكيم حقيقتين رائعتين، الواحدة تلو الأخرى، أولاهما أن الإنسان أسمى من الآلهة، وثانيتهما أن الحياة أسمى من الفن.
إن هذا المدى الواسع من الموضوعات والقضايا والأشكال كان أحد الشراك التي نصبها الحكيم بعناية لنقاده ومفسريه. لذا لم يكن غريباً أن يختلف نقاد يصدرون عن اتجاهات فكرية متقاربة في تفسير بعض أعماله اختلافاً يصل من النقيض إلى النقيض. ويتمثل الشرك الثاني في المقدمات والتعقيبات التي وضعها الحكيم لكثير من أعماله. إذ أن قراءتها جميعها لابد أن توقع القارئ في الخلط والتناقض، لاسيما وأنها كانت مصدراً لكثير من الأوهام التي شاعت وترددت حول مسرحه مدة طويلة من الزمن. ولذا لايبقى أمام الباحث سوى استنطاق الأعمال نفسها.
إن إحدى القضايا الشائكة التي طرحها أدب توفيق الحكيم هي قضية المرأة، التي كان موقفه منها بصورة عامة ملتبساً. والمرأة في أعماله مستمدة إما من الأسطورة والحكاية الشعبية أو من الواقع، وقد وظّفها تارة رمزاً فنياً، وتارة أخرى واقعاً إنسانياً له أبعاده الاجتماعية.
لقد كان الحكيم يتكلم بلغة كل مرحلة يعيشها، وإن جاء كلامه فيها ناقداً، ولكن في إطار إيديولوجية النظام السائد. ولعل هذا هو ما يكوِّن المعنى الاجتماعي لتعادليته الفلسفية، من حيث إنها موقف اجتماعي متوازن ومتعادل. ومن ثم لم تكن آراؤه في موضوع المرأة متسقة وثابتة، بل كانت متبدلة حسب المرحلة، وخير دليل على ذلك أعماله، فهو يقول في «الخروج من الجنة» (1956): «ككائن اجتماعي، ليس لها ولا ينبغي أن يكون لها وظيفة إلا خدمة الرجل، تلهمه، وتتيح له كل سبل التفرغ للعمل والإلهام، ولكن ليس لها كيان نفسي أو اجتماعي مستقل متميز». ولعل المثل الأعلى للمرأة عند الحكيم هي الزوجة عنان في مسرحية «الخروج من الجنة» التي هجرت زوجها الذي تحبه ويحبها وضحت بسعادتها الزوجية وقلبها كي تلهمه أن يكتب. أي كي تسبب له الألم العظيم الذي يولِّد الإبداع. ففي «عصفور من الشرق» (1938) يقف الفنان محسن تحت المطر ليقرأ على تمثال الأديب الفرنسي ألفريد دي موسيه[ر] «لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم»، وهذا هو مفتاح موقف الحكيم من الحياة التي تمثلها المرأة: إنها ليست هدفاً في ذاتها، بل هي سبيل نحو الألم فقط، درجة على طريق الإبداع. ولعل موقف الحكيم - الفنان من المرأة لا يتضح في أكمـل صـورة وأنضجـها كما يتضـح في مـسرحية «يا طالع الشجرة» (1963) التي تكمن ميزتها على كل ما سبقها من مسرحيات في «أن الحكيم وجد فيها الجرأة ليقول إنه أوقع نفسه فعلاً في مأزق لا مخرج له، عندما اختار أن يضع الحياة والفن على طرفي نقيض»، حسبما يرى الباحث جورج طرابيشي في دراسته «لعبة الحلم والواقع».
ومهما قيل في توفيق الحكيم إيديولوجياً وفنياً فإن النظر إلى المسرح العربي بعده يؤكد دوره في إزاحة الغربة بين المسرح، كفن له جديته وأصوله، وبين قطاع من جمهور القراء والمتفرجين، ويؤكد كذلك أن كثيرين من الكتاب من بعده كانوا من قرائه، وبه متأثرين، وليس هذا بالدور الهين أو القليل.
نبيل الحفار
ـ أحمد عتمان، المصادر الكلاسيكية لمسرح توفيق الحكيم (القاهرة، دار المعارف، ب.ت).
ـ علي الراعي، توفيق الحكيم، فنان ا لفرجة وفنان الفكر (القاهرة، كتاب الهلال،224،1969).
ـ فاروق عبد القادر، ازدهار وسقوط المسرح المصري (دمشق، وزارة الثقافة، 1983).
ـ محمد مندور، المسرح النثري، عن توفيق الحكيم (القاهرة، 1960).
ـ محمود أمين العالم، توفيق الحكيم، المفكر والفنان (القاهرة، دار المعارف، ب.ت).
Al-Hakim (Tawfiq-) - Al-Hakim (Taoufiq-)
الحكيم (توفيق -)
(1902-1987)
|
لقد شغل الحكيم مناصب كثيرة وكبيرة مختلفة، إذ عمل في وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وكان مديراً عاماً لدار الكتب، وعضواً متفرغاً بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم، ومندوباً في اليونسكو، وعضواً في مجمع اللغة العربية. كما حاز على عدة أوسمة وجوائز، منها وسام النيل وهو أعلى وسام في مصر، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1961، وهو متزوج وله ابن وابنة.
نظم الحكيم في شبابه الكثير من القصائد المعادية للاستعمار البريطاني، وهو أول من أدخل إلى الأدب العربي أشكالاً جديدة في الرواية، مثل رواية اليوميات ورواية الرسائل والرواية الحوارية، إلى جانب القصص القصيرة والطويلة، الاجتماعية الانتقادية والفكاهية والفلسفية والخيالية، مثل «عصفور من الشرق» (1938) و«سجن العمر» (1964) و«زهرة العمر» 1943، كما وضع كثيراً من الدراسات الأدبية والمسرحية، مثل «التعادلية - مذهبي في الحياة والفن» (1955) و«قالبنا المسرحي» (1967)، واشتغل في الصحافة اليومية في جريدة «أخبار اليوم» ثم في «الأهرام»، لكن اهتمامه الأساسي انصب على المسرح.
بدأ الحكيم الكتابة للمسرح عقب الحرب العالمية الأولى، إذ يعود تاريخ مسرحيته الأولى «الضيف الثقيل» إلى عام 1918، وقد هاجم فيها الاستعمار البريطاني لمصر، وألف فرقة صغيرة لتمثيلها كانت نواة لفرقة «مسرح توفيق الحكيم» التي كانت تُعدّ من المسارح الطليعية في مصر. وفي عام 1924 كتب مسرحية «المرأة الجديدة» حول مشكلة تحرر المرأة العربية. تبع ذلك مجموعة من الهزليات القصيرة وبعض المسرحيات التي اكتسبت شهرة وأثارت جدلاً واسعاً، مثل «أهل الكهف» (1933) و«شهرزاد» (1934) والمسرحية التاريخية التسجيلية «محمد» (1936). وحتى عام النكسة 1967 كان الحكيم قد كتب ما ينوف عن 60 مسرحية أصلية واقتبس 24 مسرحية من التراث المسرحي العالمي.
يرى الحكيم في كتابه «قالبنا المسرحي» ضرورة إدخال الحكواتي والمداح التقليدي على المسرحيات العالمية كي ينمِّي التذوق المسرحي عند المتفرج العربي ويعرِّفه على أفضل المسرحيات وأهمها، وأطلق على ذلك تسمية «المسرح من أجل الشعب». ومن جهوده المهمة بغية تطوير المسرح العربي أنه طرح إيجاد ما أسماه «اللغة الوسطى» التي تنطلق من الفصحى بكل كنوزها مع تبسيط النحو والصرف وإدخال التعابير الدارجة والعامية الراقية.
يمتاز مسرح الحكيم بتنوع كبير من حيث الموضوعات والأشكال الفنية، ومن الطبيعي أن يتفاوت مستوى مسرحياته فنياً، مع العلم بأن معظمها قد وجد طريقه إلى خشبات المسارح المصرية والعربية والعالمية، على الرغم من صفة «الذهنية» (للقراءة وليس للتمثيل) التي ألصقها بعض النقاد بمسرحه. ففي إحدى مسرحياته المبكرة القصيرة بعنوان «الزمار» يدور الحدث في مشفى ريفي مهمل، لا يهتم فيه أحد بالنزلاء، في حين يقتل الأطباء الوقت وهم يلعبون لعبة الطاولة بينما يتبادلون فيما بينهم أحاديث سطحية فارغة. أما مسرحية «براكسا أو مشكلة الحكم» (1939) المقتبسة عن أريستوفانس[ر] ففيها إسقاط موارب على أوضاع مصر في ظل حكم الملك فاروق. وفي مسرحية «نهر الجنون» ذات الأجواء التراثية هناك سمات رمزية واضحة وتجسيد لمقولة الحكيم بأن العيش بين المجانين لم يعد ممكناً إلا إذا صار الإنسان مجنوناً مثلهم.
ويمكن تقسيم نتاج الحكيم المسرحي عامة إلى مجموعتين تبدوان متناقضتين، وهما مجموعة المسرح الاجتماعي التي عالج في مسرحياتها موضوعات وقضايا ذات أهمية راهنة تمس المواطن في حياته اليومية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ثم مجموعة المسرح الفلسفي التي تتجلى فيها تأثيرات هنريك إبس[ر] وموريس مترلينك[ر] وجورج برنارد شو[ر]، وتؤكد موضوعاتها مفاهيم مجردة وقضايا أبدية كالإنسان والقدر، والحياة والموت، والجمال الدنيوي والجمال الإلهي، والزمن والأبدية. وقد استمد الكاتب حكاياتها من الميثولوجيا القديمة اليونانية والشرقية، ففي مسرحية «أهل الكهف» التي ترجمت إلى كثير من اللغات وجلبت لمؤلفها الشهرة عالمياً تناول الحكيم أسطورة هندية قديمة هي «الفتية السبعة النائمون» التي ورد ذكرها في القرآن (سورة الكهف)، وعبر من خلالها عن علاقة الفرد بمسألة الزمن والموت، وفي عام 1960 كتب الحكيم مسرحية «السلطان الحائر» التي أسقط أحداثها على مرحلة حكم المماليك في مصر، وعالج فيها إشكالية تطبيق الحاكم للسلطة، بالقانون أم بالعنف؟ بالخير أم بالشر؟ أما قضية الإنسان والفن فقد عالجها الحكيم في مسرحية «بيغماليون» (1942) مستخدماً أسطورة النحات القبرصي الذي تدلّه في حب تمثاله الذي يمثل نموذج الجمال الأنثوي، فرجا الربة فينوس أن تبعث فيه الحياة، ففعلت مماحكة لأبولو الحكيم رب الشعر وحامي الفن. لكن بيغماليون يدخل في معاناة قاسية نتيجة الصراع بين الجمال الخالد والحياة الفانية. وبتتابع واقعي للأحاسيس والأفكار والتصرفات يثبت الحكيم حقيقتين رائعتين، الواحدة تلو الأخرى، أولاهما أن الإنسان أسمى من الآلهة، وثانيتهما أن الحياة أسمى من الفن.
إن هذا المدى الواسع من الموضوعات والقضايا والأشكال كان أحد الشراك التي نصبها الحكيم بعناية لنقاده ومفسريه. لذا لم يكن غريباً أن يختلف نقاد يصدرون عن اتجاهات فكرية متقاربة في تفسير بعض أعماله اختلافاً يصل من النقيض إلى النقيض. ويتمثل الشرك الثاني في المقدمات والتعقيبات التي وضعها الحكيم لكثير من أعماله. إذ أن قراءتها جميعها لابد أن توقع القارئ في الخلط والتناقض، لاسيما وأنها كانت مصدراً لكثير من الأوهام التي شاعت وترددت حول مسرحه مدة طويلة من الزمن. ولذا لايبقى أمام الباحث سوى استنطاق الأعمال نفسها.
إن إحدى القضايا الشائكة التي طرحها أدب توفيق الحكيم هي قضية المرأة، التي كان موقفه منها بصورة عامة ملتبساً. والمرأة في أعماله مستمدة إما من الأسطورة والحكاية الشعبية أو من الواقع، وقد وظّفها تارة رمزاً فنياً، وتارة أخرى واقعاً إنسانياً له أبعاده الاجتماعية.
لقد كان الحكيم يتكلم بلغة كل مرحلة يعيشها، وإن جاء كلامه فيها ناقداً، ولكن في إطار إيديولوجية النظام السائد. ولعل هذا هو ما يكوِّن المعنى الاجتماعي لتعادليته الفلسفية، من حيث إنها موقف اجتماعي متوازن ومتعادل. ومن ثم لم تكن آراؤه في موضوع المرأة متسقة وثابتة، بل كانت متبدلة حسب المرحلة، وخير دليل على ذلك أعماله، فهو يقول في «الخروج من الجنة» (1956): «ككائن اجتماعي، ليس لها ولا ينبغي أن يكون لها وظيفة إلا خدمة الرجل، تلهمه، وتتيح له كل سبل التفرغ للعمل والإلهام، ولكن ليس لها كيان نفسي أو اجتماعي مستقل متميز». ولعل المثل الأعلى للمرأة عند الحكيم هي الزوجة عنان في مسرحية «الخروج من الجنة» التي هجرت زوجها الذي تحبه ويحبها وضحت بسعادتها الزوجية وقلبها كي تلهمه أن يكتب. أي كي تسبب له الألم العظيم الذي يولِّد الإبداع. ففي «عصفور من الشرق» (1938) يقف الفنان محسن تحت المطر ليقرأ على تمثال الأديب الفرنسي ألفريد دي موسيه[ر] «لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم»، وهذا هو مفتاح موقف الحكيم من الحياة التي تمثلها المرأة: إنها ليست هدفاً في ذاتها، بل هي سبيل نحو الألم فقط، درجة على طريق الإبداع. ولعل موقف الحكيم - الفنان من المرأة لا يتضح في أكمـل صـورة وأنضجـها كما يتضـح في مـسرحية «يا طالع الشجرة» (1963) التي تكمن ميزتها على كل ما سبقها من مسرحيات في «أن الحكيم وجد فيها الجرأة ليقول إنه أوقع نفسه فعلاً في مأزق لا مخرج له، عندما اختار أن يضع الحياة والفن على طرفي نقيض»، حسبما يرى الباحث جورج طرابيشي في دراسته «لعبة الحلم والواقع».
ومهما قيل في توفيق الحكيم إيديولوجياً وفنياً فإن النظر إلى المسرح العربي بعده يؤكد دوره في إزاحة الغربة بين المسرح، كفن له جديته وأصوله، وبين قطاع من جمهور القراء والمتفرجين، ويؤكد كذلك أن كثيرين من الكتاب من بعده كانوا من قرائه، وبه متأثرين، وليس هذا بالدور الهين أو القليل.
نبيل الحفار
مراجع للاستزادة: |
ـ علي الراعي، توفيق الحكيم، فنان ا لفرجة وفنان الفكر (القاهرة، كتاب الهلال،224،1969).
ـ فاروق عبد القادر، ازدهار وسقوط المسرح المصري (دمشق، وزارة الثقافة، 1983).
ـ محمد مندور، المسرح النثري، عن توفيق الحكيم (القاهرة، 1960).
ـ محمود أمين العالم، توفيق الحكيم، المفكر والفنان (القاهرة، دار المعارف، ب.ت).